المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: ما تثبت به النبوة عند الماتريدية - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الثاني: انقطاع صلة المنهج الأشعري في كثير من مسائله بالسلف:

- ‌المبحث الثالث: بيان مخالفة متأخّري الأشاعرة للأشعري ولكبار أصحابه

- ‌المبحث الرابع: نصوص أئمة أصحاب الأشعري في إثبات الصفات لله تعالى والمنع من تأويلها

- ‌المبحث الخامس: متابعة الأشاعرة لمنهج المعتزلة إما صراحة وإما لزوماً

- ‌المبحث السادس: نصوص العلماء في مخالفة الكلابية والأشاعرية لأهل السنة ولطريق السلف

- ‌المبحث الأول: قولهم في الإيمان

- ‌المبحث الثاني: أشاعرة وافقوا السلف

- ‌المبحث الثالث: الصلة بين الإيمان والإسلام عند الأشاعرة

- ‌المبحث الرابع: قولهم في الزيادة والنقصان

- ‌المبحث الخامس: قولهم في الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث السادس: الفرق بين تصديق الأشاعرة ومعرفة جهم

- ‌المبحث السابع: رأي الأشاعرة في مرتكب الكبيرة

- ‌المبحث الثامن: مفهوم الكفر عند الأشاعرة

- ‌المبحث التاسع: الرد على من زعم أن الأنبياء والرسل ليسوا اليوم أنبياء ولا رسلا

- ‌المبحث الأول: تعريفه

- ‌المبحث الثاني: مراتب القدر:

- ‌المطلب الأول: تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيها:

- ‌المطلب الثاني: هل الإرادة تقتضي المحبة أم لا

- ‌المبحث الرابع: أفعال العباد عند الأشاعرة

- ‌المطلب الأول: تعريف العلة عند الأشاعرة:

- ‌المطلب الثاني: موقف الأشاعرة من الحكمة والتعليل

- ‌المطلب الثالث: تحرير محل النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة

- ‌المطلب الرابع: أدلة الأشاعرة والجواب عنها

- ‌المطلب الأول: التحسين والتقبيح

- ‌المطلب الثاني: معاني الحسن والقبح، وتحرير محل النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة

- ‌المطلب الثالث: ثمرة الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في الحسن والقبح العقليين

- ‌المطلب الرابع: أدلة نفاة الحسن والقبح العقليين والجواب عنها

- ‌المطلب الخامس: أحكام متعلقة بأفعال الله المتعدية عند الأشاعرة

- ‌المطلب السادس: هل يجب على الله تعالى شيء

- ‌المطلب السابع: معنى الظلم

- ‌المطلب الأول: عقيدة العادة عند الأشاعرة

- ‌المطلب الثاني: الحكم المترتب على مخالفة عقيدة العادة

- ‌المطلب الثالث: نقد مفهوم العادة

- ‌المطلب الرابع: عقيدة العادة مبطلة لعقيدة التوحيد

- ‌المطلب الخامس: عقيدة العادة مبطلة لمبادئ العلوم

- ‌المطلب السادس: الأسباب والمسببات عند الأشاعرة وعلاقتها بأفعال الله

- ‌المبحث الثامن: نقد موقف الأشاعرة من الخوارق والمعجزات

- ‌المطلب الأول: نشأة مصطلح "أهل السنة" وتاريخ إطلاقه:

- ‌المطلب الثاني: معنى أهل السنة

- ‌المطلب الثالث: تنازع الطوائف هذا اللقب

- ‌المطلب الرابع: طريق معرفة السنة وإدراكها

- ‌المطلب الخامس: موقف الأشاعرة من النقل عموماً والسنة خصوصاً

- ‌المطلب السادس: سلف الأشاعرة وموقف أهل السنة منهم

- ‌المبحث الثاني: موقف علماء أهل السنة من دعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة

- ‌المبحث الثالث: مواقف العلماء الآخرين من المذهب الأشعري

- ‌المبحث الرابع: من أهم المسائل التي خالف فيها الأشاعرة أهل السنة

- ‌المبحث الأول: الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم وردود بعضهم على بعض

- ‌المبحث الثاني: إبطال دعوى الأشاعرة أنهم أكثر الأمة

- ‌المبحث الثالث: ذكر بعض من نسبوا إلى الأشعرية وبيان براءتهم منها

- ‌المبحث الرابع: بطلان دعوى أن ابن حجر كان أشعريا

- ‌المبحث الخامس: مسائل الخلاف بين الأشعرية والماتريدية

- ‌المبحث السادس: تناقض الأشاعرة

- ‌المبحث السابع: التناحر الأشعري الأشعري

- ‌المبحث الثامن: حيرة الأشاعرة وشكهم ورجوعهم عن علم الكلام

- ‌المبحث التاسع: من كلام الإمام الجويني (الأب) في رسالته التي وجهها إلى شيوخه بعد رجوعه إلى مذهب السلف

- ‌المبحث الأول: التعريف بالماتريدية

- ‌المطلب الأول: حياته

- ‌المطلب الثاني: مصنفاته

- ‌المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه

- ‌المطلب الرابع: أهم آراء الماتريدي إجمالا

- ‌المبحث الأول: نشأة الماتريدية وأهم زعمائها

- ‌المبحث الثاني: أسباب انتشار الماتريدية

- ‌المبحث الأول: الاعتماد على العقل

- ‌المبحث الثاني: ترك الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقيدة

- ‌المبحث الثالث: القول بالمجاز

- ‌المبحث الرابع: معرفة الله واجبة عندهم بالعقل قبل ورود السمع

- ‌المبحث الخامس: القول بالتحسين والتقبيح العقليين

- ‌المبحث السادس: التأويل والتفويض

- ‌المطلب الأول: معنى الإيمان وحقيقته

- ‌المطلب الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المطلب الثالث: الاستثناء في الإيمان

- ‌المطلب الرابع: الإيمان والإسلام

- ‌المطلب الخامس: حكم إيمان المقلد

- ‌المطلب السادس: حكم مرتكب الكبيرة

- ‌التمهيد

- ‌المطلب الأول: توحيد الربوبية والألوهية

- ‌تمهيد

- ‌أولا: مذهب الماتريدية في الأسماء الحسنى

- ‌ثانيا: مذهب الماتريدية في صفات الله تعالى

- ‌أولا: ما تثبت به النبوة عند الماتريدية

- ‌المبحث الرابع: اليوم الآخر عند الماتريدية

- ‌المطلب الأول: مراتب القضاء والقدر عند الماتريدية

- ‌المطلب الثاني: مذهب الماتريدية في أفعال العباد

- ‌أولا: القدرة والاستطاعة

- ‌ثانيا: التكليف بما لا يطاق

- ‌المبحث السادس: خلاصة المسائل العقدية التي خالف فيها الماتريدية السلف

- ‌المبحث الأول: الموازنة بين الماتريدية والأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: الموازنة بين الماتريدية والمعتزلة

- ‌الفصل السادس: الرد على الماتريدية

- ‌المبحث الأول: الرد على الماتريدية في عدم الاحتجاج بخبر الآحاد في العقيدة

- ‌المطلب الأول: معنى "التفويض" في اصطلاح السلف

- ‌المطلب الثاني: التفويض عند الماتريدية

- ‌المطلب الثالث: في إبطال التفويض

- ‌المبحث الثالث: الرد على الماتريدية في باب الأسماء والصفات

- ‌أولا: مخالفة الماتريدية للنقل الصحيح

- ‌ثانيا: خروج الماتريدية على إجماع جميع بني آدم

- ‌ثالثا: مكابرة الماتريدية بداهة العقل الصريح

- ‌خامسا: إبطال شبهاتهم حول "علو" الله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة استواء الله تعالى على عرشه

- ‌المبحث السادس: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة "نزول" الله إلى السماء الدنيا

- ‌المبحث السابع: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة "اليدين" لله تعالى وتحريفهم لنصوصها

- ‌المبحث الثامن: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة الكلام

- ‌المبحث التاسع: الرد على قولهم بخلق أسماء الله الحسنى

الفصل: ‌أولا: ما تثبت به النبوة عند الماتريدية

‌أولا: ما تثبت به النبوة عند الماتريدية

يرى الماتريدية أن إثبات صدق الرسل والأنبياء يقوم على النظر في صفات الأنبياء الخلقية والخلقية قبل الرسالة وبعدها وعلى تأييد الله لهم بالمعجزات الدالة على صدقهم.

قال في كتاب (التوحيد): "ثم الأصل عندنا في إعلام الرسل وجهان:

أحدهما ظهور أحوالهم على جهة تدفع العقول عنهم الريبة وتأبى فيهم توهم الظنة بما صحبوهم في الصغر والكبر فوجدوهم طاهرين أصفياء أتقياء بين أظهر قوم ما احتمل التسوية بينهم على ذلك ولا تربيتهم تبلغ ذلك على ظهور أحوالهم لهم وكونهم بينهم في القرار والانتشار فيعلم بإحاطة أن ذلك حفظ من يعلم أنه يقيمهم مقاما شريفا ويجعلهم أمناء على الغيوب والأسرار وهذا مما تميل إلى قبوله الطبيعة ويستحسن جميع أمورهم العقل فيكون الراد عليه يرد بعد المعرفة رد تعنت له .. والثاني مجيء الآيات الخارجة عن طبائع أهل البصر في ذلك النوع الممتنعة عن أن يطمع في مثلها أو يبلغ بكنهها التعلم مع ما لو احتمل أن يبلغ أحد ذلك بالتعلم والاجتهاد فإن الرسل بما نشؤوا لا في ذلك وربوا لا به يظهر أنهم استفادوه بالله أكرمهم بذلك لما يجعلهم أمناء على وحيه" (1) وأما جمهور الماتريدية فيرون أنه لا دليل على صدق النبي غير المعجزة بحجة أن المعجزة وحدها هي التي تفيد العلم اليقيني بثبوت نبوة النبي أو الرسول. قال البزدوي: "

لا يتصور ثبوت الرسالة بلا دليل فيكون الثبوت بالدلائل وليست تلك الدلائل إلا المعجزات فثبتت رسالة كل رسول بمعجزات ظهرت على يديه فكانت معجزات موسى عليه السلام العصا واليد البيضاء وغيرهما من المعجزات ومعجزات عيسى عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك ومعجزات محمد عليه السلام القرآن فإن العرب بأجمعهم مع فصاحتهم عجزوا عن الإتيان بمثله

فعجزوا عن ذلك فكانت المعجزات دليل صدق دعواهم الرسالة فإن ما ظهر ليس في وسع بشر فعلم أن الله هو المنشئ وإنما ينشئها لتكون دليلا على صدق دعواه فإن قوم كل رسول سألوا منه دلائل صدقه فدعا الله تعالى ليؤيده بإعطاء ما طلبوا منه فلما أعطاه دليل صدقه الذي طلب منه قومه صار ذلك دليل صدقه من الله تعالى فإن الله لا يؤيد الكاذب ...... ولابد للناس من معرفة الرسل ولا طريق للمعرفة سوى المعجزات

" (2).وقال أبو المعين النسفي: "

إذا جاء واحد وادعى الرسالة في زمان جواز ورود الرسل

لا يجب قبول قوله بدون إقامة الدليل .... لما أن تعين هذا المدعي للرسالة ليس في حيز الواجبات لانعدام دلالة العقل على تعينه فبقي في حيز الممكنات وربما يكون كاذبا في دعواه فكان القول بوجوب قبول قوله قولا بوجوب قبول قول من يكون قبول قوله كفرا وهذا خلف من القول وإذا لم يجب قبول قوله بدون الدليل يطالب بالدليل وهو المعجزة

" (3). وقال الناصري: " فالمعجزة توجب علم اليقين بنبوة الرسل بواسطة التأمل وترك الإعراض عن النظر فيها وإنما جهل من جهل بعد ظهور آيات الرسل بترك التأمل ولم يعذر بالترك لأن العقل مما يلزمه التأمل فيها لأنه حجة من حجج الله تعالى وهي تتعاضد ولا تتضاد ولو كانت الحجج موجبة للعلم جبرا لما تعلق بها ثواب ولا عقاب فالمعجزة رأس الحجج وهي تزداد عند البحث والتأمل إيضاحا واستنارة وقوة ووكادة " (4)

(1)((التوحيد)) (ص 188، 189)، وانظر (ص 202 - 210).

(2)

((أصول الدين)) (ص 97، 98).

(3)

((التمهيد)) (ص 44 - 46)، ((تبصرة الأدلة)) (ل286) وما بعدها وانظر ((بحر الكلام)) (ص 61، 62)((النور اللامع)) (ل 12).

(4)

((النور اللامع)) (ل 14، 15). وانظر (ل 6، 9 - 12، 64، 103، 105، 122) ..

ص: 315

وقال صاحب (بيان الاعتقاد): " والنبوة رحمة وموهبة بمشيئة الله تعالى فقط ولابد من معجزة وهي عبارة عما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله"(1).

ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح لتقرير نبوة الأنبياء ولكن القول بأن نبوة الأنبياء لا تعرف إلا بالمعجزات قول غير صحيح والدليل على هذا يظهر من عدة أوجه:1 - " إن المقصود إنما هو معرفة صدق مدعي النبوة أو كذبه فإنه إذا قال: إني رسول الله فهذا الكلام إما أن يكون صدقا وإما أن يكون كذبا

فإذا كان مدعي الرسالة إذا لم يكن صادقا فلابد أن يكون كاذبا عمدا أو ضلالا فالتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما هو دون دعوى النبوة فكيف بدعوى النبوة" (2)

2 -

" معلوم أن مدعي الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام: والله لا أقول لك كلمة واحدة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أرد عليك. فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم وما أحسن قول حسان

لو لم تكن فيه آيات مبينة

كانت بديهته تأتيك بالخبر" (3)

3 -

" ما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز

بل كل شخصين ادعيا أمرا من الأمور أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب فلا بد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة إذ الصدق مستلزم للبر والكذب مستلزم للفجور .... والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعين للصناعات والمقالات كالفلاحة والنساجة والكتابة .... فما من أحد يدعي العلم بصناعة أو مقالة إلا والتفريق في ذلك بين الصادق والكاذب له وجوه كثيرة وكذلك من أظهر قصدا وعملا كمن يظهر الديانة والأمانة والنصيحة والمحبة وأمثال ذلك من الأخلاق فإنه لابد أن يتبين صدقه أو كذبه من وجوه متعددة. والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف بها الرسول وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب من وجوه كثيرة" (4).

(1)((بيان الاعتقاد)) (ل 21، 22).

(2)

((الأصفهانية)) لابن تيمية (ص 472، 473). وانظر ((النبوات لابن تيمية)) (ص 167، 168).

(3)

((الأصفهانية)) (ص 473)، ((شرح الطحاوية)) (ص 112).

(4)

((الأصفهانية)) (ص 474، 476، 477)، ((شرح الطحاوية)) (ص 112، 114).

ص: 316

4 -

" هذا المقام يشبه من بعض الوجوه تنازع الناس في أن خبر الواحد هل يجوز أن يقترن به من القرائن والضمائم ما يفيد معه العلم. ولا ريب أن المحققين من كل طائفة على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري بخبر المخبر بل القرائن وحدها قد تفيد العلم الضروري كما يعرف الرجل رضا الرجل وغضبه وحبه وبغضه وفرحه وحزنه وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه يمكنه التعبير عنها كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ [محمد:30] ثم قال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] " فأقسم أنه لابد أن يعرف المنافقين في لحن القول .... وإذا كان صدق الخبر أو كذبه يعلم بما يقترن به من القرائن بل في لحن قوله وصفحات وجهه ويحصل بذلك علم ضروري لا يمكن المرء أن يدفعه عن نفسه فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله كيف يخفى صدقه وكذبه أم كيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة لا تعد ولا تحصى" (1).

5 -

"وإذا كان الكاذب إنما يؤتى من وجهين إما أن يتعمد الكذب وإما أن يلبس عليه كمن يأتيه الشيطان فمن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من الناس من يعلم أنه لا يتعمد الكذب

ونحن لا ننكر أن الرجل قد يتغير ويصير متعمد للكذب بعد أن لم يكن كذلك لكن إذا استحال وتغير ظهر ذلك لمن يخبره ويطلع على أموره. ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار قال لها لما جاءه الوحي: ((إني قد خشيت على عقلي)) فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق (2). فهو لم يخف من تعمد الكذب فإنه يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب لكن خاف في أول الأمر أن يكون قد عرض له عارض سوء وهو المقام الثاني فذكرت خديجة ما ينفي هذا وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال وهو الصدق المستلزم للعدل والإحسان إلى الخلق ومن جمع فيها الصدق والعدل والإحسان لم يكن ممن يخزيه الله. وصلة الرحم وقرى الضيف وحمل الكل وإعطاء المعدوم والإعانة على نوائب الحق هي من أعظم أنواع البر والإحسان وقد علم من سنة الله أن من جبله الله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه" (3).

(1)((الأصفهانية)) (ص 478،479)، ((النبوات)) (ص 339)، ((شرح الطحاوية)) (ص 114).

(2)

رواه البخاري (4953) ومسلم (160) بلفظ نفسي بدل عقلي، ولم نجد من رواه بلفظ عقلي

(3)

((الأصفهانية)) (ص 479، 480)، ((منهاج السنة)) (22/ 419، 420، 8/ 549)، ((شرح الطحاوية)) (ص 114، 115).

ص: 317

6 -

" طريق معرفة الأنبياء كطريق معرفة نوع من الآدميين خصهم الله بخصائص يعرف ذلك من أخبارهم واستقراء أحوالهم كما يعرف الأطباء والفقهاء ولهذا إنما يقرر الرب تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم من قصة نوح وقومه وهود وقومه وصالح وقومه

وغيرهم فيذكر وجود هؤلاء وإن قوما صدقوهم وقوما كذبوهم ويبين حال من صدقهم وحال من كذبهم فيعلم بالاضطرار حينئذ ثبوت هؤلاء ويتبين وجود آثارهم في الأرض فمن لم يكن رأى في بلدة آثارهم فليسر في الأرض ولينظر آثارهم وليسمع أخبارهم المتواترة .... ولهذا قال مؤمن آل فرعون لما أراد أن ينذر قومه: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ [غافر:30 - 31] ولهذا لما سمع ورقة بن نوفل والنجاشي وغيرهما القرآن قال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي كان يأتي موسى وقال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. فكان عندهم علم بما جاء به موسى اعتبروا به ولولا ذلك لم يعلموا هذا وكذلك الجن لما سمعت القرآن وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ [الأحقاف:29 - 30] ولما أراد سبحانه تقرير جنس ما جاء به محمد قال: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:15 - 16] فهو سبحانه يثبت وجود جنس الأنبياء ابتداء كما في السور المكية حتى يثبت وجود هذا الجنس وسعادة من اتبعه وشقاء من خالفه ثم نبوة عين هذا النبي تكون ظاهرة

" (1).

7 -

وإذا علمنا بالتواتر أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا علما يقينيا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة:

منها أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم أخبارا كثيرة في أمور كثيرة وهي كلها صادقة لم يقع في شيء منها تخلف ولا غلط بخلاف من يخبر به ليس متبعا لهم ممن تنزل عليه الشياطين أو يستدل على ذلك بالأحوال الفلكية وغيرها وهؤلاء لابد أن يكونوا كثيرا بل الغالب من أخبارهم الكذب وإن صدقوا أحيانا ومن ذلك ما أحدثه الله تعالى من نصرهم وإهلاك عدوهم إذا عرف الوجه الذي حصل عليه كحصول الغرق لفرعون وقومه بعد أن دخل البحر خلف موسى وقومه كان هذا مما يورث علما ضروريا أن الله تعالى أحدث لهم هذا نصرا لموسى عليه السلام وقومه ونجاة لهم وعقوبة لفرعون وقومه ونكالا لهم وكذلك أمر نوح والخليل عليهما السلام وكذلك قصة الفيل وغير ذلك ومن الطرق أيضا أن من تأمل ما جاءت به الرسل عليهم السلام فيما أخبرت به وما أمرت به علم الضرورة أن مثل هذا لا يصدر إلا عن أعلم الناس وأصدقهم وأبرهم وأن مثل هذا يمتنع صدوره عن كاذب متعمد للكذب مفتر على الله يخبر عنه بالكذب الصريح أو مخطئ جاهل ضال يظن أن الله تعالى أرسله ولم يرسله.

(1)((النبوات)) (ص 37 - 39)، وانظر (ص 338، 339)، ((الأصفهانية)) (ص 480، 481)، ((شرح الطحاوية)) (ص 115 - 119).

ص: 318

وذلك لأن فيما أخبروا به وما أمروا به من الإحكام والإتقان وكشف الحقائق وهدي الخلائق وبيان ما يعلم العقل جملة ويعجز عن معرفته تفصيلا ما يبين أنهم من العلم والمعرفة والخبرة في الغاية التي باينوا بها أعلم الخلق ممن سواهم فيمتنع أن يصدر مثل ذلك من جاهل ضال.

وفيها من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أن ذلك صدر عن راحم بار يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق.

وإذا كان ذلك يدل على كمال علمهم وكمال حسن قصدهم فمن تم علمه وتم حسن قصده امتنع أن يكون كاذبا على الله يدعي عليه هذه الدعوى العظيمة التي لا يكون أفجر من صاحبها إذا كان كاذبا متعمدا ولا أجهل منه إن كان مخطئا

والعلم بجنس الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب معلوم بالفطرة والعقل الصريح

فإذا علم أنه فيما علم الناس أنه حق وأنه خير هو أعلم منهم به وأنصح الخلق فيه وأصدقهم فيما يقول علم بذلك أنه صادق عالم ناصح لا كاذب ولا جاهل ولا غاش. وهذه الطريق يسلكها كل أحد بحسبه ولا يحتاج في هذه الطريق إلى أن يعلم أولا خواص النبوة وحقيقتها وكيفيتها بل أن يعلم أنه صادق بار فيما يخبر به ويأمر به ثم من خبره يعلم حقيقة النبوة والرسالة " (1) وبهذا يتبين لنا أن قول الماتريدية بأن نبوة الأنبياء لا تثبت إلا بالمعجزات قول غير صحيح بل هو باطل عقلا ونقلا وهم في هذا إنما تابعوا المعتزلة واقتفوا أثرهم (2).

‌المصدر:

الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 379 - 387

ثانيا: المعجزة والكرامة عند الماتريدية

(1)((الأصفهانية)) (ص 500 - 501)، ((النبوات)) (ص40 - 43)، ((الجواب الصحيح)) (4/ 254 وما بعدها)، ((شرح الطحاوية)) (ص 119 - 121).

(2)

انظر ((المغني للقاضي)) عبد الجبار (15/ 147، وما بعدها) و ((شرح الأصول الخمسة)) له أيضا (ص 568 وما بعدها).

ص: 319

تثبت الماتريدية كرامات الأولياء كما أنهم يثبتون معجزات الأنبياء ويرون أنه لا فرق بينهما إلا التحدي الذي هو دعوى الرسالة فالمعجزة عندهم أمر خارق للعادة غير مقرون بالتحدي ويرون أنه لا تعارض ولاالتباس بين إثبات المعجزات وإثبات الكرامات بل إن كرامة الولي من معجزة النبي ودليل على صدقه لأن كرامة التابع كرامة المتبوع والولي لا يكون وليا حتى يكون مصدقا بالنبي ومتبعا له. قال أبو المعين النسفي مبينا تعريف المعجزة:" المعجزة وحدها على طريقة المتكلمين أنها ظهور أمر بخلاف العادة في دار التكليف لإظهار صدق مدعي النبوة مع نكول من يتحدى به عن معارضته بمثله وإنما قيد بدار التكليف لأن ما يظهر من الناقض للعادة في دار الآخرة لا يكون معجزة وإنما قلنا لإظهار صدق مدعي النبوة ليقع الاحتراز به عما يظهر مدعي الألوهية إذ ظهور ذلك على يده جائز عندنا وفيه أيضا احتراز يظهر على يد الولي إذ ظهور ذلك كرامة للولي جائز عندنا وإنما قلنا لإظهار صدقه لأن ذلك لو ظهر لإظهار كذبه

لا يكون ذلك معجزة له ولا دليلا على صدقه بل يكون دليلا على كذبه في دعواه وإنما قلنا مع نكول من يتحدى به عن معارضته بمثله لأن الناقض للعادة لو ظهر على يده ثم ظهر على يد المتحدي به مثله لخرج ما ظهر على يده عند المعارضة عن الدلالة إذ مثله ظهر على يدي من يكذبه يكون دليل صدق من يكذبه فيتعارض الدليلان فيسقطان" (1).وقال مبينا اعتقاد الماتريدية في كرامات الأولياء: " وظهور الكرامة على طريق نقض العادة للولي جائز عندنا غير ممتنع

وأهل الحق أقروا بذلك لما اشتهر من الأخبار واستفاض من الحكايات عن الأحبار فلا وجه إلى رد ما انتشر به الخبر عن صالحي الأئمة في ذلك وما ظنوا (أي: المعتزلة) أنه يؤدي إلى انسداد طريق الوصول إلى معرفة النبي والرسول

فظن باطل بل كل كرامة للولي تكون معجزة لرسول فإن ظهورها يعلم أنه ولي ولن يكون وليا إلا وأن يكون محقا في ديانته إذ المعتقد دينا باطلا عدو لله لا وليه وكونه محقا في ديانته وديانة الإقرار برسالة رسوله واتباعه إياه في دينه دليل صحة رسالة رسوله فمن جعل ما هو معجزة للرسول ودلالة صدقه مبطلا للمعجزة وسادا لطريق الوصول إلى معرفتها فقد وقع في غلط فاحش وخطأ بين ثم كيف يؤدي ذلك إلى التباس الكرامة بالمعجزة والمعجزة تظهر على أثر الدعوة والولي لو ادعى الرسالة لكفر من ساعته وصار عدوا لله تعالى ولا يتصور بعد ذلك ظهور الكرامة على يده وكذا صاحب المعجزة لا يكتم معجزته بل يظهرها وصاحب الكرامة يجتهد في كتمانها ويخاف أنها من قبيل الاستدراج له دون الكرامة ويخاف الاغترار لدى الاشتهار

ثم فيها فائدة ثبوت رسالة من آمن به الولي وصيرورة الولي كمن عاين من أهل عصر النبي معجزته وتصير أيضا مبعثة له على الجد والاجتهاد في العبادات والاحتراز عن السيئات .. " (2). وقال الناصري:" الفرق بين النبي والولي ظاهر لأن النبي يدعي المعجزة والكرامة ويتحدى بها الخلق فيقول إن آية رسالتي وثبوتي كذا وكذا والولي لا يدعي الكرامة وإنما تظهر على يده من غير تحد ودعوى ومتى ادعاها سقط من رتبة الولاية وصار فاسقا كذا ذكر علماء الأصول منهم سيف الحق أبو المعين .... " (3).

وقال الأوشي:

(1)((التمهيد)) (ص46).

(2)

((التمهيد)) (ص 51، 52)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل 271، وما بعدها) ، (329 وما بعدها)، ((بحر الكلام)) (ص 61، 62)، ((أصول الدين)) للبزدوي (ص 96 - 99، 227 - 230)، ((سلام الأحكم على سواد الأعظم)) (ص 122 - 125)، ((المسايرة)) (ص 196، 203 - 212)، ((بيان الاعتقاد)) (ل 21، 22، 29).

(3)

((النور اللامع)) (ل 121)، وانظر (120).

ص: 320

"كرامات الولي بدار دنيا لها كون فهم أهل النوالقال الآلوسي: كرامات الولي

جمع كرامة وهي ظهور أمر خارق للعادة مقارن للاعتقاد الصحيح والأعمال الصالحة غير مقارن لدعوى النبوة وصاحبها مقر بالمتابعة إذ بها تحقق ولايته والوثوق بصدق كرامته ودعواه النبوة دليل نفي الكرامة عنه وثبوت كونه متصفا بالكذب فضلا عن التميز بالولاية وبهذا تمتاز عن المعجزة

" (1).

وقال ملا علي قاري: " والكرامات للأولياء حق أي: ثابت بالكتاب والسنة ولا عبرة بمخالفة المعتزلة وأهل البدعة في إنكار الكرامة والفرق بينهما أن المعجزة أمر خارق للعادة كإحياء الميت وإعدام جبل على وفق التحدي وهو دعوى الرسالة والكرامة خارق للعادة إلا أنها غير مقرونة بالتحدي وهي كرامة للولي وعلامة لصدق النبي فإن كرامة التابع كرامة المتبوع

" ثم قال: " كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي لا فارق بينهما إلا التحدي

والحاصل أن الأمر الخارق للعادة هو بالنسبة إلى النبي معجزة سواء ظهر من قبله أو من قبل أمته لدلالته على صدق نبوته وحقية رسالته فبهذا الاعتبار جعل معجزة له وإلا فحقيقة المعجزة أن تكون مقارنة للتحدي على يد المدعي وبالنسبة إلى الولي كرامة" (2)

ظهر لنا مما تقدم أن الماتريدية تشترط في المعجزة حتى تكون دليلا صحيحا على إثبات النبوة ثلاثة شروط: خرق العادة والتحدي وعدم المعارضة.

وحدهم هذا للمعجزة غير منضبط وبيانه من وجوه:1 - " ليس في الكتاب والسنة تعليق الحكم بهذا الوصف بل ولا ذكر خرق العادة ولا لفظ المعجز وإنما فيه آيات وبراهين وذلك يوجب اختصاصها بالأنبياء"(3).

2 -

" كون الآية خارقة للعادة .... وصف لا ينضبط وهو عديم التأثير فإن نفس النبوة معتادة للأنبياء خارقة للعادة بالنسبة إلى غيرهم .... كما أن ما يعرفه أهل الطب والنجوم والفقه والنحو هو معتاد لنظرائهم وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم. ولهذا إذا أخبر الحاسب بوقت الكسوف والخسوف تعجب الناس إذ كانوا لا يعرفون طريقه فليس في هذا ما يختص بالنبي

فكونه خارقا للعادة ليس أمرا مضبوطا فإنه إن أريد به أنه لم يوجد له نظير في العالم فهذا باطل فإن آيات الأنبياء بعضها نظير بعض بل النوع منه كإحياء الموتى هو آية لغير واحد من الأنبياء وإن قيل: إن بعض الأنبياء كانت آيته لا نظير لها كالقرآن والعصا والناقة لم يلزم ذلك في سائر الآيات.

ثم هب أنه لا نظير لها في نوعها لكن وجد خوارق العادات للأنبياء غير هذا فنفس خوارق العادات معتاد جميعه للأنبياء بل هو من لوازم نبوتهم مع كون الأنبياء كثيرين

وإن عني بكون المعجزة هي الخارق للعادة أنها خارقة لعادة أولئك المخاطبين بالنبوة بحيث ليس فيهم من يقدر على ذلك فهذا ليس بحجة فإن أكثر الناس لا يقدرون على الكهانة والسحر ونحو ذلك

وأيضا فكون الشيء معتادا هو مأخوذ من العود وهذا يختلف بحسب الأمور فالحائض المعتادة من الفقهاء من يقول تثبت عادتها بمرة ومنهم من يقول بمرتين ومنهم من يقول لا تثبت إلا بثلاث وأهل كل بلد لهم عادات في طعامهم ولباسهم وأبنيتهم لم يعتدها غيرهم فما خرج عن ذلك فهو خارق لعادتهم لا لعادة من اعتاده غيرهم فلهذا لم يكن في كلام الله ورسوله وسلف الأمة وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة ولا يجوز أن يجعل مجرد خرق العادة هو الدليل فإن هذا لا ضابط له وهو مشترك بين الأنبياء وغيرهم ولكن إذا قيل من شرطها أن تكون خارقة للعادة بمعنى أنها

(1)((نثر اللآلئ)) (ص 138).

(2)

((شرح الفقه الأكبر)) (ص 79)، وانظر ((حاشية العصام على شرح العقائد)) (ص 206، 207).

(3)

((النبوات)) لابن تيمية (ص 45).

ص: 321

لا تكون معتادة للناس فهذا ظاهر يعرفه كل أحد ويعرفون أن الأمر المعتاد مثل الأكل والشرب ليس دليلا ولا يدعي أحد أن مثل هذا دليل له فإن فساد هذا ظاهر لكل أحد ولكن ليس مجرد كونه خارقا للعادة كافيا لوجهين أحدهما أن كون الشيء معتادا وغير معتاد أمر نسبي إضافي ليس بوصف مضبوط تتميز به الآية

الثاني أن مجرد ذلك مشترك بين الأنبياء وغيرهم

" (1). 3 - " إن آيات الأنبياء ليس من شرطها استدلال النبي بها ولا تحديه بالإتيان بمثلها بل هي دليل على نبوته وإن خلت عن هذين القيدين وهذا كإخبار من تقدم من بنبوة محمد فإنه دليل على صدقه وإن كان هو لم يعلم بما أخبروا به ولا يستدل به وأيضا فما كان يظهره الله على يديه من الآيات مثل تكثير الطعام والشراب مرات وكنبع الماء من بين أصابعه غير مرة

وغير ذلك كله من دلائل النبوة ولم يكن يظهرها للاستدلال بها ولا يتحدى بمثلها بل لحاجة المسلمين إليها وكذلك إلقاء الخليل في النار إنما كان بعد نبوته ودعائه لهم إلى التوحيد" (2). ومما يلزمهم " أن ما كان يظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم في كل وقت من الأوقات ليس دليلا على نبوته لأنه لم يكن كلما ظهر شيء من ذلك احتج به وتحدى الناس بالإتيان بمثله بل لم ينقل عنه التحدي إلا في القرآن خاصة ولا نقل التحدي عن غيره من الأنبياء مثل موسى والمسيح وصالح ولكن السحرة لما عارضوا موسى أبطل معارضتهم. وهذا الذي قالوه يوجب أن لا تكون كرامات من جملة المعجزات

" (3).4 - " أن المعارضة بالمثل أن يأتي بحجة مثل حجة النبي وحجته عندهم مجموع دعوى النبوة والإثبات بالخارق فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره النبوة ويأتي بالخارق وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن أو عشر سور أو سورة مثل أن يدعي أحدهم النبوة ويفعل ذلك وهذا خلاف العقل والنقل ولو قال الرسول لقريش لا يقدر أحد منكم أن يدعي النبوة ويأتي بمثل القرآن وهذا هو الآية وإلا فمجرد تلاوة القرآن ليس آية بل قد يقرأه المتعلم له فلا تكون آية لأنه لم يدع النبوة ولا ادعاها لكان الله ينسيه إياه أو يقيض له من يعارضه كما ذكرتم لكانت قريش وسائر العلماء يعلمون أن هذا باطل " (4).ثم إنه "قد يأتي الرجل بما لا يقدر الحاضرون على معارضته ويكون معتادا لغيرهم كالكهانة والسحر

" (5). و" قد ادعى جماعة من الكذابين النبوة وأتوا بخوارق الكهان والسحرة ولم يعارضهم أحد في ذلك المكان والزمان وكانوا كذابين

" (6).

5 -

" إن آيات الأنبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم ليست مما تكون لغيرهم فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الأنبياء وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم وآياتهم التي فرق الله بها بين أتباعهم وبين مكذبيهم بنجاة هؤلاء وهلاك هؤلاء ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم

فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم والدليل يجب أن يكون مختصا بالمدلول عليه لا يوجد مع عدمه ولا يتحقق الدليل إلا مع تحقق المدلول كما أن الحادث لابد له من محدث فيمتنع وجود حادث بلا محدث

فكذلك ما دل على صدق النبي يمتنع وجوده إلا مع كون النبي صادقا

المقصود أن جنس الأنبياء متميزون عن غيرهم بالآيات والدلائل الدالة على صدقهم التي يعلم العقلاء أنها لم توجد لغيرهم فيعلمون أنها ليست لغيرهم لا عادة ولا خرق عادة

" (7).

(1)((النبوات)) (ص 20، 21، 23).

(2)

((النبوات)) (ص 156).

(3)

((النبوات)) (ص 177، 178)، وانظر (ص 209، 293).

(4)

((النبوات)) (ص 152).

(5)

((النبوات)) (ص 23).

(6)

((النبوات)) (ص 155).

(7)

((النبوات)) (ص 159 - 162، 165).

ص: 322

فحد الماتريدية إذا للمعجزة غير مستقيم بل هو مضطرب وغير منضبط ومما يؤسف له أن يكون هذا التعريف هو السائد والمنتشر في كثير من كتب العقائد. والذي يظهر لي أن المعجزة هي عبارة عن ما يؤيد الله به أنبياءه ورسوله من الأمور الخارقة للسنن الكونية والتي لا قدرة للخلق على الإتيان بمثلها فتكون دليلا على صدقهم وتأييد الله لهم. وأما كرامات الأولياء فهي كما قالوا من آيات الأنبياء ولكن "ليس كل ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامة للصالحين وهؤلاء يسوون بين هذا وهذا ويقولون الفرق هو دعوى النبوة والتحدي بالمثل وهذا غلط فإن آيات الأنبياء عليهم السلام التي دلت على نبوتهم هي أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم "(1).فانشقاق القمر والإتيان بالقرآن وانقلاب العصا حية وخروج الدابة من صخرة لم يكن مثله للأولياء وكذلك خلق الطير من الطين ولكن آياتهم صغار وكبار كما قال الله تعالى فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى النازعات: 20 [فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة وقال عن نبيه محمد لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى] النجم: 18 [فالآيات الكبرى مختصة بهم وأما الآيات الصغرى فقد تكون للصالحين مثل تكثير الطعام فهذا قد وجد لغير واحد من الصالحين لكن لم يوجد كما وجد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه أطعم الجيش من شيء يسير فقد يوجد لغيرهم من جنس ما وجد لهم لكن لا يماثلون في قدره فهم مختصون إما بجنس الآيات فلا يكون لمثلهم كالإتيان بالقرآن وانشقاق القمر وقلب العصا حية وانفلاق البحر وأن يخلق من الطين كهيئة الطير وأما بقدرها وكيفيتها كنار الخليل فإن أبا مسلم الخولاني وغيره صارت النار عليهم بردا وسلاما لكن لم تكن مثل نار إبراهيم في عظمتها كما وصفوها فهو مشارك للخليل في جنس الآية كما هو مشارك في جنس الإيمان محبة الله وتوحيده ومعلوم أن الذي امتاز به الخليل من هذا لا يماثله فيه أبو مسلم وأمثاله .... " (2)]

‌المصدر:

الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص388 - 395

(1)((النبوات)) (ص 169).

(2)

((النبوات)) (ص 269)، وانظر (ص 7، 8، 305، 308).

ص: 323