الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع: معنى الظلم
القول في معنى الظلم مبني على مسألة التحسين والتقبيح، وقد وقع الخلاف في معنى الظلم على ثلاثة أقوال:
1 -
قول الجهمية والأشاعرة، وهؤلاء قالوا في تعريف الظلم: إما أنه التصرف في ملك الغير، أو أنه مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وهؤلاء يقولون: الظلم بالنسبة لله غير ممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قدر وجوده فإنه عدل، والظلم منه ممتنع غير مقدور، وهو محال لذاته كالجمع بين الضدين، وكون الشيء موجودا معدوما.
وهؤلاء يقولون لو عذب الله المطيعين ونعم العاصين لم يكن ظالما، لأن الظلم عندهم إنما هو التصرف في ملك الغير، والله تعالى مالك الملك، فأي فعل فعله ولو كان تعذيب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، وتكريم أعدائه من الكفار والشياطين لم يكن ظالما، لأنه لم يتصرف إلا في ملكه، وكذلك فليس هناك آمر فوقه حتى يخالفه. وهذا قول جمهور الأشاعرة، وهو قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلى، وأتباعه، وأبي المعالي الجويني وأتباعه، وأبي الوليد الباجي وأتباعه وغيرهم (1).
(1) انظر: ((منهاج السنة)) (1/ 90، 2/ 232) – ط دار العروبة المحققة. و ((جامع الرسائل – رسالة في معنى كون الرب عادلا، وفي تنزهه عن الظلم –)) (1/ 121 - 122)، و ((رسالة في شرح حديث أبي ذر – مجموعة الرسائل المنيرية)) (3/ 207).
2 -
قول المعتزلة، وهؤلاء يقولون: إن الظلم مقدور لله تعالى، ولكنه منزه عنه، وهذا حق، ولكنهم يجعلون الظلم الذي حرمه الله وتنزه عنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده، فضربوا له من أنفسهم الأمثال، ولذلك فهم يسمون مشبهة الأفعال. وبناء على هذا قالوا:"إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالما له، والتزموا أنه لا يقدر أنه يهدي ضالا كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالما إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلما، وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومن لم يقم"(1).فالله عند المعتزلة عدل لا يظلم لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب، لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، بل العباد يفعلون ذلك بغير مشيئته، والله لم يخلق شيئا من أفعال العباد لا خيرا ولا شرا، لأنه لو كان خالقا لها ثم عاقب العاصين لكان ظالما لهم (2).3 - قول أهل السنة، قالوا: الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا معناه في اللغة، يقال: من أشبه أباه فما ظلم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم (3)، وعلى هذا المعنى بنى أهل السنة تعريفهم للظلم الذي نزه الله نفسه عنه فقالوا: إن الله تعالى حكم عدل يضع الأشياء مواضعها، فلا يضع شيئا إلا في موضعه الذي يناسبه، ولا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين (4).وعلى هذا فالظلم الذي حرمه الله على نفسه، وتنزه عنه فعلا وإرادة هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل المرء سيئات غيره، ولا يعذب بما لم تكسب يداه، وأنه لا ينقص من حسناته فلا يجازي بها أو ببعضها، وهذا هو الظلم الذي نفى الله خوفه عن العبد بقوله: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112]، قال المفسرون لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل (5).والله تعالى قادر على الظلم، ولكنه تعالى نزه نفسه عنه، وحرمه على نفسه، كما ورد في ذلك الأدلة الكثيرة، وأشهرها حديث أبي ذر:((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)) (6). وغيره.
(1)((شرح حديث أبي ذر – مجموع الرسائل المنيرية)) (3/ 206).
(2)
انظر: ((جامع الرسائل)) (1/ 123).
(3)
انظر: ((الصحاح، ولسان العرب مادة – ظلم –)) وانظر: ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 467).
(4)
انظر: ((جامع الرسائل)) (1/ 124).
(5)
انظر: ((زاد المسير – سورة طه آية: 112 –)) ((شرح الطحاوية)) (ص: 507) ط المكتب الإسلامي، و ((منهاج السنة)) (1/ 90 - 91). ط دار العروبة المحققة.
(6)
رواه مسلم (2577).
ويلاحظ أن الأشاعرة جاء تفسيرهم للظلم مواكبا لمذهبهم في القدر، فهم لميلهم إلى مذهب الجبرية، إذا قيل لهم إن قولكم بأن للعبد قدرة غير مؤثرة، نتيجته الجبر، فكيف يعذب الله العباد على ما جبرهم عليه، هذا ظلم، قالوا ليس هذا ظلما لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وهذا منتف بالنسبة لله. ولا شك أن هذا التفسير للظلم مخالف للمعروف من لغة العرب، ولما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة التي ورد فيها هذا اللفظ، كما أن قولهم بأن الظلم ممتنع عليه ليس فيه مدح ولا كمال، وإنما المدح والكمال أن يقال: إن الله سبحانه منزه عنه، لا يفعله لعدله، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع (1).
تكليف ما لا يطاق:
الطاقة هي الاستطاعة، والخلاف بين الطوائف قائم حول تحديد المقصود بما لا يطاق، هل هو الممتنع عادة، أم المستحيل كالجمع بين الضدين، أو هو كتكليف الكافر وهو لا يؤمن.
وشيخ الإسلام بين أن هذا الخلاف ناتج عن عدم التفريق بين أمرين متعلقين بالنزاع في هذه المسألة:
1 -
ما يرجع إلى الفعل المأمور به، وهذا فيما يتعلق بالقضاء والقدر.
2 -
وما يرجع إلى جواز الأمر الشيء، وهذا فيما يتعلق بمسائل الأمر والنهي. والذين خلطوا بين هذين القسمين وقعوا في المحذور، مثل قياس بعضهم أمر الله الكافر بالإيمان مع علمه تعالى أنه لا يفعل، بمسألة العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه، وجعلهم القسمين قسما واحداً وأنه تكليف بمالا يطاق. فهذا جمع مخالف لما يعلم بالاضطرار من الفرق بينهما، وهو من مثارات الأهواء بين القدرية والجبرية (2).ولذا يرى شيخ الإسلام أن إطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام (3).
وقد وقع الخلاف في تكليف ما لا يطاق على أقوال:1 - جواز تكليف ما لا يطاق مطلقا، ومنه تكليف الأعمى البصر، والزمن أن يسير إلى مكة. وهذا قول جهم بين صفوان (4).2 - عدم جواز تكليف ما لا يطاق، وقد منعوه لقبحه عقلا، وهذا مبني على مذهبهم في أن القدرة تكون قبل الفعل فقط، حتى يتحقق التكليف، ومن ثم يترتب عليه الثواب والعقاب، ولذلك منعوا أن تكون القدرة مقارنة لمقدورها، لأن معنى ذلك أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفا بما لا يطاق؛ إذ لو أطاقه لوقع منه، فلما لم يقع منه دل على أنه غير قادر عليه، وتكليف ما لا يطاق قبيح، والله لا يفعل القبيح، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (5).
(1) انظر في مسألة الظلم والأقوال فيه: ((جامع الرسائل)) (1/ 27 - 129)، و ((الجواب الصحيح)) (1/ 219)، ((النبوات)) (ص: 143) – ط دار الكتب العلمية، ((منهاج السنة)) (1/ 318) ط دار العروبة المحققة، (1/ 361) – مكتبة الرياض الحديثة، (3/ 23 - 26) – ط بولاق، ((مجموع الفتاوى)) (8/ 505 - 510، 11/ 675 - 676)، ((درء التعارض)) (10/ 28).
(2)
انظر: ((درء التعارض)) (1/ 64 - 65).
(3)
انظر: ((درء التعارض)) (1/ 65).
(4)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 297).
(5)
انظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 396)، و ((المختصر في أصول الدين)) لعبد الجبار الهمذاني (ص: 218)، و ((نظرية التكليف)) عبدالكريم عثمان (ص: 301)، و ((شرح المواقف)) (ص: 331) – الجزء المحقق.
3 -
أن تكليف ما لا يطاق جائز، وهذا مذهب الأشاعرة، وبنوا ذلك على ما في مذهبهم من أنه لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء. لكن الأشاعرة يقولون، إن ما لا يطاق أقسام: أ- أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه، كتكليف الكافر الإيمان في حالة كفره، وهذا جائز عند جميع الأشاعرة، وهذا النوع هو ما لا يستطيعه المكلف لاشتغاله بضده فقط وهو الذي منعه المعتزلة (1).ب- أن يمتنع الفعل لنفسه، بكونه محالا كالجمع بين الضدين، وهذا اختلف فيه الأشاعرة، منهم من أجازه كالرازي ومنهم من منعه (2).ج- ألا تتعلق به القدرة الحادثة عادة، كحمل الجبل، والطيران، فهذا يجوزه بعض الأشاعرة وإن لم يقع من خلال الاستقراء، وبعض المجوزين يحتج لذلك بتكليف أبي لهب الإيمان مع ورود الخبر أنه لا يؤمن (3).
4 -
مذهب السلف، التفصيل، وذلك أن يقال: تكليف مالا يطاق على وجهين:
أحدهما: ما لا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان:
أ- ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام.
ب- وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديما، والقديم محدثا، ونحو ذلك. فهذان النوعان قد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع، وأنه لا يجوز تكليفه (4).والثاني: ما لا يقدر عليه لا لاستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافا للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة. ولكن إطلاق تكليف ما لا يطاق على هذا مما منعه جمهور أهل العلم، وإن كان بعض المنتسبين إلى السنة قد أطلقه في ردهم على القدرية (5).بقي الكلام في ما احتج به بعض الأشاعرة من جواز تكليف الممتنع عادة، بقصة أبي لهب (6)، فشيخ الإسلام يرى أن هذا خطأ، لأن من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلى النار، بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الإيمان، فهذا قد حقت عليه كلمة العذاب، فهو كالذي يعاين الملائكة وقت الموت، فلم يبق هذا مخاطبا من جهة الرسول بالأمرين المتناقضين. وهو أيضا كقوم نوح حين أخبر الله نوحا – عليه السلام – أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فلم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب (7)."بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار المستلزم لموته على الكفر وأنه سمع هذا الخطاب، ففي هذا الحال انقطع تكليفه، ولم ينفعه إيمانه حينئذ، كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب، قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: 85](8).فأبو لهب قد حقت عليه كلمة العذاب، فلا ينفعه الإيمان (9).وهكذا فالقول الراجح هو التفصيل فيها. ومن ذلك يتبين خطأ المعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة. علما أن من الأشاعرة من ذكر القول الحق بتفصيله في هذه المسألة (10).
هذه أهم المسائل المتعلقة بالقدر، وهي إن كانت مسائل فرعية إلا أنها ذات صلة قوية بموضوع القدر، أو هي جزء منه، ولاشك أن الأشاعرة لم يسلكوا فيها المسلك الصحيح الذي هو مسلك السلف – رحمهم الله – ولذلك جاء مذهبهم في القدر وفي أفعال العباد، منحرفا عن المذهب الحق.
المصدر:
موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1323
(1) انظر: ((شرح المواقف)) (ص: 331 - 332) – الجزء الثاني.
(2)
انظر: ((الإرشاد)) (ص: 226) وما بعدها، و ((معالم أصول الدين)) للرازي (ص: 85 - 86)، ط مكتبة الكليات الأزهرية، و ((شرح المواقف)) (ص: 332) – الجزء المحقق.
(3)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 295)، و ((شرح المواقف)) (ص: 333) – الجزء المحقق.
(4)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 301).
(5)
انظر: ((المعتمد في أصول الدين)) للقاضي أبي يعلى (ص: 46 - 147)، و ((مجموع الفتاوى)) (8/ 298 - 302)، و ((درء التعارض)) (1/ 60).
(6)
كالرازي في ((معالم أصول الدين)) (ص: 85)، ط مكتبة الكليات الأزهرية، وانظر:((مجموع الفتاوى)) (8/ 303).
(7)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 302)، و ((درء التعارض)) (1/ 63).
(8)
انظر: ((درء التعارض)) (1/ 63 - 64).
(9)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 438، 473 - 474).
(10)
انظر: ((المعتمد في أصول الدين)) (ص: 146)، و ((الاقتصاد)) للغزالي ((ص: 112 - 114) ط دار الكتب العلمية، و ((مجموع الفتاوى)) (8/ 296، 469 - 470).