الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: معرفة الله واجبة عندهم بالعقل قبل ورود السمع
ذهبت الماتريدية إلى أن معرفة الله تجب بالعقل قبل ورود السمع وأن الإنسان يتحمل مسؤولية هذه المعرفة قبل بعثة الأنبياء والرسل ولا يكون معذورا بتركها بل يعاقب على تركه لها وقد صرح بذلك غير واحد من علمائهم صرح به الماتريدي في تفسيره لقوله تعالى لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] حيث ذكر أن حقيقة الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها الرسل أما معرفة الله فإن سبيل لزومها العقل فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة (1).وذكر غير واحد من الماتريدية أن الماتريدي أوجب معرفة الله تعالى بالعقل على الصبي العاقل (2).
وقال أبو المعين النسفي: " من لم يبلغه الوحي وهو عاقل ولم يعرف ربه هل يكون معذورا أم لا؟ عندنا لا يكون معذورا ويجب عليه أن يستدل بأن للعالم صانعا
…
" (3).
وقال الأوشي في منظومته:
وما عذر لذي عقل بجهل
…
بخلاق الأسافل والأعالي (4)
وقال صاحب (نظم الفرائد): "ذهب جمهور مشايخ الحنفية إلى أنه تعالى لو لم يبعث إلى الناس رسولا لوجب عليهم بعقولهم معرفة وجوده تعالى ووحدته واتصافه بما يليق .... "(5).
(1) انظر ((تأويلات أهل السنة)) (1/ل 444)، نسخة دار الكتب المصرية (ل 121)، الظاهرية، والتوحيد (102، 129، 130، 185، 224).
(2)
انظر مثلا ((التحرير في أصول الفقه)) لابن الهمام (24)، ((الروضة البهية)) (37).
(3)
((بحر الكلام)) (140) وانظر (5، 6).
(4)
((نثر اللآلي على نظم الأمالي)) لعبد الحميد بن عبد الله الآلوسي 204.
(5)
((نظم الفرائد)) لعبد الرحيم بن علي الشهير بشيخ زادة 35.
والحق والصواب في هذه المسألة أن وجوب معرفة الله تعالى ثابت بالعقل والسمع " والقرآن على هذا يدل فإنه يذكر الأدلة والبراهين العقلية على التوحيد ويبين حسنه وقبح الشرك عقلا وفطرة ويأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك ولهذا ضرب الله سبحانه الأمثال وهي الأدلة العقلية وخاطب العباد بذلك خطاب من استقر في عقولهم وفطرهم حسن التوحيد ووجوبه وقبح الشرك وذمه والقرآن مملوء بالبراهين العقلية الدالة على ذلك كقوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر:29] وقوله: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَاّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [النحل:75] وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:73 - 74] إلى أضعاف ذلك من براهين التوحيد العقلية التي أرشد إليها القرآن ونبه عليها. ولكن ههنا أمر آخر وهو أن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع كما دل عليه قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] وقوله: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [الملك:8 - 9] وقوله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59] وهذا في القرآن كثير يخبر أن الحجة إنما قامت عليهم بكتابه ورسوله كما نبههم بما في عقولهم وفطرهم من حسن التوحيد والشكر وقبح الشرك والكفر"(1).فمعرفة الله تعالى إذا واجبة بالعقل والسمع " فالعقل يوجبه بمعنى اقتضائه لفعله وذمه على تركه وتقبيحه لضده والسمع يوجبه بهذا المعنى ويزيد إثبات العقاب على تركه والإخبار عن مقت الرب تعالى لتاركه وبغضه له"(2).
فثبوت الحجة إذا وترتب العقاب على ذلك لا يكون إلا بعد ورود السمع وهذا هو الذي قد دل عليه الكتاب والعقل الصحيح، كما تقدم بيانه.
فظهر بهذا أن قول الماتريدية وهو قول المعتزلة من قبل أن معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع وأن العبد يعاقب على تركها قول باطل ظاهر البطلان لمعارضته نص الكتاب وصريح العقل.
وحقيقة قول الماتريدية هذا أن إرسال الرسل وعدم إرسالهم سواء. وهذا قول تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم:90] ولا يقول له من في قلبه ذرة إيمان فكيف ترضى الماتريدية بذلك.
المصدر:
الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص 147 - 150
(1)((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 488 - 490).
(2)
(مدارج السالكين)) (3/ 490)، وانظر ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) لأبي نصر السجزي (105 - 108، 167)، ((صون المنطق)) (178 - 180)، (درء تعارض العقل والنقل)(9/ 38، 39)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 247، 248)، ((النبوات)) (239، 240)، ((طريق الهجرتين)) (413)، ((إيثار الحق)) (109).