الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: عقيدة العادة عند الأشاعرة
هذا الموضوع يتناول قضية من أهم القضايا المتصلة بالفلسفة الطبيعية والعقدية على السواء لدى مدرسة ذاع صيتها ألا وهي مدرسة الأشعري رحمه الله وهذه القضية أسماها الأشاعرة (بالعادة) وهي تعني أنه لا شيء يؤثر في شيء ولا علة تؤثر في معلولها فالنار مثلاً ليس لها أثر في الإحراق، وما يراه الناس من إحراق إنما هو عادة وإلف فقط وليس ناشئًا عن علة في النار والله الخالق له بإطراد كلما التقت النار مع ما تحرقه دون أن يكون للنار أثر يُذكر وهكذا لا حقيقة لطبائع الأشياء وحكموا على أنها فارغة من القوى ومن ثم التأثير في غيرها أو التأثير بقدرة الله-سبحانه- باعتبارها وسائط وهذا معناه أيضًا إنكار لعلاقة الأسباب بمسبباتها وأن التلاقي بينهما ما هو إلا عادة فليس هناك أي علاقة ترابطية إلا ما يشاهده الإنسان بعينه والمشاهدة ليست حجة. بمعنى: أن اطراد الموجودات وتسلسلها ليس قائمًا على الترابط (العليِّ) بل إن العادة وجريانها هما السبيل في إحساسنا بالتعاقب بين ما يقال أنه سبب وما يقال أنه مسبب، وإن وجود أحدهما في الذهن يلزمه -بالتداعي - وجود الآخر دون أن يكون هناك في الواقع رابطة (عليه) حقيقة والذي دفع الأشاعرة إلى هذا القول، مجادلتهم للطبائعيين الذين ينسبون للطبيعة كل التأثير والاستقلال بالفعل فردوا عليهم هذا الاعتقاد بأن نزعوا من الطبائع صفة الفاعلية وغلوا حتى صادروا ما للطبائع من صفات جوهرية بها تتمايز وتتغاير كالفرق بين الخد والبصر، مع أن القول بأنها لا تفعل استقلالاً وإنما بإذن الله وهو القول الذي كان يجب أن يتوقفوا عنده دون الذهاب إلى آخر الشوط وإنكار حقائق الأشياء الأساسية مما أفسد عليهم طرقهم في إثبات التوحيد.
أهمية الموضوع
تكمن أهميته في بيان خطأ هذا الاجتهاد الحاصل بسبب ردود الفعل، وكان الأولى أن يبطل الأشاعرة حجج الطبائعيين القائلين باستقلال الطبيعة في إيجاد الأشياء دون الانسياق وراءهم وإبطال العلل والأسباب والقوى التي أودعها الله في هذه الطبائع ولا تعمل إلا بإذن الله، بمعنى عدم مجاوزة آيات القرآن الحكيم إلى آفاق بعيدة قد يثبت العلم التجريبي والمشاهدة بطلانها، وهذا ما حصل. والمهم هنا ألا نلوي أعناق آيات القرآن، وأن نركب الذلول والصعب في ذلك، لنوافق مذهبًا بعينه، أو فكرة ما تركزت في ذهن صاحبها، ويريد أن يوجد لها أساسًا شرعيًا في كتاب الله عز وجل وقد رأينا هذا المنهج لدى بعض الذين أغراهم الفكر الوارد في بعض مظاهره، فحاولوا عقد صلة بينه وبين النصوص الدينية فجاء عملهم هذا بعيدًا عن روح النص المقدس كما رأينا له مظهرًا آخر لدى أصحاب العقائد الباطنية المنحرفة.
وتكمن الأهمية في خطأ المسارعة بالحكم على كل من خالف في جانب من جوانب الفكر القابل للاجتهاد بالكفر والضلال وما شاكل ذلك، بل لا بد من المناقشة الموضوعية، والحوار الهادف، للوصول إلى غاية الهدف.
ومن الأهمية بيان أنه (من أنكر وجود المسببات مرتبة على الأسباب في الأمور الصناعية أو لم يدركها فهمه، فليس عنده علم بالصناعة ولا بالصانع كذلك في جحد وجود ترتيب المسببات على الأسباب في هذا العالم، فقد جحد الصانع الحكيم تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا وأبطل الحكمة وأبطل العلم، وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها، والحكمة هي معرفة بالأسباب الغائبة) ولهذا عبر الدكتور أبو العلا عفيفي عن قانون السببية بأنه عقيدة وعبر غيره ممن خالف قانون السببية وقال بالعادة بعقيدة العادة في مواجهة عقيدة (قانون السببية).
مفهوم العادة عند الأشاعرة
ليس هناك تلازم ضروري بين الأسباب والمسببات أو العلة والمعلول، يقول الغزالي:(الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببًا، وبين ما يعتقد مسببًا، ليس ضروريًا عندنا) بل ليس هناك علاقة تسببية بين السبب والنتيجة (بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمنًا لإثبات الآخر ولا نفيه متضمنًا لنفي الآخر).
وإذا احتج عليهم إنسان بأنه يرى دائمًا الاحتراق يعقب النار، والإسكار يعقب الخمر، تعللوا في ذلك بأنه لا يرجع إلى تلازم بين الأسباب الطبيعية، وإنما هو نتيجة الاعتياد من رؤيتهما معًا وفي ذلك يقول الباقلاني:(إن ما هو مشاهد في الحس لا يوجد ضرورة ولا وجوبًا وإنما هو يجري مجرى العادة، بمعنى وجوده وتكراره على طريقة واحدة)، ثم يأتي بعده الغزالي ويتوسع في إرجاع التلازم بين الأسباب الطبيعية ومسبباتها إلى حكم العادة ويرى أن (اللازمات .. يجوز أن تنفك عن الاقتران بما هو لازم لها، بل لزومه لحكم العادة).
وقال البغدادي: ( .. وأجازوا ـ أي الأشاعرة أن يجمع الإنسان بين النار والقطن والحلفاء فلا تحرقها على نقض العادة .. ) فليس لأية ظاهرة طبيعية فعل خاص يصدر عنها فليس في الخمر إسكار مثلاً وأنه لا مقوم داخلي لأي جسم يجعل منه فاعلاً إذ أن الأجسام منفصلة إلى أجزاء فهي جواهر فردة لا يربط بينها إلا بالقدرة الإلهية والسبب في الحقيقة لا أثر لها البتة بدليل إمكان انفكاك المسببات عن أسبابها ولكن اعتاد الناس وألفوا هذا الاقتران بينهما فحكموا بالضرورة وليس لديهم من حجة إلا المشاهدة يقول الغزالي (فإن اقترانها بما سبق من تقدير الله ـ سبحانه، يخلقها على التساوق لا لكونه ضروريًا في نفسه .. بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة) وإن كان الناس لم يألفوا هذه الأمور أو ألفوا بعضها، ولم يألفوا جز الرقبة مع بقاء الحياة (فأما النار وهي جماد، فلا فعل لها، فما الدليل على أنها الفاعل، وليس لهم دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق) فهي العادة لا أكثر وإلا فلا شيء يفعل في شيء.
ويشرح الدكتور البوطي عقيدة العادة عند الأشاعرة بالانقضاض على علاقة الأسباب بمسبباتها فيقول: (وإذًا فما معنى كون هذه الأمور أسبابًا؟ .. إن معنى ذلك محصور في أن الله عز وجل ربط بينهما وبين أمور أخرى بمحض إرادته وقدرته فقط، فظهر استمرار هذا الارتباط أمامنا بمظهر السببية والتأثير فاستعرنا له كلا من هاتين الكلمتين على سبيل المجاز) وهذا معناه أنه لا يوجد سبب حقيقي ولا علة حقيقية لها تأثير في مسببها ومعلولها، ونفي السببية والعلية سمة واضحة في المذهب الأشعري بل يذهب البغدادي إلى القول بأن أهل السنة أجمعوا على أنه لا أثر البتة للطبائع (وضللوا من قال باختلاف الأجسام لاختلاف الطبائع) حتى بلغ الأمر بالأشاعرة تحقيقًا لعقيدة العادة، وردًا للسببية أن منعوا أن يقال للشيء احترق بالنار وإنما احترق عندها يقول الغزالي:(فقد تبين أن الوجود عند الشيء، لا يدل على أنه موجود به) فالأدلة الحسية المشاهدة لا تكفي عندهم في إثبات باء السببية وهكذا تم التعامل مع آيات الذكر الحكيم الواردة بباء السببية كما سيأتي. وكذلك الآيات التي رتبت النتائج على الأسباب. بل التجارب العلمية والأدلة العقلية لا تستقيم كأدلة عند الأشاعرة في رد عقيدة العادة ولهذا يقول الغزالي في معرض رده على المخالفين: (فما الدليل على أنها الفاعل؟ وليس لهم دليل، إلا مشاهدة حصول الاحتراق منذ ملاقاة النار والمشاهدة تدل على الحصول عندها، ولا تدل على الحصول بها .. ) وكذلك التجارب العلمية لا تنهض كدليل على إثبات السببية يقول مصطفى صبري: (ولا تقل أيها القارئ أن التردد في كون علة الاحتراق الفاعلية هي النار بعد مشاهدة النار مع كل حادثات الاحتراق، مكابرة ظاهرة، لأني أقول: على أي دليل قطعي الدلالة ينبني حكمك هذا؟ فإن بنيته على التجربة المشاهدة فالتجربة لا تشاهد العلية لأن العلية أمر معنوي لا يرى، وإنما مدلول التجارب ومشهودها
كون النار مجتمعة مع حادثة الاحتراق والجسم المحترق ودائرة حيثما دار، وإن بنيته على الدليل المنطقي فالمنطق لا يعترف بدلالة دوران شيء مع شيء ودوام اقترانه به على كون صلة أحدهما بالآخر صلة العلة بمعلولها) أي لا بالمشاهدة ولا بالعقل ويزيد البوطي هذا الكلام وضوحًا حيثما يقول:(والعلم لا شأن له في الأشياء إلا أنه يصفها على ما هي عليه في أدق مظاهرها، ثم يمارس هذا الوصف بالتجربة في مجالات متكررة وهيهات أن يتوصل العلم إلى أن مقارنة الأسباب بمسبباتها أمر حتمي لا مناص من تلازمها ولا حيلة لانفكاكها) وهكذا فإن الأشاعرة ينفون أن يكون هناك دليل من المشاهدة والعلم أو المنطق على ضرورة التسبب أو أن هذه الأدلة لا تنهض على أن تكون لضرورة التلازم بين الأسباب والمسببات وهذا يعني انتقاء نوع الأدلة كلية في إثبات العلاقة بين الأسباب الطبيعية وهم بهذا يغلقون باب البحث عن دليل حسي أو عقلي أو علمي.
المصدر:
عقيدة العادة عند الأشاعرة لجابر السميري – ص 8
دوافع القول بعقيدة العادة
أولاً: يقول الشهرستاني: (صار أبو الحسن الاشعري - رحمه الله تعالى- إلى أن أخص وصف للإله هو القدرة على الاختراع، فلا يشاركه فيها غيره، ومن أثبت فيه شركه فقد أثبت إلهين) ولهذا أراد الأشاعرة أن يحافظوا على أخص وصف لله تعالى فلا ينسبوا لغيره صفة القادرية ولا الفاعلية ولا الإحداث لأن كل ذلك لا يليق إلا بالله ـ سبحانه ـ ولهذا يسوي الإمام أبو الحسن الأشعري بين هذه الألفاظ في المعنى، فالخلق، والفعل، والإحداث، والاختراع كلها بمعنى واحد وهي لا تليق إلا بالله وإذا أطلقت على الإنسان فإنه لا يراد بها إلا معنى الكسب لا حقيقة الفعل فهو يقول:(لا قادر عليه ـ أي على الفعل ـ أن يكون ما هو عليه من حقيقة أن يخترعه إلا الله) بمعنى لا أثر لقدرة الإنسان في فعله إلا الاكتساب ولهذا ذهب الأشاعرة إلى أن (القدرة الحادثة على رأينا، فإنها لا تؤثر، وليست مبدأ لأثر) إذن لا شغل لقدرة العبد إلا الاقتران أما أن يؤثر فلا (وعندنا لا فرق إلا ما يعود إلى جريان العادة) هذا المبدأ الذي اهتم به الأشاعرة ـ وهو لا فاعلية ولا خالقية ولا إحداث ولا اختراع ـ كان الأساس في القول بعقيدة العادة وأنه لا أثر لشيء في شيء البتة وإلا ثبت الشرك فالعادة هي الكسب وكلاهما معناه اقتران شيء بشيء ويستدل الأشاعرة على ذلك بكثير من الآيات القرآنية، وأن الله أسند لنفسه الخلق فقال:(ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) فاستحق العباد لاستحقاقه الخلق.
ويلاحظ ابن رشد أن من جملة الدوافع التي دفعت الأشاعرة إلى القول بالتجويز: (الهروب من القول بفعل القوى الطبيعية، والخوف من أن يدخل عليهم في القول بالأسباب الطبيعية أن يكون العالم صادرًا عن سبب طبيعي).
ولا شك فإن الأشاعرة ردوا على الطبائعيين اعتقادهم بأن الطبيعة خالقة أو أن لها أثرًا في الأشياء بل الخالق الفاعل المحدث هو الله سبحانه يقول البوطي: (الواقع أن هذا القول لا يعتمد إلا على وهم مجرد، ذلك لأن الطبيعة لا تعطيك من واقعها إلا هذا الاقتران وهو بحد ذاته ليس أكثر من الاقتران مهما كان ثابتًا ومستمرًا). فلا شيء له أثر في شيء من نفسه بل ما يراه الناس إنما هو اقتران وانسجام.
ويقول آخر: ( .. ولا يقول لشيء من الأشياء في الكائنات بخاصة ناشئة من ذاته غير قابلة للانفكاك عنه إلا طبيعي منكر للإله بالمرة) وهذا يعني القول بعدم تأثير الطبائع أو السبب أو إلغاء عملها في الوجود. فلا سببية ولا طبيعية. ويقول الأشاعرة (إن الكائنات بأجمعها مستندة إلى الله من غير واسطة) أي لا مكانة لواسطة الأسباب والمسببات في خلق أو تأثير (فالاعتراف مثلاً بأن الشمس تعطي الحركة والحياة للأشياء يكون شركًا).
ثانيًا: رتب الأشاعرة على القول بعقيدة العادة ثبوت المعجزات الخارقة للعادة وعدم القول بها إنكار للمعجزات فقال الغزالي في معرض الرد على المخالفين: (وحكمهم بأن هذا الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات اقتران تلازم بالضرورة، وليس في المقدور، ولا في الإمكان إيجاد السبب دون المسبب، ولا وجود المسبب دون السبب ترتب عليه عدم إثبات المعجزات الخارقة للعادة مثل قلب العصا ثعبانًا، وإحياء الموتى وشق القمر، ومن جعل مجاري العادات لازمة لزومًا ضروريًا أحال جميع ذلك .. ).
ويناقش مصطفى صبري هذا الأمر وهو يرى أنه لا مانع لله أن يفعل ما شاء (فالله تعالى في عقيدة المؤمنين إذا شاء يسلب الأشياء ما جرت سنته فيها، ويكون هذا السلب خرقًا منه للعادة لا خرقًا للعقل حتى يكون محالاً .. وكذا الكلام في إحراق النار ما تحرقه أنه كما يكون بإذن الله تعالى يكون كف النار عن الإحراق بأمر الله، ولا خرق بين الحالين بالنسبة إلى قدرة الله). ومعناه يستوي بالنسبة إلى قدرة الله أن تكون الأسباب مقترنة بالجواز أو بالضرورة، فلا شيء يمنع قدرة الله من أن يسلب النار مثلاً عملها فلا تعود محرقة .. وهذا معنى ثبوت معجزة إبراهيم عليه السلام بأن النار لم تؤثر عليه ولهذا (فإن الله الذي أوجد سلسلة الأسباب والعلل قادر على تعطيل عمل هذه السلسلة، فلا تكون المعجزة خارقة بهذا الاعتبار ولا يختل قانون السببية) وهذا القول كأنه جمع بين ثبوت المعجزات وقانون السببية الذي يرى الأشاعرة عدم ثبوته وبطلانه بعقيدة العادة ولهذا قال مصطفى صبري في تعليقه على النص السابق: (ومراده من عدم كون المعجزات خارقة أنها غير مخلة بقانون السببية وهو الناحية المهمة للمسألة لوجود سببها الذي هو إرادة الله وإلا فالمعجزة تخرق العادة لتعطيل عمل سلسلة الأسباب)