الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: معنى الإيمان وحقيقته
ذهب جمهور المحققين من الماتريدية - وعلى رأسهم الماتريدي- إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وذهب بعضهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان (1).
وغاية ما استدلوا به على صحة قولهم هو:
1 -
أن الإيمان في اللغة هو التصديق وهو باق على معناه اللغوي لم ينقل إلى غيره واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17]
2 -
أن الكفر ضد الإيمان والكفر هو التكذيب والجحود وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما.
3 -
أن الله قد فرق بين الإيمان والأعمال وذلك بما ورد في كثير من الآيات من عطف الأعمال على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة.
4 -
أن الله خاطب المؤمنين بالإيمان قبل فرض الأعمال فدل ذلك على عدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان.
قال أبو المعين النسفي: " الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق فكل من صدق غيره فيما يخبره يسمى في اللغة مؤمنا به ومؤمنا له قال الله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ " أي بمصدق لنا ثم إن اللغوي وهو التصديق بالقلب هو حقيقة الإيمان الواجب على العبد حقا لله تعالى وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الله تعالى فمن أتى بهذا التصديق فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى
…
فمن جعله لغير التصديق فقد صرف الاسم عن المفهوم في اللغة إلى غير المفهوم وفي تجويز ذلك إبطال اللسان وتعطيل اللغة ورفع طريق الوصول إلى اللوازم الشرعية والدلائل السمعية يحققه أن ضد الإيمان هو الكفر والكفر هو التكذيب والجحود وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما إذ لا تضاد يتحقق عند تغاير المحلين والذي يدل عليه أن الله تعالى فرق بين الإيمان وبين كل عبادة بالاسم المعطوف عليه ما فرق بين العبادات بالأسماء المعطوفة المفعولة لها على ما قال الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [التوبة:18]
فقد عطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإيمان ولا شك في ثبوت المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يحققه أن الله تعالى خاطب باسم الإيمان ثم أوجب الأعمال على العباد على ما قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] وهذا دليل التغاير وقصر اسم الإيمان على التصديق. وبالوقوف على هذا يثبت بطلان قول من جعل الأعمال إيمانا وهو قول فقهاء الحديث وأكثر متكلميهم" (2).
والجواب عما ذكروه هو كما يلي:
أولا قولهم: إن الإيمان في اللغة هو التصديق وهو باق على معناه لم ينقل إلى غيره
…
والجواب عن ذلك من وجوه:
(1) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص 55، 56)، وحاشية قاسم الحنفي على ((المسايرة)) (ص 290 - 293)، ((شرح ضوء المعالي)) (ص 19، 20).
(2)
((التمهيد)) (ص 99 - 101)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل 473 - 476)، ((التوحيد للماتريدي)) (ص 373 - 379)، ((سلام الأحكم)) (ص 60، 147، 159، 160)، ((أصول الدين)) للبزدوي (ص 146، 149 - 151)، ((النور اللامع)) (ل8، 18، 74، 75، 103)، ((المسايرة)) (ص 285 - 314)، ((ضوء المعالي)) (ص 19، 20). ((نثر اللآلئ)) (ص 211)، ((جامع المتون)) (ص 4)، ((شرح العقيدة الطحاوية)) للميداني (ص 98، 99)، ((بيان الاعتقاد)) (ل3).
1 -
يقال لهم: "مما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم ولهذا قال الفقهاء الأسماء ثلاثة أنواع: نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] ونحو ذلك
…
فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يراد بها في كلام الله ورسوله وكذلك لفظ الخمر وغيرها
…
فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه .... " (1).ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين المراد باسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر " بيانا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله فإنه شاف كاف بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من مقام الإيمان" (2).
2 -
القول بالترادف بين الإيمان والتصديق غير صحيح بدليل " أنه يقال للمخبر إذا صدق صدقه ولا يقال آمنه ولا آمن به بل يقال آمن له كما قال تعالى فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] "وقال" فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَاّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ [يونس:83] ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام فالأول يقال للمخبر به والثاني للمخبر ولا يرد كونه يجوز أن يقال ما أنت بمصدق لنا لأن دخول اللام لتقوية العامل كما إذا تقدم المعمول أو كان العامل اسم فاعل أو مصدرا على ما عرف في موضعه"كما أن " الفرق بينهما ثابت في المعنى فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة صدقت كما يقال له كذبت فمن قال السماء فوقنا قيل له صدقت وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب فيقال لمن قال طلعت الشمس صدقناه ولا يقال آمنا له فإن أصل معنى الأمن والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر"(3).
3 -
وعلى فرض صحة القول بالترادف بين الإيمان والتصديق فإن القول بأن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو بالقلب واللسان عنه جوابان:" أحدهما المنع بل الأفعال تسمى تصديقا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها الاستماع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ذلك ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (4) وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف. قال الجوهري: والصديق مثال الفسيق الدائم التصديق ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال
…
.الثاني: أنه إذا كان أصله التصديق فهو تصديق مخصوص كما أن الصلاة دعاء مخصوص والحج قصد مخصوص والصيام إمساك مخصوص وهذا التصديق له لوازم صارت لوازمه داخلة في مسماه عند الإطلاق فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم ويبقى النزاع لفظيا هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو اللزوم " (5).
(1)((الإيمان)) لابن تيمية ص (241).
(2)
((الإيمان)) لابن تيمية ص (241).
(3)
((شرح الطحاوية)) (ص 368، 369)، ((الإيمان)) (ص 246).
(4)
رواه البخاري (6243) ومسلم (2657) بنحوه.
(5)
((الإيمان)) (ص 248، 251).
ثانيا قولهم إن الكفر ضد الإيمان والكفر هو التكذيب والجحود وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما. يقال لهم: " إن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال صدقت أو كذبت ويقال صدقناه أو كذبناه ولا يقال لكل مخبر آمنا له أو كذبنا له ولا يقال أنت مؤمن له أو مكذب له بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر يقال هو مؤمن أو كافر والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفره أعظم فلو كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعا بلا تكذيب فلا بد أن يكون الإيمان تصديقا مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق .... فيجب أن يكون كل مؤمن مسلما منقادا للأمر وهذا هو العمل "(1).
ثالثا: استدلالهم بالآيات الوارد فيها عطف العمل على الإيمان وقولهم إن العطف يقتضي المغايرة.
يقال لهم: إن الإيمان يرد في النصوص مطلق عن العمل ويرد مقرونا بالعمل فأما إذا ورد مطلقا فإنه يكون مستلزما للأعمال إذ لا يمكن تصور وجود إيمان القلب مع انتفاء جميع الأعمال وذلك كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)). وأما إذا عطف العمل على الإيمان فإن العطف هنا لا يقتضي المغايرة بل هو من باب عطف الخاص على العام أو الجزء على الكل وذلك كقولة تعالى حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] وقوله: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة:98]. ومن هذا الباب قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ونحوها من الآيات والله تعالى عطف العمل على الإيمان حتى لا يظن أحد أنه يكتفى بإيمان القلب فقط بل لابد معه من العمل الصالح (2).
رابعا: قولهم بأن الله خاطب المؤمنين بالإيمان قبل فرض العمل فدل ذلك على عدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان. فيقال لهم:" إن قلتم إنهم خوطبوا به قبل أن تجب تلك الأعمال فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين ولهذا قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان
…
وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد" (3).
وبهذا يتبين لنا تهافت قولهم وتساقط استدلالاتهم وأن ما ذهبوا إليه خلاف الحق والصواب.
المصدر:
الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص453 - 459
(1)((الإيمان)) (ص 247).
(2)
انظر ((الإيمان)) (ص 143، 144، 149، 165، 169، 171)، ((الفتاوى)) (7/ 195 - 198)، ((شرح الطحاوية)) (ص 378 - 381).
(3)
((الفتاوى)) (7/ 197).