الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: الرد على الماتريدية في تعطيلهم لصفة "نزول" الله إلى السماء الدنيا
لقد سبق أن ذكرنا أن الباعث للماتريدية ولغيرهم من المعطلة أنهم فهموا من نصوص "النزول" و"الإثبات" و"المجيء" ما يفهم من صفات المخلوق.
فقالوا: لو تركنا هذه النصوص على ظاهرها لزم الله انتقال الأعراض والأجسام وهذا يستلزم التغير والزوال له تعالى فيكون الله من الآفلين. فيجب صرف ذلك إلى ما يستحق بالربوبية (1).
وبناء على هذا الأساس الباطل المنهار عطلوا صفات الله تعالى "النزول" و"الإتيان" و"المجيء".
وحرفوا نصوصها. فقالوا: المراد نزول اللطف، والرحمة على سبيل التمثيل (2).أو نزول بره وعطائه (3).أو نزول الملك (4).أو المراد الاطلاع، والإقبال على العباد بالرحمة (5).
وهكذا عطلوا صفة "الإتيان" لله تعالى، وحرفوا نصوصها. فقالوا: المراد إتيان عذابه، أو إتيان ملائكته، أو مجاز عن التجلي، أو معناه: أن يأتي الله بأمره، وبأسه، فحذف المفعول به، وغيرها (6).
وكذا عطلوا صفة "المجيء" وحرفوا نصوصها إلى أنواع من المجازات بشتى التأويلات. فقالوا: المراد المجيء حكمه، وعطائه، وأمره، وقضائه، أو ظهور آثار قهره، وسلطانه، وغيرها (7).
وقد رأيت للإمام أبي منصور الماتريدي تحريفاً عجيباً وتخريفاً غريباً لم أجده عند غيره من المعطلة - فيما أعلم - يندهش المسلم منه وترعد فرائصه وهو: أن "الواو" في قوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22].بمعنى "الباء" وتكون الباء لتعدية "جاء" ويكون "الملك" مفعولاً به، فيكون المعنى: وجاء ربك بالملك صفاً صفاً (8) تعالى الله عما يصفون.
كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.
تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً.
هذه كانت نماذج من تأويلاتهم التي يدعون أنها موافقة للغة العربية!.
وبعد هذا العرض نناقش الماتريدية في تعطيلهم لصفة "النزول" وتحريفهم لنصوصها، ونكتفي بذلك لئلا يطول بنا الكلام.
ويكون كلامنا مع الماتريدية في مقامين:
المقام الأول:
في بيان فساد مذهب الماتريدية في صفة "النزول".
وفيه أمور:-
(1) وانظر: ((تأويلات أهل السنة للماتريدي)) (1/ 436)، تحقيق د. محمد مستفيض الرحمن.
(2)
((شرح المواقف)) للجرجاني مع حاشية حسن الجلبي عليه (8/ 25).
(3)
((إشارات المرام)) (ص 189) للبياضي.
(4)
((مقالات الكوثري)) (ص 349).
(5)
((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي (ص 23).
(6)
انظر: ((تأويلات أهل السنة للماتريدي)) (1/ 83 - 85)، تحقيق الدكتور إبراهيم عوضين، والسيد عوضين، و (1/ 435 - 436)، تحقيق محمد المستفيض، و ((بحر العلوم)) لأبي الليث السمرقندي (1/ 612)، و ((مدارك التنزيل)) (1/ 133، 519)، و ((شرح المواقف)) (8/ 24)، و ((عمدة القاري)) (25/ 125)، ((إرشاد العقل السليم)) (1/ 212، 3/ 203)، و ((تلخيص الأدلة)) للصفار (ص242/أ).
(7)
((بحر العلوم)) لأبي الليث السمرقندي (1/ 612)، ((المدارك)) (3/ 390)، ((شرح المواقف)) (8/ 24)، ((إشارات المرام)) (ص 189)، ((إرشاد العقل السليم)) (9/ 157).
(8)
((تأويلات أهل السنة)) (1/ 84)، تحقيق الدكتور إبراهيم عوضين، والسيد عوضين، و (1/ 83)، تحقيق محمد المستفيض، وسكت على هذا التحريف هؤلاء جميعاً، وهذا يدل على ًأنهم خلطاؤه في هذا التحريف، فما أجدر هذا الكتاب أن يسمى تحريفات أهل البدع سبحان الله عما يصفون، إنا لله وإنا إليه راجعون!!!.
الأمر الأول: أن الماتريدية في تأويلاتهم لصفة "النزول" أتباع الجهمية الأولى فإنهم كانوا يؤولون بمثل تأويلات الماتريدية (1).
وقد تقدم أن جميع هذه التأويلات الموجودة اليوم في كتب الماتريدية والأشعرية مأخوذ عن هؤلاء الجهمية الأولى.
ولنعم ما قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فإن القرين بالمقارن يقتدي
وقد ذكر الإمام الترمذي (279هـ) رحمه الله حديث (النزول) ثم ذكر إجماع أئمة الإسلام على ما يدل عليه وقال:"وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا التشبيه! "(2).
وقد سئل الإمام شريك بن عبدالله ((177هـ) أن المعتزلة تنكر أحاديث النزول، فحدث بنحو عشرة أحاديث وقال:"أما نحن فقد أخذنا ديننا عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم عمن أخذوا؟! "(3).ولذلك قال الإمام عبدالله بن المبارك (181) هـ) الذي جعلته الكوثرية من كبار أئمة الحنفية (4)."من قال لك: "يا مشبه" فاعلم أنه جهمي"(5).
الأمر الثاني:
في بيان خروج الماتريدية على أحاديث النزول الصحيحة المحكمة المتواترة الصريحة.
فأقول: استدل أئمة هذه الأمة على إثبات صفة "النزول" لله تعالى. بأحاديث كثيرة، أكتفي هنا بذكر ما في الصحيحين:
(1) انظر ((متشابه القرآن)) (ص 689)، و ((المختصر في أصول الدين ضمن رسائل العدل)) (ص 335)، و ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 229 - 230)، كلها للقاضي عبدالجبار أحد أئمة الاعتزال، و ((الكشاف)) للزمخشري الحنفي المكنى بأبي المعتزلة ((1/ 353) وانظر:((شرح حديث النزول)) (ص 37، 55)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 371، 397).
(2)
((سنن الترمذي)) (3/ 41 - 42)، وانظر:((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 451هـ) وحجة الله (1/ 63).
(3)
رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص45)، وسكت عليه الكوثري، وانظر ((الفتح)) (3/ 30).
(4)
انظر ((فقه أهل العراق)) (ص 61).
(5)
رواه ابن منده كما في ((شرح حديث النزول)) (ص 53)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 393).
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: "من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له)) (1).قلت: وهذا الحديث قطعي الدلالة على معناه لا يحتمل التأويل والمجاز، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم:((ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا)) إلى آخر الحديث صريح في معناه الحقيقي لا يحتمل التأويل إلا بالتحريف؛ لاشتماله على ما يؤكد الحقيقة وينفي المجاز (2).كما أنه قطعي الثبوت فإنه حديث متواتر تلقته الأمة بالقبول لفظه ومعناه، فقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تسعة وعشرين (3) من الصحابة الذين رووا هذا الحديث، ثم ذكر من أخرج (4) حديثهم من المحدثين كما ذكر أبو عبدالله محمد بن جعفر الكتاني ثلاثة عشر صحابياً من رواة هذا الحديث (5).
وفيما يلي نصوص بعض الأئمة حول أحاديث النزول:
(1) رواه البخاري (1145) ومسلم (758)
(2)
لقد ذكر الإمام ابن القيم أربعة عشر وجهاً لتحقيق أن "النزول" على الحقيقة وإبطال احتمال المجاز فيه فراجعها، فإنه مهم غاية الاهتمام. ((مختصر الصواعق)) (2/ 378 - 382)، وانظر:((شرح حديث النزول)) (35ص – 38).
(3)
((مختصر الصواعق)) (3/ 386 - 398)، ((نظم المتناثر من الحديث المتواتر)) (ص 178 - 179)، وانظر:((السنة)) لابن أبي عاصم (1/ 216 - 224)، و ((سنن الترمذي)) (2/ 308 - 309)، و ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 289 - 327)، ((الشريعة)) للآجري (306 - 314)، ((كتاب النزول)) الدارقطني (ص 89 - 157)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (3/ 434 - 453)، ((عقيدة السلف)) للصابوني (ص 26 - 50)، و ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 451).
(4)
((مختصر الصواعق)) (3/ 386 - 398)، ((نظم المتناثر من الحديث المتواتر)) (ص 178 - 179)، وانظر:((السنة)) لابن أبي عاصم (1/ 216 - 224)، و ((سنن الترمذي)) (2/ 308 - 309)، و ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 289 - 327)، ((الشريعة)) للآجري (306 - 314)، ((كتاب النزول)) الدارقطني (ص 89 - 157)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (3/ 434 - 453)، ((عقيدة السلف)) للصابوني (ص 26 - 50)، و ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 451).
(5)
((مختصر الصواعق)) (3/ 386 - 398)، ((نظم المتناثر من الحديث المتواتر)) (ص 178 - 179)، وانظر:((السنة)) لابن أبي عاصم (1/ 216 - 224)، و ((سنن الترمذي)) (2/ 308 - 309)، و ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 289 - 327)، ((الشريعة)) للآجري (306 - 314)، ((كتاب النزول)) الدارقطني (ص 89 - 157)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (3/ 434 - 453)، ((عقيدة السلف)) للصابوني (ص 26 - 50)، و ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 451).
1 -
قال حافظ المغرب ابن عبدالبر (463هـ):"وهو حديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم"(1).2 - وقال شيخ الإسلام: "فإن هذا القول الذي قاله قد استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق سلف الأمة وأئمتها، وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك، وتلقيه بالقبول
…
والنبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وأمثاله علانية وبلغه الأمة تبليغاً عاماً لم يخص به أحداً دون أحد ولا كتمه عن أحد وكان الصحابة والتابعون تذكره وتأثره وتبلغه، وترويه في المجالس الخاصة والعامة، واشتملت عليه كتب الإسلام التي تقرأ في المجالس الخاصة والعامة
…
" (2).3 - وقال الذهبي: "وأحاديث نزول الباري متواترة قد سقتُ طرقها وتكلمتُ عليها بما أُسئل عنه يوم القيامة" (3).وقال: "وقد ألفت أحاديث النزول في جزء وذلك متواتر أقطع به" (4).
4 -
وقال الإمام ابن القيم: "إن نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه عنه نحو ثمانية وعشرين نفساً من الصحابة، وهذا يدل على أنه كان يبلغه في كل موطن ومجمع، فكيف تكون حقيقته محالاً وباطلاً؟! وهو صلى الله عليه وسلم، يتكلم بها دائماً ويعيدها ويبديها مرة بعد مرة، ولا يفرق باللفظ ما يدل على مجازه بوجه ما، بل يأتي بما يدل على إرادة الحقيقة
…
" (5).وقال: "
…
قد تواترت به الأحاديث والآثار .... " (6).فأحاديث النزول هذه كما عرفتم قطعية الثبوت وقطعية الدلالة وليست من الوحدان، المفاريد، والمناكير بل من قبيل المتواتر والمشاهير ومفيدة للعلم القطعي اليقيني حتى باعتراف الكوثري فقد اعترف الكوثري: "أن الأخبار المحتج بها في الصفات إنما هي الصحاح المشاهير، دون الوحدان والمفاريد، والمناكير، والمنقطعات، والضعاف، والموضوعات
…
" (7).
وقد ذكرنا اعتراف كثير من الحنفية الماتريدية والكوثرية بأن خبر الواحد المحتف بالقرائن ومنه أحاديث (الصحيحين) ومنه ما تلقته الأمة بالقبول مفيد للعلم القطعي اليقيني.
الأمر الثالث:
في خروج الماتريدية على إجماع سلف هذه الأمة وأئمة السنة ولاسيما الإمام أبو حنيفة وأصحابه القدماء.
نصوص أئمة السنة في تحقيق صفة النزول خارجةٌ عن نطاق الحصر ولكن نورد ههنا بعض نصوص الإمام أبي حنيفة لتعتبر منه الماتريدية، كما نورد نصوص بعض الأئمة الآخرين لبيان أن عقيدة السلف عقيدة واحدة لم يختلف منهم اثنان وفيما يلي بعض النصوص.
1 -
الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى (150هـ).سئل الإمام أبو حنيفة عنه - يعني النزول - فقال: "ينزل بلا كيف"(8).
(1)((التمهيد)) (7/ 128).
(2)
((شرح حديث النزول)) (ص 5، 9)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 322 - 323، 374).
(3)
((العلو)) (ص 73، 79)، وأقره شيخنا الألباني في ((مختصر العلو)) (ص 110، 116).
(4)
((العلو)) (ص 73، 79)، وأقره شيخنا الألباني في ((مختصر العلو)) (ص 110، 116).
(5)
((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 380، 398)، الطبعة الجديدة، (و (2/ 221) الطبعة القديمة و (ص 366، 383)، ط/ دار الكتب العلمية.
(6)
((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 380، 398)، الطبعة الجديدة، (و (2/ 221) الطبعة القديمة و (ص 366، 383)، ط/ دار الكتب العلمية.
(7)
((تبديد الظلام)) (ص 133، 52، 121، 152).
(8)
ذكره الإمام الصابوني عن الأستاذ أبي منصور بن حماد في ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص 42)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 456)، وسكت عليه الكوثري، والإمام ابن أبي العز في ((شرح الطحاوية)) (ص 245)، والملا علي القاري في ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 60).
فهذا نص صريح من الإمام أبي حنيفة فهو أثبت صفة النزول بلا تكييف ولا تمثيل، ولم يقل: إن أحاديث النزول أخبار الآحاد ولم يقل: إن المراد الملك أو نزوله أو الرحمة أو الأمر أو غير ذلك، فلم يفوض ولم يؤول ولم يشبه ولم يحرف ولم يعطل.
2 -
حماد ابن الإمام أبي حنيفة (176هـ).
قال الإمام أبو عثمان بن عبدالرحمن المعروف بشيخ الإسلام الصابوني (449هـ):
"قرأت لأبي عبدالله بن أبي حفص البخاري - وكان شيخ بخارى في عصره بلا مدافعة، وأبو حفص كان من كبار أصحاب محمد بن الحسن الشيباني - قال أبو عبدالله- أعني ابن أبي حفص هذا -: سمعت محمد بن الحسن الشيباني يقول: قال حماد بن أبي حنيفة قلنا لهؤلاء - (يعني الجهمية): أرأيتم قول الله عز وجل: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] قالوا: أما الملائكة فيجيئون صفاً صفاً، وأما الرب تعالى فإنا لا ندري ما عني بذلك؟ ولا ندري كيف مجيئه؟ فقلت لهم: إنا لم نكلفكم أن تعلموا كيف جيئته؟.ولكنا نكلفكم أن تؤمنوا بمجيئه، أرأيتم من أنكر أن الملك يجيء صفاً صفاً ما هو عندكم؟ قالوا: كافر مكذب، قلت: فكذلك إن أنكر أن الله سبحانه يجيء فهو كافر مكذب"(1).
(1) انظر: ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) للصابوني (ص 49)، و ((ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 118).
قلت: وهذا إسناد في غاية من الصحة والإتقان والإيقان ورجاله جبال شامخات والأئمة الأعلام للحنفية. سبحان الله!!! أئمة الحنفية القدامى يكفرون من أنكر صفة المجيء لله تعالى والاعتراف بصفة المجيء يستلزم الاعتراف بصفة النزول فالقائل بالأولى قائل بالثانية؛ لأنه لا قائل بالفصل، ولكن الماتريدية قالوا:"لا يجوز أن يوصف الله بالمجيء والذهاب لأنها من صفات المخلوقين"(1).3 - إمام المحدثين عبدالله بن المبارك (181هـ) الذي تجعله الحنفية من أئمة الحنفية (2) وجعله الكوثري والكوثرية من كبار الحفاظ والمحدثين من الحنفية ومن أخص أصحاب أبي حنيفة (3)، مع أن الأمر ليس كذلك بل هو إمام من أئمة المسلمين محدث فقيه مجتهد وليس بحنفي البتة ولكن كلامه في النزول مهم جداً فنذكره حجةً على الحنفية الماتريدية ولاسيما الكوثرية. فقد سئل عبدالله بن المبارك:"يا أبا عبدالرحمن كيف ينزل؟ " فقال ابن المبارك: "ينزل كيف يشاء"(4).4 - وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189هـ) أحد الأئمة الثلاثة للحنفية حول أحاديث النزول ونحوها: "إن هذه الآحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها، ولا نفسرها"(5).
5 -
وقال أيضاً: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على أن الإيمان بالقرآن والآحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا فمن قال بقول الجهم فقد فارق الجماعة لأنه قد وصفه بصفة لا شيء".
وعلق عليه شيخ الإسلام قائلاً: "وثبت عن محمد بن الحسن
…
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام كيف حكى الإجماع في هذه المسألة، ولا خير فيما خرج عن إجماعهم، ولو لزم التجسيم من السكوت عن تأويلها لفروا منه وأولوا، فإنهم أعرف الأمة بما يجوز على الله وما يمتنع عليه" ().6 - الإمام الزاهد الفضيل بن عياض (187هـ) الذي يعده الحنفية من كبار الأئمة الحنفية، ويقولون: أخذ عن الإمام أبي حنيفة وأخذ عنه الإمام الشافعي روي له البخاري ومسلم (6).
فقد قال الفضيل بن عياض: "إذا قال لك الجهمي: "أنا أكفر برب ينزل.
(1)((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي (ص 22)، وانظر:((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص 22).
(2)
((الجواهر المضية)) (2/ 324 - 326)، ((الفوائد البهية)) (ص 103)، و ((مقدمة الكوثري/ لنصب الراية وفقه أهل العراق له)) تحقيق أبي غدة وتقريظ البنوري (ص 61).
(3)
((الجواهر المضية)) (2/ 324 - 326)، ((الفوائد البهية)) (ص 103)، و ((مقدمة الكوثري/ لنصب الراية وفقه أهل العراق له)) تحقيق أبي غدة وتقريظ البنوري (ص 61).
(4)
رواه أبو سليمان الخطابي كما قال البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 453)، وشيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني في ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص 29)، ومن طريقة البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص 453)، وسكت عليه الكوثري، فلم يستطع أي قدح في صحته عن ابن المبارك مع غلوه في التعطيل والقدح في الصحاح لدائه الجهمي.
(5)
رواه اللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (3/ 433)، ومن طريقه ابن قدامة المقدسي في ((ذم التأويل)) (ص 14)، وفي ((إثبات صفة العلو)) (ص 117)، والذهبي في ((العلو)) (ص 113)، وانظر:((مختصر العلو)) للألباني: وأقره الكوثري في ((بلوغ الأماني)) (ص 53)، وتعليقاته على ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 314)، وأبو الخير في ((عقيدة الإسلام)) (ص 240).
(6)
((الجواهر المضية)) (2/ 700/702).
فقل أنت: أنا أومن برب يفعل ما يشاء".7 - إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين (233هـ) الذي تجعله الكوثرية من كبار أئمة الحنفية بل تجعله حنفياً متعصباً وتبجله وتعظمه (1) مع أن عدّه حنفياً خطأ، بل هو مجتهد من أئمة أهل الحديث (2) ومع ذلك كله كلام هذا الإمام حجة على الماتريدية والكوثرية - فقد قال هذا الإمام:
"إذا سمعت الجهمي يقول: أنا كفرت برب ينزل.
فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يريد".
8 -
ورواية أخرى عن يحيى بن معين تؤيد هذه: "إذا قال لك الجهمي": وكيف ينزل؟ فقل: كيف يصعد؟ ".وعلق عليها الذهبي: "الكيف في الحالين منفي عن الله تعالى" (3).9 - الإمام حماد بن زيد (179هـ) وهو للعراقيين نظير مالك للحجازيين في الجلالة والعلم (4).
فقد سئل: "يا أبا إسماعيل: الحديث الذي جاء، ينزل الله إلى السماء الدنيا، يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء".
10 -
الإمام إسحاق بن راهويه عالم خراسان (338هـ):
فقد قال جمعني وهذا المبتدع - يعني إبراهيم بن أبي صالح - مجلس عبدالله بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها، فقال إبراهيم: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء، فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء".
11 -
وقد ذكر الإمام أبو الحسين محمد بن أحمد الملطي (377هـ) عن الإمام أبي عاصم خشيش بن أصرم (253هـ) ما فيه عبرة للماتريدية وقمع شبهات الجهمية.
تنبيه:
نصوص هؤلاء الأئمة تبطل شبهة المعطلة القديمة والحديثة وهي: أنه يلزم من النزول الانتقال، والزوال، والأقوال لله تعالى والله منزه عنها.
فأنت ترى نصوص هؤلاء الأئمة ترد كيد الجهمية في نحورهم حيث صرحوا بأن الله يفعل ما يشاء فلا يجوز إبطال صفات الله تعالى بتهولات الجهمية ولا بتسمياتهم المدهشة.
12 -
الإمام أبو الحسن الأشعري إمام الأشعرية (324هـ) الذي جعله كثير من الحنفية، والكوثري في عداد الحنفية. فقد أقر أحاديث النزول وجعلها من الأدلة على علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه وصنيعه هذا يقطع دابر المحرفين لأحاديث النزول (5).
13 -
الإمام ابن عبدالبر (463هـ) فقد قال هذا الإمام بعد ذكر حديث النزول:
"هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، رواه أكثر الرواة عن مالك وهكذا .. ، وهو حديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة، من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة: وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم:"إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش
…
" (6).
14 -
وقال الحافظ ابن حجر (852هـ): في حديث النزول:"ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة، والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عناداً
…
" (7).
(1) انظر: ((مقدمة الكوثري لنصب الراية)) (للزيلعي (ص 42)، و ((فقه أهل العراق)) للكوثري (ص 64)، وأقره البنوري.
(2)
انظر ((مقدمة الدكتور أحمد محمد نور سيف لتاريخ بن معين)) (1/ 31 - 34).
(3)
((العلو)) (ص 129)، و ((مختصر العلو)) للألباني (ص 188)، رواها ابن بطة في ((الإبانة)) كما في ((اجتماع الجيوش)) (ص 141).
(4)
((العلو/ للذهبي)) (ص 107)، و ((مختصره)) للألباني (ص 147).
(5)
انظر: ((الإبانة)) للأشعري (2/ 110 - 112)، تحقيق د/ فوقية، و (ص 88)، تحقيق الأرناؤوط، ط/ دار البيان، بيروت، و (ص 122) ط/ الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
(6)
((التمهيد)) (7/ 128 - 129).
(7)
((فتح الباري)) (3/ 30).
قلت: هذه كانت نماذج من درر غرر أئمة الإسلام في صفة "النزول" ونصوصها.
الحاصل: أنه قد تبين للقراء الكرام في ضوء ما عرضنا من نصوص الأئمة الحنفية وغيرهم من أئمة هذه الأمة ما يلي:
1 -
أن تعطيل صفة النزول وتحريف نصوصها أو إنكارها من بدع الجهمية وأذيالهم.
2 -
أن السلف الصالح ولاسيما أئمة الحنفية أبو حنيفة وأصحابه القدامى قد أثبتوا لله تعالى صفة النزول، على منهج إثباتهم للصفات الأخرى بلا تكيف ولا تمثيل ولا تأويل، ولا تعطيل
…
3 -
أن الحنفية الماتريدية مخالفون لإمامهم أبي حنيفة وأصحابه الأوائل والسلف عامة وأنهم خارجون على إجماعهم وليس لهم أي صلة بعقيدتهم وأنهم أتباع الجهمية الأولى.
المقام الثاني:
في إبطال شبهاتهم حول نصوص صفة "النزول".
لقد عطل طوائف من المعطلة من الجهمية الأولى إلى الماتريدية صفة نزول الله تعالى وحرفوا نصوصها بأنواع من التأويلات والمجاز فراراً عن التشبيه وتحقيقاً للتنزيه على زعمهم.
فمن تلك التأويلات: أن المراد نزول الأمر، أو نزول الملك.
وركز الكوثري في تحريفاته وتعطيله لصفة النزول على أمور أربعة: الأول: رواية النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ: ((إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر منادياً ينادي يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يُعطى)) (1).قال الكوثري: "
…
أو أن يحمل الحديث على المجاز في الطرف أو في الإسناد بل الأخير هو المتعين لحديث النسائي المذكور فيخرج حديث النزول من عداد أحاديث الصفات بالمرة عند من فكر وتدبر تعالى الله عن النقلة التي يقول بها المجسمة" (2).
الثاني: رواية عن الإمام مالك رواها حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك قال:
"سئل مالك بن أنس عن قول النبي صلى الله عليه وسلم ((ينزل ربنا
…
)) قال ينزل أمره، كل سحر وأما هو فهو دائم لا يزول وهو بكل مكان".ودافع الكوثري عن "حبيب" هذا (3).الثالث: رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى رواها عنه حنبل أنه قال "ينزل قدرته"(4).الرابع: أي لفظ الحديث: "يُنْزِل" بضم أوله وكسر الزاي المعجمة من باب الإفعال على حذف المفعول: أي ينزل ملكاً، ويقويه حديث النسائي ((ثم يأمر منادياً)) (5)(6).
قلت: هذه أربعة معاول للكوثري وقَبْلَه لطوائف المعطلة من الماتريدية وغيرهم هدموا بها نصوص صفة "النزول" وعطلوها بها.
ولنا عن هذه الشُّبَهِ جوابان إجمالي وتفصيلي:
أما الإجمالي:
فنقول: لقد حققنا بالبراهين القاطعة الساطعة الناصعة أن تأويل الصفات
أولاً: دخيل على المسلمين من الجهمية الأولى وليس ذلك من منهج السلف في شيء وأنه بدعة محضة في الإسلام ومخالف لإجماع أئمة هذه الأمة، ولاسيما نصوص الإمام أبي حنيفة وأصحابه الأوائل.
(1) رواه النسائي في ((الكبرى)) (6/ 124) وأبو يعلى (10/ 342)(5936) قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (5/ 384) موضوع، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (3897) منكر بهذا اللفظ
(2)
((تبديد الظلام)) (ص 90، 53)، و ((مقالات الكوثري)) (ص 349)، و ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 449 - 450)، وتعليقاته على كتاب ((التنبيه والرد
…
)) لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي (ص 109).
(3)
((تبديد الظلام)) للكوثري ((مع السيف الصقيل)) للسبكي (ص 112 - 113).
(4)
((تبديد الظلام)) للكوثري (ص 53)، و ((تعليقاته على الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص 448).
(5)
رواه النسائي في ((الكبرى)) (6/ 124) وأبو يعلى (10/ 342)(5936) قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (5/ 384) موضوع، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (3897) منكر بهذا اللفظ
(6)
(تعليقاته على الأسماء والصفات)) (ص 449 - 450).
وثانيا: أن التأويل تحريف لنصوص الصفات والتحريف ميراث اليهود.
وثالثاً: أن التأويل تعطيل لصفات الله العليا وإبطالها حتى بنص الإمام أبي حنيفة، إلى غيرها من الوجوه التي ذكرناها لإبطال التأويل.
وقد ذكر شيخ الإسلام والإمام ابن القيم وجوها كثيرة لإبطال تأويل صفة النزول وأن أحاديث النزول نصوص صريحة لا تحتمل التأويل.
وأما الجواب التفصيلي:
فنجيب عن الشبهة الأولى: أولاً: أن رواية النسائي: ((يأمر منادياً ينادي
…
)) رواية شاذة مخالفة لما استفاض وتواتر وتلقته الأمة بالقبول من أن القائل: ((من يدعوني .. من يسألني، من يستغفرني
…
)) هو الله تعالى الذي استوى على عرشه فوق عباده العالي على خلقه وأن الذي ينزل هو الله تعالى ومن المقرر في علم مصطلح الحديث: "أن الضعيف لا يعل به (1) الصحيح. " فلا يصح كون رواية النسائي هذه حاكمة على اللفظ المتواتر المستفيض المتلقى بالقبول المسجل في أمهات دواوين الإسلام من الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها.
ثانياً: أنه لو سلم صحة تلك الرواية فلا منافاة بينها وبين أحاديث نزول الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى ينزل هو، كما يأمر ملكاً ينادي أيضاً. قال شيخ الإسلام: "
…
فإن هذا إن كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الرب يقول: ذلك ويأمر منادياً بذلك، لا أن المنادي يقول:((من يدعوني فأستجيب له))، ومن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن المنادي يقول ذلك فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه - مع أنه خلاف اللفظ المستفيض المتواتر الذي تلقته الأمة خلفاً عن سلف - فاسدٌ في المعقول فعلم أنه من كذب بعض المبتدعين
…
" (2).
والجواب عن الشبهة الثانية: أن هذه الرواية عن مالك باطلة عاطلة موضوعة مصنوعة فراويها حبيب بن أبي حبيب (218هـ) قال فيه الإمام أحمد: "كان يكذب. وقال أبو داود: "كان يكذب. وقال أبو داود: "كان من أكذب الناس" وقال النسائي وأبو حاتم والأزدي: "متروك الحديث" وقال ابن حبان: "أحاديثه كلها موضوعة، عامة حديثة موضوع المتن مقلوب الإسناد لا يحتشم في وضع الحديث على الثقات، وأمره بين الكذب" وقال النسائي: "يضع الحديث، متروك، أحاديثه موضوعة عن مالك وغيره". وقال محمد بن سهل: "كتبنا عنه عشرين حديثاً وعرضناها على ابن المديني قال: كله كذب" وقال أبو حاتم: "روي عن ابن أخي الزهري أحاديث موضوعة"، وقال ابن عدي:"أحاديثه كلها موضوعة"(3).قلت: والكلام فيه واسع الذيل فهل يعتمد الكوثري في تحريف نصوص الصفات وتعطيلها بمثل هؤلاء الكذابين الوضاعين؟؟!! وهذه حقيقة اعترف بها عبدالله الغماري صديق (4) الكوثري ومشربيُّه في البدع. وقال الإمام ابن القيم: "
…
؛ فإن المشهور عنه - (أي مالك) - وعن أئمة السلف إقرار نصوص الصفات والمنع من تأويلها
…
وهذه الرواية لها إسنادان أحدهما من طريق حبيب كاتبه، وحبيب هذا غير حبيب، بل هو كذاب وضاع باتفاق أهل الجرح والتعديل، ولم يعتمد أحد من العلماء على نقله، والإسناد الثاني فيه مجهول لا يعرف حاله
…
" (5).
والجواب عن الشبهة الثالثة:
أن الإمام ابن القيم رحمه الله ذكر في الجواب عن هذا الرواية عن الإمام أحمد:
(1) انظر: ((فتح الباري)) (4/ 365).
(2)
((شرح حديث النزول)) (ص 37)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 372).
(3)
((ضعفاء النسائي)) (ص 90)، و ((الجرح)) (3/ 100)، و ((المجروحين)) (1/ 265)، و ((الكامل)) (2/ 818) و ((الميزان)) (1/ 452)، و ((التهذيب)) (5/ 366)، و ((تهذيبه)) (2/ 181)، و ((تقريبه)) (ص 150).
(4)
((تعليقاته على التمهيد)) لابن عبدالبر (7/ 143).
(5)
((مختصر الصواعق)) (2/ 407) ط/ الجديدة، و (391) ط/ العلمية.
أولاً: أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه وأنها غلط عليه فإن حنبلاً تفرد بها عنه، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه هذا إذا كان في مسائل الفروع فكيف في أصول العقائد؟
وثانياً: أنه لو سلم صحتها تحمل على أن الإمام قد رجع عنها كما هو صريح منه في أكثر الروايات. وثالثا: أن الإمام قال ذلك على سبيل المعارضة للجهمية القائلين بخلق القرآن، فإنهم لما استدلوا بإتيان القرآن على أنه مخلوق فعارضهم الإمام أحمد إسكاتاً لهم وإلزاماً عليهم أن المراد إتيان ثوابه كما أنكم تقولون في إتيان الله "إتيان أمره" لا أنه يعتقد ذلك، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به (1). والله أعلم.
والجواب عن الشبهة الرابعة:
أن تحريف "يَنْزِل" إلى "يُنْزِل" ليس إلا من تحريفات اليهود الكذابين الأفاكين البهاتين على الأنبياء والمرسلين، إن لم نقل أنه شر من تحريفاتهم.
فلم يوجد لفظ "يُنزِلُ" في شيء من كتب السنة ولم يروه أحد من أئمة السنة فليس هذا من حديث سيد المرسلين الذي لا يكون إلا وحياً من رب العالمين بل هو "يُنْزِلُ" من وحي الشيطان لا من وحي الرّحمن؛
فقد انقطع الوحي إلا وحي الشياطين شياطين الفلاسفة والمتكلمين. قال شيخ الإسلام: "
…
يعلم أنه من كذب بعض المبتدعين كما روى بعضهم: "يُنْزِل" بالضم، وكما قرأ بعضهم وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] ونحو ذلك من تحريفهم اللفظ والمعنى" (2).
الحاصل: أن هذه التأويلات كلها من تأويلات الجهمية الأولى التي ورثتها أذيالهم من المعتزلة والماتريدية وغيرهم. قال شيخ الإسلام: "وهذا تأويل من تأويلاتهم القديمة فإنهم تأولوا تكليم الله لموسى، بأنه أمر ملكاً فكلمه .... "(3).وقال: "والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتَدَعَةٌ لم يقل أحد من الصحابة شيئاً منها، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث، أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة .... "(4).
قلت:
وفيما ذكرنا كفاية
…
لمن يطلب الحق ويريد الهداية
أما أهل العناد والتخريف
…
والمكابرة والهوى والتحريف
فلا يُنّبهُهُمْ عن سباتهم إلا نفخةُ الصور
…
لأنهم غريقون عريقون في الديجور
المصدر:
الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 30/ 3
(1)((مختصر الصواعق)) (2/ 406 - 407) ط/ الجديدة.
(2)
((شرح حديث النزول)) (ص 37)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 372).
(3)
((شرح حديث النزول)) (ص 37، 62)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 371، 409).
(4)
((شرح حديث النزول)) (ص 37، 62)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (5/ 371، 409).