الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: التحسين والتقبيح
أول من اشتهر عنه بحث هذا الموضوع الجهم بن صفوان الذي وضع قاعدته المشهورة: "إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع"(1)، وبني على ذلك أن العقل يوجب ما في الأشياء من صلاح وفساد، وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها، وقد أخذ المعتزلة بهذا القول ووافقهم عليه الكرامية (2).
ومن ثم وقع الخلاف حوله على ثلاثة أقوال:1 - أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، والفعل حسن أو قبيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبين لتلك الصفات فقط. وهذا هو مذهب المعتزلة والكرامية ومن قال بقولهم من الرافضة والزيدية وغيرهم (3).2 - أنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع، فالعقل لا يدل على حسن شيء، ولا على قبحه قبل ورود الشرع، وفي حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. قالوا: ولو عكس الشرع فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا. وهذا قول الأشاعرة ومن وافقهم (4).
3 -
التفصيل، لأن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها، غير صحيح، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل الحق في هذا توضيحا كاملا، فيقسم الأفعال إلى ثلاثة أنواع:
"أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن أو قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه ثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا ما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث الله إليهم رسولا، وهذا خلاف النص، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]
…
(1)((الملل والنحل)) (1/ 88) ت كيلاني.
(2)
انظر: ((نشأة الفكر الفلسفي للنشار)) (1/ 346)، و ((التجسيم عند المسلمين – مذهب الكرامية)) سهير مختار (ص: 363).
(3)
انظر ((المغني)) لعبدالجبار (جـ6 – القسم الأول – ص: 26 - 34، 59 - 60)، و ((المعتمد في أصول الفقه)) لأبي الحسين البصري (1/ 363)، و ((البحر الزخار)) لابن المرتضي (1/ 59)، و ((العقل عند المعتزلة)) (ص: 98 - 100)، و ((المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية)) (ص: 137).
(4)
انظر ((الإرشاد)) (ص: 258 وما بعدها)، و ((المحصل)) للرازي (ص: 202)، و ((شرح المواقف)) (8/ 181 - 182).
النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء يمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] حصل المقصود، ففداه بالذبح وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك:((أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك)) (1) ، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به. وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب" (2).
وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقا فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان: أحدهما: كون الفعل ملائما للفاعل نافعا له أو كونه ضارا له منافرا فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يعلم بالعقل (3).
الثاني: كونه سببا للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف:
- فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل، ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول.
- والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسول، وإنما الحسن ما قيل فيه افعل، والقبيح ما قيل لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل.- جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول (4).وما فصله شيخ الإسلام هو الموافق لمذهب السلف، وهو الذي دلت عليه النصوص، أما الكلام في هذه المسألة كاصطلاح فإنما نشأ في المائة الثالثة من الهجرة (5).
والأشاعرة لأنهم يميلون إلى "الجبر" وفي القدر، قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعي فقط. ولذلك احتج الرازي صراحة عليه بالجبر، فإنه أثبت أن العبد مجبور على فعله القبيح، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحا.
(1) رواه البخاري (3464) ، ومسلم (2964) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
((مجموع الفتاوى)) (8/ 434 - 436).
(3)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 90، 309 - 301)، و ((منهاج السنة)) (1/ 364) – مكتبة الرياض الحديثة.
(4)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 677 - 686، 11/ 676 - 677).
(5)
انظر: ((التسعينية)) (ص: 247).
ويرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة هي في الأصل حجة المشركين المكذبين بالرسول الذين قالوا لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [الأنعام: 148]، فإنهم نفوا قبح الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات بإثبات القدر، لكن شيخ الإسلام يستدرك – إنصافا لخصومه – فيقول: "لكن هؤلاء الذين يحتجون بالجبر على نفي الأحكام إذا أقروا بالشرع لم يكونوا مثل المشركين من كل وجه، ولهذا لم يكن المتكلمون المقرون بالشريعة كالمشركين وإن كان فيهم جزء من باطل المشركين. لكن يوجد في المتكلمين من المتصوفة طوائف يغلب عليهم الجبر حتى يكفروا حينئذ بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب، إما قولا وإما حالا وعملا
…
" (1).ولاشك أن الأشاعرة – وكذلك المعتزلة – ليس لهم حجة على قولهم في التحسين والتقبيح، سوى أخذهم ببعض النصوص دون بعض، وشيخ الإسلام كثيرا ما يفصل الخلاف في ذلك مبينا المذهب الحق (2).
المصدر:
موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1319 يرى الأشاعرة أن القبيح ما نهى عنه الشارع والحسن بضده، فلا حكم إذاً للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وأنه ليس ذلك عائداً إلى أمر حقيقي في الفعل، فالشارع مثبت ومبين للحسن والقبح بأمره أو نهيه (3).ولهم طرق لإثبات زعمهم هذا، منها ما صرح بعضهم بضعفه (4)، ومنها ما اتفقوا على قوته، والمقصود إيراد ما اتفقوا عليه من الطرق: الدليل الأول: قال الإيجي: "إن العبد مجبور في أفعاله، وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح اتفاقاً. بيانه: إن العبد إن لم يتمكن من الترك فذلك هو الجبر، وإن تمكن ولم يتوقف على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى من غير سبب كان ذلك اتفاقياً، وإن توقف على مرجح لم يكن ذلك من العبد، وإلا تسلسل ووجب الفعل عنده، وإلا جاز معه الفعل والترك فاحتاج إلى مرجح آخر وتسلسل، فيكون اضطرارياً، وعلى التقادير فلا اختيار للعبد فيكون مجبوراً (5).
والجواب من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إن هذا التقسيم باطل مخالف للشرع والعقل والحس، لأنه يلزم منه التسوية بين الفعل الاضطراري والفعل الاختياري، وهذا خلاف ما تقضي به الضرورة (6).الوجه الثاني: إن الإيجي سلم بأن الفعلين الاتفاقي والاضطراري لا يكونان حسنين ولا قبيحين عقلاً، فيقال له: يلزم من هذا التقسيم إبطال الحسن والقبح الشرعيين كذلك، لأن فعل العبد لا يخلو من أن يكون ضرورياً أو اتفاقياً (7).
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 246 - 247)، وانظر:((التسعينية)) (ص: 247).
(2)
انظر: ((أقوم ما قيل في القضاء والقدر – مجموع الفتاوى –)) (8/ 90)، ((قاعدة في المعجزات والكرامات – مجموع الفتاوى)) (11/ 347 - 355)، ((منهاج السنة)) (1/ 316 - 317) – ط دار العروبة المحققة، ((الدرء)) (8/ 22، 492، 9/ 49 - 62)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 161) ت مخلوف، ((الرد على المنطقيين)) (ص: 420 - 437)، ((النبوات)) (ص: 139 وما بعدها)، ط دار الكتب العلمية، ((الجواب الصحيح)) (1/ 314 - 315)، ((مجموع الفتاوى)) (16/ 498).
(3)
انظر ((المواقف)) للإيجي (ص323) و ((شرح المقاصد)) (4/ 282).
(4)
انظر ((المواقف)) للإيجي (ص: 325 - 326 (و ((شرح المقاصد)) (4/ 284).
(5)
((المواقف)) للإيجي (ص:324).
(6)
انظر ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 25) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص:101).
(7)
انظر ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 25) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص: 101).
الوجه الثالث: ثم إن هذا التقسيم يعلم الأشاعرة بطلانه، فهم يقولون عن الفعل الواقع بلا مرجح: إنه اختياري، وعن فعل المكلف الواجب وإن لم يقع بقدرة مؤثرة منه فيه: إنه لا يخرج عن كونه اختيارياً! فكان الواجب إذاً عدم إيراد هذه الحجة، فإن قالوا هي إلزامية – فجوابهم: إننا لا نلتزم بشيء مما ذكروه فلا يرد إذاً هذا الإلزام الذي ذكروه. الدليل الثاني: قالوا: إن الكذب لو كان قبيحاً لذاته لوجب أن يكون كذلك في كل صورة – كالكذب لإنجاء نبي، ومعلوم أن الكذب هنا واجب فلزم أن يكون حسناً، ومثل ما قيل في قول الكذب، كذلك يقال في الفعل كالقتل فإنه قد يكون حسناً كالقصاص، وقد يكون قبيحاً إذا كان ظلماً، فلزم من هذا أنه لا حسن ولا قبيح ذاتيين يدركهما العقل (1).
والجواب: إن المراد من كون الفعل حسناً أو قبيحاً لذاته أو لصفته هو كونه منشأً للمصلحة والمفسدة، وترتيب المصلحة والمفسدة على الفعل كترتيب المسببات على أسبابها المقتضية لها (2)، وقد علم سابقاً أنه لابد من وجود شروط وانتفاء موانع لاقتضاء الأسباب لمسبباتها، فإذا تختلف شرط أو وجد مانع ما نتج شيء، فكذلك يقال هنا، إن الكذب قبيح ولكن وجد ما نع هنا من الحكم بقبحه في حالة معينة وهو المصلحة الراجحة، وهكذا يقال في الفعل وهو القتل هنا (3).
وللأشاعرة أدلة أخرى لنفي التحسين والتقبيح العقليين أقر المتأخرون منهم بضعفها، وآثرت ذكر واحد منها لأن له تعلقاً بأفعال الله، وقد يكون هو من أكبر الشبهات الحاملة لهم على نفي الحسن والقبح لذات الفعل أو لوصفه!، وهو:
الدليل الثالث: قالوا لو كان حسن الفعل وقبحه لذاته أو لصفاته للزم أن يكون الباري غير مختار في الحكم! وبيانه: أن الفعل لابد له من حكم شرعي، وهذا الحكم الشرعي إما أن يكون موافقاً للحسن لذاته المعلوم بالعقل أو مخالفاً له، والثاني باطل بصريح العقل لكونه لا يليق بالله تعالى، والأول يلزم منه أن يتعين على الباري الحكم عليه بحسب المعقول ولا يصح تركه وهذا ينافي الاختيار (4).
والجواب من وجهين: الأول: ما ادعوه من أن حكم الله إذا تعلق بالشيء لكونه حسناً لذاته ينافي الاختياري تلبيس، فإنه لم يتعلق بخلافه – وهو القبيح – لصارف الحكمة، مع أنه قادر عليه، والامتناع لصارف الحكمة لا ينافي الاختيار، كيف والواقع أن إرادته واختياره اقتضت استلزام الحكم للحسن لذاته (5).الوجه الثاني: إن الأشاعرة يقولون إن خطاب الله – وهو حكمه – قديم لأنه كلام نفسي أزلي فكيف على أصلهم يكون الاختيار، وهكذا يقال في أفعاله التي تعلقت بها القدرة والإرادة تعلقاً صلوحياً أزلياً، فهل يقال على أصلهم هذا: يلزم ألا يكون فعله اختيارياً؟ فما كان جواباً لهم على كل هذا كان جواباً لنا على شبهتهم (6). والصواب أن جميع ذلك تعلق به اختياره وإرادته فلا يكون اضطرارياً. ومع كل ما تقدم فإن الله تعالى لا يوجب عليه أحد شيئاً، وإنما الله تعالى هو الذي يوجب على نفسه بوعده الصادق وبما له من الأسماء الحسنى والمحامد العظيمة، ولا جوز إيجاب شيء أو تحريمه على الخالق بالقياس على خلقه (7).
ثم إن بعض الأشاعرة حاول أن يقرب الشقة فذكر بأن الحسن والقبح يرادان لثلاثة معان:
الأول: صفة الكمال والنقص فيقال: العلم حسن والجهل قبيح.
الثاني: ملاءمة الغرض ومنافرته – أو بتعبير آخر:- المصلحة والمفسدة، ويختلفان بالاعتبار.
الثالث: تعلق المدح والثواب أو الذم والعقاب. قالوا: فالأولان عقليان، والثالث شرعي فقط، وهذا هو محل النزاع (8).
والتعليق: هذا التقسيم صحيح، ولكن أن يقال: محل النزاع في الثالث فقط، فكلام يشك فيه، إذ لو كان كذلك فلم أوردوا تلك الشبهات لنفي الحسن والقبح لذات الفعل؟، فالذي يظهر أن محل النزاع هو:"هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه بحيث ينشأ الحسن والقبح منه، فيكون منشأ لهما أم لا؟ "(9)، أما محل النزاع الذي ذكروه فإنه مع المعتزلة فقط. وكذلك يمن اعتبار قائل محرر النزاع تراكاً لقول القدماء الذين غلوا في نفي تحسين العقل وتقبيحه.
المصدر:
منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 339
(1) انظر ((المواقف)) للإيجي (ص: 325) و ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (4/ 285).
(2)
انظر ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 37) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص: 102).
(3)
انظر ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 37) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص: 102).
(4)
انظر ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/ 288).
(5)
انظر ((مفتاح السعادة)) (2/ 38) و ((شرح المقاصد)) (4/ 288).
(6)
انظر ((شرح المقاصد)) (4/ 288) و ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 38).
(7)
انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 776 - 777).
(8)
انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص: 323 - 324).
(9)
قاله ابن القيم في ((مدارج السالكين)) (1/ 246).