الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِي كل ملحمة من هَذِه الْمَلَاحِم يثخن كثير من أنجاد الفرسان بالجراحات من الْمُسلمين وَيسْتَشْهد آخَرُونَ وَمن النَّصَارَى أَضْعَاف ذَلِك والمسلمون فَوق ذَلِك صَابِرُونَ محتسبون واثقون بنصر الله تَعَالَى يُقَاتلُون عدوهم بنية صَادِقَة وَقُلُوب صَافِيَة وَمَعَ ذَلِك يمشي مِنْهُم الرِّجَال فِي ظلام اللَّيْل لمحلة النَّصَارَى ويتعرضون لَهُم فِي الطرقات فيغنمون مَا وجدوا من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم وَرِجَال وَغير ذَلِك حَتَّى صَار اللَّحْم بِالْبَلَدِ من كثرته رَطْل بدرهم
وَمَعَ ذَلِك لم تزل الْحَرْب مُتَّصِلَة بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَالْقَتْل والجراحات فاشيان فِي الْفَرِيقَيْنِ سَبْعَة أشهر إِلَى أَن فنيت خيل الْمُسلمُونَ بِالْقَتْلِ وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل وفني أَيْضا كثير من نجدة الرِّجَال بِالْقَتْلِ والجراحات
تَسْلِيم غرناطة
وَفِي هَذِه الْمدَّة الْمَذْكُورَة انجلى كثير من النَّاس إِلَى بِلَاد الْبشرَة
لما نالهم من الْجُوع وَالْخَوْف وَكَانَت الطَّرِيق للبشرة على جبل شلير وَكَانَ يَأْتِي للبلد من الْبشرَة على ذَلِك على الطَّرِيق خير كثير من الْقَمْح وَالشعِير والذرة وَالزَّيْت وَالزَّبِيب وَغير ذَلِك من الْفَوَاكِه والسلع وَمَا زَالَ حَال الْبَلَد يضعف ويقل من الطَّعَام وَالرِّجَال إِلَى أَن دخل شهر الْمحرم عَام سَبْعَة وَتِسْعين وثمان مئة وَدخل فصل الشتَاء والثلج نَازل بِالْجَبَلِ وَقطع الطَّرِيق من الْبشرَة فَقل الطَّعَام عِنْد ذَلِك فِي أسواق الْمُسلمين فِي غرناطة وَاشْتَدَّ الغلاء وَأدْركَ الْجُوع كثيرا من النَّاس وَكثر السُّؤَال والعدو سَاكن بِبَلَدِهِ ومحلته وَلَقَد منع الفحص كُله وَمنع الْمُسلمين من الْحَرْث والزراعة وَقطع الْحَرْب فِي هَذِه الْمدَّة بَين الْفَرِيقَيْنِ فَلَمَّا دخل شهر صفر من عَام التَّارِيخ اشْتَدَّ الْحَال على النَّاس بِالْجُوعِ وَقلة الطَّعَام وَأدْركَ الْجُوع كثيرا من النَّاس الموسرين فَاجْتمع أَعْيَان النَّاس من الْخَاصَّة والعامة وَالْفُقَهَاء والأمناء والأشياخ والعرفاء
وَمن بَقِي من أنجاد الفرسان وَمن لَهُم النّظر بغرناطة وَسَارُوا إِلَى أَمِيرهمْ مُحَمَّد بن عَليّ فأعلموه بِحَال النَّاس وَمَا هم فِيهِ من الضعْف وَشدَّة الْجُوع وَقلة الطَّعَام وَأَن بلدهم بلد كَبِير لَا يقوم بِهِ طَعَام مجلوب فَكيف وَلم يجلب إِلَيْهِ شَيْء وَأَن الطَّرِيق الَّتِي كَانَت يَأْتِيهم عَلَيْهَا الطَّعَام والفواكه من الْبشرَة انْقَطَعت وَأَن أنجاد الفرسان هَلَكُوا وفنوا وَمن بَقِي مِنْهُم أثخن بالجراحات وَقد امْتنع عَنْهُم الطَّعَام وَالزَّرْع والحرث وَأَن رِجَالهمْ هَلَكُوا فِي تِلْكَ الْمَلَاحِم ثمَّ قَالُوا لَهُ إِن إِخْوَاننَا الْمُسلمين من أهل عدوة الْمغرب بعثنَا إِلَيْهِم فَلم يأتنا أحد مِنْهُم وَلَا عرج على نصرتنا وإغاثتنا وعدونا قد بنى علينا وَسكن مَعنا وَهُوَ يزْدَاد قُوَّة وَنحن نزداد ضعفا والمدد يَأْتِيهِ من بِلَاده وَنحن لَا مدد لنا وَهَذَا فصل الشتَاء قد دخل ومحلة عدونا قد تَفَرَّقت وضعفت وَقد قطع عَنَّا الْحَرْب وَإِن تكلمنا مَعَه الْآن قبل منا وأعطانا كل مَا نطلب مِنْهُ وَإِن بَقينَا حَتَّى يدْخل فصل الرّبيع تَجْتَمِع عَلَيْهِ جيوشه مَعَ مَا يلحقنا نَحن من الضعْف والقلة فَلَنْ يعود يقبل منا مَا نطلبه مِنْهُ وَلَا نَأْمَن نَحن على أَنْفُسنَا من الْغَلَبَة وَلَا على بلدنا مِنْهُ فَإِنَّهُ قد هرب لمحلته من بلدنا أنَاس كَثِيرُونَ يدلونه على عوراتنا ويستعين بهم علينا
فَقَالَ لَهُم الْأَمِير مُحَمَّد بن عَليّ انْظُرُوا مَا يظْهر لكم وَمَا تتفقون عَلَيْهِ من الرَّأْي الَّذِي فِيهِ صلاحكم
فاتفق رَأْي الْجَمِيع من الْخَاصَّة والعامة أَن يبعثوا لملك الرّوم من يتَكَلَّم مَعَه فِي أَمرهم وَأمر بلدهم وَقد زعم كثير من النَّاس أَن أَمِير غرناطة ووزيره وقواده كَانَ قد تقدم بَينهم وَبَين ملك النَّصَارَى النَّازِل عَلَيْهِم الْكَلَام فِي إِعْطَاء الْبَلَد إِلَّا أَنهم خَافُوا من الْعَامَّة وَكَانُوا يحتالون عَلَيْهِم ويلاطفونهم فحين أتوهم بِمَا كَانُوا اضمروا عَلَيْهِ أسعفوهم من حينهم وَلأَجل ذَلِك قد قطع عَنْهُم الْحَرْب فِي تِلْكَ الْمدَّة الْمَذْكُورَة حَتَّى وجدوا لذَلِك الْكَلَام مسلكا مَعَ الْعَامَّة فَلَمَّا بعثوا لملك الرّوم بذلك وجدوه رَاغِبًا فِيهِ فأنعم لَهُم بِجَمِيعِ مَا طلبُوا مِنْهُ وَمَا شرطُوا عَلَيْهِ
وَمن جملَة الشُّرُوط الَّتِي شَرط أهل غرناطة على ملك الرّوم
أَن يؤمنهم على أنفسهم وبلادهم وَنِسَائِهِمْ وصبيانهم ومواشيهم ورباعهم وجناتهم ومحارثهم وَجَمِيع مَا بِأَيْدِيهِم ولايغرمون إِلَّا الزَّكَاة وَالْعشر لمن أَرَادَ الْإِقَامَة بِبَلَدِهِ غرناطة وَمن أَرَادَ الْخُرُوج مِنْهَا يَبِيع أَصله بِمَا يرضاه من الثّمن لمن يُريدهُ من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى من غير غبن وَمن أَرَادَ الْجَوَاز لبلاد العدوة بالغرب يَبِيع أَصله وَيحمل أمتعته ويحمله فِي مراكبه إِلَى أَي أَرض أَرَادَ من بِلَاد الْمُسلمين من غير كِرَاء وَلَا شَيْء يلْزمه لمُدَّة من ثَلَاث سِنِين وَمن أَرَادَ الْإِقَامَة بغرناطة من الْمُسلمين فَلهُ الْأمان على نَحْو مَا ذكر وَقد كتب لَهُم ملك الرّوم بذلك كتابا وَأخذُوا عَلَيْهِ عهودا ومواثيق فِي دينه مُغَلّظَة على أَنه يُوفي لَهُم بِجَمِيعِ مَا شرطوه عَلَيْهِ
فَلَمَّا تمت هَذِه الْعُقُود والمواثيق قُرِئت على أهل غرناطة
فَلَمَّا سمعُوا مَا فِيهَا اطمأنوا إِلَيْهَا وانقادوا لطاعته وَكَتَبُوا بيعتهم وأرسلوها لصَاحب قشتالة وسمحوا لَهُ فِي الدُّخُول إِلَيّ مَدِينَة الْحَمْرَاء وَإِلَى غرناطة
فَعِنْدَ ذَلِك أَمر أَمِير غرناطة مُحَمَّد بن عَليّ بإخلاء مَدِينَة
الْحَمْرَاء فأخليت دورها وقصورها ومنازلها وَأَقَامُوا ينتظرون دُخُول النَّصَارَى لقبضها
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي لربيع الأول من عَام سَبْعَة وَتِسْعين وثمان مئة أقبل ملك الرّوم بجيوشه حَتَّى قرب من الْبَلَد وَبعث جنَاحا من جَيْشه فَدَخَلُوا مَدِينَة الْحَمْرَاء وَبَقِي هُوَ بِبَقِيَّة الْجَيْش خَارج الْبَلَد لِأَنَّهُ كَانَ يخَاف من الْغدر وَكَانَ طلب من أهل الْبَلَد حِين وَقع بَينهم الإتفاق على مَا ذكر رهونا من أهل الْبَلَد لِيَطمَئِن بذلك فَأَعْطوهُ خمس مئة رجل مِنْهُم وأقعدهم بمحلته فَحِينَئِذٍ قدم كَمَا ذكرنَا
فَلَمَّا اطْمَأَن من أهل الْبَلَد وَلم ير مِنْهُم غدرا سرح جُنُوده لدُخُول الْبَلَد والحمراء فَدخل مِنْهُم خلق كثير وَبَقِي هُوَ خَارج الْبَلَد وأشحن الْحَمْرَاء بِكَثِير من الدَّقِيق وَالطَّعَام وَالْعدة وَترك بهَا قائدا من قواده وَانْصَرف رَاجعا إِلَى محلته وَبَقِي حِينَئِذٍ يخْتَلف بالدقيق والعلوفات وأنواع الطَّعَام وَالْعدة وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَقدم فِي الْبَلَد قوادا وحكاما وبوابين وَمَا يحْتَاج الْبَلَد إِلَيْهِ
من الْأُمُور وَصَارَ الْمُسلمُونَ يَخْتَلِفُونَ إِلَى الْمحلة للْبيع وَالشِّرَاء وَالنَّصَارَى كَذَلِك بِالْبَلَدِ
فَلَمَّا سمع أهل الْبشرَة أَن أهل غرناطة دخلُوا تَحت ذمَّة النَّصَارَى أرْسلُوا بيعتهم إِلَى ملك النَّصَارَى ودخلوا فِي ذمَّته وَلم يبْق حِينَئِذٍ للْمُسلمين مَوضِع بالأندلس فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
ثمَّ إِن ملك الرّوم سرح الَّذين كَانُوا عِنْده مرتهنين مُؤمنين فِي أَمْوَالهم وأنفسهم مكرمين ثمَّ أقبل فِي جيوشه حِين اطْمَأَن فِي نَفسه فَدخل مَدِينَة الْحَمْرَاء فِي بعض خواصه وَبَقِي الْجند خَارج الْمَدِينَة وَبَقِي هُوَ يتنزه فِي الْحَمْرَاء فِي الْقُصُور والمنازل المشيدة إِلَى آخر النَّهَار ثمَّ خرج بجنده وَصَارَ إِلَى محلته فَمن غَد أَخذ فِي بِنَاء الْحَمْرَاء وتشييدها وتحصينها وَإِصْلَاح شَأْنهَا وَفتح طرقها وَهُوَ مَعَ ذَلِك يتَرَدَّد إِلَيْهَا بِالنَّهَارِ وَيرجع بِاللَّيْلِ لمحلته فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى اطمأنت نَفسه من غدر الْمُسلمين فَحِينَئِذٍ دخل الْبَلَد وَدَار فِيهِ فِي نفر من قومه وحشمه
فَمَا اطْمَأَن فِي الْبَلَد سرح لَهُم الْجَوَاز وأتاهم بالمراكب إِلَى السَّاحِل فَصَارَ كل من أَرَادَ الْجَوَاز يَبِيع مَاله ورباعه ودوره فَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَبِيع الدَّار الْكَبِيرَة الواسعة الْمُعْتَبرَة بِالثّمن الْقَلِيل وَكَذَلِكَ يَبِيع جنانه وَأَرْض حرثه وَكَرمه وفدانه بِأَقَلّ من ثمن الْغلَّة الَّتِي كَانَت فِيهِ فَمنهمْ من اشْتَرَاهُ من الْمُسلمين الَّذين عزموا على الدجن وَمِنْهُم من اشْتَرَاهُ من النَّصَارَى وَكَذَلِكَ جَمِيع الْحَوَائِج والأمتعة وَأمرهمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى السَّاحِل بِمَا مَعَهم فيرفعهم النَّصَارَى فِي الْبَحْر محترمين مكرمين ويجوزونهم إِلَى عدوة الْمغرب آمِنين مُطْمَئِنين
وَكَانَ ملك الرّوم قد أظهر للْمُسلمين فِي هَذِه الْمدَّة الْعِنَايَة والإحترام حَتَّى كَانَ النَّصَارَى يغيرون مِنْهُم ويحسدونهم وَيَقُولُونَ لَهُم أَنْتُم الْآن عِنْد ملكنا أعز وَأكْرم منا
وَوضع عَنْهُم المغارم وَأظْهر لَهُم الْعدْل حِيلَة مِنْهُ وكيدا ليغرهم بذلك وليثبطهم عَن الْجَوَاز فَوَقع الطمع لكثير من النَّاس وظنوا أَن ذَلِك يَدُوم لَهُم فاشتروا أموالارخيصة وأمتعة أنيقة وعزموا على الْجُلُوس مَعَ النَّصَارَى
ثمَّ إِن ملك الرّوم أَمر الْأَمِير مُحَمَّد بن عَليّ بالإنصراف من
غرناطة إِلَى قَرْيَة أندرش من قرى الْبشرَة فارتحل الْأَمِير مُحَمَّد بعياله وحشمه وأمواله وَأَتْبَاعه فَنزل قَرْيَة أندرش وَأقَام بهَا ينْتَظر مَا يُؤمر بِهِ
ثمَّ إِن الطاغية دمره الله ظهر لَهُ أَن يصرف الْأَمِير مُحَمَّد ابْن عَليّ إِلَى العدوة فَأمره بِالْجَوَازِ وَبعث للمراكب أَن تَأتي إِلَى مرسى عذرة وَاجْتمعَ مَعَه خلق كثير مِمَّن أَرَادَ الْجَوَاز فَركب الْأَمِير مُحَمَّد وَمن مَعَه فِي تِلْكَ المراكب فِي عزة واحترام وكرامة مَعَ النَّصَارَى وَسَارُوا فِي الْبَحْر حَتَّى نزلُوا مَدِينَة مليلة من عدوة الْمغرب ثمَّ ارتحل إِلَى مَدِينَة فاس حرسها الله
وَكَانَ من قَضَاء الله وَقدره أَنه لما جَازَ الْأَمِير مُحَمَّد بن عَليّ
وَسَار إِلَى مَدِينَة فاس أصَاب النَّاس شدَّة عَظِيمَة وَغَلَاء مفرط وجوع وطاعون وَاشْتَدَّ الْأَمر بفاس حَتَّى فر كثير من النَّاس من شدَّة الْأَمر وَرجع بعض النَّاس من الَّذين جازوا إِلَى الأندلس فَأخْبرُوا بِتِلْكَ الشدَّة فقصر النَّاس عَن الْجَوَاز
عِنْد ذَلِك عزموا على الْإِقَامَة والدجن وَلم يجوز النَّصَارَى أحدا بعد ذَلِك إِلَّا بالكراء والمغرم الثقيل وَعشر المَال فَلَمَّا رأى ملك الرّوم أَن النَّاس قد تركُوا الْجَوَاز وعزموا على الدجن والإستيطان وَالْمقَام فِي الأوطان أَخذ فِي نقض الشُّرُوط الَّتِي شرطُوا عَلَيْهِ أول مرّة وَلم يزل ينقضها شرطا شرطا ويحلها فصلا فصلا إِلَى أَن نقض جَمِيعهَا وزالت حُرْمَة الْإِسْلَام عَن الْمُسلمين وأدركهم الهوان والذلة واستطال النَّصَارَى عَلَيْهِم وفرضت عَلَيْهِم الفروضات وثقلت عَلَيْهِم المغارم وَقطع لَهُم الْأَذَان من الصوامع وَأمرهمْ بِالْخرُوجِ من مَدِينَة غرناطة إِلَى
الأرباض والقرى وَأَن لَا يبْقى بهَا إِلَّا أَوْلَاد السراج خَاصَّة
فَخَرجُوا أَذِلَّة صاغرين ثمَّ بعد ذَلِك دعاهم إِلَى التنصر وأكرههم عَلَيْهِ وَذَلِكَ سنة أَربع وتسع مئة فَدَخَلُوا فِي دينه كرها وَصَارَت الأندلس كلهَا نَصْرَانِيَّة وَلم يبْق من يَقُول فِيهَا لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جَهرا إِلَّا من يَقُولهَا فِي نَفسه وَفِي قلبه أَو خُفْيَة من النَّاس وَجعلت النواقيس فِي صوامها
بعد الْأَذَان وَفِي مساجدها الصُّور والصلبان بعد ذكر الله تَعَالَى وتلاوة الْقُرْآن فكم فِيهَا من عين باكية وَكم فِيهَا من قلب حَزِين وَكم فِيهَا من الضُّعَفَاء والمعدومين لم يقدروا على الْهِجْرَة واللحوق بإخوانهم الْمُسلمين قُلُوبهم تشتعل نَارا ودموعهم تسيل سيلا غزيرا مدرارا وَيَنْظُرُونَ أَوْلَادهم وبناتهم يعْبدُونَ الصلبان ويسجدون للأوثان ويأكلون الْخِنْزِير وَالْمَيتَات وَيَشْرَبُونَ الْخمر الَّتِي هِيَ أم الْخَبَائِث والمنكرات فَلَا يقدرُونَ على مَنعهم وَلَا على نهيهم وَلَا على زجرهم وَمن فعل ذَلِك عُوقِبَ أَشد الْعقَاب فيالها من فجعة مَا أمرهَا ومصيبة مَا أعظمها وأضرها وطامة مَا أكبرها عَسى الله أَن يَجْعَل لَهُم من أَمرهم فرجا ومخرجا إِنَّه على كل شَيْء قدير
وَقد كَانَ بعض أهل الأندلس قد امْتَنعُوا من التنصر وَأَرَادُوا أَن يدافعوا عَن أنفسهم كَأَهل قرى ونجر والبشرة أندراش وبلفيق فَجمع ملك الرّوم عَلَيْهِم جموعه وأحاط بهم من كل
مَكَان حَتَّى أَخذهم عنْوَة بعد قتال شَدِيد فَقتل رِجَالهمْ وسبى نِسَاءَهُمْ وصبيانهم وَأَمْوَالهمْ ونصرهم واستعبدهم إِلَّا أَن أُنَاسًا فِي غربية الأندلس امْتَنعُوا من التنصر وانحازوا إِلَى جبل منيع وعر فَاجْتمعُوا فِيهِ بعيالهم وَأَمْوَالهمْ وتحصنوا فِيهِ فَجمع عَلَيْهِم ملك الرّوم جموعه وطمع فِي الْوُصُول إِلَيْهِم كَمَا فعل بغيرهم فَلَمَّا دنا مِنْهُم وَأَرَادَ قِتَالهمْ خيب الله سَعْيه ورده على عقبه ونصرهم عَلَيْهِ بعد أَكثر من ثَلَاثَة وَعشْرين معركة فَقتلُوا من جنده خلقا كثيرا من رجال وفرسان وأقناد فَلَمَّا رأى أَنه لَا يقدر عَلَيْهِم طلب مِنْهُم أَن يعطيهم الْأمان ويجوزهم لعدوة الغرب مُؤمنين فأنعموا لَهُ بذلك إِلَّا أَنه لم يسرح لَهُم شَيْئا من مَتَاعهمْ غير الثِّيَاب الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم وجوزهم لعدوة الغرب كَمَا شرطُوا عَلَيْهِ وَلم يطْمع أحد بعد ذَلِك أَن يقوم بدعوة الْإِسْلَام وَعم الْكفْر جَمِيع الْقرى والبلدان وانطفأ من الأندلس نور الْإِسْلَام وَالْإِيمَان فعلى هَذَا فليبك الباكون ولينتحب المنتحبون فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا لَا مرد لأَمره وَلَا معقب لحكمه وَهُوَ القاهر فَوق عباده وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا أثيرا كثيرا