الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الإشارة في الصلاة
ش: أي هذا باب في بيان حكم الإشارة في الصلاة، والمناسبة بين البابين ظاهرة، وهي أن الإشارة المفهمة في الصلاة حكمها حكم الكلام فيها عند البعض، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا يونس بن بكير، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن أبي غطفان بن طريف، عن في هريرة قال: قال: رسول الله عليه السلام "التسبيح للرجال والتصفيح للنساء، ومن أشار في صلاته إشارة تفهم منه فليعدها".
ش: ذكر هذا الحديث بعينه متنًا وسندًا في الباب الذي قبله، ولكن فيه زيادة ها هنا وهي قوله: "ومن أشار
…
إلى آخره" والتبويب عليها.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبد الله بن سعيد، ثنا يونس بن بكير
…
إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه:"فليعد لها" ثم قال: وهذا الحديث وهم.
وقال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان مجهول. وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: سئل أحمد عن حديث "من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد الصلاة" فقال: لا يثبت إسناده، ليس بشيء. وكذا قال ابن الجوزي في "التحقيق" وأعله بابن إسحاق، وقال: أبو غطفان مجهول.
قلت: قال صاحب "التنقيح": أبو غطفان هو ابن طريف، ويقال: ابن مالك المري، قال عباس الدوري: سمعت ابن معين يقول فيه: ثقة. وقال النسائي في "الكنى": أبو غطفان ثقة قيل اسمه سعد. وذكره ابن حبان في "الثقات" وأخرج له مسلم في "صحيحه" فحينئذ يكون إسناد الحديث صحيحًا، وأبو داود لم يبين كيفية الوهم، فلا يبنى عليه شيء، فإن كان قوله "هذا الحديث وهم" من جهة أبي غطفان،
(1)"سنن أبي داود"(1/ 248 رقم 944).
فقد بينا حال أبي غطفان، وتعليل ابن الجوزي بابن إسحاق ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق من الثقات الكبار عند الجمهور.
ص: فذهب قوم إلى أن الإشارة التي تفهم إذا كانت من الرجل في الصلاة قطعت عليه صلاته، وحكموا لها بحكم الكلام، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من أهل الظاهر؛ فإنهم قالوا: إن المصلي إذا أشار في صلاته إشارة مفهمه تفسد صلاته، فيكون حكمها حينئذ كحكم الكلام، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا تقطع الإشارة الصلاة.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن أبي ليلى والثوري والنخعي وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثورة فإنهم قالوا: الإشارة لا تقطع الصلاة.
ويحكى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهم.
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه (1) عن معمر، عن ثابت البناني، عن أبي رافع قال:"رأيت أصحاب رسول الله عليه السلام وإن أحدهم ليشهد على الشهادة وهو يصلي".
قال معمر: وحدثني بعض أصحابنا: "أن عائشة رضي الله عنها كانت تأمر خادمها أن يقسم المرقة، فتمر بها وهي في الصلاة، فتشير إليها أن زيدي".
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام أتى قباء، فسمعت به الأنصار فجاءوا يسلمون عليه وهو يصلي، فأشار إليهم بيده باسط كفه وهو يصلي".
حدثنا يونس، قال أنا ابن وهب، عن هشام، عن نافع، عن ابن عمر، مثله غير أنه قال:"فقلت لبلال أو صهيب: كيف رأيت رسول الله عليه السلام يرد عليهم وهو يصلي؟ قال: يشير بيديه".
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 258 رقم 3278).
حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو نوح عبد الرحمن بن غزوان، قال: أنا هشام بن سعد
…
فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"فقلت لبلال كيف كان يردُّ عليهم؟ ".
ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن نافع الصائغ المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".
عن هشام بن سعد المدني روى له الجماعة إلا البخاري، عن نافع، عن ابن عمر
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا حسين بن عيسى الخراساني الدامغاني، ثنا جعفر بن عون، نا هشام بن سعد، نا نافع، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: "خرج رسول الله عليه السلام إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال رضي الله عنه كيف رأيت رسول الله عليه السلام يردّ عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا؛ وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل وظهره إلى فوق". انتهى.
قوله: "قباء" بضم القاف وبالباء الموحدة، تمد وتقصر، وهي قرية على ميلين من المدينة، وهناك مسجد التقوى.
الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر قال: "خرج رسول الله عليه السلام إلى قباء، فجاءت الأنصار يسلمون عليه، فإذا هو يصلي، فقال ابن عمر: يا بلال، كيف رأيت رسول الله عليه السلام يرد عليهم وهو
(1)"سنن أبي داود"(1/ 243 رقم 927).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 259 رقم 3215).
يصلي؟ قال: هكذا بيده كلها، يعني يشير" هكذا رواه وكيع وجعفر بن عون عنه، وقال ابن وهب عنه: بلال أو صهيب، ثم يقول ابن وهب في آخره، وبلغني في غير هذا الحديث أن صهيبًا الذي سأله ابن عمر.
قال الترمذي: كلا الحديثين عندي صحيح، قد رواه ابن عمر عن صهيب وبلال رضي الله عنهم.
الثالث: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان الملقب بقراد، عن هشام بن سعد
…
إلى آخره.
وأخرجه الترمذي (1): ثنا محمود بن غيلان، قال: نا وكيع، قال: ثنا هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر قال:"قلت لبلال: كيف كان رسول الله عليه السلام يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده".
قال: أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد (ح)
وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قالا: ثنا الليث بن سعد، عن بكير، عن نابل صاحب العباء، عن ابن عمر، عن صهيب قال:"مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وهو يصلي، فرد إليّ إشارة" قال ابن مرزوق في حديثه: قال ليث: أحسبه قال: "بإصبعه".
ش: هذان طريقان حسنان:
أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن بكير بن الأشج، عن نابل -بالنون في أوله، ثم الباء الموحدة بعد الألف- صاحب العباء، ويقال صاحب الشمال جمع شملة، وثقه ابن حبان.
عن عبد الله بن عمر، عن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنهم.
(1)"جامع الترمذي"(2/ 204 رقم 368).
وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): أنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا ليث بن سعد
…
إلى آخره نحوه سواء.
والآخر: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد، عن بكير
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (2): أنا قتيبة، ثنا الليث، عن بكير، عن نابل صاحب العباء، عن ابن عمر، عن صهيب صاحب رسول الله عليه السلام قال:"مررت برسول الله عليه السلام وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد عليّ إشارة -ولا أعلم إلا أنه قال: بأصبعه-".
ورواه أبو داود (3)، والترمذي (4).
ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"أن رجلًا سلم على النبي عليه السلام في الصلاة، فرد عليه إشارة، قال: وكنا نرد السلام في الصلاة؛ فنهينا عن ذلك".
ش: ذكر هذا الحديث في الباب الذي قبله بعين هذا الإسناد، ولكن مقتصرًا على قوله:"كنا نرد السلام في الصلاة، فنهينا عن ذلك".
وأخرجه البزار في "مسنده" وقد ذكرناه هناك.
ص: ففي هذه الآثار ما قد دل أن الإشارة لا تقطع الصلاة، وقد جاءت مجيئًا متواترًا، غير مجيء الحديث الذي خالفها، فهي أولى منه، وليست الإشارة في النظر من الكلام في شيء؛ لأن الإشارة إنما هي حركة عضو، وقد رأينا حركة سائر الأعضاء غير اليد في الصلاة لا تقطع الصلاة، فكذلك حركة اليد.
(1)"سنن الدارمي"(1/ 364 رقم 1361).
(2)
"المجتبى"(3/ 5 رقم 1186).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 243 رقم 925).
(4)
"جامع الترمذي"(2/ 203 رقم 367).
ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها عن عبد الله بن عمر وصهيب وبلال وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم وقوله: "ما دل" في محل الرفع على الابتداء وخبره قوله: "ففي هذه الآثار" وقوله: "وقد جاءت" أي هذه الآثار مجيئًا متواترًا، أي مقبولًا عند أهل الحديث، ولم يُرِدْ به التواتر الاصطلاحي، وأراد أن هذه الآثار أقوى طريقًا وأصح مجيئًا وأكثر ورودًا من الحديث الذي ذهب إليه أهل المقالة الأولى، وهو حديث أبي غطفان عن أبي هريرة، وأن هذا لا يساوي تلك الأحاديث ولا يقاومها، على أن أحمد بن حنبل قد قال: حديث أبي غطفان ليس بشيء كما ذكرناه فيما مضى.
قوله: "وليست الإشارة
…
" إلى آخره، إشارة إلى بيان وجه النظر والقياس، وهو أن الإشارة لا تشابه الكلام ولا تماثله؛ لأنها حركة عضو، والكلام نطق مسموع مفهم، فلو حرك المصلي من أعضائه غير اليد في صلاته فإنه لا يقطع صلاته ولا يضرها، فكذلك لو حرك يده، نظرًا وقياسًا عليه.
ص: فإن قال قائل: فإذا كانت الإشارة في المسألة عندكم قد ثبت أنها بخلاف الكلام، وأنها لا تقطع الصلاة كما يقطعها، واحتججتم في ذلك بهذه الآثار التي رويتموها عن رسول الله عليه السلام، فَلِمَ كرهتم رد السلام من المصلى بالإشارة؟ وقد فعل ذلك رسول الله عليه السلام فيما رويتموه في هذه الآثار، لئن كان ذلك حجة لكم في أن الإشارة لا تقطع الصلاة، فإنه حجة عليكم في أن الإشارة لا بأس بها:
قيل له: أما ما احتججنا بهذه الآثار من أجله وهو أن الإشارة لا تقطع الصلاة فقد ثبت ذلك بهذه الآثار على ما احتججنا به منها.
وأما ما ذكرت من إباحة الإشارة في الصلاة في رد السلام فليس فيها دليل على ذلك، وذلك أن الأمر الذي هو فيها هو أن رسول الله عليه السلام أشار إليهم فلو قال لنا رسول الله عليه السلام: إن تلك الإشارة أردت بها ردّ السلام على من سلم علي ثبت بذلك أن كذلك حكم المصلي إذا سُلم عليه في الصلاة، ولكنه لم يقل من ذلك شيئًا، فاحتمل أن يكون الإشارة كانت ردًا منه للسلام كما ذكرتم، واحتمل أن تكون
كانت منه نهيًا لهم عن السلام عليه هو يصلي، فلما لم يكن في هذه الآثار من هذا شيء، واحتمل من التأويل ما ذهب إليه كل واحد من الفريقين؛ لم يكن ما تأول أحد الفريقين أولى منها مما تأوله الآخر إلا بحجة يقيمها على مخالفه، إما من كتاب، وإما من سنة، وإما من إجماع.
ش: ملخص السؤال: أن هذه الأحاديث وإن كانت حجة لكم في أن الإشارة في الصلاة غير قاطعة لها، فهي حجة عليكم في كراهتكم رد السلام من المصلي بالإشارة؛ لأنه عليه السلام قد فعل ذلك.
وملخص الجواب: أن إشارة النبي عليه السلام تحتمل وجهين: أحدهما ما ذهب إليه المخالف في أن إشارته كانت ردًّا منه للسلام.
والآخر يحتمل أن تكون إشارته تلك نهيًا منه إياهم عن السلام عليه وهو في الصلاة، فإذا كان كذلك لم يكن لأحد الفريقين أن يرجح أحد الاحتمالين إلا بمرجح من الكتاب أو السنة أو الإجماع وإلا فمتى ذهب أحد الفريقين إلى أحد الاحتمالين يذهب إلى الآخر، فافهم، والله أعلم.
ص: فإن قال قائل: فما دليلكم على كراهة ذلك؟
قيل له: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا عاصم، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: "كنا نتكلم في الصلاة ونأمر بالحاجة ونقول: السلام على الله وعلى جبريل وميكائيل وعلى كل عبد صالح يُعْلم اسمُه في السماء والأرض، فقدمت على النبي عليه السلام من الحبشة وهو يصلي، فسلمت عليه فلم يرد، وأخذني ما قَدُم وما حَدُث، فلما قفنى صلاته، قلت: يا رسول الله، أنزل فيّ شيء؟ قال: لا ولكن الله يحدث من أمره ما يشاء".
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرئيل، عن أبي إسحاق، عن في الأحوص، عن عبد الله قال:"خرجت في حاجة ونحن نسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فلما رجعت فسلمت فلم يرد عليّ وقال: إن في الصلاة شغلًا".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، عن حماد، عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "قدمت من الحبشة وعهدي بهم وهم يسلمون في الصلاة ويقضون الحاجة، فأتيت رسول الله عليه السلام -فسلمت عليه وهو يصلي فلم يرد عليّ فلما قضى صلاته قال: إن الله لا يحدث الشيء من أمره ما شاء، وقد أحدث لكم أن لا تكلموا في الصلاة، وأما أنت أيها المسلم فالسلام عليك ورحمة الله".
حدثنا: فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن مطرف، عن أبي الجهم، عن أبي الرضراض، عن عبد الله قال:"كنت أسلم على النبي عليه السلام في الصلاة فيرد عليّ فلما كان ذات يوم سلمت عليه فلم يرد عليّ فوحدت في نفسي فذكرت ذلك له، فقال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء".
ففي حديث أبي بكرة عن أبي داود أن رسول الله عليه السلام سلم على الذي سلم عليه بعد فراغه منها، فذلك دليل أنه لم يكن منه في الصلاة رد السلام؛ لأنه لو كان ذلك منه، لأغناه عن الرد عليه بعد الفراغ من الصلاة، كما يقول الذي يرى الرد في الصلاة بالإشارة، وأن المصلى إذا فعل ذلك لمن يسلم عليه في صلاته فلا يجب عليه الرد بعد فراغه من الصلاة.
وفي حديث أبي بكرة أيضًا عن مؤمل: "فلم يرد عليّ فأخذني ما قَدُم وما حَدُث" ففي ذلك دليل أنه يكن منه ردٌّ أصلًا بالإشارة؛ لأنه لو رد عليه بالإشارة يقل: لم يرد عليّ، ولقال: رد علي إشارة، ولما أصابه من ذلك ما أخبر أنه أصابه مما قَدُم وما حَدُث.
وفي حديث علي بن شيبة: "فقال: رسول الله عليه السلام إن في الصلاة شغلًا" فذلك دليل على أن المصلي معذور بذلك الشغل عن رد السلام على المسلم عليه، ونهي لغيره عن السلام عليه.
ش: تقدير السؤال أن يقال: إنكم قد قلتم فلما احتمل الوجهين لم يكن لأحد الفريقين أن يرجح أحدهما إلا بمرجح من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فما دليلكم على أنكم كرهتم رد السلام بالإشارة في الصلاة؟ وما الذي رجح ما ذهبتم إليه؟
وتقرير الجواب أن يقال: أحاديث عبد الله بن مسعود رجحت ما ذهبنا إليه؛ وذلك لأن في بعض أحاديثه -وهو الذي رواه أبو بكرة عن أبي داود الطيالسي- سلم على الذي سلم عليه بعد فراغه منها، وذلك دليل على أنه لم يكن منه في الصلاة رد السلام لا باللفظ ولا بالإشارة؛ لأنه لو كان ذلك منه؛ لا غناه عن الرد عليه بعد الفراغ من صلاته فحيث ردّ عليه السلام بعد فراغه من الصلاة؛ دل على أنه لا رد في نفس الصلاة لا لفظًا ولا إشارة.
وفي بعضها -وهو الذي رواه أبو بكرة عن مؤمل بن إسماعيل- فلم يرد عليّ". وهو عام يتناول الرد باللسان والرد بالإشارة ولأنه لو رد عليه بالإشارة لما قال عبد الله: "فأخذني ما قَدُم وما حَدُث" فدل أنه لم يكن منه ردٌّ أصلًا لا باللسان ولا بالإشارة.
وفي بعضها -وهو الذي رواه علي بن شيبة عن عبيد الله بن موسى: "إن في الصلاة شغلًا" أي ما يشغل المصلي عن مباشرة ما ليس من الصلاة؛ فدل على أنه معذور بذلك الشغل عن رد السلام على المسلّم عليه -بكسر اللام- والضمير في "عليه" يرجع إلى المصلي، وفيه دليل أيضًا على النهي لغيره عن السلام على المصلي فافهم.
ثم إنه أخرج حديث عبد الله بن مسعود من أربع طرق صحاح:
الأول: عن أبي بكرة القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة المقرئ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، وقد ذكر هذا في الباب الذي قبله إسنادًا ومتنًا، غير أنه زاد ها هنا. قوله:"ونقول السلام على الله وعلى جبريل وميكائيل وعلى كل عبد صالح يُعلم اسمُهُ في السماء والأرض" وقد تكلمنا فيه بما فيه الكفاية.
الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه ابن ماجه (1): نا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا النضر بن شميل، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:"كنا نسلم في الصلاة، فقيل لنا: إن في الصلاة شغلًا" انتهى أي شغلًا للمصلي، معناه وظيفته أن يشتغل بصلاته فيتدبر ما يقوله ولا يعرج على غيرها، ولا يرد سلامًا ولا غيره.
الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي.
وهذا مرسل لأن إبراهيم لم يسمع من أحد من الصحابة رضي الله عنهم وقال العجلي: لم يحدث عن أحد من أصحاب النبي عليه السلام وقد أدرك منهم جماعة، ورأى عائشة رضي الله عنها رؤيا. وقال: يحيى بن معين: مراسيل إبراهيم أحب إلى من مراسيل الشعبي.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(2).
وأخرج السراج في "مسنده": ثنا عبيد الله بن سعيد، ثنا عبد الرحمن (ح)
وحدثنا عبد الله بن عمر، ثنا حسين بن علي، جميعًا عن زائدة، عن عاصم، عن شقيق، عن عبد الله قال:"كنا نتكلم في الصلاة ويسلم بعضنا على بعض ويومئ أحدنا بالحاجة، قال: فجئت ذات يوم والنبي عليه السلام يصلي، فسلمت عليه فلم يرد علي، قال: فأخذني ما قَدُم وحَدُث، فلما فرغ قال: إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإنه قد أحدث أن لا يتكلموا في الصلاة، وأما أنت أيها المسلم قال: فرد عليّ". انتهى.
استدّل عطاء والنخعي والثوري بهذا الحديث على أن المصلي إذا سُلم عليه يرده بعد فراغه من الصلاة، وقالت طائفة -منهم أبو هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وإسحاق-: يرده في الصلاة نطقًا.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 325 رقم 1019).
(2)
"مسند الطيالسي"(1/ 33 رقم 245). من طريق أبي وائل شقيق عن عبد الله بن مسعود.
وقال الشافعي ومالك: يرده إشارة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يرده لا نطقًا ولا إشارة بكل حال، وعن أبي حنيفة: يرده في نفسه. وعن محمد: يرده بعد الصلاة؛ لظاهر هذا الحديث. وعن أبي يوسف: لا يرده لا في الحال ولا بعد الفراغ.
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن محمد بن فضيل بن غزوان الضبي الكوفي، عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي، عن أبي الجهم سليمان بن الجهم الحارثي الجوزجاني مولى البراء بن عازب، وثقه ابن حبان.
عن أبي الرضراض بن أسعد، ويقال: رضراض بن أسعد، وثقه ابن حبان.
عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا محمد بن فضيل، عن مطرف، عن أبي الجهم، عن أبي الرضراض، عن عبد الله بن مسعود قال:"كنت أسلم على رسول الله عليه السلام في الصلاة فيرد علي، فلما كان ذات يوم سلمت عليه فلم يرد علي؛ فوجدت في نفسي، فلما فرغ قلت: يا رسول الله، كنت إذا سلمت عليك في الصلاة رددت عليّ، قال: فقال: إن الله عز وجل يحدث في أمره ما يشاء".
ص: وقد روي عن عبد الله من قوله بعد رسول الله عليه السلام ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله:"أنه كره أن يسلم على القوم وهم في الصلاة".
ش: أي قد روي عن عبد الله بن مسعود من قول نفسه بعد رسول الله عليه السلام أنه كره السلام على المصلي.
أخرجه بإسناد رجاله ثقات ولكنه مرسل، عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي
…
إلى آخره.
(1)"مسند أحمد"(1/ 409 رقم 3885).
وأخرج محمد بن الحسن في "آثاره": عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، نحوه.
ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله في ذلك نظير ما روي عن ابن مسعود عن النبي عليه السلام.
حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر قال:"كنا مع النبي عليه السلام في سفر، فبعثني في حاجة فانطلقت إليها ثم رجعت إليه وهو على راحلته، فسلمت عليه فلم يرد علي ورأيته يركع ويسجد، فلما سلم رد علي".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام
…
فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يقل:"فلم يرد علي" وقال: "فلما فرغ من صلاته قال: أما إنه لم يمنعني أن أرّد عليك إلا أني كنت أصلي".
فهذا جابر بن عبد الله أيضًا قد أخبر أن رسول الله عليه السلام لم يرد عليه، وأنه لما فرغ من صلاته ردّ عليه، فالكلام في هذا مثل الكلام فيما رويناه قبله عن ابن مسعود، وفي حديث جابر أن رسول الله عليه السلام -قال:"أما إنه لم يمنعني أن أرّد عليك إلا أني كنت أصلي" فأخبر رسول الله عليه السلام أنه لم يكن رد عليه شيء، فذلك ينفي أن يكون رد عليه بإشارة أو غيرها.
وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر:"أن النبي عليه السلام بعثه لبعض حاجته فجاء وهو يصلي على راحلته، فسلم عليه فسكت، ثم أومئ بيده، ثم سلم عليه فسكت -ثلاثًا- فلما فرغ قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي".
فهذا جابر رضي الله عنه قد أخبر في هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام أومأ إليه بيده حين سلم، ثم قال: رسول الله عليه السلام بعد ما فرغ من الصلاة: "أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي". فأخبر رسول الله عليه السلام أنه لم يكن رد عليه في الصلاة، فدل
ذلك أن تلك الإشارة التي كانت منه في الصلاة لم تكن ردًّا، وإنما كانت نهيًا، وهذا جابر فقد روى هذا عن النبي عليه السلام كما ذكرنا، وقد روي عنه ما حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي قال: نا الأعمش، قال: حدثني أبو سفيان، قال: سمعت جابرًا يقول: "ما أحب أن أسلم على الرجل وهو يصلي، ولو سلم علي لرددت عليه".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا أحمد بن إشكاب، قال: ثنا أبو معاوية عن الأعمش، فذكر بإسناده مثله.
فهذا جابر بن عبد الله قد كره أن يسلم على المصلي، وقد كان سلم على رسول الله عليه السلام وهو يصلي، فأشار إليه، فلو كانت الإشارة التي كانت من النبي ردًا للسلام عليه إذا لما كره ذلك؛ لأن رسول الله عليه السلام لم ينهى عنه، ولكنه إنما كره ذلك؛ لأن إشارة النبي عليه السلام تلك كانت عنده نهيًا منه له عن السلام عليه وهو يصلي.
ش: أي قد روي عن جابر بن عبد الله في كراهة رد السلام على المسلم في الصلاة مثل ما روي عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا.
وأخرج عنه من خمس طرق: ثلاثة منها مرفوعة، واثنان موقوفان عليه:
الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن إسماعيل بن إبراهيم وهو إسماعيل بن علية روى له الجماعة، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره.
وأخرجه مسلم (1): عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "أرسلني رسول الله عليه السلام وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره، فكلمته، فقال لي بيده هكذا -وأومأ زهير بيده- ثم كلمته، فقال لي هكذا-
(1)"صحيح مسلم"(1/ 383 رقم 540).
فأومأ زهير أيضًا بيده نحو الأرض -وأنا أسمعه يقرأ يومئ برأسه، فلما فرغ قال: ما فعلت في الذي أرسلتك له؛ فإنه لم يمنعني أن كلمك إلا أني كنت أصلي".
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن أبي الزبير، عن جابر
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجه (1): عن محمد بن رمح المصري، عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر قال:"بعثني النبي عليه السلام لحاجة، ثم أدركته وهو يصلي، فسلمت عليه فأشار إلي، فلما فرغ دعاني فقال: إنك سلمت علي آنفًا وأنا أصلي".
وأخرجه مسلم (2): عن محمد بن رمح أيضًا نحوه، وفي آخره:"وهو موجه حينئذ قبل المشرق".
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن يزيد بن إبراهيم التستري، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر رضي الله عنه.
وهذه الأسانيد كلها صحاح.
وأخرجه البيقهي في "سننه"(3): من حديث سليمان بن حرب، عن يزيد بن إبراهيم، عن أبي الزبير، عن جابر، نحوه.
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع القرشي الإسكاف، عن جابر ابن عبد الله.
الخامس: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن أحمد بن إشكاب الحضرمي شيخ البخاري، عن أبي معاوية محمد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان
…
عن جابر
…
إلى آخره.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 325 رقم 1018).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 383 رقم 540).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 258 رقم 3211).
وإسنادهما صحيح.
وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا حفص وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال:"ما كنت لأسلم على رجل وهو يصلي- زاد أبو معاوية: ولو سلُم علي لرددت عليه".
قوله: "فهذا جابر بن عبد الله
…
" إلى آخره إشارة إلى تصحيح معاني هذه الأحاديث التي رويت عن جابر نظير ما روي عن عبد الله بن مسعود؛ بيانه: أن جابرًا أخبر في حديثه أن رسول الله عليه السلام لم يرد لما سلم عليه، وأنه إنما رد عليه بعد فراغه من صلاته، كما قد أخبر عبد الله بن مسعود في حديثه كذلك، وأخبر جابر أيضًا في حديثه أنه عليه السلام قال: "أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي" فهذا بعمومه يتناول عدم الرد مطلقًا سواء كان بإشارة أو غيرها، وأخبر جابر أيضًا في حديثه الآخر أنه عليه السلام أومأ إليه بيده حين سلم، ثم قال له بعد أن فرغ من صلاته: "أما أنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي". فأخبر عليه السلام أنه لم يكن رد عليه في الصلاة، فدل ذلك أن تلك الإشارة التي كانت منه في الصلاة لم تكن لأجل رد السلام عليه؛ وإنما كانت لأجل النهي عن السلام على المصلي ". وهذا جابر رضي الله عنه قد روى هكذا عن النبي عليه السلام، ثم قد روي عنه من نفسه أنه قال:"ما أحب أن أسلم على المصلي، ولو سُلم علي وأنا في الصلاة لرددت عليه". وقد كره السلام على المصلي، والحال أنه قد سلم على رسول الله عليه السلام وهو يصلي فأشار إليه رسول الله عليه السلام فلو كانت تلك الإشارة التي كانت من النبي عليه السلام ردًّا لسلام جابر عليه إذًا -أي حينئذ- لما كره جابر السلام على المصلي؛ لأن رسول الله عليه السلام لم ينهه عن ذلك، ولكنه إنما كره ذلك لأن إشارته تلك كانت عنده نهيًا منه له -أي لجابر رضي الله عنه عن السلام عليه في الصلاة.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 419 رقم 4815).
ص: فإن قال قائل: فقد قال جابر رضي الله عنه في حديثكم هذا: "ولو سُلِّم علي لرددت".
قيل له أفقال جابر: لرددت في الصلاة؟ قد يجوز أن يكون أراد بقوله: "لرددت" أي بعد فراغي من الصلاة، وقد دل على ذلك من مذهبه: ما حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا همام، قال: سأل سليمان بن موسى عطاء: أسالت جابرًا عن الرجل يسلم عليك وأنت تصلي فقال: لا ترد عليه حتى تقضي صلاتك؟ فقال: نعم". قال أبو جعفر رحمه الله: فدل ذلك أن الرد الذي أراد جابر في الحديث الأول هو الرد بعد الفراغ من الصلاة، فقد وافق ذلك ما روى عن رسول الله عليه السلام، ودل في معناه على ما ذكرنا.
ش: تقرير السؤال أن يقال: في حديث جابر الذي احتججتم به لِمَا ذهبتم إليه: "ولو سُلِّم عليّ لرددت" وهو يدل على أنه ينبغي أن يرد السلام، وأنتم قد تركتم هذا حيث منعتم الرد في الصلاة مطلقًا.
وتقرير الجواب أن يقال: لم يقل جابر: لرددت عليه في الصلاة، وإنما قال:"لرددت" مطلقًا، فيجوز أن مراده: لرددت بعد فراغي من الصلاة، وقد دل على أن مراده بعد الصلاة: ما أخرجه عن علي بن زيد بن عبد الله الفرضي الطرسوسي، عن موسى بن داود الضبي من رجال مسلم، عن همام بن يحيى البصري من رجال الجماعة، عن سليمان بن موسى القرشي الأموي الدمشقي الأشدق فقيه أهل الشام في زمانه، ثقة كبير، روى له الجماعة إلا البخاري.
عن عطاء بن أبي رباح المكي
…
إلى آخره.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن عطاء نحوه.
قوله: "أفقال جابر" الهمزة فيه للاستفهام.
قوله: "وقد دل على ذلك" أي على ما ذكرنا من التأويل.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 338 رقم 3602).
ص: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذا نحو من ذلك.
حدثنا عبد الله بن محمد بن خُشيش، قال: ثنا عارم، قال: ثنا جرير بن حازم، عن قيس، عن عطاء:"أن ابن عباس سلم عليه رجل وهو يصلي فلم يرد عليه شيئًا، وغمز بيده". فهذا ابن عباس رضي الله عنهما إنما لم يردُّ في صلاته على الذي سلم عليه وهو فيها، ولكنه غمز بيده على الكراهية منه لما فعل فلما كان عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وقد كانا سلما على النبي عليه السلام وهو يصلي قد كرها من بعد رسول الله عليه السلام السلام على المصلي فثبت بذلك أن ما كان من إشارة النبي عليه السلام التي علماها لم تكن ردًا وإنما كانت نهيًا؛ لأن الصلاة ليست بموضع سلام؛ لأن السلام كلام، فجوابه أيضًا كذلك، فلما كانت الصلاة ليست بموضع كلام؛ لم تكن أيضًا بموضع لرد سلام، ولما لم تكن موضعًا لرد سلام لم تكن موضعًا للإشارة لرد السلام، وذلك لأن رسول الله عليه السلام قد أمر بتسكين الأطراف في الصلاة.
حدثنا بذلك فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن جابر بن سمرة قال:"دخل رسول الله عليه السلام المسجد فرأى قومًا يصلون وقد رفعوا أيديهم، فقال مالي أراكم ترفعون أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة".
فلما أمر رسول الله عليه السلام بالسكون في الصلاة، وكان رد السلام بالإشارة فيه خروجًا من ذلك لأن فيه رفع اليد وتحريك الأصابع، ثبت بذلك أنه قد دخل فيما أمر به رسول الله عليه السلام من تسكين الأطراف في الصلاة، وهذا القول الذي بَيَّنَّا في هذا الباب قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي قد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما -فيما ذكرنا من إشارة النبي عليه السلام في الصلاة حين سلم عليه عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله كانت نهيًا عن ذلك ولم تكن ردًّا للسلام- نحو من ذلك، أي مثل ونظير لما ذكرنا، بيانه: أن ابن عباس لما سُلم عليه وهو في الصلاة لم يرد عليه وغمز بيده لأجل كراهته هذا الفعل منه، فثبت من ذلك أن الإشارة في الصلاة لأجل رد السلام مكروهة لا ينبغي أن تفعل،
ألا ترى أن عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله سلما على النبي عليه السلام وهو في الصلاة ثم كرها من بعد رسول الله عليه السلام السلام على المصلي، وذلك لكونهما قد علما أن الإشارة التي كانت من النبي عليه السلام حين سلما عليه وهو في الصلاة لم تكن لأجل الرد وإنما كانت لأجل النهي عن ذلك الفعل، وذلك لأن الصلاة ليست بمحل للسلام؛ لأن السلام كلام، فجوابه أيضًا يكون كلامًا، فلما ثبت أن الصلاة ليست بمحل للكلام، لم تكن أيضًا بمحل لرد السلام؛ لأنه كلام كالسلام، فإذا ثبت أنها ليست بمحل لرد السلام لم تكن أيضًا بمحل للإشارة التي تكون لرد السلام؛ لأنها تكون كرد السلام، وقد قلنا: إن ردَّ السلام كالكلام، فالكلام ممنوع فالسلام مثله، ورده كذلك سواء كان قولًا أو إشارة، والدليل على ذلك أيضًا أن النبي عليه السلام قد أمر المصلي بتسكين أطرافه في الصلاة كما في حديث جابر بن سمرة، ورد السلام بالإشارة تحريك للأطراف؛ لأن فيها رفع اليد وتحريك الأصابع، وهذا خلاف ما أمر به النبي عليه السلام، وذلك لا يجوز، والله أعلم.
ثم إسناد أثر ابن عباس صحيح، وقد مر غير مرة أن خُشَيْشا بضم الخاء وفتح الشين الأولى وسكون الياء آخر الحروف، وكلها معجمات، وعارم -بالعين المهملة- لقب محمد بن الفضل شيخ البخاري، وقيس هو ابن سعد من رجال مسلم، وعطاء هو ابن أبي رباح.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن عطاء بن أبي رباح:"أن رجلًا سلم على ابن عباس وهو في الصلاة فأخذ بيده فصافحه، وغمز بيده".
وقال أيضًا (2): ثنا حفص، عن ليث، عن عطاء قال:"سلمت على ابن عباس وهو في الصلاة فلم يردّ عليّ، وبسط يده إليّ وصافحني".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 419 رقم 4820).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 419 رقم 4813).
وكذلك إسناد حديث جابر بن سمرة صحيح، ومحمد بن سعيد بن سليمان الأصبهاني شيخ البخاري، وشريك هو ابن عبد الله النخعي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات.
والأعمش هو سليمان بن مهران، والمسيب بن رافع الأسدي الكاهلي روى له الجماعة.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة قال:"خرج علينا رسول الله عليه السلام فقال: مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمس؟ اسكنوا في الصلاة. قال: ثم خرج علينا فرآنًا حَلِقًا، فقال: ما لي أركم عزين؟ قال: ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصّف الملائكة عند ربها فقلنا: يا رسول الله عليه السلام، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف".
وأخرجه النسائي (2): أنا قتيبة، قال: ثنا عبثر، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله عليه السلام ونحن رافعو أيدينا في الصلاة، فقال: ما بالهم رافعين أيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس؟! اسكنوا في الصلاة". انتهى.
وهذا كما رأيت قد وقع في روايتي مسلم والنسائي بين المسيب بن رافع وبن جابر بن سمرة تميم بن طرفة، وليس هو بمذكور في رواية الطحاوي، وكل منهما قد روى عن جابر بن سمرة فسنده أعلى من سندهما (3).
(1)"صحيح مسلم"(1/ 322 رقم 430).
(2)
"المجتبى"(3/ 4 رقم 1184).
(3)
قال ابن أبي حاتم في "المراسيل"(1/ 208 رقم 774): "قال أبي: المسيب بن رافع روى عن جابر بن سمرة حديثا، ولا أظن سمع منه، يدخل بينه وبينه تميم بن طرفة.
قوله: "وقد رفعوا أيديهم" جملة حالية.
قوله: "شُمس" بضم الشين المعجمة وسكون الميم وبضمها أيضًا جمع أشمس، وهو النَّفور من الدواب الذي لا يستقر لشغبه وحدته، وقال الجوهري: فرس شموس أي صعب الخلق، ولا تقل شموص
قوله: "اسكنوا" أمر من سَكَنَ يَسْكُنُ، أي اثبتوا ولا تتحركوا، ولا تحركوا أطرافكم بل لازموا السكون والقرار؛ لأنكم بين يدي ربكم جلت قدرته.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: أن فيه دلالة على أن رد السلام بالإشارة في الصلاة مكروه؛ لأنه مأمور بالسكون وهو عدم الحركة، فإذا أشار احتاج إلى رفع اليد وتحريك الأصابع، كما ذكرناه.
الثاني: استدل به بعض أصحابنا على ترك رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، واعترض عليه البخاري في كتابه الذي وضعه في رفع اليدين بأن هذا كان في التشهد لا في القيام، تفسره رواية عبد الله بن القبطية قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: "كنا إذا صلينا خلف النبي عليه السلام قلنا السلام عليكم السلام عليكم، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال: ما بال هؤلاء يومئون بأيديهم كأنها أذناب خيل شمس؟! إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله". وهذا قول معروف لا اختلاف، فيه ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات أيضًا منهيًّا عنه؛ لأنه لم يستثن رفعًا دون رفع، بل أطلق.
والجواب عن هذا: أن هذين حديثان لا يُفَسَّر أحدهما بالآخر، وقد جاء في الحديث الأول:"دخل رسول الله عليه السلام المسجد، فرأى قومًا يصلون وقد رفعوا أيديهم" وهذا ظاهره أنهم كانوا في حالة الركوع والسجود ونحو ذلك، والراوي روى هذا في وقت كما شاهده وروى الآخر في وقت آخر كما شاهده، وقد ذكر ابن القصار أن هذا
الحديث حجة في النهي عن رفع الأيدي في الصلاة، وذكر أن في ذلك نزلت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1).
الثالث: فيه أن الإِمام إذا رأى شيئًّا منكرًا يفعله القوم في الصلاة ينهاهم عن ذلك، فبالقياس على ذلك وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل أحدٍ يقدر على ذلك، والله أعلم.
(1) سورة النساء، آية:[77].