المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الصلاة على الجنائز هل ينبغي أن تكون في المساجد أم لا - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٧

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ص: باب: الصلاة على الجنائز هل ينبغي أن تكون في المساجد أم لا

‌ص: باب: الصلاة على الجنائز هل ينبغي أن تكون في المساجد أم لا

؟

ش: أي هذا باب في بيان الصلاة على الجنازة هل هي مكروهة في المساجد أم لا؟

ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا محمد بن إسماعيل، عن الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:"أن عائشة رضي الله عنها حين توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: لقد صلى رسول الله عليه السلام على سهيل بن البيضاء في المسجد".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك، عن أبي النضر، عن عائشة، عن رسول الله عليه السلام بذلك.

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير: "أن عائشة رضي الله عنها أمرت بسعد بن أبي وقاص أن يمر به في المسجد

" ثم ذكر مثل حديثه عن يعقوب.

ش: هذه ثلاث طرق:

الأول: إسناده صحيح على شرط مسلم: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة، شيخ البخاري في غير "الصحيح" وثقه ابن حبان ويحيى في رواية، وقال البخاري: لم نَرَ إلا خيرًا، هو في الأصل صدوق.

عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني روى له الجماعة، عن الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام القرشي الحزامي روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي المدني

ص: 312

مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

وهذا الحديث أخرجه الجماعة غير البخاري.

فقال مسلم (1): حدثني هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع واللفظ لابن رافع، قالا: نا ابن أبي فديك، قال: أنا الضحاك يعني ابن عثمان، عن أبي النضر

إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه:"لقد صلى رسول الله عليه السلام على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه".

وقال أبو داود (2): نا سعيد بن منصور، ثنا فليح بن سليمان، عن صالح بن عجلان ومحمد بن عبد الله بن عباد، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت:"والله ما صلى رسول الله عليه السلام على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد".

ثنا (3) هارون بن عبد الله، نا ابن أبي فديك

إلى آخره نحو رواية مسلم.

وقال الترمذي (4): ثنا علي بن حجر، قال: أبنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت:"صلى رسول الله عليه السلام على سهيل بن بيضاء في المسجد".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

وقال النسائي (5): أنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن حجر، قالا: نا عبد العزيز

إلى آخره نحو رواية الترمذي، إلا أن في لفظه:"ما صلى رسول الله عليه السلام على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 669 رقم 973).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 207 رقم 3189).

(3)

"سنن أبي داود"(3/ 207 رقم 3190).

(4)

"جامع الترمذي"(3/ 351 رقم 1033).

(5)

"المجتبى"(4/ 68 رقم 1967).

ص: 313

وقال ابن ماجه (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا يونس بن محمد، نا فليح بن سليمان، عن صالح بن عجلان، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت:"والله ما صلى رسول الله عليه السلام على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك بن أنس، عن أبي النضر سالم بن أبي أمية، عن عائشة. وهذا منقطع.

وأخرجه مالك في موطئه (2): عن أبي النضر، عن عائشة زوج النبي عليه السلام:"أنها أمرت أن يُمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له، فأنكر ذلك الناس عليها، فقالت عائشة رضي الله عنها: ما أسرع ما نسي الناس! ما صلى رسول الله عليه السلام على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد".

قال أبو عمر: هكذا هذا الحديث عند جمهور الرواة منقطعًا. ورواه حماد بن خالد الخياط، عن مالك، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت:"ما أسرع الناس إلى النسيّ! ما صلى رسول الله عليه السلام على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد". فانفرد بذلك، عن مالك.

قلت: إنما قال: عند جمهور الرواة منقطعًا؛ لأن أبا النضر لم يسمع من عائشة شيئًا قال ابن وضَّاح: ولا أدركها، وإنما يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عنها، قال: وكذلك أسنده مسلم وغمز عليه الدارقطني، قال: ولا يصح إلا مرسلًا عن أبي النضر عن عائشة؛ لأنه قد خالف في ذلك رجلان حافظان: مالك والماجشون، روياه عن أبي النضر عن عائشة رضي الله عنها.

الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه وصاحب "المسند"، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي،

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 486 رقم 1518).

(2)

"موطأ مالك"(1/ 229 رقم 540).

ص: 314

عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام، عن عمه عباد بن عبد الله ابن الزبير، عن عائشة.

وهذا إسناد صحيح متصل وأخرجه الأربعة من حديث عباد بن عبد الله كما ذكرناه.

قوله: "حين توفي سعد بن أبي وقاص" كانت وفاته في المشهور في سنة خمس وخمسين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وسبعين، وقيل: ابن ثلاث وثمانين، وكان موته في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل إلى المدينة على رقاب الرجال، ودفن بالبقيع، وصلى عليه مروان بن الحكم، وهو آخر العشرة المبشرة بالجنة وفاةً، وأبو وقاص اسمه مالك بن أهيب ويقال: وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، يلتقي مع رسول الله عليه السلام في كلاب بن مرة، أسلم سعد قديمًا وهاجر إلى المدينة قبل النبي عليه السلام، وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله عليه السلام، وكان يقال له: فارس الإِسلام، وهو أول من رمى في سبيل الله، وكان مجاب الدعوة، وهو الذي كوَّف الكوفة، ونفى الأعاجم، وتولى قتال فارس، أمَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفتح الله على يديه أكثر فارس.

قوله: "ادخلوا به" بضم الهمزة من دخل يدخل، وعدي بالباء، والمعنى: أدخلوه المسجد.

قوله: "سهيل بن البيضاء" وهي أمه، واسم أبيه وهب بن ربيعة بن عامر بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث بن فهو بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي الفهري، واسم أمه البيضاء دعد بنت الجحدم بن أمية بن ضبة بن الحارث بن فهر، وهو أخو سهل وصفوان ابني البيضاء، يُعرفون بأمهم، وسهل ممن أظهر إسلامه بمكة، وهو الذي مشي إلى النفر الذين قاموا في نقض الصحيفة التي كتبها مشركوا مكة على بني هاشم، وتوفي سهيل وأخوه سهل بالمدينة في حياة النبي عليه السلام، وصلى عليهما في المسجد وقيل: إن سهلًا عاش بعد النبي عليه السلام ولم يعقبا قاله ابن إسحاق.

ص: 315

وروى ابن مندة بإسناده عن ابن إسحاق قال: كان موضع المسجد لغلامين يتيمين سهل وسهيل وكانا في حجر أسعد بن زرارة.

وقال ابن الأثير: ظن ابن مندة أن ابني البيضاء هما الغلامان اليتيمان اللذان كان لها موضع المسجد، وإنما كانا من الأنصار، وأما ابنا بيضاء فهما من بني فهو كما ذكرناه، وإنما دخل الوهم عليه حيث لم ينسبه إلى أب ولا قبيلة، فلو نسبه لعلم الصواب.

ص: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا بأس بالصلاة على الجنائز في المساجد.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وداود؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالصلاة على الجنازة في المسجد. واحتجوا بالحديث المذكور.

وقال أبو عمر: رواه المدنيون، عن مالك، وقاله ابن حبيب من أصحابنا وحكاه عن شيوخه المدنيين وقاله القاضي إذا احتيج إلى ذلك.

وقال أبو عمر أيضًا: وروى ابن القاسم، عن مالك قال: وإن صلى عليها عند باب المسجد وتضايق الناس وتزاحموا فلا بأس أن تكون بعض الصفوف في المسجد، وقد قال في كتاب الاعتكاف من "المدونة" في صلاة المعتكف على الجنازة في المسجد ما يدل على أنه معروف عنده الصلاة على الجنازة في المسجد، وأجاز أبو يوسف ذلك، وقال الشافعي وأصحابه وأحمد: لا بأس أن يُصلى على الجنازة في المسجد من ضيق ومن غير ضيق، على كل حال. وهو قول عامة أهل الحديث.

وقال ابن حزم في "المحلى": وإدخال الموتى في المساجد والصلاة عليهم فيها حسن كله، وأفضل مكان صلي فيه على الميت في داخل المساجد، وهو قول الشافعي وأبي سليمان.

ص: 316

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر:"أن عمر رضي الله عنه صلي عليه في المسجد".

ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر، أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن يحيى بن أبي عمر المدني، عن عبد العزيز الدراوردي .. إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا الفضل بن دكين، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر:"أن عمر صلي عليه في المسجد".

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا الصلاة على الجنازة في المساجد.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن أبي ذئب وأبا حنيفة ومالكًا وأبا يوسف في قول ومحمدًا؛ فإنهم كرهوا الصلاة على الجنازة في المساجد، ثم اختلف أصحابنا فقيل: كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة (ح)

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن محمد، قال: ثنا معن بن عيسى، عن ابن أبي ذئب، عن صالح بن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"من صلى على جنازة في مسجد فلا شيء له".

ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه من طريقين:

الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب محمد بن الحسن الشيباني، عن أسد بن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 44 رقم 11969).

ص: 317

المدني، عن صالح بن نبهان مولى التوءمة بنت أميّة بن خلف الجمحي المدني، عن أبي هريرة.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد، عن يحيى، عن ابن أبي ذئب، قال: حدثني صالح مولى التوءمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء [له] (2) ".

الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن محمد بن طحلاء المدني، عن معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي المدني، عن محمد بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن صالح بن أبي صالح مولى التوءمة، عن أبي هريرة.

وأخرجه ابن ماجه (3): ثنا علي بن محمد، نا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "من صلى على جنازة في المسجد فليس له شيء".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "من صلى على جنازة في المسجد فلا [صلاة] (5) له، قال: وكان أصحاب رسول الله عليه السلام إذا تضايق المكان رجعوا ولم يصلوا".

فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟

قلت: رجاله كلهم ثقات، غير أنهم طعنوا فيه بسبب صالح مولى التوءمة وقالوا: إنه ضعيف، ولما روى ابن عدي هذا الحديث في "الكامل" عده من

(1)"سنن أبي داود"(3/ 207 رقم 3191).

(2)

كذا في "الأصل، ك" وفي "السنن": "عليه".

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 485 رقم 1517).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 44 رقم 11972).

(5)

كذا في "الأصل، ك": صلاة، والذي في "المصنف":"شيء" وهو الموافق للروايات السابقة.

ص: 318

منكرات صالح، ثم أسند إلى شعبة أنه كان لا يروي عنه وينهى عنه. وإلى مالك أنه قال: لا تأخذوا عنه شيئًا؛ فإنه ليس بثقة. وإلى النسائي أنه قال فيه: ضعيف. وأسند عن ابن معين أنه قال فيه: ثقة، لكنه اختلط قبل موته، فمن سمع منه قبل ذلك فهو ثبت حجة. وقال البيهقي: وفي سنده صالح مولى التوءمة مختلف في عدالته، كان مالك يجرحه. هذا ما ذكروا ولكنه لا يتمشى؛ لأن

صاحب "الكمال" ذكر عن ابن معين أنه قال: صالح ثقة حجة. قيل: إن مالكًا ترك السماع منه، قال: إنما أدركه مالك بعدما كبر وخرف، والثوري إنما أدركه بعدما خرف فسمع منه أحاديث منكرات، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف، ومن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت، وقال العجلي: صالح ثقة وقال ابن عدي: لا بأس به إذا سمعوا منه قديمًا مثل ابن أبي ذئب وابن جريج

وزياد بن سعد وغيرهم، ولا أعرف له قبل الاختلاط حديثًا منكرًا إذا روى عنه ثقة، وقال أحمد بن حنبل: ما أعلم بأسًا ممن سمع منه قديمًا.

فثبت بهذا أن هذا الحديث صحيح؛ لأنهم كلهم اتفقوا أن صالحًا ثقة قبل اختلاطه، وإنما تكلموا فيه لأجل اختلاطه، ولا اختلاف في عدالته، وأن ابن أبي ذئب سمع منه هذا الحديث قديمًا قبل اختلاطه، فصار الحديث حجة.

فإن قيل: قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": اختلط صالح بآخر عمره ولم يتميز حديثه، حديثه من قديمه، فاستحق الترك. ثم ذكر له هذا الحديث وقال: إنه باطل. وكيف يقول رسول الله عليه السلام ذلك وقد صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد؟!

وقال النووي: أجيب عن هذا بأجوبة:

أحدها: أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به، قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوءمة، وهو ضعيف.

ص: 319

والثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المسموعة في "سنن" أبي داود: "فلا شيء عليه"، فلا حجة فيه.

الثالث: أن "اللام" فيه بمعنى "على" كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (1) أي فعليها جمعًا بين الأحاديث.

قلت: أما قول ابن حبان: إنه باطل؛ كلام باطل؛ لأن مثل أبي داود أخرج هذا الحديث وسكت عنه، فأقل الأمر منه أنه يدل على حسنه عنده، وأنه رضي به.

وأخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجه (2) وغيرهم فتشنيعه كله بسبب اختلاط صالح، وقد ذكرنا أنهم كلهم مجمعون على عدالته وعلى ثقته قبل الاختلاط، وأن من أخذ منه قبل الاختلاط فهو صحيح. وقالوا أيضًا: إن ابن أبي ذئب أخذ عنه قديمًا قبل اختلاطه، فكيف يكون باطلًا؟! وكيف يسوغ التلفظ بمثل هذا الكلام لإبراز التعصب؟! والعجب منه أنه يقول: وكيف يقول رسول الله عليه السلام ذلك وقد صلى على سهيل؟! فكأنه نسي باب النسخ، ومثل هذا كثير قد فعل رسول الله عليه السلام شيئًا ثم تركه أو نهى عنه.

والجواب عن قول النووي: أما قوله: إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به؛ إن كان مراده أنه ضعيف قبل الاختلاط فلا نسلم ذلك؛ لما ذكرنا أنهم مجمعون على عدالته وعلى ثقته قبل الاختلاط، وإن كان مراده بعد الاختلاط فمسلم ولكن لا يضرنا ذلك؛ لما قلنا: إن ابن أبي ذئب أخذ منه قبل الاختلاط.

وأما قوله: إن النسخة الصحيحة: "فلا شيء عليه" مجرد دعوى فلا تقبل إلا ببرهان، ويرده أيضًا قول الخطيب: المحفوظ: "فلا شيء له".

وأما قوله: إن اللام فيه بمعنى على عدول عن الحقيقة من غير ضرورة ولا سيما على أصلهم: أن المجاز ضروري لا يصار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة ها هنا،

(1) سورة الإسراء، آية:[7].

(2)

تقدم ذكره.

ص: 320

ويرد ذلك أيضًا رواية ابن أبي شيبة (1): "فلا صلاة له" فإنه لا يمكن له أن يقول ها هنا اللام بمعنى على لفساد المعنى. فافهم.

فثبت مما ذكرنا أن الأخذ بهذا الحديث أول، من الأخذ بحديث عائشة؛ لأن الناس عابوا ذلك عليها وأنكروه، وجعله بعضهم بدعة، فلولا اشتهار ذلك عندهم لما فعلوه، ولا يكون ذلك إلا لأصل عندهم؛ لأنه يستحيل عليهم أن يروا رأيهم حجة على حديث عائشة، ولم يحفظ عن النبي عليه السلام أنه صلى في المسجد على غير ابن البيضاء، ولما نعى النجاشي إلى الناس خرج بهم إلى المصلى فصلى عليه، ولم يصل عليه في المسجد مع غيبته فالميت الحاضر أولى أن لا يصلى عليه في المسجد. والله أعلم.

ص: فلما اختلفت الروايات عن رسول الله عليه السلام في هذا الباب، فكان فيما روينا في الفصل الأول إباحة الصلاة على الجنائز في المساجد، وفيما روينا في الفصل الثاني كراهة ذلك؛ احتجنا إلى كشف ذلك لنعلم المتأخر منه فنجعله ناسخًا لما تقدم من ذلك، فلما كان حديث عائشة فيه دليل على أنهم قد كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كانت تفعل فيه، حتى ارتفع ذلك من فعلهم وذهبت معرفة ذلك من عامتهم، فلم يكن ذلك عندها لكراهة حدثت، ولكن كان ذلك عندها؛ لأن لهم أن يصلوا في المسجد على جنائزهم ولهم أن يصلوا عليها في غيره، فلا تكون صلاتهم في غيره دليلًا على كراهة الصلاة فيه، كما لم تكن صلاتهم فيه دليلًا على كراهة الصلاة في غيره. فقالت بعد رسول عليه السلام يوم مات سعد رضي الله عنه ما قالت لذلك، وأنكر ذلك عليها الناس وهم أصحاب رسول الله عليه السلام ومن تبعهم، وكان أبو هريرة رضي الله عنه قد علم من رسول الله عليه السلام نسخ الصلاة عليهم في المسجد بقول رسول الله عليه السلام الذي سمعه منه في ذلك، وأن ذلك الترك الذي كان من رسول الله عليه السلام للصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كان يفعلها فيه ترك نسخ، فذلك أولى من حديث

(1) تقدم.

ص: 321

عائشة؛ لأن حديث عائشة إخبارٌ عن فعل رسول الله عليه السلام في حال الإباحة التي لم يتقدمها نهي، وحديث أبي هريرة إخبار عن نهي رسول الله عليه السلام الذي قد تقدمته الإباحة، فصار حديث أبي هريرة أولى من حديث عائشة؛ لأنه ناسخ له، وفي إنكار من أنكر ذلك على عائشة -وهم يومئذ أصحاب رسول الله عليه السلام- دليل على أنهم قد كانوا علموا في ذلك خلاف ما علمت ولولا ذلك لما أنكروا ذلك عليها، وهذا الذي ذكرنا من النهي عن الصلاة على الجنازة في المسجد وكراهتها، قول

أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف أيضًا، غير أن أصحاب الإملاء رووا عن أبي يوسف في ذلك أنه قال: إذا كان مسجدٌ قد أفرد للصلاة على الجنازة فلا بأس بأن يصلى على الجنائز فيه.

ش: تلخيص هذا الكلام: أن بين حديث أبي هريرة هذا وبين حديث عائشة المذكور في أول الباب اختلافًا وتضادًا من حيث الظاهر، والطريق فيه الكشف عن المتأخر من المتقدم ليجعل المتأخر ناسخًا للمتقدم، وحديث عائشة رضي الله عنها يدل على أنهم كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كانت تصلى فيه؛ إذ لو لم تكن مفعولة في الابتداء، لما قالت عائشة رضي الله عنها:"لقد صلى رسول الله عليه السلام على ابني بيضاء في المسجد". ولو كان فعلها مستمر إلى آخر الوقت لما أنكر الناس عليها؛ لأنهم لو لم يعلموا في ذلك خلاف ما قالت عائشة رضي الله عنها لما أنكروا ذلك عليها، وهم أصحاب رسول الله عليه السلام، فإذا كان كذلك يكون حديث أبي هريرة أولى من حديث عائشة؛ لأنه ناسخ له؛ لأن حديث عائشة إخبار عن فعله عليه السلام في حالة الإباحة التي لم يتقدمها شيء، وحديث أبي هريرة يخبر عن النهي الوارد على تلك الإباحة؛ فهذا عين النسخ.

فإذا قيل: من أي قبيل يكون هذا النسخ؟

قلت: من قبيل النسخ بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبًا للحظر والآخر موجبًا للإباحة، ففي مثل هذا يتعين المصير إلى النص الموجب

ص: 322

للحظر، وإلى الأخذ به؛ وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة، والحظر طارئ عليها، فيكون متأخرًا.

فإن قيل: لم لا تجعل الموجب للإباحة متأخرًا؟

قلت: لأنه لو جعل كذلك لاحتيج إلى إثبات نسخين: نسخ الإباحة الثابتة في الابتداء بالنص الموجب للحظر، ثم نسخ الحظر بالنص الموجب للإباحة. والله أعلم.

فإن قيل: ليس بين الحديثين مساواة؛ لأن حديث عائشة أخرجه مسلم (1) في "صحيحه" وحديث أبي هريرة قد ضعفوه بصالح مولى التوءمة فلا يحتاج على هذا التوفيق؛ لأن التوفيق بين النصين المتعارضين إنما يطلب إذا كان بينهما مساواة كما عرف.

قلت: قد بينت لك صحة حديث أبي هريرة بالوجوه المذكورة، ولا يلزم من ترك مسلم تخريجه أن لا يكون صحيحًا؛ لأن الشيخين لم يلتزما إخراج كل ما صح عن رسول الله عليه السلام، ولئن سلمنا أن حديث أبي هريرة لا يسلم عن كلام، فكذلك حديثه عائشة لا يخلو عن كلام؛ فإن جماعة من الحفاظ مثل الدارقطني وغيره عابوا على مسلم تخريجه إياه مسندًا؛ لأن الصحيح أنه مرسل كما رواه مالك والماجشون، عن أبي النضر، عن عائشة مرسلًا، والمرسل ليس بحجة عند الخصم، وقد أوّل بعضهم حديث عائشة بأنه عليه السلام إنما صلى في المسجد بعذر المطر، وقيل: بعذر الاعتكاف، وعلى كل التقدير الصلاة على الجنازة خارج المسجد أولى وأفضل؛ لأنه إذا صلاها خارج المسجد يجوز بلا خلاف من غير كراهة، وإذا صلاها في المسجد ففيه الخلاف، فإتيان المتفق عليه أولى -بل أوجب- لا سيما في باب العبادات. والله أعلم.

(1)"تقدم".

ص: 323