المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الصدقة على بني هاشم - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٧

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ص: باب: الصدقة على بني هاشم

‌ص: باب: الصدقة على بني هاشم

ش: أي هذا باب في بيان الصدقة على بني هاشم هل تجوز أم لا؟.

والصدقة أعم من الزكاة وبنو هاشم هم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد المطلب.

وهاشم هو ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة.

ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا شريك، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"قدمت عير المدينة، فاشترى منه النبي عليه السلام متاعًا فباعه بربح أواقي فضة، فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب، ثم قال: لا أعود أن أشتري بعدها شيئًا وليس ثمنه عندي".

ش: إسناده صحيح، وسعيد بن سليمان شيخ البخاري وأبي داود.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا [علي بن عبد العزيز، نا عمرو بن عون الواسطي](2)، نا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام اشترى عيرًا قدمت فيها أواق من ذهب، فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب، وقال: لا أشتري شيئًا ليس عندي ثمنه".

قوله: "عير" بكسر العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف، وهي: الإبل بأحمالها، وقيل: هي قافلة الحمير، فكثرت حتى سميت بها كل قافلة.

(1)"المعجم الكبير"(11/ 282 رقم 11743).

(2)

كذا في "الأصل، ك" والذي في "المعجم الكبير": محمَّد بن العباس المؤدب، وأحمد بن يحيى الحلواني، قالا: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي.

والذي في "الأصل، ك" هو إسناد الحديث الذي قبله، فلعله انتقال نظر من المؤلف رحمه الله.

ص: 480

قوله: "بربح أواقي" بالياء، وفي بعض النسخ بلا ياء، وكلاهما صحيح، وهي جمع أوقية، والأوقية -بضم الهمزة وتشديد الياء- وجمعها أواقي -بتشديد الياء وتخفيفها- وأواق -بحذفها- قال ابن السكيت في "الإصلاح": كل ما كان من هذا النوع واحده مشددً جاز في جمعه التشديد والتخفيف كالأوقية والأواقيّ والأواقي، والسريّة والسراريّ والسراري، والبختي والبخاتيّ والبخاتي، والأثفية والأثافيّ والأثافي ونظائرها، وأنكر الجمهور أن يقال في الواحدة: وقية -بحذف الهمزة- وحكى الجبائي جوازها بفتح الواو وتشديد الياء، وجمعها: وقايا، مثل ضحيَّة وضحايا.

وأجمع أهل الحديث والفقه واللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهمًا، وهي أوقية الحجاز. وفي كتاب "المكاييل" عن الواقدي، عن سعيد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن سابط قال:"كان لقريش أوزان في الجاهلية، فلما جاء الإِسلام أقرت على ما كانت عليه، الأوقية: أربعون درهمًا، والرطل: اثنى عشر أوقية فذلك أربعمائة وثمانون درهمًا، وكان لهم النش: وهو عشرون درهمًا، والنواة: وهي خمسة دراهم، وكان المثقال: اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة، وكانت العشرة دراهم وزنها سبعة مثاقيل والدرهم خمسة عشر قيراطًا، فلما قدم سيدنا رسول الله عليه السلام كان يسمي الدينار لوزنه دينارًا، وإنما هو تبر، ويسمي الدرهم لوزنه درهمًا، وإنما هو تبر، فأقرت موازين المدينة على هذا، فقال النبي عليه السلام: "الميزان ميزان أهل المدينة".

وروى الدارقطني (1) بإسناده إلى جابر رضي الله عنه رفعه: "والأوقية أربعون درهمًا".

ويستفاد من الحديث: جواز الصدقة على بني هاشم كما ذهب إليه جماعة، وجواز المرابحة في البيوع، وكراهة الشراء بالدين إذا لم يكن عنده شيء، وذلك لخوف غائلة الدين ولحوق ضرره.

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 98 رقم 16).

ص: 481

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا الحديث وأباحوا الصدقة على بني هاشم.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من المالكية وأبا حنيفة في رواية وبعض الشافعية؛ فإنهم أباحوا الصدقة على بني هاشم، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور.

وممن قال بقولهم أبو بكر الأبهري من المالكية، وأبو سعيد الإصطخري من الشافعية.

وتحرير هذه المسألة أن نقول: لا خلاف في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة؛ لقوله عليه السلام: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمَّد، إنما هي أوساخ الناس".

رواه مسلم (1).

وعن أبي يوسف والإصطخري والقاضي يعقوب وأبي البقاء من الحنابلة: إن منعوا الخمس أخذوا الزكاة.

وروى أصبغ عن ابن القاسم قال: لا تحل لهم الصدقات الواجبة ولا يحل لهم التطوع.

وعنهم: تحل لهم كلها فرضها ونفلها.

وأما الهاشمي إذا دفع زكاته إلى هاشمي مثله يجوز عند أبي حنيفة خلافًا لأبي يوسف.

وكذلك يجوز صرف صدقة التطوع إليهم على وجه الصلة، وعن مالك: لا يجوز، وكذا عن بعض الحنابلة.

وجزم في "الروضة" بتحريم النفل على بني هاشم ومواليهم، وأن النذور والكفارات كالزكاة، وإن حرمت صدقة التطوع على بني هاشم، فالنبي عليه السلام أولى.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 753 رقم 1072).

ص: 482

وأما بنو عبد المطلب فيجوز لهم أخذ الزكاة عندنا. وهو رواية عن أحمد، وعنه: لا يجوز. نقلها عبد الله بن أحمد.

وأما موالي بني هاشم فكذلك تحرم عليهم الزكاة. وعن الشافعي في قول ومالك في رواية تجوز، وعن الشافعي كقولنا.

وقال ابن قدامة في "المغني": لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، ولا لمواليهم (1)، وقال أكثر العلماء: تجوز؛ لأنهم ليسوا بقرابة النبي عليه السلام، فلم يمنعوا الصدقة كسائر الناس، ولأنهم لم يعوضوا عنها بخمس الخمس، فإنهم لا يطعون منه.

فأما بنو المطلب فهل لهم الأخذ من الزكاة؟ على روايتين:

أحداهما: ليس لهم ذلك.

والرواية الثانية: لهم الأخذ منها، وهو قول أبي حنيفة.

وقال عياض في "شرح مسلم": اختلف العلماء في الصدقة المحرمة على آل النبي عليه السلام، فقيل: الفريضة فقط، وهو قول مالك، وكثير من أصحابه، وأحد قولي أبي حنيفة.

وقال أبو حنيفة أيضًا: إنها كلها حلال لبني هاشم وغيرهم، وإنما كان ذلك محرمًا عليهم إذا كانوا يأخذون سهم ذوي القربى، فلما قطع عنهم، حلَّت لهم، ونحوه عن الأبهري من شيوخنا، وروي عن أبي يوسف أنها حرام عليهم من غيرهم حلال لهم صدقة بعضهم على بعض.

وحكى ابن القصار عن بعض أصحابنا أنها تحرم عليهم في التطوع دون الفريضة؛ لأنها لا منَّة فيها.

(1) في "المغني"(2/ 517) جعل مواليهم مسألة منفصلة، وذكر فيها الخلاف فقال:"مسألة: قال: ولا لمواليهم، يعني أن موالي بني هاشم -وهم من أعتقهم هاشمي- لا يعطون من الزكاة، وقال أكثر العلماء: يجوز .... إلخ" وهذا اختصار مخل يؤدي إلى سوء الفهم.

ص: 483

واختلف مَن هم آل محمَّد عليه السلام؟ فقال مالك وأكثر أصحابه: هم بنو هاشم خاصةً.

ومثله عن أبي حنيفة، واستثني آل أبي لهب. وقال الشافعي: هم بنو هاشم، ويدخل فيه بنو المطلب أخي هاشم دون سائر بني عبد مناف.

وفي "الحاوي في فقه أحمد" ولا لبني هاشم يعني: ولا يجوز دفع الزكاة لبني هاشم وإن مُنِعوا الخمس وعندي إن مُنعوا الخمس جاز، ولا لمواليهم ولا أولاد بناتهم، وفي بني المطلب روايتان. ولهم الأخذ من صدقة التطوع في أصح الروايتين.

وقال ابن شاس في "الجواهر": وإذا قلنا بأنهم لا يعطون أي بأن آل الرسول عليه السلام، فمن هم؟ لا خلاف في عدِّ بني هاشم وعدم عَدِّ مَن فوق ببني غالب، وفي عد مَنْ بنيهما خلاف عندهم أشهب واقتصر ابن القاسم على بني هاشم.

واختلف أيضًا في إعطاء مواليهم منها، فأجازه ابن القاسم ومنعه مطرف وابن الماجشون وابن نافع وأصبغ وابن حبيب.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا تجوز الصدقة من الزكوات والتطوع وغير ذلك على بني هاشم، وهم كالأغنياء، فما حرم الأغنياء من الصدقة فهي على بني هاشم حرام، فقراء كانوا أو أغنياء، وكل ما يحل للأغنياء من غير بني هاشم فهو حلال لبني هاشم فقرائهم وأغنيائهم.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا والثوري والنخعي ومالكًا والشافعي وأبا حنيفة في رواية، وأبا يوسف ومحمدًا، وجماهير أهل العلم من الفقهاء وأهل الحديث، فإنهم قالوا: لا تجوز الصدقة على بني هاشم سواء كانت زكاةً أو تطوعًا أو غيرهما.

وهذا الموضع أيضًا يحتاج إلى تحرير، فنقول: قال الخطابي: أما النبي عليه السلام فلا خلاف بين المسلمين أن الصدقة لا تحل له، وكذلك بنو هاشم في قول أكثر العلماء،

ص: 484

وقال الشافعي: لا تحل الصدقة لبني المطلب؛ لأن النبي عليه السلام أعطاهم من سهم ذوي القربى وأشركهم فيه مع بني هاشم ولم يعط أحدًا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عوض عُوضوه بدلًا عما حُرِموه من الصدقة، فما موالي بني هاشم فإنه لا حقالهم في سهم ذوي القربى، فلا يجوز أن يحرموا من الصدقة.

وقال النووي: تحرم الزكاة على النبي عليه السلام وعلى آله -وهم بنو هاشم وبنو المطلب- هذا مذهب الشافعي وموافقيه، أن آله عليه السلام هم بنو: هاشم وبنو المطلب، وبه قال بعض المالكية. وقال أبو حنيفة ومالك: هم بنو هاشم خاصةً.

قال القاضي: وقال بعض العلماء: هم قريش كلها.

وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي.

وأما صدقة التطوع فللشافعي فيها ثلاثة أقوال، أصحها: أنها تحرم على رسول الله عليه السلام تحل لآله، والثاني: تحرم عليه وعليهم، والثالث: وتحل له ولهم.

وأما موالي بني هاشم وبني المطلب فهل تحرم عليهم الزكاة؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما: تحرم، والثاني: تحل.

وبالتحريم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين وبعض المالكية.

وبالإباحة قال مالك.

وادعي ابن بطال المالكي أن الخلاف إنما هو في موالي بني هاشم، وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالإجماع.

وليس كما قال، بل الأصح عند أصحابنا: تحريمها على موالي بني هاشم وبني المطلب ولا فرق بينهما.

وذكر الطحاوي أن الصدقة المفروضة والتطوع محرمة على بني هاشم في قول أبي يوسف ومحمد، وعن أبي حنيفة روايتان فيها. قال الطحاوي وبالجواز نأخذ، والله أعلم.

ص: 485

ص: وليس على أهل هذه المقالة حجة عندنا في الحديث الأول؛ لأنه يجوز أن يكون ما تصدق به النبي من ذلك على أرامل بني عبد المطلب لم يجعله من جهة الصدقة التي تحرم على بني هاشم في قول من يحرمها عليهم، ولكن جعلها من جهة الصدقة التي تحل لهم؛ فإنا قد رأينا الأغنياء من غير بني هاشم قد يُصَدِّق الرجل على أحدهم بداره أو بعبده فيكون ذلك جائزًا حلالًا ولا يحرمه عليه ماله، وكان ما يحرم عليه بماله من الصدقات هو الزكوات والكفارات والصدقات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فأما الصدقات التي يراد بها طريق الهبات وإن سميت صدقات فلا، فكذلك بنو هاشم حرم عليهم؛ لقرابتهم من الصدقات مثل ما حرم على الأغنياء بأموالهم.

فأما ما كان لا يحرم على الأغنياء بأموالهم فإنه لا يحرم على بني هاشم بقرابتهم؛ فلهلما جعلنا ما كان تصدق به رسول الله عليه السلام على أراملهم من جهة الهبات وإن سمي ذلك صدقة، وهو الذي ينبغي أن يحمل تأويل ذلك الحديث الأول عليه؛ لأنه قد

روي عن ابن عباس.

ما قد حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سعيد وحماد ابنا زيد، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال:"دخلنا على ابن عباس فقال: ما اختصنا رسول الله عليه السلام بشيء دون الناس إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا نُنْزي الحمر على الخيل".

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: أنا حماد بن زيد، عن أبي جهضم

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا مرجا بن رجاء، عن أبي جهضم

فذكر بإسناده مثله.

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا ابن عباس رضي الله عنهما يخبر في هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام اختصهم أن لا يأكلوا الصدقة، فليس يخلو الحديث من أن يكون على ما ذكرنا

ص: 486

في الفصل الأول، فيكون ما أباح لهم فيه غير ما حرم عليهم في هذا الحديث الثاني، فيكون معنى كل واحد منهما على ما ذكرنا، أو يكون الحديث الأول نسخ ما منع منه هذا الحديث الثاني، فيكون هذا الحديث الثاني ناسخًا له؛ لأن ابن عباس يخبر فيه بعد موت النبي عليه السلام أنهم مخصوصون به دون الناس، فلا يجوز أن يكون ذلك إلا وهو قائم في وقته ذلك.

ش: أي: ليس على أهل المقالة الثانية حجة في الحديث الأول الذي احتجت به أهل المقالة الأولى؛ لأنه يجوز أن يكون المراد من قوله: فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب: أحسن بها عليهن على طريق الهبة والتبرع والإحسان؛ لأن الصدقة قد تذكر ويراد بها الهبة والإحسان كما إذا تصدق رجل على غني بدار أو عبد أو مال معين فإنه يجوز، ويكون ذلك هبةً؛ فغنى ذلك الغني لا يمنع من ذلك؛ لكون ذلك هبة وإحسانًا في المعنى، وكذلك المراد ها هنا الصدقة التي طريقها طريق الهبات وإن سميت صدقةً، وليس المراد بها الصدقة التي طريقها طريق الزكوات والكفارات والصدقات التي يتقرب بها إلى الله تعالى.

قوله: "وهو الذي ينبغي أن يحمل

إلى آخره". كأنه جواب عما يقال: ما الداعي إلى ذكر هذا التأويل، فَلِمَ لا يستعمل الحديث على ظاهره؟

وتقرير الجواب أن يقال: إن هذا الحديث إذا لم يحمل على هذا المعنى يعارضه حديث آخر، والحال أن الراوي لكليها هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو قوله:"وأن لا نأكل الصدقة" وقد أخبر ابن عباس في هذا الحديث أن النبي عليه السلام اختصهم بأن لا يأكلوا الصدقة. وبين الحديثين تعارض وتضاد، فنحتاج إلى التوفيق بينهما، وذلك إما بأن نحمل معنى الحديث الأول على ما ذكرنا، وهذا الحديث على ظاهره، فيكون كل منهما لمعنى لا يخالف معنى الآخر.

أو يكون هذا الحديث ناسخًا للحديث الأول؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما أخبر فيه بعد موت النبي عليه السلام أنهم مخصوصون بثلاثة أشياء: منها: حرمة الصدقة عليهم؛

ص: 487

فلا يكون ذلك إلا بعد انتساخ حكم حديثه الأول؛ وذلك لأن اختصاصهم بذلك لا يكون إلا بقيامه في وقته ذلك، فيكون هذا النسخ بدلالة التاريخ؛ وذلك لأن الحديث الأول يقتضي الإباحة، والحديث الثاني يقتضي الحظر فلا شك أن الحظر طارئ على الإباحة، فيكون متأخرًا عنه بالضرورة، فافهم.

ثم إنه أسند الحديث المذكور من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن سعيد وحماد ابني زيد، كلاهما عن أبي جهضم موسول بن سالم مولى آل العباس بن عبد المطلب، وثقه يحيى وأبو زرعة، روى له الأربعة عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1) بأتم منه: أنا حميد بن مسعدة، ثنا حماد، عن أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال:"كنت عند ابن عباس فسأله رجل أكان رسول الله عليه السلام يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا، قال: فلعله كان يقرأ في نفسه؟ قال: خمسًا هذه شَرٌّ من الأولى، إن رسول الله عليه السلام عبد أمره الله تعالى بأمره فبلغه، والله ما اختصنا رسول الله عليه السلام بشيء دون الناس إلا بثلاثة: أُمِرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، ولا ننزي الحمر على الخيل".

وقد أخرج الطحاوي ما أخرجه النسائي إلى قوله: "فبلغه" بعين الإسناد المذكور في باب: "القراءة في الظهر والعصر".

الثانى: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا مسدد، نا عبد الوارث، عن موسى بن سالم، نا عبد الله بن عبيد الله قال: "دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم، فقلنا

(1)"المجتبى"(6/ 224 رقم 3581).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 214 رقم 808).

ص: 488

لشاب منا: سل ابن عباس أكان رسول الله عليه السلام يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا، فقيل له: فلعله كان يقول في نفسه؟ فقال خمشًا، هذه شر من الأولى، كان عبدًا مأمورًا بلَّغ ما أرسل به، وما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث خصال: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمار على الفرس".

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري، عن مرجَّا بن رجاء اليشكري خال أبي عمر الحوضي.

عن أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا إسماعيل، نا موسى بن سالم أبو جهضم، حدثني عبد الله بن عبيد الله بن عباس، سمع ابن عباس قال:"كان رسول الله عليه السلام عبدًا مأمورًا بلَّغ -والله- ما أرسل به، وما أختصنا دون الناس بشيء ليس ثلاثًا: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي حمارًا على فرس. قال موسى: فلقيت عبد إلله بن حسن، فقلت: إن عبد الله ابن عبيد الله حدثني بكذا وكذا، فقال: إن الخيل كانت في بني هاشم قليلة، فأحب أن تكثر فيهم".

قوله: "إسباغ الوضوء" أي: إكماله وإتمامه، من قولهم: شيء سابغ أي: كامل وافٍ، وسُبِغَت النعمة تُسِبُغ -بالضم- سبوغًا: اتسعت، وأسبغ الله عليه النعمة: أتمها.

قوله: "وأن لا نأكل الصدقة" أراد بها الزكاة، وإن كان اللفظ عامًّا.

قوله: "وأن لا ننزي" من أنزي ينزي إنزاءً ويلا فيه نزاء الذكر على الأنثى ينزو نِزَاءً بالكسر. قال في "الصحاح": يقال ذلك في الحافر والظلف والسباع.

و"الحُمُر" بضم الحاء والميم: جمع حمار.

(1)"مسند أحمد"(1/ 249 رقم 2238).

ص: 489

وفيه ثلاثة أشياء: إسباغ الوضوء، فإن كان لمراد به كونه فرضًا فوجه التخصيص ظاهر، وإلا فكل الناس مشتركون في استحباب إسباغ الوضوء.

وحرمة الصدقة على بني هاشم.

وإنزاء الحمار على الفرس، وقد جوزه كثير من العلماء؛ لأنه ثبت أنه عليه السلام ركب البغلة واقتناها ولو لم يجز لا فعله؛ لأن فيه فتح بابه.

ص: فإن احتج محتج في إباحة الصدقة عليهم بصدقات رسول الله عليه السلام، فذكر ما حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها أخبرته:"أن فاطمة بنت رسول الله عليه السلام أرسلت إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها من رسول الله عليه السلام فيما أفاء الله على رسوله".

وفاطمة حينئذٍ تطلب صدقة رسول الله بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن رسول الله عليه السلام قال: إنا لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد في هذا المال. وإني -والله- لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله عليه السلام عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله عليه السلام "ولأعملن في ذلك بما عمل فيها رسول الله عليه السلام".

حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح (ح).

وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بُكير، قالا: ثنا الليث قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن الزهري قال: أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضري قال: "أرسل إليَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إنه قد حضر المدينة أهل أبياتٍ من قومك، وقد أمرنا لهم برضخ فاقسمه فيهم، فبينا أنا كذلك إذ جاءه يرفا، فقال: هذا عثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير -ولا أدري أذكر طلحة أم لا- يستأذنوني عليك، فقال:

ص: 490

ائذن لهم، قال: ثم مكثنا ساعةً، فقال: هذا العباس وعليُّ يستأذنان عليك، قال: ائذن لهما. فلما دخل العباس فقال: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الرجل -هما حينئذٍ فيما أفاء الله على رسوله عليه السلام من أموال بني النضير- فقال القوم: اقض بينهما يا أمير المؤمنين وأرح كل واحد منهما من صاحبه، فقال عمر رضي الله عنه: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض، أتعلمون أن رسول الله عليه السلام قال: لا نورث، ما تركنا صدقة؟ قالوا: قد قال ذلك، ثم قال لهما مثل ذلك، فقالا: نعم، قال: فإني سأخبركم عن هذا الفيء: إن الله عز وجل قد خص نييه عليه السلام بشيء لم يعطه غيره، فقال:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} (1). فكانت هذه لرسول الله عليه السلام خاصةً، ثم والله ما اختارها دونكم ولا أستأثر بها عليكم، ولقد قسمها بينكم وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان منه ينفق منه على أهله زرق سنة، ثم يجمع ما بقي منه، فجمع مال الله عز وجل، فلما قبُض رسول الله عليه السلام قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا ولي رسول الله عليه السلام بعده، أعمل فيها بما كان رسول الله عليه السلام يعمل

" ثم ذكر الحديث.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو ابن دينار، عن ابن شهاب فذكر مثله بإسناده، وأثبت أن طلحة كان في القوم ولم يقل:"وبثها فيكم".

حدثنا يزيد بن سنان وأبو أمية، قالا: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك بن أنس

فذكر بإسناده مثله. وقال: "فكان ينفق منها على أهله".

حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن سفيان وورقاء، عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة".

(1) سورة الحشر، آية:[6].

ص: 491

قالوا: ففي حديث أبي هريرة هذا ما يدل على أنها كانت صدقات في عهد رسول الله عليه السلام؛ لقوله: "بعد مؤنة عاملي" وعامله لا يكون إلا وهو حي، قالوا: ففي هذه الآثار ما قد دل على أن الصدقة لبني هاشم حلال؛ لأن رسول الله عليه السلام وأهله -وفيهم فاطمة بنته- قد كانوا يكون من هذه الصدقة في حياة رسول الله عليه السلام، فدل ذلك على إياحة سائر الصدقات لهم؛ فالحجة عليهم في ذلك أن تلك الصدقة كصدقات الأوقاف، وقد رأينا ذلك يحل للأغنياء، ألا ترى أن رجلًا لو أوقف داره على رجل غني أن ذلك جائز ولا يمنعه ذلك غناه؟ وحكم ذلك خلاف سائر الصدقات من الزكوات والكفارات وما يتقرب به إلى الله عز وجل، فكذلك من كان من بني هاشم ذلك لهم حلال، وحكمه خلاف سائر الصدقات التي ذكرنا.

ش: أي: فإن احتج محتج من أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من إباحة الصدقة على بني هاشم بالأحاديث التي رويت عن عائشة وعمر بن الخطاب وأبي هريرة رضي الله عنهم؛ لأن في هذه الأحاديث ما قد دل على أن الصدقة حلال لبني هاشم، وذلك لأن رسول الله عليه السلام وأهله -وفيهم فاطمة الزهراء بنته- قد كانوا يأكلون من هذه الصدقة في حياة رسول الله عليه السلام، وأجاب عن ذلك بقوله:"فالحجة عليهم في ذلك" أي: فالحجة على أهل المقالة الأولى في احتجاجهم: أن تلك الصدقة التي كانوا يأكلون منها لم تكن كسائر الصدقات من الزكوات والكفارات ونحوهما مما يتقرب به إلى الله عز وجل وإنما كانت تلك الصدقة كصدقة الأوقاف، وصدقات الأوقاف تحل للأغنياء؛ والدليل على ذلك أن رجلًا إذا وقف داره أو بستانه على رجل غني فإن ذلك جائز، ولا يمنع صحة الوقف غنى الموقوف عليه.

هذا الذي ذكره الطحاوي.

وذكر في "الاختيار": ولا يجوز الوقف على الأغنياء وحدهم؛ لأنه ليس بقربة ولا يستجلب الثواب، فصار كالصدقة، ولو وقف على الأغنياء وهم يحُصون ثم

ص: 492

مَن بعدهم على الفقراء جاز، ويكون كما شرط؛ لأنه قربة في الجملة بأن انقرض الأغنياء، وفي "فتاوى الحسني": ولو وقف أرضا على أهل بيت النبي عليه السلام، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأنه لا تحل لهم الصدقة، ويجب أن يجوز؛ لأنه صدقة التطوع فتحل لهم كما تحل للغني.

أما حديث عائشة رضي الله عنها فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر أبي الوليد المصري أمير مصر لهشام بن عبد الملك بن مروان مولى الليث بن سعد من فوق، ثقة ثبت، روى له البخاري والترمذي والنسائي، واستشهد به مسلم في حديث واحد.

وهو يروي عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه مسلم (1): ثنا زهير بن حرب وحسن الحلواني، قالا: ثنا يعقوب ابن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي عليه السلام أخبرته: "أن فاطمة بنت رسول الله عليه السلام سألت أبا بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله عليه السلام أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله عليه السلام مما أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر: إن رسول الله عليه السلام قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، قال: وعاشت بعد رسول الله عليه السلام ستة أشهر وكانت فاطمة رضي الله عنها تسأل أبا بكر رضي الله عنه نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر ذلك عليها، وقال: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله عليه السلام يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس رضي الله عنهما، فغلبه عليها علي، وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر رضي الله عنه وقال:

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1381 رقم 1759).

ص: 493

هما صدقة رسول الله عليه السلام، كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى مَن ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم".

الثاني: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمَّد ابن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني، قال: ثنا الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة -زوج النبي عليه السلام- أنها أخبرته:"أن فاطمة بنت رسول الله عليه السلام أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله عليه السلام مما أفأء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن رسول الله عليه السلام قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمَّد من هذا المال، وإني -والله- لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله عليه السلام عن حاله التي كانت عليها في عهد رسول الله عليه السلام، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله عليه السلام فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئًا".

الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، شيخ الطبراني، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث بن سعد

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (2): ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: "أن فاطمة بنت النبي عليه السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله عليه السلام مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر: إن رسول الله عليه السلام قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمَّد عليه السلام في هذا المال، وإني -والله- لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله عليه السلام عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله عليه السلام، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله

(1)"سنن أبي داود"(3/ 142 رقم 2968).

(2)

"صحيح البخاري"(4/ 1549 رقم 3998).

ص: 494

- عليه السلام، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئًا، فوجدت فاطمة على أبي بكر رضي الله عنهما في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي عليه السلام ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي رضي الله عنه ليلًا، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي رضي الله عنه من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر عليٌّ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر: أن (تأتينا)(1) ولا يأتنا أحد معك كراهية، لمحضر عمر رضي الله عنه، فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي؟! والله لآتينهم، فدخل عليهم أبو بكر رضي الله عنه فتشهد عليٌّ رضي الله عنه فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله تعالى، ولم نَنْفَسْ عليك خيرًا ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله عليه السلام نصيبنا، حتى فاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله عليه السلام أحب إليَّ أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آلُ فيها عن الخير، ولم أترك أمرًا رأيت رسول الله عليه السلام يصنعه فيها إلا صنعته.

فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي رضي الله عنه وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذره، ثم استغفر وتشهد علي رضي الله عنه فعظم حق أبي بكر وحدَّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسةً على أبي بكر ولا إنكارًا للذي فضله الله به، ولكنَّا كنَّا نرى لنا في هذا الأمر نصيبًا، فاستبد علينا، فوجدنا في أنفسنا. فسُرَّ بذلك المسلمون وقالوا: أصبت. وكان المسلمون إلى علي رضي الله عنه قريبًا حين راجع الأمر المعروف"، انتهى.

قوله: "فيما أفاء الله على رسوله" أي: ما أعطى الله رسوله من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد، وهو من الفيء، وهو الغنيمة. قال الجوهري: الفيء: الغنيمة. تقول منه: أفاء الله على المسلمين مال الكفار، يُفيء إفاءةً.

(1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح البخاري": ائتنا.

ص: 495

وقال ابن الأثير: أصل الفيء: الرجوع، يقال: فاء يفيء فئةً وفُئْوًا، كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم، ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال: فيء؛ لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق.

قوله: "وفدك" بفتح الفاء والدال وفي آخره كاف. وهو اسم قرية بخيبر. وفي "المطالع": فدك مدينة بينها وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاث مراحل.

قوله: "إنا لا نُوَرث" على صيغة المجهول.

قوله: "أن أزيغ" من الزيغ وهو الضلال، وأصله الميل، ومنه: زاغت الشمس أي: مالت إلى الغروب.

قوله: "فوجدت فاطمة على أبي بكر رضي الله عنهما" أي: غضبت عليه، يقال: وَجَد عليه وَجْدًا ومُوجِدَةً إذا غضب عليه، وَوَجَدْت عليه وَجْدًا: حزنت، وَوَجَدْت من الحب وَجْدًا. كله بالفتح. ووجد من الغني جدةً وَوُجْدًا -بالضم- وَوِجْدًا -بالكسر- لغة. ووجدت ما طلبت وجدانًا ووجودًا.

قوله: "لم نَنْفَس عليك خيرًا" بفتح الفاء، من نَفِشت عليه بالشيء أَنْفَسُ -من باب عَلِمَ يَعْلَمُ- نفاسة إذا لم أره أهلًا، والتنافس: التباغض والتحاسد.

قوله: "استبددت" أي: استقللت.

ويستفاد منه أحكام:

الأول: فيه أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، ولهذا كان النبي عليه السلام يأخذ قوت عامه من المواضع التي حَبَّسها في المدينة وفدك ومما بقي من خمس خيبر ثم يجعل ما فضل في الكراع والسلاح. ولا يقول بالميراث والتمليك أحد من أهل السنة إلا الروافض، فإنهم يقولون بذلك، وليس قولهم مما يشتغل به ولا يحكى مثله لما فيه من الطعن علي السلف، والمخالفة لسبيل المؤمنين.

ص: 496

وقال أبو عمر: وأما علماء المسلمين فعلى قولين:

أحدهما: وهو الأكثر وعليه الجمهور: أن النبي عليه السلام لا يورث، وما ترك صدقة.

والآخر: أن نبينا عليه السلام لم يورث؛ لأنه خصه الله تعالى بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته كما خصه في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره. وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن علية، وسائر علماء المسلمين على القول الأول.

فإن قيل: كيف سكنت أزواج النبي عليه السلام بعد وفاته في مساكنهن اللاتي تركهن رسول الله عليه السلام فيهن إن كن لم يرثنه، وكيف لم يخرجن عنها؟

قلت: لأن ذلك كان من مؤنتهن التي كان رسول الله عليه السلام استثناها لهن كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة".

والدليل على ذلك أن مساكنهم لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كانت تلك ملكًا لهن كان لا شك قد ورثها عنهن ورثتهن، وترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن ملكًا لهن وإنما كان لهن سكنى حياتهن، فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه كما جعل كذلك في الذي فضل من نفقتهن في تركة رسول الله عليه السلام، لما مضين لسبيلهن أضيف إلى أصل المال، فصرف في مصالح المسلمين مما يعم جميعهم نفعه.

فإن قيل: كيف تقول: الأنبياء لا يورثون، وقد قال تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} (1)، وقال أيضًا مخبرًا عن زكرياء:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (2)؟

(1) سورة النمل، آية:[16].

(2)

سورة مريم، آية:[5، 6].

ص: 497

قلت: سليمان عليه السلام لم يرث من داود عليه السلام مالًا خلفه داود عليه السلام بعده، وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب هكذا.

وقال أهل العلم بتأويل القرآن والسنة: فورث سليمان من داود الحكمة والنبوة وفضل القضاء، وعلى هذا جماعة أهل العلم وسائر المسلمين إلا الروافض، وكذلك قالوا في قوله:{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (1) لا يختلفون في ذلك إلا ما روي عن الحسن أنه قال: يرثني مالًا ويرث من آل يعقوب النبوة والحكمة.

والدليل على صحة ما قال علماء المسلمين في تأويل هاتين الآيتين الكريمتين ما ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال: "إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة".

وكل قول يخالف قول رسول الله عليه السلام فهو مدفوع مهجور، فتكون كل واحدة من الآيتين مخصوصة بهذا الحديث.

الثاني: فيه دليل على صحة ما ذهب إليه الفقهاء من تجويز الأوقاف في الصدقات المحبَّسة، وأن للرجل أن يُحْبِّس ماله ويوقفه على سبيل من سُبُل الخيرات يجري عليه نفعه من بعد وفاته.

الثالث: فيه دليل على اتخاذ الأموال واكتساب الضياع وما يسعى الإنسان لنفسه وعماله وأهله ونوائبه وما يفضل عن الكفاية.

الرابع: فيه رد على الصوفية ومَن ذَهب مذهبهم في قطع الاكتساب المباح.

الخامس: فيه دليل على أن للقاضي أن يقضي بعلمه؛ لما قضى أبو بكر رضي الله عنه في ذلك بما كان عنده من العلم.

وذهب إلى ذلك أبو يوسف ومحمد وأجازا للقاضي أن يقضي بعلمه.

السادس: فيه دليل على قبول خبر الواحد العدل؛ لأنهم لم يردوا على أبي بكر قوله، ولا رد أزواج النبي عليه السلام على عائشة قولها ذلك وحكايتها لهن.

(1) سورة مريم، آية:[6].

ص: 498

فإن قيل: لو سلمت فاطمة وعلي والعباس رضي الله عنهم ذلك لقول أبي بكر رضي الله عنه ما أتي علي والعباس في ذلك عمر بن الخطاب في خلافته يسألانه ذلك.

قلت: تشاجر علي وعباس واختلافها إلى عمر رضي الله عنه مشهور، لكنهما لم يسألا ذلك ميراثا وإنما سألا ذلك من عمر رضي الله عنه ليكون بأيديهما منه ما كان رسول الله عليه السلام يعمل فيه في حياته.

وأما حديث عمر رضي الله عنه فأخرجه أيضًا من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن مهدي بن مالك شيخ الترمذي وابن ماجه، عن عبد الرزاق بن همام صاحب المصنف، عن معمر بن راشد، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان النضري -بالنون والضاد المعجمة- المختلف في صحبته- قال: "أرسل إليَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه

" إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): نا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد- قال ابن رافع: نا، وقال الآخران: أنا- عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: "أرسل إليَّ عمر بن الخطاب فقال: إنه قد حضر أهل أبياتٍ من قومك

" إلى آخره نحوه.

وقال مسلم أيضًا (2): حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، قال: ثنا جويرية، عن مالك، عن الزهري، أن مالك بن أوس حدثه قال: "أرسل إليَّ عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار، قال: فوجدته في بيته جالسًا على سرير مفضيًا إلى رماله، متكئًا على وسادة من أدم، فقال لي: يا مال، إنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فأقسمه بينهم. قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري؟ قال: خذه يا مال. قال: فجاء يرفأ، فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1379 رقم 1757).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1377 رقم 1757).

ص: 499

وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ فقال: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاءه، فقال: هل لك في عباس وعلي؟ قال: نعم، فأذن لهما، فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب [الآثم](1) الغادر الخائن، فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهم وارحمهم، فقال مالك بن أوس: فخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك، فقال عمر رضي الله عنه ابتداءً: أنشدكم بالله الذي [بإذنه](1) تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله عليه السلام قال: لا نورث، ما تركنا صدقة؟ قالوا: نعم. ثم أقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول الله عليه السلام قال: لا نورث ما تركنا مصدقة؟ قالا: نعم. قال: عمر: إن الله كان خصَّ رسوله بخاصة لم يخصص بها أحدًا غيره، قال:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (2) -ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا-. قال: فقسم رسول الله عليه السلام بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم حتي بقي هذا [المال](3)، فكان رسول الله عليه السلام يأخذ منه نفقة سَنِتِه ثم يجعل ما بقي أسوة المال، ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم. ثم نشد عباسًا وعليًّا بمثل ما نشد القوم، أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم. قال: فلما توفي رسول الله عليه السلام قال أبو بكر: أنا صلي رسول الله عليه السلام، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها؟! قال أبو بكر رضي الله عنه: قال رسول الله عليه السلام: لا نورث، ما تركنا صدقة فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا [والله يعلم إنه لصادق بارّ راشد تابع للحق ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله عليه السلام، وولي أبو بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا](4) والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق فوليتها، ثم جئتني أنت وهذا

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

(2)

سورة الحشر، آية:[7].

(3)

في "الأصل، ك": "الملك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

(4)

سننه من "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

ص: 500

وأنتما جميعٌ وأمركما واحد، فقلتما ادفعها إلينا. فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله عليه السلام فأخذتماها بذلك. قال: أكذلك؟ قالا: نعم. قال: ثم جئتماني لأقضي بينكما ولا والله لا أفضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فرداها إليَّ".

الثانى: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي شيخ أبي داود والبخاري في غير "الصحيح"، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمَّد ابن مسلم الزهري.

وأخرجه مسلم (1): عن ابن أبي شيبة، عن سفيان، عن عمرو، عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر رضي الله عنه قال:"كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي عليه السلام خاصةً، فكان يُنفق على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله".

الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أبي أمية محمَّد بن مسلم الطرسوسي، كلاهما عن بشر بن عمر بن الحكم الزهراني البصري، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن مالك بن أوس.

وأخرجه الترمذي (2): ثنا الحسن بن [علي الخلال](3)، قال: نا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: "دخلت على عمر بن الخطاب، ودخل عليه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، ثم جاء علي والعباس يختصمان، فقال عمر لهم: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1376 رقم 1757).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 158 رقم 1610).

(3)

في "الأصل، ك": خلّال، والمثبت من "جامع الترمذي".

ص: 501

رسول الله عليه السلام قال: لا نورث، ما تركنا صدقة؟ قالوا: نعم قال عمر: فلما توفي رسول الله عليه السلام قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله عليه السلام، فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر، تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها. فقال أبو بكر: إن رسول الله عليه السلام قال: لا نورث، ما تركنا صدقة. والله يعلم أنه صادق بارّ راشد تابع للحق .... ".

وفي الحديث أبي، قصة طويلة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث مالك بن أنس.

وأخرجه أبو داود (1) أيضًا مطولًا جدًّا: عن الحسن بن علي ومحمود بن يحيى بن فارس، عن بشر بن عمر الزهراني، قال: حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس: "أرسل إليَّ عمر رضي الله عنه أن تعالى النهار فجئته فوجدته جالسًا على سرير مفضيا إلى رماله

" الحديث نحو رواية مسلم التي ذكرناها.

قوله: "برضخ" بالضاد والخاء المعجمتين، وهو العطية القليلة، قال الجوهري: رضخت له رضخًا وهو العطاء ليس بالكثير.

قوله: "يرفا" بفتح الياء آخر الحروف وسكون الراء، وبالفاء المقصورة، وهو اسم لمولى عمر بن الخطاب، وكان حاجبًا له.

قوله: "أنشدكم الله" يقال: نشدتك الله، وأنشدك الله وبالله، وناشدتك الله وبالله أي: سألتك وأقسمت عليك، ونشدته نِشدة ونِشدانًا ومناشدةً، وتعديته إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت حيث قالوا: نشدتك الله وبالله، كما قالوا: دعوت زيدًا وبزيد وإما أنهم ضمنوه معنى ذكرت، فأما أنشدتك بالله مخطأ.

قوله: "فما أوجفتم عليه" من الإيجاف وهو سرعة السير، وقد أَوَجَف دابته يوجفها إيجافًا إذا حثها، والوجيف ضرب من السير سريع، وقد وَجَفَ البعير يَجِفُ وَجْفًا ووجيفًا.

(1)"سنن أبي داود"(3/ 139 رقم 2963).

ص: 502

فإذا قلت: هذا مما لم يوجف عليه أي: لم يؤخذ بغلبة جيش.

قوله: "حين تعالى النهار" أي: ارتفع.

قوله: "إلى رماله" رمال السير ورمله: ضفر نسجه من وجهه، وسرير مرمول ومرمل منسوج من السعف بالحبال، يقال: رملته وأرملته.

قوله: "يا مال" ترخيم مالك، كما يقال: يا حار في حارث.

قوله: "قد دفَّ" بفتح الدال وتشديد الفاء من الدف وهو سير ليس بالشديد في جماعة، ومنه: دَفَّت دافة.

وأما حديث أبي هريرة ت فأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس وقد ينسب إلى جده، غالبًا شيخ البخاري ومسلم وأبي داود.

عن ابن شهاب الحناط الكوفي الأصغر- واسمه عبد ربه بن نافع الكناني، روى له الجماعة سوى الترمذي.

عن سفيان الثوري. وعن ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري الكوفي -نزيل المدائن- روى له الجماعة.

كلاهما عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان المدني روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج روى له الجماعة، عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن أبي الزناد، عن الأعوج، عن أبي هريرة: أن رسول الله عليه السلام قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة".

وحدثنا محمَّد بن أبي عمر المكي، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزناد

بهذا الإسناد نحوه.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1382 رقم 1760).

ص: 503

وأخرجه أبو داود (1): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة نحوه.

قوله: "لا يقتسمُ" بضم الميم أي: ليس يقتسم ورثني دينارًا؛ لأنني لا أتخلف دينارًا ولا درهمًا ولا شاة ولا بعيرًا. وفي رواية يحيى وابن كنانة: "دنانير" على الجمع، وأما سائر الرواة عن مالك في "المؤطإ" لما يقولون:"دينارًا".

قال أبو عمر: هو الصواب؛ لأن الواحد في هذا الموضع أعم عند أهل اللغة؛ لأنه يقتضي الجنس والقليل والكثير.

قوله: "ومؤنة عاملي" أراد بعامله: خادمه في حوائجه، ووكيله وأجيره ونحو ذلك.

ص: ثم قد جاءت -بعد هذه- الآثار عن رسول الله عليه السلام متواترة بتحريم الصدقة على بني هاشم، فمما جاء في ذلك: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن بُرَيد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي، قال:"قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما: ما تحفظ من رسول الله عليه السلام؟ قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة فجعلتها في فيّ، فأخرجها رسول الله عليه السلام بلعابها فألقاها في التمر. قال رجل: يا رسول الله، ما كان عليك في هذه التمرة لهذا الصبي؟ قال: إنا آل محمَّد لا تحل لنا الصدقة".

حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، عن ثابت بن عمارة، عن ربيعة بن شيبان، قال: قلت للحسن

فذكر نحوه إلا أنه قال في آخره: "ولا لأحد من أهله".

ش: أي: ثم قد جاءت بعد هذه الأحاديث التي احتج بها ذاك المحتج من أهل المقالة الأولى، الآثار الأُخر حال كونها متواترة -أي متكاثرة- بتحريم الصدقة على بني هاشم. فمما جاء في ذلك عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

(1)"سنن أبي داود"(3/ 144 رقم 2974).

ص: 504

وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن بُريد -بضم الباء وفتح الراء المهملة- ابن أبي مريم، واسمه مالك بن ربيعة السلولي البصري وثقه يحيى وأبو زرعة والنسائي وروي له الأربعة.

عن أبي الحوراء -بالحاء والراء المهملتين- واسمه ربيعة بن شيبان السعدي البصري، وثقه النسائي وابن حبان، وروى له الأربعة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني بُريد بن أبي مريم السلولي، عن أبي الحوراء السعدي قال:"قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما: ما تذكر من رسول الله عليه السلام؟ قال: أذكر أني أخذت تمرةً من تمر الصدقة فألقيتها في فمي، فانتزعها رسول الله عليه السلام بلعابها وألقاها في التمر. فقال له رجل: ما عليك لو أكل هذه التمرة؟! قال: إنا لا نأكل الصدقة".

الثاني: عن أبي بكرة بكار وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن ثابت بن عمارة الحنفي أبي مالك البصري وثقه ابن معين، وقال النسائي: لا بأس به. روى له أبو داود والترمذي والنسائي.

عن ربيعة بن شيبان أبي الحوراء

إلى آخره.

وأخرجه البزار في "مسنده"(2): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا ابن إدريس، قال: نا ثابت بن عمارة، عن ربيعة بن شيبان قال:"قلت للحسن: هل تحفظ عن رسول الله عليه السلام شيئًا؟ قال: أدخلني غرفة وأخذت تمرة من تمر الصدقة، فقال: إنها لا تحل لمحمد ولا لأحد من أهله". ثم قال البزار: وهذا الحديث قد روي عن بُريد، ورواه غير واحد بألفاظ مختلفة.

(1)"مسند أحمد"(1/ 200 رقم 1723).

(2)

"مسند البزار"(4/ 178 رقم 1338).

ص: 505

قوله: "في فيّ" أي: في فمي، وفي الفم تسع لغات: فتح الفاء وكسرها وضمها مع تخفيف الميم والنقص، وفتحها وضمها مع تشديد الميم، وفتحها وضمها وكسرها مع التخفيف والقصر. وحكى ابن الأعرابي في تثنيته: فموان وفميان، وحكى اللحياني أنه يقال: فم وأفمام.

واللغة التاسعة النقص، واتباع الفاء الميم في الحركات الإعرابية تقول: هذا فُمُه، ورأيت فَمَه، ونظرت إلى فمِه.

قلت: فعلى هذا يكون للفم أربع مواد: إحداها: ف م ي. والثانية: ف م و، والثالثة: ف م م، والرابعة: ف وهـ، وكلها أصول.

قوله: "إنا آل محمَّد لا تحل لنا الصدقة" جملة اسمية مؤكدة بالنون، والمبتدأ هو قوله:"نا" في "إنا"، وخبره قوله:"لا تحل لنا الصدقة".

وقوله: "آل محمَّد" منصوب كما في قوله: إنا معشر العرب نفعل كذا، ونحن آل فلان كرماء، وهذا مما يجري على طريقة النداء ويقصد به الاختصاص لا النداء، وحاصل ذلك أن النحاة يقولون لمثل هذا: نصب على المدح. فافهم.

ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن كثير، قال: ثنا سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"استعمل أرقم بن أبي أرقم على الصدقات، فاستتبع أبا رافع، فإنهى النبي عليه السلام فسأله، قال: يا أبا رافع إن الصدقة حرام على محمَّد وآل محمَّد، وإن مولى القوم من أنفسهم".

ش: محمَّد بن كثير العبدي البصري شيخ البخاري وأبي داود.

وابن أبي ليلى هو محمَّد بن أبي ليلى الكوفي الفقيه قاضي الكوفة فعن يحيى: ليس بذاك. وقال العجلي: كان صاحب سنة صدوقًا جائز الحديث. روى له الأربعة.

والحكم هو ابن عتيبة روى له الجماعة، ومقسم بن بَجَرَة -بالباء الموحدة والجيم والراء المفتوحات، مولى ابن عباس، روى له الجماعة سوى مسلم.

ص: 506

وأخرجه البيهقي (1) نحوه: من حديث سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مِقسم، عن ابن عباس .. إلى آخره مثله.

وأخرجه أبو داود (2): عن محمَّد بن كثير، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي رافع، عن أبي رافع:"أن النبي عليه السلام بعث رجلًا على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها. قال: حتى آتي النبي عليه السلام فاسأله، فأتاه فسأله فقال: مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة".

وأخرجه الترمذي (3): عن محمَّد بن المثنى، عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة

إلى آخره نحو رواية أبي داود، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.

وأبو رافع مولى النبي عليه السلام اسمه أسلم.

وابن أبي رافع هو عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وأخرجه الحكم في "مستدركه"(4): ثنا أبو بكر محمَّد بن أحمد بن بالويه، نا إسحاق بن الحسن بن ميمون، نا عفان بن مسلم، نا شعبة.

وأنا أحمد بن جعفر القطيعي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا محمَّد بن جعفر، نا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي رافع، عن أبي رافع: "أن رسول الله عليه السلام بعث رجلًا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي رسول الله عليه السلام، فانطلق إلى النبي عليه السلام فسأله فقال: إن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم من أنفسهم

".

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

قوله: "اسْتُعْمل" على صيغة المجهول.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 32 رقم 13023).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 123 رقم 1650).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 46 رقم 657).

(4)

"المستدرك على الصحيحين"(1/ 561 رقم 1468).

ص: 507

وأرقم بن أبي الأرقم صحابي متقدم الإسلام. واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي.

قوله: "فاستتبع أبا رافع" أي طلب أرقم من أبي رافع أن يتبعه في سفره ويصحبه.

قوله: "آل محمَّد" أراد به أهله الأدنون وعشيرته الأقربين.

وفيه من الفوائد: حرمة الصدقة على محمَّد عليه السلام وعلى آله أيضًا تطهيرًا لهم من أوساخ أموال الناس، وعلى مواليهم أيضًا وهم عتقاؤهم، وأن الإمام ينصب شخصًا لجمع الصدقات وضبطها.

ص: حدثنا ابن في داود، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن أسماء، قال: ثنا جويرية ابن أسماء، عن مالك، عن الزهري، أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه، أن عبد المطلب بن أبي ربيعة حدثه، قال: "اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب، فقالا: لو بعثنا هذين الغلامين -لي وللفضل بن العباس- على الصدقة فأديا ما يؤدي الناس وأصاب ما يصيب الناس. قال: فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فوقف عليها، فذكرا له ذلك، فقال علي: لا تفعلا؛ فوالله ما هو بفاعل. فقال ربيعة بن الحارث: ما يمنعك من هذا إلا نفاسةٌ علينا، فوالله لقد نلت صهر رسول الله عليه السلام فما نفساه عليك. فقال علي: أنا أبو حسن القوم أرسلاهما، فانطلقا واضطجع، فلما صلى رسول الله عليه السلام الظهر

سبقناه إلى الحجرة فقمنا عند بابها حتى جاء، فأخد بآذاننا وقال: أخرجا ما تصرِّران، ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش رضي الله عنهما. فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا قال: يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا

النكاح، وقد جئناك لتؤمرنا على بعض الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدون ونصيب كما يصيبون، فسكت حتى أردنا أن نكلمه وجعلت زينب تُلْمع إلينا من وراء الحجاب: أن لا تكلماه. فقال: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمَّد؛ إنما هي أوساخ الناس، ادعوا لي محمية -وكان على الخمس- ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

ص: 508

فجاءاه، فقال لمحمية: أنكح هذا الغلام ابنتك -للفضل بن عباس- فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث: أنكح هذا الغلام ابنتك -لي- فأنكحني، وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا".

ش: إسناده صحيح. ورجاله رجال الصحيحين ما خلا إبراهيم بن أبي داود.

وعبد الله بن محمَّد بن أسماء بن عبيد بن مخارق البصري ابن أخي جويرية بن أسماء شيخ الشيخين وأبي داود.

وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم له صحبة، وهو ابن ابن عم رسول الله عليه السلام.

وأخرجه مسلم (1): عن عبد الله بن محمَّد بن أسماء، عن جويرية، عن مالك

إلى أخره نحوه.

قوله: "اجتمع ربيعة بن الحارث" بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، له صحبة.

قوله: "لي وللفضل بن عباس" بيان لقوله: "هذين الغلامين".

قوله: "فوالله ما هو بفاعل" أي النبي عليه السلام، أراد: أنه لا يسمع كلامكم في هذا ولا يجيب إلى سؤالكم.

قوله: "فانتحاه ربيعة"(2) ليس في كثير من النسخ، ومعناه: عرض له وقصده، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى علي رضي الله عنه.

قوله: "إلا نفاسةً علينا" أي: إلا حسد علينا، من نَفِست الشيء عليه نفاسةً إذا لم تره يستأهله، هذا من باب فعل يَفْعِل بالكسر في الماضي، والفتح في الغابر وأما نَفُس الشيء -بالضم- فمعناه صار مرغوبًا فيه.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 752 - 753 رقم 1072).

(2)

لم يذكر المؤلف هذا القول في "ص" أي المتن، والذي في المتن: فقال ربيعة. والله أعلم.

ص: 509

وأما نُفِسَت المرأة فهو بالكسر أيضًا، ويقال نُفِسَت على ما لم يسم فاعله.

قوله: "فما نَفِسْناه" بكسر الفاء وسكون السين أي لم نحسدك فيه.

قوله: "أبو حسن القوم" قال عياض في "شرح مسلم": كذا رويناه عن أبي جعفر بالإضافة، وبالواو، أي: أنا عالم القوم وذو رأيهم ونحو هذا.

ورويناه عن أبي بحر "أنا أبو حسنٍ" بالتنوين وبعده "القوم" بالرفع أي: أنا من علمتم رأيه أيها القوم، وسمعناه على القاضي الشهيد:"القرم" بالراء على النعت، والقرم: السيد، وأصله فحل الإبل، وكذا رويناه عن أبي جعفر من طريق الباجي، وهو الذي صححه الخطابي، قال: أي المقدم في الرأي والمعرفة بالأمور كالفحل.

وقال ابن الأثير: القرم: فحل الإبل، أي أنا فيهم بمنزلة الفحل في الإبل.

قال الخطابي: وأكثر الروايات: "القوم" بالواو، ولا معنى له، وإنما هو بالراء: أي المقدم في المعرفة وتجارب الأمور.

وقوله: "واضطجع" أي: علي رضي الله عنه.

قوله: "أخرجا ما تصرران" أي أظهراه واجهرا به، وهو أمر من الإخراج و"ما تصرران" في محل نصب؛ لأنه مفعول لقوله:"أخرجا"، وأصله: ما تصررانه، وحذف المفعول سائغ شائع.

ومعنى ما تصرران: ما تجمِّعانه في صدوركما من الكلام، وكل شيء جمعته، فقد صررته، وأصله من الصّر وهو الشد، ومنه الصرَّة التي تشد فيها الدراهم والدنانير.

وقال عياض: وروايتنا عن أكثر شيوخنا: تسرران -بالسين- من السرّ خلاف الجهر.

قال: ورويناه من طريق السمرقندي: تصدران ووجهه بعيد، ورواه الحميدي في "صحيحه": تصوران أي: ما تزورانه من صورة حديثكما.

قوله: "فتواكلنا الكلام" أي وكل بعضنا إلى بعض، وحاصله أن يرمي بعضهم على بعض في الكلام.

ص: 510

قوله: "وقد بلغنا النكاح" أي: الحلم، قال تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (1).

قوله: "تلمع إلينا من وراء الحجاب" أي: تشير إلينا من خلف الستارة، يقال: لمع وألمع: إذا أشار بثوبه أو بيده.

قوله: "إنما هي أوساخ الناس" بيان العلة في تحريم الصدقة عليهم، وإنما سماها أوساخًا لأنها تطهير لأموالهم.

قوله: "ادعوا لي محمية" أي: أطلباه لي.

ومَحْمَّية -بفتح الميم الأولى وسكون الحاء المهملة وكسر الميم الثانية وفتح الياء آخر الحروف- ابن جزء -بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة- بن عبد يغوث الزُّبيدي -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف، وبالدال المهملة- وكان عليه السلام استعمله على الأخماس.

قوله: "ونوفل بن الحارث" بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عم رسول الله عليه السلام، أُسِر يوم بدر كافرًا وفداه عمه العباس، وأسلم وأعان رسول الله عليه السلام يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، توفي بالمدينة سنة خمس عشرة.

قوله: "أصدق عليهما" بفتح الهمزة وسكون الصاد وكسر الدال، معناه: أمهر عنهما من الخمس كذا وكذا درهمًا أو دينارًا ولم يبين مقداره.

ويستفاد منه أحكام:

تحريم الصدقة على آل محمَّد، وقال عياض: قوله: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد" دليل على أنها لا تحل لهم بوجه وإن كانوا عاملين عليها، كما لم يحل لهم إذا كانوا محتاجين لها إكرامًا لهم عنها، وإلى هذا ذهب أبو يوسف.

وذهب آخرون إلى أنها تجوز للعالمين منهم؛ لأنها أجرة لعملهم، وإليه ذهب الطحاوي، وسيجيء الكلام فيه- إن شاء الله تعالى.

(1) سورة النساء آية: [6].

ص: 511

وفي "المغني": وظاهر كلام الخرقي أن ذوي القربى يمنعون الصدقة وإن كانوا عاملن. وذكر في باب: "قسم الفيء والصدقة" ما يدل على إباحة الأخذ لهم عمالةً، وهو قول أكثر أصحابنا.

وقال صاحب "البدائع": ولو كان العامل هاشميًّا لا تحل له عندنا، وعند الشافعي تحل، واحتج بما روي "أنه عليه السلام بعث عليًّا رضي الله عنه إلى اليمن مصدقًا وفرض له" ولو لم تحل للهاشمي لما فرض له؛ ولأن العمالة أجرة العمل بدليل أنها تحل للغني، فيستوي فيها الهاشمي وغيره، ثم استدل صاحب "البدائع" لأصحابنا بالحديث المذكور، وأجاب عن حديث علي رضي الله عنه بأنه لا حجة له فيه؛ لأن فيه أنه فرض له، وليس فيه بيان المفروض أنه من الصدقات، فيحتمل أنه كان فرض له من بيت المال؛ لأنه كان قاضيًا، والله أعلم.

وفيه دلالة على جواز تبرع الرجل عن صداق المرأة إذا تزوجها رجل، وأنه يسقط عن الزوج.

وأن الرجل إذا رأى غيره يسعى فيما لا ينبغي يمنعه من ذلك ويردعه؛ لأنه في الحقيقة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه إشارةإلى فضيلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: فإن قال قائل: فقد أصدق عنهما من الخمس وحكمه حكم الصدقات.

قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك من سهم ذوي القربى في الخمس، وذلك خارج من الصدقات المحرمة عليهم؛ لأنه إنما حرم عليهم أوساخ الناس، والخمس ليس كذلك.

ش: تقرير السؤال من جهة أهل المقالة الأولى: إنكم قلتم: إن الصدقة حرام على بني هاشم وقد قال عليه السلام لمحمية بن جزء: "أصدق عنهما" فقد أصدق عنهما أي: عن الفضل بن عباس وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث من الخمس، وحكم الخمس حكم الصدقات. والجواب ظاهر.

ص: 512

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا شريك، عن عبيد الُمكَتِّب، عن أبي الطفيل، عن سلمان رضي الله عنه قال:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فردها، وأتيته بهدية فقبلها".

ش: إسناده صحيح.

ومحمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، وشريك بن عبد الله النخعي، وعبيد ابن مهران المُكتِّب الكوفي، وثقه يحيى وأبو حاتم والنسائي وروي له، وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي وسلمان الفارسي الصحابي رضي الله عنهما.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يحيى بن إسحاق، أنا شريك، عن عبيد المكتِّب، عن أبي الطفيل، عن سلمان قال:"كان النبي عليه السلام يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة".

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بُهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، قال: ثنا محمَّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، قال: حدثني سلمان الفارسي

وذكر حديثًا طويلًا ذكر فيه: "أنه كان عبدًا قال: فلما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله عليه السلام وهو بقباء -فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه- فقلت له: إنه بلغني أنه ليس بيدك شيء وأن معك أصحابًا لك، وأنتم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة، فيما ذكر لي مكانبهم رأيتكم أحق به، ثم وضعته له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا وأمسك هو، ثم أتيته بعد أن تحول إلى المدينة وقد جمعت شيئًا، فقلت: رأيتك لا تأكل الصدقة وقد كان عندي شيء أحببت أن كرمك به كرامةً ليس بصدقة، فأكل وأصحابه".

ش: إسناده صحيح.

(1)"مسند أحمد"(5/ 437 رقم 23754).

ص: 513

ويوسف بن بهلول التميمي أبو يعقوب الأنباري نزيل الكوفة، شيخ البخاري وأحد أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه.

وعبد الله بن إدريس بن يزيد الزعافري الكوفي شيخ أحمد وابن أبي شيبة، روى له الجماعة.

ومحمد بن إسحاق المدني، روى الجماعة، البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات.

وعاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري الظفري، روى له الجماعة.

ومحمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأنصاري، ولد في حياة النبي عليه السلام ولم تصح له رؤية ولا سماع من النبي عليه السلام، وعن البخاري أن له صحبة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1) مطولًا جدًّا: ثنا يعقوب، نا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، حدثني سلمان الفارسي قال: "كنت رجلًا فارسيًّا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يقال لها: جَيْ، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطِن النار [الذي] (2) يوقدها لا يتركها تخبو ساعةً. قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم وعن ضيعتي فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلماه مررت بهم، وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها

(1)"مسند أحمد"(5/ 441 - 443 رقم 23788).

(2)

في "الأصل، ك": التي، والمثبت من "مسند أحمد".

ص: 514

فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله. قال: فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله مازلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بُني ليس في ذلك الدين خين دينك ودين آبائك خير منه. قال: قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا. قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا ثم حبسني في بيته. قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركبٌ من الشام تجارٌ من النصارى فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركبٌ من الشام تجارٌ من النصارى، قال: فأخبروني بهم. قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم. قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: مَن أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في

الكنيسة، قال: فجئته فقلت: إني رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك. قال: فادخل، فدخلت معه قال: فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء كثيرة اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. قال: وأبغضته بغضا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، قال: فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه

مكانه، قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلًا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلًا ونهارًا منه، قال: فأحببته حبًّا لم أحبه مَنْ قبله فأقمت معه زمانًا ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت

ص: 515

معك، وأحببتك حبًّا لم أحبه من قبلك، وقد جاءك ما ترى من أمر الله فإلى من توصي به وما تأمرني؟ قال: أيْ بني والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجل بالموصل، وهو فلان فهو على ما كنت عليه، فالحق به، قال: فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن أحلق بك، وأخبرني أنك على أمره، قال: فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث إلى أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، قال: فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه إلا رجلًا بنصيبين [وهو فلان فالحق به، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين](1)، فجئته فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، قال: فأقم عندي، فأقمت عنده ووجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبثت أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان، إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى مَن توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلًا بعمورية فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فإنه على أمرنا، قال: فلما مات وغُيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى صارت لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله عز وجل، فلما حضر قلت: يا فلان، إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين

(1) سننه من "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

ص: 516

حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال: ثم مات وغُيِّب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مرَّ بي نفرٌ من كلب تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى، أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم فأعطيتموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل من يهود عبدًا، فكنت عنده ورأيت النخل، ورجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفس، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عمٍ له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث الله رسوله عليه السلام، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذقٍ لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس إذْ أقبل ابن عمٍ له حتى وقف عليه، فقال فلانٌ: قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجمعون على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعم أنه نبي قال: فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت سأسقط على سيدي، قال: ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدي فلكمني لكمةً شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك. قال: قلت: لأي شيء؟ إنما أردت أن استثبته عما قال، وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله عليه السلام وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت: إنه بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحابٌ لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم. قال: فقربته

إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحول رسول الله عليه السلام إلى المدينة، ثم جئت به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله عليه السلام منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، قال: ثم جئت رسول الله عليه السلام وهو ببقيع الغرقد قال: وقد تبع جنازةً

ص: 517

من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، وهل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رأني رسول الله عليه السلام استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، قال فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفت، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله عليه السلام: تحول، فتحولت فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله عليه السلام أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله عليه السلام بدر وأحد، قال: ثم قال لي رسول الله عليه السلام: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أجبيها له بالفقير وبأربعين أوقية، فقال رسول الله عليه السلام لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين والرجل بخمس عشرة والرجل بعشرة يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله عليه السلام: اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي، قال: ففقرت لها وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله عليه السلام معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله عليه السلام بيده، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي عليَّ المال، فَاُتيَ رسول الله عليه السلام بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: ما فعل الفارسي؟ قال: فدُعيت له، فقال: خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان، قال: فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليّ؟ قال: خذها فإن الله سيؤدي بها عنك، قال: فأخذتها فوزنت لهم منها -والذي نفس سليمان بيده- أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم وعُتِقْت، وشهدت مع رسول الله عليه السلام الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد".

قوله: "جَيْ" بالجيم المكسورة والمفتوحة.

قوله: "قطن النار" أي: خازن النار.

قوله: "لا تخبو ساعةً" أي: لا يتركها تسكن ساعةً.

ص: 518

قوله: "الأسقف" من السقِّيفى كالخليفة من الخُلِّيفى وهي مرتبة من قِبَل الملك، والسقيف في اللغة: طول في انحناء، ويحتمل أن يسمى أسقفًا لخضوعه وانحنائه.

قوله: "سبع قلال" جمع قلة -بضم القاف- وهي معروفة.

قوله: "بين حرتين" تثنية حرة -بفتح الحاء المهملة- وهي الأرض ذات الحجارة السود.

قوله: "عَذْق" بفتح العين وسكون الذال: النخلة.

قوله: "العُرَوَاء" بضم العين المهملة وفتح الراء وهي الحمى النافض، والبُرحاء: الحمى الصالب، والرُّحضاء: الحمى الذي يأخذ بالعرق، والمُطَوَاء: الذي يأخذ بالتميُّل، والثوباء: الذي يأخذ بالتئاؤب.

قوله: "بالفقير" بالفاء ثم القاف، قال ابن الأثير: فقير النخلة حفرة تحفر للفسيلة إذا حولت لتغرس فيها.

"والوَدِيَّة": بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء آخر الحروف: إذا خرجت الخلة من النواة فهي غريسة، ثم يقال لها: وَدِيّه ثم فَسِيلة ثم إشاءة.

قوله: "فَفُقِّر لها" أي: حُفِرَ لها، وكذا معنى قوله:"ففقرت لها" أي: حفرت لها، ومادة هذه الكلمة بتقديم الفاء على القاف كما قلنا.

ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي رافع مولى رسول الله عليه السلام، عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام بعث رجلًا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها. فقال: حتى أستأذن رسول الله عليه السلام، فأتى النبي عليه السلام فذكر ذلك له، فقال: إن آل محمَّد لا تحل لهم الصدقة، وإن مولى القوم من أنفسهم".

ش: إسناده صحيح. والحكم هو ابن عتيبة، واسم ابن أبي رافع عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي رضي الله عنه. واسم أبي رافع أسلم مولى النبي عليه السلام، والرجل الذي هو من بني مخزوم هو الأرقم بن أبي الأرقم.

ص: 519

والحديث أخرجه الترمذي (1) وقال: حسن صحيح.

وأخرجه الحكم أيضًا (2) وصححه. وقد ذكرناه عن قريب.

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ورقاء بن عمر، عن عطاء بن السائب قال:"دخلت على أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما فقالت: إن مولى لنا يقال له: هرمز أو كيسان أخبرني أنه مرَّ على رسول الله عليه السلام فدعاني فجئت، فقال: يا فلان إنَّا أهل بيتٍ قد نُهينا أن نأكل الصدقة، وإن مولى القوم من أنفسهم، فلا تأكل الصدقة".

ش: ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري، روى له الجماعة. وعطاء بن السائب ابن مالك أبو محمَّد الكوفي، وكان اختلط، فمن سمع منه قديمًا فهو صحيح، وما سمع منه جرير ليس بصحيح، قاله ابن معين، روى له البخاري حديثًا واحدًا متابعةً والأربعة.

وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولدت قبل وفاة النبي عليه السلام، وأمها فاطمة بنت رسول الله عليه السلام، وتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأصدقها أربعين ألفً.

وهرمز -وقيل: كيسان، وقيل: مهران، وقيل: ميمون- مولى النبي عليه السلام، وقيل: مولى آل أبي طالب.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3) وقال: مهران: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب قال:"أتيتُ أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما بشيء من الصدقة، فردتها وقالت: حدثني مولى للنبي عليه السلام يقال له: مهران- أن رسول الله عليه السلام قال: إنا آل محمَّد لا تحل لنا الصدقة، ومولى القوم منهم".

(1)"جامع الترمذي"(3/ 46 رقم 657).

(2)

"المستدرك على الصحيحين"(1/ 561 رقم 1468) وقد تقدم.

(3)

"مسند أحمد"(3/ 448 رقم 15746).

ص: 520

وأخرجه البغوي في "معجم الصحابة" وقال هرمز: ثنا منصور بن أبي مزاحم، ثنا أبو حفص الأبار، عن ابن أبي الزياد، عن معاوية بن قرة قال:"شهد بدرًا عشرون مملوكًا منهم مملوك للنبي عليه السلام يقال له: هرمز، فأعتقه النبي عليه السلام وقال: إن الله قد أعتقك، وإن مولى القوم منهم، وإنَّا أهل بيت لا نأكل الصدقة فلا تأكلها".

وأخرجه ابن أبي شيبة (1) وقال: كيسان: ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب قال:"أتيت أم كلثوم ابنة علي، فقالت: إن مولى لنبي الله عليه السلام يقال له: كيسان قال له النبي عليه السلام في شيء من أمر الصدقة: إنَّا أهل بيتٍ نُهينا أن نأكل الصدقة، وإن مولانا من أنفسنا، فلا تأكل الصدقة".

وأخرجه عبد الرزاق (2) وقال: ميمون أو مهران: أبنا الثوري، عن عطاء بن السائب، حدثتني أم كلثوم ابنة علي قالت: أخبرني ميمون أو مهران مولى النبي عليه السلام قال: "إنَّا أهل بيتٍ نُهينا عن الصدقة".

ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا شبابة بن سوَّار. (ح)

محمَّد بن خريمة، قال: ثنا علي بن الجعد. (ح)

وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قالوا: ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرةً من تمر الصدقة فأدخلها في فيه، فقال النبي عليه السلام: كخْ كخْ، ألقها ألقها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: حسين بن نصر بن المعارك، عن شبابة بن سوَّار الفزاري، روى له الجماعة. عن شعبة، عن محمَّد بن زياد القرشي الجمحي المدني روى له الجماعة.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 429 رقم 10710).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(4/ 51 رقم 6942).

ص: 521

وأخرجه البخاري (1): ثنا آدم، ثنا شعبة، ثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه قال: "أخذ الحسن بن علي تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي عليه السلام: كخ كخ -ليطرحها- ألقها ألقها، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة".

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن علي بن الجعد بن عبيد شيخ البخاري وأبي داود واحد أصحاب أبي حنيفة، عن شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم (2): ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن محمَّد -وهو ابن زياد- سمع أبا هريرة يقول:"أخذ الحسن بن عليّ تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله عليه السلام: ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟ ".

الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن وكيع، عن شعبة، عن ابن زياد، عن أبي هريرة نحوه.

قوله: "في فيه" أي: في فمه.

قوله: "كَخْ كَخْ" بفتح الكاف وكسرها وسكونا لخاء وتكسر أيضًا، وتنون أيضًا، وهي كلمة تقال لزجر الصبيان عن الشيء يأخذونه ليتركوه.

قال الداودي: هي كلمة أعجمية عربتها العرب بمعنى بئس.

قال عياض: وفيه أن الصغير من أبناء المسلمين يوقى ما يوقى الكبير من المحاذير والخبائث، وإن كان غير مخاطب فوليه يخاطب بحراسته من ذلك.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 542 رقم 1420).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 751 رقم 1069).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 428 رقم 10703).

ص: 522

قلت: فعلى هذا لا ينبغي للوالدين أن يلبسا ولدهما الصغير حريرًا ونحوه مما يحرم على الذكور، حتى لو فعلا ذلك أثما، وهوحجة على الشافعي، والله أعلم.

ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال:"كان النبي عليه السلام، إذا أُتِيَ بالشيء سأل أهدية هو أم صدقة؟ فإن قالوا: هدية بسط يده، وإن قالوا: صدقة قال لأصحابه: كلوا".

ش: إسناد حسن.

ومكي بن إبراهيم شيخ البخاري.

وبهز بن حكيم أبو عبد الملك البصري، وثقه يحيى وابن المديني وأبو داود، وقال أبو زرعة: صالح ولكنه ليس بالمشهور، استشهد به البخاري وروى له في غير "الصحيح"، والأربعة.

وأبوه: حكيم معاوية، وثقه العجلي.

وجده: معاوية بن حيدة القشيري الصحابي.

وأخرجه الترمذي (1): نا محمَّد بن بشار، قال: ثنا مكي بن إبراهيم ويوسف بن يعقوب الضبعي، قالا: ثنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال:"كان رسول الله عليه السلام إذا أُتيَ بشيء فقال: أصدقة هو أم هدية؟ فإن قالوا صدقة لم يأكل، وإن قالوا هدية أكل".

قال أبو عيسى: حديث بهز بن حكيم حديث حسن غريب.

ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا عبد الله بن بكر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: "سمعت رسول الله عليه السلام يقول في إبل سائمة: في

(1)"جامع الترمذي"(3/ 45 رقم 656).

ص: 523

كل أربعين بنت لبون، من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها [فأنا آخذوها](1) منه وشطر إبله عزمةً من عزمات ربنا، لا يحل لأحد منا فيها شيء".

ش: عبد الله بن بكر السهمي المجري، روى له الجماعة.

والحديث أخرجه أبو داود (2): ثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد، أنا بهز بن حكيم، ونا محمَّد بن العلاء، أنا أبو أسامة، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله عليه السلام قال:"في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، ولا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا -قال ابن العلاء: مؤتجرًا بها- فله أجرها، ومن مَنَعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمَّد منها شيء".

وأخرجه النسائي (3) أيضًا.

قوله: "مؤتجرًا" أي: طالبًا للأجر، وانتصابه على الحال.

قوله: "آخذها منه" أي: آخذ المصدق الزكاة منه، وأخذ أيضًا شطر إبله أي: نصف إبله، وفي رواية أبي داود:"وشطر ماله". والمعنى: يأخذ الزكاة ويأخذ نصف ماله.

قوله: "عزمة" نصب بفعل محذوف تقديره: عزم الله علينا عزمةً، والمعنى: إن هذا حق وفرض من فرائض الله.

قال الخطابي: اختلف الناس في القول بظاهر هذا الحديث، فذهب أكثر الفقهاء أن الغلول في الصدقة والغنيمة لا يوجب غرامةً في المال، وهو مذهب الثوري

(1) كذا في "الأصل، ك" وعليه شرح المؤلف، والذي في "شرح معاني الآثار"، ومصادر التخريج الآتية: فإنا آخذوها، ووقع عند ابن خزيمة كما في الأصل.

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 101 رقم 1575).

(3)

"المجتبى"(5/ 15 - 16 رقم 2444، 2449) وكذا أخرجه أحمد في "مسنده"(5/ 2 رقم 20030)، (5/ 4 رقم 20050، 20053) والدارمي في "سننه"(1/ 486 رقم 1677) وابن خزيمة في "صحيحه"(4/ 18 رقم 22266) وغيرهم.

ص: 524

وأصحاب الرأي، وإليه ذهب الشافعي، وكان الأوزاعي يقول في الغال في الغنيمة: إن للإمام أن يحرق رحله، وكذلك قال أحمد وإسحاق.

وقال أحمد في الرجل يحمل الثمرة في أكمامها: فيه القيمة مرتين وضرب النكال.

وقال: كل مَن درأنا عنه الحد أضعفنا عليه الغرم.

ثم الجواب عن هذا الحديث من وجهين:

الأول: بطريق المنع، وهو أن يقال: لا نسلم أن هذا الحديث صحيح؛ لأن الشافعي قال في بهز: ليس بحجة، وقال أبو حاتم الرازي: هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرًا، ولولا حديثه: إنا آخذوه وشطر ماله عزمةً مَن عزمات ربنا لأدخلناه في "الثقات".

الثاني: بطريق التسليم، وهو أن يقال: سلمنا أن الحديث صحيح؛ لأن يحيى بن معين وأحمد احتجا بحديث بهز ووثقاه، ولكنا نقول: إن هذا كان في أول الإِسلام ثم نسخ، واستدل الشافعي على نسخه بحديث البراء بن عازب فيما أفسدت ناقته فلم ينقل عن النبي عليه السلام في تلك القضية أنه ضَعَّف الغرامة، بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط، وقد يجاب بأن هذا على سبيل التوعد لينتهي فاعل ذلك، وقيل: معناه أن الحق يُستوفى منه ولا يترك عليه، وإن تلف شطر ماله، كرجل له ألف شاة فتلفت حتى لم يبق إلا عشرون، فإنه يؤخذ منه عشر شياه كصدقة الألف، وهو شطر ماله الباقي أي: نصفه.

وكان إبراهيم الحربي يتأول حديث بهز بن حكيم على أنه يؤخذ منه خيار ماله مثل سن الواجب عليه لا يزاد على السن والعدد ولكن يُنتقى خيار ماله، فتزاد عليه الصدقة بزيادة شطر القيمة. والله أعلم.

ص: حدثنا ابن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس:"أن النبي عليه السلام كان يمر في الطريق بالتمرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة".

ص: 525

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، قال: ثنا منصور، عن طلحة، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام رأى تمرةً فقال: لولا أني أخاف أن تكون صدقةً لأكلتها".

ش: هذان طريقان صحيحان:

أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود، كلاهما عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن حماد

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم -المعنى- قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس:"أن النبي عليه السلام كان يمر بالتمرة العائرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة".

قلت: العاشرة الساقطة التي لا يعرف لها مالك، من عَارَ الفرس يَعير إذا انطلق من مربطه مارًّا على وجهه، وهذا أصل في الورع، وفي أن كل ما لا يستبينه الإنسان مباحًا فإنه يجتنبه.

وفيه دليل على أن التمرة ونحوها من الطعام إذا وجدها الإنسان ملقاةً أن له أخذها وأكلها إن شاء، وليس لها حكم اللقطة.

والآخر: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن طلحة بن مصرف الكوفي روى له الجماعة، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (2): ثنا يحيى بن يحيى، أنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن طلحة بن مصرف، عن أنس بن مالك:"أن النبي عليه السلام وجد تمرة فقال: لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها".

(1)"سنن أبي داود"(2/ 123 رقم 1651).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 752 رقم 1071).

ص: 526

وفيه دليل على تحريم الصدقة على النبي عليه السلام مطلقًا سواء كانت فرضًا أو تطوعًا؛ لعموم اللفظ.

وفيه استعمال الورع؛ لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال لكن الورع تركها.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا الحكم بن مروان الضرير. (ح)

وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قالا: ثنا مُعَرِّف بن واصل السعدي، قال: حدثتنا حفصة في سنة تسعين -قال ابن أبي داود في حديثه: ابنة طلق- تقول: حدثنا رشيد بن مالك أبو عميرة قال: "كنا عند النبي عليه السلام، فأتي بطبق عليه تمرٌ، فقال: أصدقة أم هدية؟ قال: بل صدقة، فوضعه بين يدي القوم، والحسن يتعفر بين يديه فأخذ الصبي تمرةً فجعلها في فيه، فأدخل رسول الله عليه السلام أصبعه فجعل يترفق به فأخرجها فقذفها، ثم قال: إنَّا آل محمَّد لا نأكل الصدقة".

ش: هذان طريقان:

أحدهما: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن الحكم بن مروان الكوفي الضرير، قال أبو حاتم ويحيى: لا بأس به.

عن مُعَرِّف بن واصل السعدي، وثقه أحمد ويحيى والنسائي، وروى له مسلم وأبو داود.

عن حفصة بنت طلق قال في "التذكرة": مجهولة.

عن رُشَيْد -بضم الراء وفتح الشين المعجمة- بن مالك بن عميرة السعدي التميمي الصحابي، عِدَاده في الكوفيين ويكنى بأبي عَميرة بفتح العين وكسر الميم.

وأخرجه الكجي في "مسنده": ثنا الحكم، أبنا معرف بن واصل، حدثتني حفصة بنت طلق قالت: قال أبو عميرة رُشيد بن مالك: "كنا جلوسًا عند النبي عليه السلام ذات يوم فجاء رجل معه طبق عليه تمر، فقال له: أهدية أم صدقة؟ قال: صدقة، قال: قربه إلى القوم والحسن بين يدي النبي عليه السلام فأخذ تمرةً فجعلها في فيه.

ص: 527

قال: فأدخل النبي عليه السلام أصبعه في فيّ الصبي، فأخرج التمرة فقذفها، وقال: إن آل محمَّد لا يأكلون الصدقة".

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن مُعَرّف بن واصل

إلى آخره.

قوله: "والحسن يتعفر بن يديه" أي: يتمرغ على التراب؛ وذلك أنه كان صغيرًا يلعب.

قوله: "في فيه" أي: في فمه.

قوله: "فقذفها" أي: رماها.

ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا علي بن حكيم الأودي، قال: ثنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه قال:"دخلت مع النبي عليه السلام بيت الصدقة، فتناول الحسن تمرةً، فأخذها من فيه وقال: إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة- أو لا نأكل الصدقة".

حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: ثنا شريك

فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" ولم يشك.

شْ: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن مغيرة الكوفي ثم المصري المعروف بعلان، قال ابن أبي حاتم: صدوق.

عن علي بن حكيم بن ذُبيان الأودي أبي الحسن الكوفي شيخ البخاري في "الأدب" ومسلم.

عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، روى له الجماعة.

عن عبد الرحمن بن أبي ليلى والد محمَّد بن عبد الرحمن القاضي، روى له الجماعة.

ص: 528

عن أبيه ليلى -واسمه يسار- بالياء آخر الحروف، وقيل: بلال الصحابي.

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا الحسن بن موسى، عن زهير، عن عبد الله بن عيسى، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه قال:"كنت مع النبي عليه السلام في بيت الصدقة. قال: فجاء الحسن بن علي فأخذ تمرةً، فأخذها من فيه فاستخرجها، وقال: إنا لا تحل لنا الصدقة".

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي في بيتي، فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقةً فألقيها".

ش: إسناده صحيح.

وأبو نعيم الفضل بن دُكين، شيخ البخاري، وابن المبارك: عبد الله بن المبارك الزاهد المشهور، عن معمر بن راشد

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (2): عن محمَّد بن رافع، [عن عبد الرزاق](3)، عن همام، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة نحوه.

ص: ثنا أحمد بن عبد المؤمن الخراساني، قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: ثنا الحسين بن واقد، قال: ثنا عبد الله بن بريدة، قال: سمعت أبي يقول: "جاء سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى رسول الله عليه السلام حين قدم المدينة بمائدة عليها رطب، فقال رسول الله عليه السلام: ما هذا يا سلمان؟ قال: صدقة عليك وعلى أصحابك. قال:

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 429 رقم 10711).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 451 رقم 1070).

(3)

تكررت في "الأصل".

ص: 529

ارفعها فإنا لا نأكل الصدقة، فرفعها، فجاء من الغد بمثله فوضعه بين يديه، فقال: ما هذا يا سلمان؟ قال: هدية، فقال رسول الله عليه السلام لأصحابه: انبسطوا".

ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات قد ذكروا غير مرة.

وبُرَيدة-بضم الباء الموحدة- بن الحُصَيب -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- ابن عبد الله الصحابي.

والحديث أخرجه البزار في "مسنده": ثنا عَبدة بن عبد الله، أنا زيد بن الحباب، أنا حسين بن واقد، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه:"أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أتى رسول الله عليه السلام المدينة لما قدم المدينة- بمائدة عليها رطب، فقال له: ما هذا يا سلمان؟ قال: صدقة تصدقت بها عليك وعلى أصحابك، قال: إنا لا نأكل الصدقة، حتى إذا كان من الغد جاء بمثلها فوضعها بين يديه، فقال: يا سلمان ما هذا؟ قال: هدية، فقال: كلوا وأكل، ونظر إلى الخاتم في ظهره، قال: واشتراه رسول الله عليه السلام بكذا وكذا درهمًا من قوم من اليهود على أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل، ويعمل حتل يُطعم. قال: فغرس رسول الله عليه السلام النخل إلا نخلة واحدة غرسها غيره، فأطعم النخل من عامه إلا النخلة التي غراسها غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن غرسها؟ قالوا: فلان، فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطعمت في عامها".

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فهذه الآثار كلها قد جاءت بتحريم الصدقة على بني هاشم ولا نعلم شيئًا نسخها ولا عارضها إلا ما قد ذكرنا في هذا الباب مما ليس فيه دليل على مخالفتها.

ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي أخرجها عن الحسن بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد المطلب بن ربيعة وسلمان الفارسي وأبي رافع مولى النبي عليه السلام وهرمز أو كيسان مولى النبي عليه السلام وأبي هريرة ومعاوية بن حيدة وأنس بن مالك ورُشيد بن مالك وأبي ليلى وبُريدة بن الخصيب رضي الله عنهم؛ فانظر إلى

ص: 530

اتساع رواية الطحاوي وجلالة قدره الذي أخرج في حكم واحد نادر الوقوع بالنسبة إلى غيره عن اثنى عشر صحابيًّا مع استنباط الأحكام والتوغل فيها!.

ص: فإن قال قائل: تلك الصدقة إنما هيم الزكاة خاصةً، فأما ما سوى ذلك من سائر الصدقات فلا بأس به لهم.

قيل له: في هذه الآثار ما قد دفع ما ذهبت إليه، وذلك في حديث بهز بن حكيم:"أن النبي عليه السلام كان إذا أتي بالشيء سأل أهدية أم صدقة؟ فإن قالوا: صدقة، قال لأصحابه: كلوا" واستغن بقول المسئول أنه صدقة عن أن يسأله: صدقة من زكاة أم غير ذلك، فدل ذلك على أن حكم سائر الصدقات في ذلك سواء، وفي حديث سلمان:"فقال: فجئت، فقال: أهدية أم صدقة؟ فقلت: بل صدقة؛ لأنه بلغني أنكم قوم فقراء". فامتنع من أكلها لذلك. وإنما كان سلمان يومئدٍ عبدًا ممن لا تجب عليه زكاة، فدل ذلك على أن كل الصدقات من التطوع وغيره قد كان محرمًا على رسول الله عليه السلام وعلى سائر بني هاشم.

ش: تقرير السؤال أن يقال: الصدقة المحرمة على بني هاشم في الأحاديث المذكورة هي الزكاة خاصةً، وبقية الصدقات لا بأس بها عليهم.

وتقرير الجواب: أن هذا دعوى التخصيص من غير دليل. وهي باطلة، والأصل إجراء الألفاظ العامة على عمومها ولا سيما ها هنا؛ فإن بعض ألفاظ الحديث يدل على العموم وعدم الفرق بين صدقة وصدقة كما في حديث بهز بن حكيم وحديث سلمان رضي الله عنه، وقد بُيَّن وجه ذلك في الكتاب.

ص: والنظر أيضًا يدل على استواء حكم الفرائض والتطوع في ذلك، وذلك أنا رأينا غير بني هاشم من الأغنياء والفقراء في الصدقات المفروضات والتطوع سواء، من حرم عليه أخذ الصدقة مفروضة، حَرُم عليه أخذ صدقة غير مفروضة، فلما حرم على بني هاشم، أخذ الصدقات غير المفروضة. فهذا هو النظر في هذا أيضًا.

ص: 531

ش: أي: والقياس أيضًا يدل على أن حرمة الصدقة عليهم مستوية في الفرائض والنوافل، وجه القياس ظاهر.

قوله: "في ذلك" إشارة إلى التحريم، أي: في تحريم الصدقة عليهم.

وقوله: "وذلك" إشارة على استواء حكم الفرائض والتطوع.

ص: وهو قول أبي يوسف ومحمد، وقد اختلف عن أبي حنيفة في ذلك، فروي عنه أنه قال: لا بأس بالصدقات كلها إلى بني هاشم، وذهب في ذلك -عندنا- إلى أن الصدقات إنما كانت حرمت عليهم من أجل ما جُعل لهم في الخُمس من سهم ذوي القربى، فلما انقطع ذلك عنهم ورجع إلى غيرهم بموت رسول الله عليه السلام حل لهم بذلك ما قد كان محرمًا عليهم من أجل ما قد كان أحل لهم.

وقد حدثني سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمَّد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة في ذلك مثل قول أبي يوسف، فبهذا نأخذ.

ش: أي: وجه النظر الذي هو عموم التحريم قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهما الله.

وعن أبي حنيفة روايتان.

إحداهما: عموم الإباحة، أشار إليها بقوله: لا بأس بالصدقات كلها إلى بني هاشم.

والأخرى: عموم الحرمة، أشار إليها بقوله: حدثني سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني

إلى آخره.

قوله: "وذهب في ذلك" أي: ذهب أبو حنيفة فيما قاله من عموم الإباحة، وأراد بذلك بيان وجه هذه الرواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه ولكن لا يخلو عن نظر؛ لأنه عليه السلام علل في منع الصدقة على بني هاشم فيما مضى من قوله:"إنما هي أوساخ الناس".

ص: 532

أخرجه مسلم (1) وغيره، فكانت العلة كونها أوساخ الناس، فهي موجودة في كل وقت سواء وصل إليهم ما جعل لهم في الخمس من سهم ذوي القربى أو لم يصل.

قوله: "فبهذا نأخذ" أي: بقول أبي يوسف رحمه الله.

ص: فإن قال قائل: أفتكرهها على مواليهم؟

قلت: نعم؛ لحديث أبي رافع الذي قد ذكرناه في هذا الباب، وقد قال ذلك أبو يوسف في كتاب "الإملاء"، وما علمت أحدًا من أصحابنا خالفه في ذلك.

فإن قال: أفتكره للهاشمي أن يعمل على الصدقة؟

قلت: لا.

فإن قال: لِمَ؟ وفي حديث ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس رضي الله عنهم الذي ذكرت منع النبي عليه السلام إياهما من ذلك.

قلت: ما فيه منع لهما من ذلك؛ لأنهم سألوه أن يستعملهم على الصدقة ليسدوا بذلك فقرهم فسد رسول الله عليه السلام فقرهم بغير ذلك.

وقد يجوز أيضًا أن يكون أراد بمنعهم أن يوكلهم على العمل على أوساخ الناس، لا لأن ذلك يحرم عليهم؛ لاجتعالهم منه عمالتهم عليه.

وقد وجدنا ما يدل على هذا: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن أبي رزين، عن أبي رزين، عن علي رضي الله عنه قال:"قال لي العباس: قل للنبي عليه السلام يستعملك على الصدقة. فسألته، فقال: ما كنت لأستعملك على غُسالة ذنوب الناس".

أفلا ترى أنه إنما كره له الاستعمال على غسالة ذنوب الناس لا لأنه حرم ذلك عليه لحرمة الاجتعال منه عليه؟.

(1) تقدم.

ص: 533

ش: أي: فإن قال القائل: هل تكره الصدقة على موالي بني هاشم؟ والباقي ظاهر.

قوله: "فإن قال: أفتكره للهاشمي أن يعمل" أي: هل تكره للهاشمي أن يكون عاملًا على الصدقة ويأخذ العمالة منها؟.

قوله: "أن يُوكلهم على العمل" بالتخفيف من وَكَلَ فلانًا على شيء: إذا صرف أمره إليه، وكذا وَكَل فلان إليَّ كذا، ويجوز بالتشديد أيضًا.

قوله: "لاجتعالهم منه عمالتهم" من جعلت له جُعلًا. وهو الأجرة ها هنا، و"العُمَالة" بالضم حيث وقعت، وهي أجرة العامل على عمله.

قوله: "ما يدل على هذا" وفي بعض النسخ: ما يدلك على هذا، وأشار به إلى قوله: "وقد يجوز أيضًا أن يكون

" إلى آخره.

قوله: "حدثنا أبو أمية" بيان لقوله: وقد وجدنا.

وأبو أمية اسمه محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، يروي عن قبيصة بن عقبة السوائي الكوفي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة الهمداني الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن عبد الله بن أبي رزين الأسدي وثقه ابن حبان، عن أبيه أبي رزين مسعود بن مالك- روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وله ذكر فيه.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1) بأتم منه: ثنا محمَّد بن عمارة بن صبيح، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن أبي رزين، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال:"قلت للعباس: سل رسول الله عليه السلام لنا الحجابة، فسأله فقال: أعطيكم السقاية ترزؤكم ولا ترزؤونها. قال: وقلت للعباس: سَلْ رسول الله عليه السلام يستعملك على الصدقات، فقال: ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس".

(1)"مسند البزار"(3/ 109 رقم 895).

ص: 534

وهذا الحديث لا نعلم له إسنادًا عن علي رضي الله عنه إلا هذا الإسناد.

ص: وقد كان أبو يوسف: يكره لبني هاشم أن يعملوا على الصدقة إذا كانت جعالتهم منها، قال: لأن الصدقة تخرج من مال المتصدق إلى الأصناف التي سماها الله تعالى، فيملك المتصدق بعضها وهي لا تحل له، واحتج في ذلك أيضًا بحديث أبي رافع حين سأله المخزومي أن يخرج معه ليصيب منها، ومحال أن يصيب منها شيئًا إلا لعمالته عليها واجتعاله منها.

ش: مذهب أبي يوسف أنه يكره أن يكون الهاشمي عاملًا على الصدقة إذا كان يأخذ الأجرة على عمله منها؛ وذلك لأن الصدقة تخرج من مال المتصدق فتقع في يد العامل، ولما حصل في يد العامل حصلت الصدقة مؤداة حتى لو هلك المال في يده تسقط الزكاة عن صاحبها، فإذا كان كذلك تكون في يده غسالة أموال الناس، ويكون عند قبض العمالة منها متناولًا منها، وذلك لا يحل له، ولأن للعُمالة شبهًا بالصدقة وأنها من أوساخ الناس فيجب صيانة الهاشمي من ذلك كرامة له وتعظيمًا للرسول عليه السلام.

قوله: "واحتج في ذلك أيضًا" أي: احتج أبو يوسف فيما ذهب إليه أيضًا بحديث أبي رافع مولى النبي عليه السلام حين سأله المخزومي، وهو أرقم بن أبي الأرقم المذكور فيما مضى.

ص: وخالف أبا يوسف في ذلك، آخرون فقالوا: لا بأس أن يجتعل منها الهاشمي؛ لأنه إنما يجتعل على عمله، وذلك قد يحل للأغنياء، فلما كان هذا لا يحرم على الأغنياء الذين يحرم عليهم غناهم الصدقة، كان كذلك أيضًا في النظر لا يحرم على بني هاشم الذين يحرم عليهم نسبهم الصدقة.

ش: أي: خالف أبا يوسف فيما ذهب إليه جماعة آخرون، وهم: مالك والشافعي في قول، وأحمد في رواية، ومحمد بن الحسن، فإنهم قالوا: لا بأس أن يكون العامل هاشميًّا ويأخذ عُمالته منهاث لأن ذلك على عمله، ألا ترى أن الغنى

ص: 535

يحل له ذلك إذا كان عاملًا مع كون الصدقة حرامًا عليه؛ لأنه إنما يأ خذ حينئذٍ على عمله وتفرغه لذلك، فكذلك الهاشمي.

قوله: "كان كذلك أيضًا في النظر

إلى آخره" لقائل أن يقول: هذا القياس ليس بصحيح؛ لأن الغني إذا عاملًا يكون متفرغًا لذلك صارفًا نفسه وحابسها لأجل ذلك، فيستحق الجُعالة في مقابلة هذا الفعل، وذلك في الحقيقة يكون لحاجته إلى ذلك فيصير كابن السبيل تباح له الصدقة وإن كان غنيًّا، بخلاف الهاشمي فإنه إنما تحرم عليه الصدقة لكونها أوساخ الناس، ولأجل لحوق الذلة والهوان بشرف نسبه، فهذا المعنى موجود دائمًا سواء كان الذي يأخذه من الصدقة على وجه الاعتمال والاجتعال أو غير ذلك، فافهم.

ص: وقد روي عن النبي عليه السلام فيما تصدق به على بريرة أنه أكل منه وقال: هو عليا صدقة ولنا هدية.

حدثنا بذلك فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:"دخل عليّ النبي عليه السلام وفي البيت رجل شاة معلقة، فقال: ما هذه؟ فقلت: تُصُدق به على بريرة فأهدته لنا، فقال: هو عليها صدقة وهو لنا هدية، ثم أمر بها فسويت".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"دخل رسول الله عليه السلام والبرمة تفور بلحمٍ، فقرب إليه خبز وأدمٌ من أدم البيت، فقال رسول الله عليه السلام: ألم أرَ برمةً فيها لحم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة. فقال رسول الله عليه السلام: هو صدقة عليها وهو لنا هدية".

حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة

فذكر بإسناده مثله.

ص: 536

حدثنا علي، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"تصدق على بريرة بصدقة فأهدت منها لعائشة، فذكرت ذلك للنبي عليه السلام فقال: هو لنا هدية ولها صدقة".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن الزهري، عن عُبيد بن السباق، عن جويرية بنت الحارث قالت:"تصدق على مولاةٍ لي بعضو من لحم، فدخل عليَّ النبي عليه السلام فقال: هل عندكم مِن عشاء؟ فقلت: يا رسول الله مولاتي فلانة تُصدق عليها بعضو من لحم فأهدته لي، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: قد بلغت محلها فهاتيه، فأكل منها رسول الله عليه السلام".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الزهري، قال: أخبرني عبيد بن السباق، عن جويرية مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا خالد الحذاء، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت:"دخل النبي عليه السلام على عائشة فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: لا، إلا شيء بعثت به إلينا نُسَيْبَة من الشاة التي بُعِثت إليها من الصدقة، فقال النبي عليه السلام: إنها قد بلغت محلها".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن أبي معن يزيد بن يسار، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن عبد الله بن وهب، عن أم سلمة زوج النبي عليه السلام:"أن رسول الله عليه السلام قسم غنمًا من الصدقة فأرسل إلى زينب الثقفية بشاةٍ منها، فأهدت زينب من لحمها لنا، فدخل علينا رسول الله عليه السلام فقال: هل عندكم شيء تطعمونا؟ قلنا: لا والله يا رسول الله، فقال: ألم أَرَ لحمًا آنفا أدخل عليكم؟ قلنا: يا رسول الله ذاك من الشاة التي أرسلت إلى زينب من الصدقة وأنت لا تأكل الصدقة، فلم نحب أن نمسك ما لا تأكل منه، فقال رسول الله عليه السلام: لو أدركته لأكلت منه".

ص: 537

فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزًا للنبي عليه السلام أكله؛ لأنه إنما ملكه بالهدية، جاز أيضًا للهاشمي أن يجتعل من الصدقة؛ لأنه إنما يملكه بعلمه لا بالصدقة، فهذا هو النظر، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف في ذلك.

ش: أخرج هذه الأحاديث إعضادًا لما ذهب إليه الآخرون، بيان ذلك: أن الفقير إذا تُصدق عليه بصدقة فإنه يملكها، ثم إنه إذا أهداها إلى غني جاز له أكلها؛ لأنه يملكها بالهدية، فبتغير الصفة كأن الذات قد تغيرت، والدليل عليه: قضية بريرة، فإنه لماتصدق بذلك اللحم عليها جوَّز النبي عليه السلام أكله؛ لأنه ملكه بالهدية، فكذلك الهاشمي إذا اجتعل شيئًا من الصدقة تَمَلَّكَه بعمله لا من حيث الصدقة فيحل له حينئذٍ أكله.

ثم إنه أخرج الأحاديث المذكورة عن عائشة وابن عباس وجويرية بنت الحارث وأم عطية وأم سلمة رضي الله عنهم.

أما حديث عائشة فأخرجه من ثلاثة طرق صحاح:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا آدم، ثنا شعبة، ثنا الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها، فذكرت عائشة للنبي عليه السلام فقال لها النبي عليه السلام: اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق، قالت: وأتي النبي عليه السلام بلحم فقلت: هذا ما تصدق به على بريرة، قال: هو لها صدقة ولنا هدية".

وأخرجه مسلم (2): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 543 رقم 1422).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 755 رقم 1075).

ص: 538

وثنا محمَّد بن مثنى وابن بشار -واللفظ لابن مثنى- قالا: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"أتي النبي عليه السلام بلحم بقر، فقيل: هذا مما تصدق به على بريرة، فقال: هو لها صدقة ولنا هدية".

قوله: "معلقة" بالرفع، صفة للرِّجْل لا للشاة، فافهم.

قوله: "به" أي: بِرِجل الشاة، وإنما ذكر الضمير باعتبار المذكور، وكذلك قوله:"أهدية" قوله: "هو" في الموضعين.

الثانى: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب

إلى آخره.

ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه مالك في "موطأه"(1)، والبخاري (2)، ومسلم (3) في "صحيحيهما".

قوله: "والُبْرمة تفور" بضم الباء الموحدة وسكون الراء، وهي القِدَرة من الحجر.

و"تفور" من فارت القدرة: إذا غلت.

وقال أبو عمر في شرح هذا الحديث: فيه إباحة كل اللحم ردًّا على قول من كرهه من الصوفية والعباد، وقد روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم"، "وكان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم".

وأما قول عمر رضي الله عنه: "إياكم واللحم، فإن له ضراوة كضراوة الخمر" ففي حق مَن يواظب عليه ويمعن فيه؛ لأن كثرته تؤدي إلى كثرة الشهوة المؤدية إلى الفساد.

الثالث: عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي المدني، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة رضي الله عنها.

(1)"موطأ مالك"(2/ 562 رقم 1170).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 543 رقم 1424).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 1142 رقم 1504).

ص: 539

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1).

وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن علي بن عبد الرحمن، عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى، عن قتادة بن دعامة، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2) بأتم منه: ثنا عفان، نا همام، نا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يسمى مغيثًا، قال: كنت أراه يتبعها في سكك المدينة يعصر عينيه عليها، قال: وقضى النبي عليه السلام فيها أربع قضيات: أن مواليها اشترطوا الولاء فقضى النبي عليه السلام الولاء لمن أعتق، وخيرها فاختارت نفسها فأمرها أن تعتد، قال: وتُصدق عليها بصدقة فأهدت منها إلى عائشة فذكرت ذلك للنبي عليه السلام فقال: هو عليها صدقة وإلينا هدية".

وأما حديث جويرية بنت الحارث فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد بن موسى الكندي الوهبي الحمصي، شيخ البخاري في غير "الصحيح"، وثقه أبو زرعة وابن معين.

عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد بن السبَّاق الثقفي المدني روى له الجماعة، عن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية أم المؤمنين رضي الله عنها.

وأخرجه مسلم (3): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث.

وثنا محمَّد بن رمح، قال: أنا الليث، عن ابن شهاب، أن عبيد بن السباق حدثه، قال: إن جويرية زوج النبي عليه السلام أخبرته: "أن رسول الله عليه السلام دخل عليها

(1)"مسند أحمد"(6/ 178 رقم 25491).

(2)

"مسند أحمد"(1/ 281 رقم 2542).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 754 رقم 1073).

ص: 540

فقال: هل من طعام؟ قالت: لا والله يا رسول الله ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أعطيته مولاتي من الصدقة، فقال: قربيه قد بلغت محلها".

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد بن السباق، عن جويرية.

وأخرجه مسلم (1) أيضًا نحوه: عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق ابن إبراهيم، جميعًا عن ابن عيينة، عن الزهري بهذا الإسناد نحوه.

وأما حديث أم عطية فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي

إلى آخره.

وأم عطية اسمها نُسَيْبة بنت كعب -ويقال: بنت الحارث- الأنصارية الصحابية.

والحديث أخرجه البخاري (2): ثنا علي بن عبد الله، نا يزيد بن زريع، نا خالد الحذاء، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية الأنصارية قالت:"دخل النبي عليه السلام على عائشة فقال: هل عندكم شيء؟ فقالت: لا، إلا شيء بعثت به نُسيبة من الشاة التي بعثتَ بها من الصدقة، فقال: إنها بلغت محلها".

وأخرجه مسلم (3) نحوه.

ونُسَيْبَة -بضم النون وفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- وهي أم عطية المذكورة.

قوله: "قد بلغت محلها" يعني قد وقعت الصدقة في محلها، ثم خرجت عن حكم الصدقة؛ لأن المتصدق عليها قد ملكتها.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 755 رقم 1073).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 543 رقم 1423).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 756 رقم 1076).

ص: 541

وفيه بيان أن الأشياء المحرمة لعلل معلومة إذا ارتفعت عنها تلك العلل حَلَّت، وأن التحريم في الأشياء ليس لعينها.

وأما حديث أم سلمة رضي الله عنهما فأخرجه عن روح بن الفرج القطان المصري، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحنظلي أبي الحسن الجزري الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري -فيه مقال- عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود القرشي الأسدي المدني، يتيم عروة، روى له الجماعة.

عن أبي معن يزيد بن يسار [

] (1) عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

عن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، وهو عبد الله بن وهب الأصغر، وأخوه عبد الله بن وهب الأكبر وثقه ابن حبان.

عن أم سلمة أم المؤمنين واسمها هند بنت أبي أمية رضي الله عنها.

(1) بيض له المؤلف رحمه الله.

ص: 542