الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: دباغ الميتة هل تطهر أم لا
؟
ش: أي هذا باب في بيان دباغ جلود الميتة هل تطهير بالدباغ أم لا؟ يقال: دَبغَ إهابه يَدْبَغُهُ ويَدْبَغَهُ -بضم عين الفعل وفتحها- دبغًا ودباغةً ودباغًا إذا أزال فساده بشيء كالقرظ والشبِّ والعفص ونحو ذلك أو بإلقائه في الشمس أو تعليقه في الهواء، أو بتتريبه ونحو ذلك، فالأول: دباغ حقيقي والثاني: حكمى، فكلاهما يجوز عند أصحابنا على ما بين في الفروع، وهذا الباب والبابان اللذان بعده مستدركة بعد ترتيب الأبواب؛ ولذلك لم ترل المناسبة بينها وبين ما قبلها.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر ووهب، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، قال:"قرئ علينا كتاب رسول الله عليه السلام ونحن بأرض جهينة وأنا غلام شاب: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب".
حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: حدثني أسباط بن محمد، عن الشيباني، عن الحكم
…
فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "كتب إلينا رسول الله عليه السلام
…
".
حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا محمد بن المبارك، قال: ثنا صدقة بن خالد، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبد الله بن عكيم قال:"حدثني أشياخ جهينة قالوا: أتانا كتاب رسول الله عليه السلام أو قرئ علينا كتاب رسول الله عليه السلام ألَّا تنفعوا من الميتة بشيء".
ش: هذه ثلاث طرق رجالها كلهم ثقات، ولكن نقل عن يحيى بن معين أنه ضعف هذا الحديث وقال: ليس بشيء، إنما هو حدثني أشياخ جهينة، رواه عنه داود بن علي.
قلت: ينبغي أن يكون تضعيفه مصروفًا إلى الطريق الثالث على ما لا يخفى.
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك العقدي ووهب ابن جرير، كلاهما عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
الأنصاري، عن عبد الله بن عكيم أبي معبد، إدرك النبي عليه السلام ولم يره، قاله: ابن مندة وأبو نعيم، وقال أبو عمر: اختلف في سماعه من النبي عليه السلام.
وأخرجه أبو داود (1) في كتاب اللباس: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، قال:"قُرئ علينا كتاب رسول الله عليه السلام بأرض جهينة وأنا غلام شاب: ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب".
وأخرجه النسائي (2) في كتاب الفرع والعتيرة: عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن مفضل، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن ابن عكيم نحو رواية أبي داود.
الثاني: عن محمد بن عمرو، عن أسباط بن محمد بن عبد الرحمن القرشي الكوفي، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني، عن الحكم بن عتيبة، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم.
وأخرجه الترمذي (3) في كتاب اللباس: عن محمد بن طريف الكوفي، عن محمد بن فضيل، عن الأعمش والشيباني، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عكيم قال:"أتانا كتاب رسول الله عليه السلام: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب".
وأخرجه ابن ماجه (4) أيضًا في كتاب اللباس: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور.
وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن الشيباني.
(1)"سنن أبي داود"(4/ 67 رقم 4127).
(2)
"المجتبى"(7/ 175 رقم 4249).
(3)
"جامع الترمذي"(4/ 222 رقم 1729).
(4)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1194 رقم 3613).
وعن أبي بكر، عن غندر، عن شعبة، ثلاثتهم عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن ابن عكيم، به.
ورواه البيهقي (1) أيضًا نحوه في كتاب الطهارة.
الثالث: عن عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي حافظ الشام، عن محمد بن المبارك بن يعلى الصوري القلانسي، عن صدقة بن خالد الدمشقي الأموي، عن يزيد -بالياء آخر الحروف المفتوحة، وكسر الزاي المعجمة- ابن أبي مريم الشامي، عن القاسم بن مخيمرة الهمداني أبي عروة الكوفي نزيل دمشق، عن عبد الله بن عكيم.
قوله: "ونحن بأرض جهينة" جملة حالية، وكذلك قوله:"وأنا غلام".
قوله: "بإهاب" الإهاب اسم لجلد لم يدبغ، قال الجوهري: والجمع أَهَب، على غير قياس، مثل أَدم وأَفَق عَمَدٍ، جمع أَديِم وأَفِق وعَمُود، وقد قالوا: أُهُبْ -بالضم- وهو قياس، وقال أبو عبيد: الجلد أول ما يدبغ سمي مَيتة على وزن فعيلة ثم هو أفِيق وأفِق ثم يكون أديما. وقال النضر بن شميل: الإهاب جلد البقر والغنم والإبل، وما عداه فإنما يقال له: جلد لا إهاب، وقد أنكرت طائفة من أهل العلم قول النضر هذا، وزعمت أن العرب تسمي كل جلد إهابًا، واحتجت بقول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل إهابه
…
ليس الكريمُ على القَنَا بمحرم (2)
ص: فذهب قوم إلى أن جلود الميتة لا تطهير وإن دبغت، ولا تجوز الصلاة عليها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي وابن المبارك ومالكًا وإسحاق وأبا ثور ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل؛ فإنهم قالوا: جلود الميتة لا تطهر وإن دبغت، واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 14 رقم 42، 43).
(2)
كذا بـ"الأصل، ك" وفي ديوان عنترة:
فَشَككْت بالرُّمحِ الأَصَم ثيابه
…
لَيْسَ الكَرِيمُ عَلَى القَنَا بِمُحَرَّمِ
وقال أبو عمر: الظاهر من مذهب مالك أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن ينتفع الانتفاع به في الأشياء اليابسة ولا يصلى عليه، ولا يؤكل فيه، وذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك، وقول ابن شهاب: إن جلد الميتة وإن لم يدبغ يستمتع به وينتفع، وروي ذلك عن الليث بن سعد أيضًا، وروي عنهما خلافه، ولكن الأشهر ما ذكرناه.
وقال ابن حزم في "المحلى": وقال مالك: لا يصلي في شيء من جلود الميتة وإن دبغت، ولا يحل بيعها أي جلد كان، ولا يستقى فيها، لكن جلود ما يؤكل لحمه إذا دبغت جاز القعود عليها وإن يغربل عليها وكره الاستقاء فيها بأخرة لنفسه، ولم يمنع من ذلك غيره ورأى جلود السباع إذا دبغت مباحة للجلوس عليها وللغربلة، ولم ير جلد الحمار وإن دبغ يجوز استعماله، وقال: قال أحمد بن حنبل: لا يحل استعمال جلود الميتة وإن دبغت انتهى.
وفي "الحاوي" في فقه أحمد: ولا يطهر جلد ما لا يؤكل لحمه، ولا جلد مأكول ذكاة من لا تحل زكاته وما نجس بموته لا يطهر جلده بالدباغ، وفي جواز استعماله بعد الدبغ في اليابسات روايتان، وعنه يطهر جلد ما كان طاهرًا في الحياة وقيل: المأكول، والله أعلم.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إذا دبغ جلد الميتة أو عصبها فقد طهر، ولا بأس ببيعه والانتفاع به، والصلاة عليه.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عمر بن عبد العزيز والنخعي ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير والثوري وسعيد بن جبير والليث والزهري والأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وعبد الله بن وهب وآخرين كثيرين، فإنهم قالوا: يطهر جلد الميتة بالدباغ ويجوز بيعها والانتفاع بها من كل الوجوه، وإليه ذهب أهل الظاهر أيضًا.
وقال ابن حزم في "المحلى": ويطهر جلد الميتة أي ميتة كانت ولو أنها جلد خنزير أو كلب أو سبع أو غير ذلك بالدباغ، بأي شيء دبغ طهر، فإذا دبغ حَلَّ بيعه والصلاة عليه، وكان كجلد ما ذكي مما يحلُّ أَكله، إلا أن جلد الميتة المذكور لا يحل كله بحال حاشي جلد الإنسان فإنه لا يحل أن يدبغ ولا أن يسلخ ولا بد من دفنه، وإن كان كافرًا، وصوف الميتة وشعرها وريشها ووبرها حرام قبل الدباغ حلال بعده، وعظمها وقرنها حرام كله لا يحل بيعه ولا بيع الميتة ولا الانتفاع بعصبها ولا بشحمها، وقال: قال الشافعي: يتوضأ في جلود الميتة إذا دبغت، أي جلد كان إلا جلد كلب أو خنزير، ولا يطهر بالدباغ لا صوف ولا شعر ولا وبر ولا عظام ولا قرن ولا سن ولا ريش إلا الجلد وحده فقط. انتهى.
وقال أبو عمر: وكذلك قال محمد بن عبد الحكم وداود بن علي وأصحابه، واحتجوا بقوله عليه السلام:"أيُّما إهاب دبغ فقط طهر" حملوه على العموم في كل جلد.
قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهودة الانتفاع بها، وأما جلد الخنزير فلم يدخل في المعنى؛ لأنه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه خفف الذكاة في جلود السباع، وكره جلود الحمير مذكاة.
قال ابن القاسم: أما جلد السبع والكلب إذا ذكي فلا بأس ببيعه والشرب فيه والصلاة عليه.
قال أبو عمر: الذكاة عند مالك وابن القاسم عاملة في السباع لجلودها وغير عاملة في الحمير والبغال، وأما أشهب فقال: جلد الميتة إذا دبغ لا أكره الصلاة فيه ولا الوضوء منه وأكره بيعه ورهنه، فإن بيع ورهن، لم أفسخه، قال: وكذلك جلود السباع إذا ذكيت ودبغت، وهي عندي أخف لموضع الذكاة مع الدباغ، فإن لم تذك جلود السباع فهي كسائر جلود الميتة إذا دبغت، وقال عبد الملك بن حبيب: لا يجوز بيع جلود السباع ولا الصلاة فيها وإن دبغت إذا لم تذك، ولو ذكيت لمجردها حل بيعها والصلاة فيها، قال أبو عمر: قول أشهب هذا قول أكثر الفقهاء وأهل
الحديث، وقال الشافعي: جلود الميتة كلها تطهير بالدباغ وكذلك جلد ما لا يؤكل لحمه إذا دبغ إلا الكلب والخنزير فإن الذكاة لا تعمل فيهما شيئًا.
قال أبو عمر: لا تعمل الذكاة عند الشافعي في جلد ما لا يؤكل لحمه، وحكى عن أبي حنيفة أن الذكاة عنده عاملة في السباع والحمير لجلودها، ولا تعمل الذكاة عنده في جلد الخنزير ولا عند أحد من أصحابه. انتهى.
وفي "البدائع" تطهر الجلود كلها بالدباغ إلا جلد الآدمي والخنزير، كذا ذكر الكرخي، وقال مالك: إن جلود الميتة لا تطهير بالدباغ، لكن يجوز استعماله في الجامد لا المائع، بأن جعل جرابا للحبوب دون المرق والماء والسمن والدبس وقال عامة أصحاب الحديث: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه، وقال الشافعي كما قلنا إلا في جلد الكلب، فإنه نجس العين عنده كالخنزير وكذا روي عن الحسن بن زياد، ثم قول الكرخي:"إلا جلد الإنسان" جواب ظاهر قول أصحابنا، وروي عن أبي يوسف أن الجلود كلها تطهير بالدباغ؛ لعموم الحديث، والصحيح أن جلد الخنزير لا يطهر بالدباغ، وأما جلد الفيل فذكر في "العيون" عن محمد أنه لا يطهر بالدباغ، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يطهر، والله أعلم.
ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من حديث ابن أبي ليلى الذي ذكرنا: أن قول النبي عليه السلام تنتفعوا من الميتة بإهياب ولا عصب، فقد يجوز أن يكون أراد بذلك ما دام ميتة غير مدبوغ، فإنه قد كان سئل عن الانتفاع بشحم الميتة، فأجاب الذي سأله بمثل هذا.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني زمعة بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"بينا أنا عند رسول الله عليه السلام إذ جاءه ناس فقالوا: يا رسول الله عليه السلام إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينه ميتة، فأردنا أن ندهن سفينتنا، وإنما هي عود وهي على الماء، فقال: رسول الله عليه السلام لا تنفعوا بالميتة". جوابًا له وأن ذلك على النهي عن الانتفاع بشحومها، فأما ما كان يدفع منها حتى يخرج من حال الميتة ويعود إلى غير معنى الأهب فإنه يطهر بذلك.
ش: أي وكان من الحجة والبرهان لأهل المقالة الثانية في الذي احتجت به أهل المقالة الأولى عليهم من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي رواه عن عبد الله بن عكيم، وهذا جواب عن الحديث المذكور، وهو أن قوله عليه السلام:"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب". معناه: ما دام ميتة غير مدبوغ، ونحن نقول أيضًا: مادام إهابًا لا يجوز استعماله؛ لأن الإهاب اسم لجلد غير مدبوغ، فإذا دبغ تَغَيُّر ذاته واسمه أما تَغَيُّر ذاته فإنه تزول عنه تلك الرطوبة النجسة والنتن والفساد.
وأما تَغَيُّر اسمه فإنه يسمى بعد الدباغ أديمًا بيان ذلك: أنه عليه السلام قد كان سئل عن الانتفاع بشحم الميتة، فأجاب لذلك السائل بقوله:"لا تنتفعوا من الميتة بشيء". رواه جابر بن عبد الله، وأخبر أن قوله عليه السلام كان جوابًا لذلك السائل فإن قوله:"لا تنتفعوا من الميتة بشيء" وإن كان عامًّا في الصورة، ولكن الراد منه النهي عن الانتفاع بشحوم الميتة؛ لأن السؤال عنه، فالجواب ينبغي أن يطابق السؤال.
وأما ما يدبغ من الميتة فإنه يخرج من حال الميتة ويعود إلى غير معنى الأَهَب لأن جلدها ما لم يدبغ متصف بالنتن والفساد، فإذا دبغ خرج عن ذلك المعنى كما ذكرناه.
وقوله: "الأَهَب" بفتحتين جمع إهاب كما ذكرناه عن قريب.
ثم إنه أخرج حديث جابر بن عبد الله من طريقين:
أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن زمعة بن صالح الجندي اليماني نزيل مكة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر.
وهذا الإسناد فيه ما فيه من جهة زمعة؛ فإن أحمد ويحيى والنسائي ضعفوه.
والآخر: عن إبراهيم بن محمد بن يونس بن مروان، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن زمعة بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر.
وأخرجت الجماعة (1): عن جابر قال: "سمعت رسول الله عليه السلام يقول عام الفتح بمكة: إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل له: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: هو حرام، ثم قال: رسول الله عليه السلام عند ذلك قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه".
قوله: "يستصبح" من الاستصباح وهو استفعل من المصباح، وهو السراج، وأراد أنهم يشعلون بها الضوء.
قوله: "قاتل الله" أي قتل الله، وقيل: معناه عادى الله.
قوله: "أجملوه" من أجملت الشحم وجَمَّلْتُه إذا أذبته، وجملته أكثر من أجملته، وهو بالجيم.
ص: وقد جاءت عن رسول الله عليه السلام آثار متواترة صحيحة المجيء مفسرة المعنى تخبر عن طهارة ذلك بالدباخ، فما روي في ذلك:
ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"مر النبي عليه السلام بشاة ميتة لميمونة، فقال: لو أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا أسامة، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام قال لأهل شاة ماتت: ألا نزعتم جلدها فدبغتموه فاستمتعتم به".
(1) البخاري في "صحيحه"(2/ 779 رقم 2121)، ومسلم في "صحيحه"(3/ 1207 رقم 1581)، وأبو داود في "سننه"(2/ 301 رقم 3486)، والترمذي في "جامعه"(3/ 591 رقم 1297)، والنسائي في "المجتبى"(7/ 177 رقم 4256)، وابن ماجه في "سننه"(2/ 732 رقم 2167).
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، قال: أخبرني عطاء منذ حين، عن ابن عباس قال:"أخبرتني ميمونة عن شاة ماتت، فقال النبي عليه السلام: هلَّا دبغتم إهابها فاستمتعتم به".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث وأسد بن موسى، قالا: ثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، أنه قال: سمعت ابن عباس يقول: "ماتت شاة، فقال رسول الله عليه السلام لأهلها: ألا نزعتم جلدها فدبغتموه فاستمتعتم به".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"ماتت شاة لميمونة، فقال رسول الله عليه السلام: هلا انتفعتم بإهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: إن دباغ الأديم طهوره".
حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن ابن وعلة، عن ابن عباس، أن رسول الله عليه السلام قال:"إذا دبغ الأديم فقد طهر".
حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا أبو غسان، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، أنه قال لابن عباس:"إنا نغزوا أرض المغرب، وإنما أَسْقِيَتُنَا جلود الميتة، فقال ابن عباس: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: أيما مسك دبغ فقد طهر".
حدثنا ربيع الجيزي، قال: حدثني إسحاق بن بكر بن مضر، قال: ثنا أبي، عن جعفر بن ربيعة، أنه سمع أبا الخير يخبر، عن ابن وعلة، أنه سأل ابن عباس فقال:"إنا نغزوا هذه المغرب ولهم قرب يكون فيها الماء وهم أهل وثن؟ قال ابن عباس: الدباغ طهور، فقال: له ابن وعلة أَعَنْ رأيك أم سمعته من رسول الله عليه السلام؟ قال: بل سمعته من رسول الله عليه السلام".
حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أسد، قال: ثنا عبدة بن سليمان (ح).
وحدثنا إسماعيل بن إسحاق الكوفي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى العبسي، قالا جميعًا: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن سودة زوج النبي عليه السلام قالت:"ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنًّا".
ش: أي قد جات أحاديث كثيرة عن رسول الله عليه السلام صحيحة الأسانيد ظاهرة المعاني تخبر أن جلد الميتة يطهر بالدباغ، فمن الذي روي في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه من أحد عشر طريقًا:
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي البصري شيخ أبي داود والبخاري في غير "الصحيح"، وثقه ابن حبان.
عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه مسلم (1): ثنا ابن أبي عمر وعبد الله بن محمد الزهري واللفظ لابن أبي عمر، قالا: ثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام مر بشاة مطروحة أعطيتها مولاةٌ لميمونة من الصدقة، فقال رسول الله عليه السلام: ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به".
قوله: "لو أخذوا إهابها" جواب "لو" محذوف، أي: لو أخذوا إهاب هذه الشاة الميتة فدبغوه فانتفعوا به لكان خيرًا لهم من إلقائه ثم الانتفاع أعمُّ من أن يكون باللبس والفرش واتخاذ الآلة ونحو ذلك.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 277 رقم 363).
الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن عطاء، عن ابن عباس.
وهذا أيضًا صحيح.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث ابن وهب، أخبرني أسامة بن أبي زيد الليثي، عن عطاء، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام قال لأهل شاة ماتت: ألا نزعتم جلدها فدبغتموه فاستمتعتم به".
الثالث: عن أبي بشر الرقي عبد الملك بن مروان، عن حجاج بن محمد الصيصي الأعور، عن عبد الملك بن جريج، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس.
وهذا أيضًا صحيح.
وأخرجه النسائي (2): أخبرني عبد الرحمن بن خالد القطان الرقي، ثنا حجاج، قال: ثنا ابن جريج
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.
الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث وأسد بن موسى، كلاهما عن الليث بن سعد، عن يزيد أبي حبيب سويد المصري، عن عطاء
…
إلى آخره.
وهذا أيضًا صحيح.
وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث بن سعد
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء متنًا وسندًا.
الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، عن أبيه عطاء، عن ابن عباس.
عن أحمد بن يعقوب بن عطاء، منكر الحديث، وقال: يحيى وأبو زرعة: ضعيف.
وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات".
(1)"سنن البيهقي الكبري"(1/ 16 رقم 49).
(2)
"المجتبى"(7/ 172 رقم 4237).
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن معمر، والسكن بن سعيد، قالا: نا روح بن عبادة، نا شعبة، نا يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.
قوله: "إن دباغ الأديم" أراد به أن دباغ الإهاب، أطلق على الإهاب أديمًا باعتبار ما يؤول؛ لأن الأديم اسم للجلد الذي دبغ، والإهاب اسم للجلد الذي لم يدبغ.
قوله: "طهوره" يجوز فيه فتح الطاء وضمها، أما الفتح، فعل معنى أن الدباغ مطهر له، وأما الضم فعلى معنى أن الدباغ طهارة له.
السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم القرشي المدني، عن عبد الرحمن بن وعلة السبئي المصري، عن ابن عباس.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه مسلم (1): نا يحيى بن يحيى، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، أن عبد الرحمن بن وعلة أخبره، عن عبد الله بن عباس، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر".
وأخرجه أبو داود (2): ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن زيد بن أسلم
…
إلى آخره نحو رواية مسلم.
وأخرجه النسائي (3): أنا قتيبة وعلي بن حجر، عن سفيان، عن زيد بن أسلم
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي.
وأخرج الترمذي (4) أيضًا نحوه.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 277 رقم 366).
(2)
"سنن أبي داود"(4/ 66 رقم 4241).
(3)
"المجتبى"(7/ 173 رقم 4241).
(4)
"جامع الترمذي"(4/ 221 رقم 1728).
قوله: "أيما إهاب دبغ" يتناول سائر الأهب من جلود الميتات وغيرها، حتى إن بعضهم ذهب إلى أن جلد الخنزير أيضًا يطهر بالدباغ؛ لعموم اللفظ، وروي ذلك عن أبي يوسف أيضًا.
قلنا: لم يكن من عادتهم اقتناء الخنازير حتى تموت فيدبغوا جلودها، ولأن نجاسة الخنزير ليست لما فيه من الدم والرطوبة بل هو نجس العين، فكان وجود الدباغ في حقه وعدمه بمنزلة واحدة، وقيل: إن جلده لا يحتمل الدباغ؛ لأن له جلودًا مترادفة بعضها فوق بعض كما للآدمي، وقال بعضهم: ولا يتناول الحديث الكلب أيضًا؛ لأنه لم يكن من عاداتهم استعمال جلده.
قلنا: لا يلزم من ترك استعمالهم جلد الكلب أن لا يطهر جلده بالدباغ؛ فالحديث يتناول جلده أيضًا لكونه قابلًا للدباغ.
فإن قيل: ما تقول في جلد الأدمي على هذا العموم؟
قلت: إنما منع ذلك في جلد الأدمي لكرامته واحترامه. وقال القاضي عياض: وقال بعضهم: بل يُخَصُّ هذا العموم بقوله: "دباغ الأديم ذكاته" فأحل الذكاة محل الدباغ، فوجب أن لا يؤثر الدباغ إلا فيما تؤثر فيه الذكاة، والذكاة إنما تؤثر عند هؤلاء فيما يستباح لحمه؛ لأن قصد الشرع بها استباحة اللحم؛ فإذا لم يستبح اللحم لم تصح الذكاة، وإذا لم تصح الذكاة لم يصح الدباغ المشبه به، وقد أشار بعض من انتصر لمذهب مالك إلى سلوك هذه الطريقة، فرأى أن التحريم يتأكد في الخنزير، واختص بنص القرآن عليه، فلهذا لم تعمل الذكاة فيه، فلما تقاصر عنه في التحريم، ما سواه لم يلحق به في تأثيرا الدباغ، وقد سلك هذه الطريقة أيضًا أصحاب الشافعي، ورأوا أن الكلب أُخصَّ في الشرع بتغليظ لم يرد فيما سواه من الحيوان وأُلحق بالخنزير.
قلت: ذهب بعض أصحابنا المحققين إلى هذا، فقالوا: إن الذكاة تحل محل الدباغ فوجب أن يؤثر الدباغ فيما تؤثر فيه الذكاة، والذكاة عندهم تؤثر في التطهير لا في استباحة اللحم، حتى لو ذبح الحمار أو الكلب يطهر، فإذا كان الأمر كذلك أثر
الدباغ في جلد كل حيوان ولا يستثنى منه غير الخنزير لنجاسة عينه، والأدمي لكرامته، والله أعلم.
السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة
…
إلى آخره.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه مالك في "موطإه"(1) ولفظه: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر".
الثامن: عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن أبي غسان محمد بن مطرف بن داود الليثي المدني نزيل عسقلان، روى له الجماعة
…
إلى آخره.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): حدثني عفان، نا حماد بن سلمة، ثنا زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، قال:"قلت لابن عباس: إنا لنغزو هذا المغرب وأكثر أسقيتهم الميتة -وربما قال حماد: وعامة أسقيتهم الميتة- قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: دباغها طهورها".
قوله: "وإنما أسقيتنا" الأسقية جمع سقاء -بالكسر- وهو الدلو.
قوله: "أيما مَسْك" بفتح الميم، وهو الجلد.
التاسع: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن إسحاق بن بكر بن مضر، عن أبيه بكر بن مضر بن محمد المصري، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله اليزني المصري، عن عبد الرحمن بن وعلة.
وهذا إسناد صحيح.
(1)"موطأ مالك"(2/ 498 رقم 1063).
(2)
"مسند أحمد"(1/ 279 رقم 2522).
وأخرجه مسلم (1): حدثني إسحاق بن منصور وأبو بكر بن إسحاق، عن عمرو بن الربيع، قال: أنا يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي الخير حدثه، قال: حدثني ابن وعلة السبئي، قال:"سألت عبد الله بن عباس، قلت: إنا نكون بالمغرب فيأتينا المجوس بالأسقية فيها الماء والودك؟ فقال: اشرب، فقلت: أرأي تراه؟ فقال ابن عباس: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: دباغه طهوره".
وأخرجه النسائي (2): أخبرني الربيع بن سليمان، ثنا إسحاق بن بكر
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي.
وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا بكر بن مضر
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "وهم أهل وثن" وهو الصنم، والجمع: وُثْنٌ وأَوْثَان، مثل أُسْد وآساد، ويقال: الوثن: ما يعمل من الجلد ونحوهما، والصنم ما يعمل من الخشب والفضة والذهب ونحوها.
العاشر: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن عبدة ابن سليمان الكلابي الكوفي، عن إسماعيل بن أبي خالد البجلي، عن عامر الشعبي، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وهذا أيضًا صحيح.
وأخرجه النسائي (3): أنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، أنا الفضل بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن النبي، عن عكرمة
…
إلى آخره نحوه سواء.
وأخرجه البخاري (4) أيضًا.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 278 رقم 366).
(2)
"المجتبى"(7/ 173 رقم 4242).
(3)
"المجتبى"(7/ 173 رقم 4240).
(4)
"صحيح البخاري"(6/ 2460 رقم 6308).
الحادي عشر: عن إسماعيل بن إسحاق بن سهل الكوفي المعروف بترنجة نزيل مصر، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي -بالعين المهملة، والباء الموحدة، والسن المهملة- شيخ البخاري.
عن إسماعيل بن أبي خالد
…
إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا ابن نمير، عن إسماعيل، عن عامر، عن عكرمة عن ابن عباس
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "ننبذ" من نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا وانتبذته: اتخذته نبيذًا، وسواء كان مسكرًا أو غير مسكر فإنه يقال له: نبيذ. ويقال للخمر المعتصر من العنب: نبيذ، كما يقال للنبيذ خمر.
قوله: "حتى صار شنًّا" الشَّنُّ -بفتح السنن المعجمة وتشديد النون- القربة البالية.
ص: حدثنا محمد بن علي بن داود وفهد، قالا: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرئيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي عليه السلام: "دباغ الميتة طهورها" هل لفظ محمد وأما فهد فقال: "دباغ الميتة ذكاتها".
حدثنا محمد بن علي، قال: ثنا الحسين بن محمد المروزي، قال: ثنا شريك، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الأسود، عن عائشة قالت: قال النبي: "دباغ الميتة طهورها".
حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثنا أصحابنا، عن عائشة رضي الله عنها، مثله.
حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود:"سألت عائشة رضي الله عنها عن جلود الميتة فقالت: لعل دباغها يكون طهورها".
(1)"مسند أحمد"(6/ 429 رقم 27458).
ش: هذه أربع طرق:
الأول: عن محمد بن علي بن داود البغدادي، وفهد بن سليمان الكوفي، كلاهما عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن الحسين بن أبي الحُنَيْن وإبراهيم بن محمد بن دِهقان، قالوا: ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي، عن إسرائيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله عليه السلام: "دباغ الميتة طهورها"، وقال هارون: ذكاتها.
وأخرجه النسائي (1): أخبرني إبراهيم بن يعقوب، ثنا مالك بن إسماعيل، ثنا إسرائيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: قال رسول الله عليه السلام: "ذكاة الميتة دباغها".
قوله: "دباغ الميتة ذكاتها" معناه أن كل حيوان مما يؤكل وما لا يؤكل إذا ذكي طهر جلده -إلا الخنزير كما ذكرناه لنجاسة عينه- وكذلك يطهر لحمه عندنا، ويوضح هذا التفسير رواية النسائي:"ذكاة الميتة دباغها".
الثاني: عن محمد بن علي أيضًا، عن الحسين بن محمد بن بهرام المروذي، روى له الجماعة، ونسبته إلى مروذ -بضم الميم والراء وفي آخره ذال معجمة- نسبة إلى مرو الروذ بلدة بخراسان، والقياس المرو الروذي، وقد يقال المُروُذي قاله: ابن ماكولا.
عن شريك بن عبد الله النخعي، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
(1)"المجتبى"(7/ 174 رقم 4247).
وأخرجه النسائي (1): أنا الحسين بن منصور بن جعفر النيسابوري، ثنا الحسين ابن محمد، ثنا شريك، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الأسود، عن عائشة قالت:"سئل النبي عليه السلام عن جلود الميتة، فقال: دباغها طهورها".
الثالث: عن فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش
…
إلى آخره.
وفيه مجاهيل، ولكن أصحاب الأعمش مثل الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأمثالهما.
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد، عن جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي أحد أصحاب أبي حنيفة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة رضي الله عنها.
وهذا موقوف، وإسناده صحيح.
وأخرجه السراج في "مسنده".
حدثنا محمد بن الصباح، أنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"قال سألتها عن الفراء، فقالت: "لعل دباغها يكون طهورها".
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن كثير ابن فرقد، أن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه، عن أمه العالية بنت سبيع، أن ميمونة زوج النبي عليه السلام حدثتها:"أنه مَرَّ على رسول الله عليه السلام رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم النبي عليه السلام: لو أخذتم إهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث والليث، عن كثير بن فرقد
…
فذكر بإسناده مثله.
ش: هذان إسنادان حسنان جيدان:
(1)"المجتبى"(7/ 174 رقم 4244).
أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن كثير بن فرقد المدني نزيل مصر من رجال البخاري، عن عبد الله بن مالك بن حذافة الحجازي نزيل مصر، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي هذا الحديث فقط.
عن أمه العالية بنت سبيع، قال العجلي: مدنية تابعية ثقة، روى لها أبو داود والنسائي هذا الحديث فقط.
عن ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا أحمد بن صالح، قال: حدثني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو -يعني- ابن الحارث، عن كثير بن فرقد، أن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه، عن أمه العالية بنت سبيع، أنها قالت:"كان لي غنم بِأُحُدٍ فوقع فيها الموت، فدخلت على ميمونة زوج النبي عليه السلام فذكرت ذلك لها، فقالت لي ميمونة: لو أخذت جلودها فانتفعت بها، فقالت: قلت: أو يحل ذلك؟ قالت: نعم؛ مَرَّ على رسول الله عليه السلام رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله عليه السلام: لو أخذتم إهابها، فقالوا: إنها ميتة، فقال رسول الله عليه السلام: يطهرها الماء والقرظ".
والإسناد الآخر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري، والليث بن سعد، كلاهما عن كثير بن فرقد، عن عبد الله بن مالك بن حذافة، عن أمه العالية بنت سبيع، عن ميمونة.
وأخرجه النسائي (2): أنا سليمان بن داود، عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث والليث بن سعد، عن كثير بن فرقد، أن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه، عن العالية بنت سبيع، أن ميمونة زوج النبي عليه السلام -حدثتها: "أنه مَرَّ برسول الله عليه السلام
(1)"سنن أبي داود"(4/ 66 رقم 4126).
(2)
"المجتبى"(7/ 174 رقم 4248).
رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان، فقال لهم رسول الله عليه السلام: لو أخذتم إهاجمها، قالوا: إنها ميتة، فقال رسول الله عليه السلام: يطهرها الماء والقرظ".
قوله: "لو اخدتم إهابها" جوابه محذوف أي لو أخذتم إهابها لانتفعتم بها ونحو ذلك.
"والقرظ" بفتح القاف والراء في وآخره ظاء معجمة: ورق السَّلَم (1) يدبغ به، ومنه أديم مقروظ.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن الحسن، عن الجَوْن بن قتادة، عن مسلمة بن المحَبق:"أن رسول الله عليه السلام -بقربة من عند امرأة- فيها ماء، فقالت: إنها ميتة، فقال النبي عليه السلام: دبغتها؟ فقالت: نعم، فقال: دباغها طهورها".
ش: إسناده صحيح.
وأبو عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري وأبي داود، وهشام هو الدستوائي، والحسن هو البصري، والجَوْن -بفتح الجيم، وسكون الواو- بن قتادة بن الأعور التميمي البصري، قيل: له صحبة، وقيل: لا صحبة له.
وسلمة بن المحبق -بضم الميم- وفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء المكسورة، وفي آخره قاف- أبو سنان الصحابي.
وقال ابن الأثير: أهل الحديث بفتحون الباء، واسم المحبق: صخر بن عتبة، ويقال: عتيبة.
وأخرجه النسائي (2): أنا عبيد الله بن سعيد، ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق: "أن نبي الله عليه السلام
(1) قال ابن الأثير في "النهاية"(2/ 395): السَّلَم: شجر من العِضَاه، واحدتها: سَلَمة -بفتح اللام- وورقها القَرَظ الذي يدبغ به.
(2)
"المجتبى"(7/ 173 رقم 4243).
في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة، قالت: ما عندي إلا في قربة لي ميتة، قال: أليس قد دبغتها؟ قالت: بلى. قال: فإن دباغها ذكاتها".
وأخرجه أبو داود نحوه (1): وفي لفظه دباغها طهورها.
وأخرجه البيهقي (2): من حديث عفان، عن همام، عن قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق:"أن النبي عليه السلام أتى على بيت قُدَّامه قربة معلقة، فسأل الشراب فقالوا: إنها ميتة، قال: ذكاتها دباغها".
قال: وروينا من حديث حفص بن عمر، عن همام، فقال:"دباغها طهورها". وكذلك قال شعبة عن قتادة.
ص: فقد جاءت هذه الآثار متواترة في طهور جلد الميتة بالدباغ، وهي ظاهرة المعنى، فهذا أولى من حديث عبد الله بن عكيم الذي لم يدلنا على خلاف ما جاءت به هذه الآثار.
ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي رواها عن ابن عباس، وسودة وعائشة وميمونة أزواج النبي عليه السلام، وسلمة بن المحبق رضي الله عنهم، وأراد بالتواتر التكاثر والورود بالصحة، فإذا كان كذلك يكون العمل بها أولى من العمل بحديث عبد الله بن عكيم على أن حديث عبد الله عكيم، لا يدل على خلاف ما تدل هذه الأحاديث؛ لأنا قد ذكرنا أن معناه: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ما دام غير مدبوغ، فهذا لا ينافي الانتفاع به بعد الدباغة، فحيئنذ لم يبق لأهل المقالة الأولى تعلق بهذا الحديث، فتكون معاني هذه الأحاديث -إذا صححت- دالة على ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. فافهم.
ص: فإن قال قائل: إنما كان إباحة دباغ جلود الميتة وطهارتها بذلك الدباغ إنما كان قبل تحريم الميتة.
(1)"سنن أبي داود"(4/ 66 رقم 4125).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 21 رقم 70).
فإن الحجة عليه في ذلك والدليل -على أن ذلك كان بعد تحريم الميتة وأن هذا كان غير داخل فيما حرم منها- أن ابن أبي داود قد حدثنا، قال: حدثنا المقدمي، قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا سماك بن حرب (ح).
وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة -تعني الشاة- قال: فلولا أخذتم مَسْكها، فقالت: يا رسول الله نأخذ مَسْك شاة قد ماتت؟! فقال النبي عليه السلام: إنما قال الله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (1) الآية، فإنه لا بأس أن تدبغوه فتنتفعوا به، قالت: فأرسلت إليها فسلخت مَسْكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت".
ففي هذا الحديث أن النبي عليه السلام لما سألته عن ذلك قرأ عليها الآية التي نزل فيها تحريم الميتة، فأعلمها بذلك أن ما حرم عليهم بتلك الآية من الشاة حين ماتت إنما هو الذي يطعم منها إذا ذكيت لا غيره، وأن الانتفاع بجلودها إذا دبغت غير داخل في ذلك الذي حرم منها.
ش: تقرير السؤال أن يقال: لا نسلم أن إباحة جلود الميتات وطهارتها بالدباغ مطلق، بل إنما كان ذلك قبل أن يحرم الله تعالى الميتات، فلما حرم الله الميتات حرم كل شيء منها وكل جزء من أجزائها بتحريم أصلها.
وأجاب عنه بقوله: "فإن الحجة عليه في ذلك" أي فإن الحجة وأراد بها الجواب على القائل المذكور فيما قاله.
قوله: "والدليلَ" بالنصب، عطف على قوله:"فإن الحجة أي وإن الدليل على أن ذلك كان قبل تحريم الميتة، "وأن جلد الميتة غير داخل فيما حرم منها" أي من الميتة.
وقوله: "أن ابن أبي داود" خبر لقوله: "أن ذلك".
(1) سورة الأنعام، آية:[145].
بيان ذلك: أن حديث عكرمة عن ابن عباس يخبر أن النبي عليه السلام لما سألته ميمونة رضي الله عنها عن جلد تلك الشاة الميتة، قرأ عليه السلام عليها الآية التي بُيِّن فيها تحريم الميتة، وهي قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (1) الآية، فأعلمها عليه السلام بذلك أن الذي حرم عليهم بتلك الآية إنما هو الذي يؤكل منها لا غيره، وأن الانتفاع بجلودها إذا دبغت غير داخل في الذي حرم منها، وكذلك حكم صوفها وشعرها ووبرها وقرنها وظلفها وحافرها وعظمها، فإن هذه الأشياء كلها لا تدخل فيما يطعم، وفي العصب. روايتان عن أصحابنا.
ثم إنه أخرج الحديث المذكور من طريقين صحيحين.
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري شيخ الشيخين، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن سماك بن حرب بن أوس روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من طريق أبي عوانة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "ماتت شاة لسودة
…
" إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه: "وأنكم لا تطعمونه، إنما تدبغونه فتنتفعون به، فأرسلت إليها
…
" إلى آخره.
والثاني: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، عن يوسف بن عدي ابن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي روى له الجماعة عن سماك، عن عكرمة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3) نحوه، وقال الذهبي في تنقيح "سنن البيهقي" عقيب هذا الحديث.
(1) سورة الأنعام، آية:[145].
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 18 رقم 57).
(3)
"مسند أحمد"(1/ 327 رقم 3027).
قلت: صحيح.
قوله: "ماتت فلانة" قد ذكر أهل العربية أن فلانًا وفلانة وأبو فلان وأم فلان كنايات عن أسامي الأناسي وكناهم، وأنها قد تجئ كنايات عن أعلام البهائم أيضًا، وقال الزمخشري: وإذا كنوا عن أعلام البهائم ادخلوا اللام، فقالوا: الفلان والفلانة.
قلت: لا شك أن فلانة ها هنا كناية عن علم شاة لميمونة، ولكنها ذكرتها مجردة عن اللام".
قوله: "فلولا" كلمة "لولا" ها هنا للتحضيض كما في قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (1) والتحضيض: الترغيب في فعل الشيء، أو التحذير من تركه.
قوله: "مَسكها" بفتح الميم أي جلدها.
قوله: "فإنه لا بأس" أي فإن الشأن لا حرج عليكم بأن تدبغوا جلدها.
ص: وقد روى عبيد الله بن عبد الله أيضًا، عن ابن عباس نحوًا من ذلك:
حدثنا يونس، قال: أبنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال رسول الله عليه السلام: ألا انتفعتم بجلدها، قالوا: إنها ميتة، قال: إنما حرم كلها".
فدل ذلك على أن الذي حرم من الشاة بموخها هو الذي يراد للأكل لا غير ذلك من جلودها وعصبها، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
ش: أي قد روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس نظير ما رواه عكرمة؛ عنه، وهو ظاهر.
(1) سورة التوبة، آية:[122].
وإسناد الحديث صحيح على شرط مسلم.
ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى، والثاني هو ابن يزيد الأيلي، وابن وهب هو عبد الله بن وهب، وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو الطاهر وحرملة، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس
…
إلى آخره نحوه سواء.
وأخرجه البخاري (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4) أيضًا.
وفي لفظ للبخاري (5): "مر النبي عليه السلام بعنز ميتة، فقال: ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها".
وفي لفظ لمسلم (6): "أن ميمونة أخبرته أن داجنة كانت لبعض نساء رسول الله عليه السلام فماتت، فقال رسول الله عليه السلام: ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به".
قوله: "أَلَّا" بفتح الهمزة وتشديد اللام مثل "هَلاّ" كلاهما للتحضيض.
ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا الأصل المجمع عليه أن العصير لا بأس بشربه والانتفاع به ما لم يحدث فيه صفات الخمر، فإذا حدثت فيه صفات الخمر حرم بذلك، ثم لا يزال حرامًا كذلك حتى تحدث فيه صفات الخل، فإذا حدثت فيه صفات الخلّ حلّ، فكان يحلّ بحدوث الصفة ويحرم بحدوث صفة غيرها، وإن كان بدنًا واحدًا.
فالنظر على ذلك أن يكون كذلك جلد الميتة، يحرم بحدوث صفة الموت فيه، ويحل بحدوث صفة الأمتعة فيه من الثياب وغيرها فيه، فإذا دبغ فصار كالجلود
(1)"صحيح مسلم"(1/ 276 رقم 363).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 543 رقم 1421).
(3)
"جامع الترمذي"(4/ 220 رقم 1727).
(4)
"المجتبى"(7/ 172 رقم 4235).
(5)
"صحيح البخاري"(5/ 2104 رقم 5212).
(6)
"صحيح مسلم"(1/ 277 رقم 364).
والأمتعة فقد حدثت فيه صفات الحلال، فالنظر على ما ذكرنا أن يحل بحدوث تلك الصفة فيه.
ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، وهذا الوجه ظاهر، ولكن قوله:"فإذا حدثت فيه صفات النحل حلّ" ليس بمجمع عليه؛ لأن عند الشافعي وأخرين أن الخمر إذا صار خلا إنما يحل إذا كان من ذاته من غير معالجة بشيء.
قوله: "وإن كان بدنًا واحدًا" أراد به ذاتا واحدة.
ص: وحجه أخرى: أنا قد رأينا أصحاب رسول الله عليه السلام لما أسلموا لم يأمرهم النبي عليه السلام بطرح نعالهم وخفافهم وأنطاعهم التي كانوا اتخذوها في حال جاهليتهم، وإنما كان ذلك من ميتة أو من ذبيحة، فذبيحتهم إنما كانت ذبيحة أهل الأوثان، فهي في حرمتها على أهل الإِسلام كحرمة الميتة، فلما لم يأمرهم النبي عليه السلام بطرح ذلك، وترك الانتفاع به ثبت أن ذلك قد كان خرج من حكم الميتة ونجاستها بالدباغ، إلى حكم سائر الامتعة وطهارتها، وكذلك كانوا مع رسول الله عليه السلام إذا افتتحوا بلادًا من بلاد المشركين لا يأمرهم بأن يتحاموا خفافهم ونعالهم وأنطاعهم وسائر جلودهم فلا يأخذوا من ذلك شيئًا، بل كان لا يمنعهم من شيء من ذلك، فذلك دليل على طهارة الجلود بالدباغ.
ش: أي دليل أخر في طهارة الجلود بالدباغ، وهو ظاهر.
قوله: "إنا قد رأينا" يجوز فيه الكسر والفتح، فالفتح على أنه في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله:"حجة أخرى" مقدمًا، والكسر على أنه ابتداء كلام.
وقوله: "حجة أخرى" خبر مبتدأ محذوف، أي وهذه حجة أخرى، أو يكون التقدير: خُذ حجة أخرى، فحينئذ يتعين النصب على المفعولية.
قوله: "ذبيحة أهل الأوثان" لأنهم لم يكو نوا أهل كتاب.
قوله: "وكذلك كانوا" أي الصحابة رضي الله عنهم، وهذه إشارة إلى حجة أخرى.
قوله: "بأن يتحاموا" أي يجتنبوا.
قوله: "فلا يأخذوا" عطف على قوله: "بأن يتحاموا".
ص: ولقد روي في هذا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"كنا نصيب مع رسول الله عليه السلام في مغانمنا من المشركين الأسقية فنقسمها، وكلها ميتة، فنتنتفع بذلك".
فدل ذلك على ما ذكرنا، وهذا جابر يقول هذا وقد حدث عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"لا تنتفعوا من الميتة بشيء". فلم يكن ذلك عنده بمضاد لهذا، فثبت أن معنى حديثه عن رسول الله عليه السلام:"لا تنتفعوا من الميتة بشيء". غير معنى حديثه الآخر، وأن الشيء المحرم من الميتة في ذلك الحديث، هو غير المباح في هذا الحديث، فكذلك ما روي عن عبد الله بن عكيم، عن رسول الله عليه السلام مما نُهي عن الانتفاع به من الميتة هو غير ما أباح في هذه الآثار، ومن أهبها المدبوغة، حتى تتفق هذه الآثار ولا يضاد بعضها بعضًا، وهذا الذي ذهبنا إليه في هذا الباب من طهارة جلود الميتة بالدباغ قول أتيت حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: هذه إشارة إلى لي تأييد صحة ما ذكره من الحجة الأخرى؛ لأن حديث جابر بن عبد الله يصدقها ويصححها، وهذا ظاهر.
وأيضًا إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين روايتي جابر بن عبد الله؛ فإنه روى في حديث: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء". وهو ما رواه أبو الزبير المكي عنه المذكور فيما مضى.
وروى ها هنا: "كنا نصيب مع رسول الله عليه السلام في مغانمنا من المشركين الأسقية".
فبين الحديثين تضاد ظاهرًا، ولكن في الحقيقة إذا صحح معانيهما يتفقان؛ لأن معنى حديثه الأول غير معنى حديثه الآخر، لأن المحرم في حديثه الأول هو الشحم من الميتة على ما ذكرنا، وهو غير المباح في حديثه الآخر وهو الانتفاع بجلود الميتات
المدبوغة فيكون كل واحد من معنيي الحديثين في محل، فباختلاف المحل لا يتحقق التضاد؛ فافهم.
وكذلك الكلام بين حديث عبد الله بن عكيم المذكور في أول الباب، في استدلال أهل المقالة الأولى، وبين هذه الأحاديث؛ وذلك لأن معنى حديثه: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ما دام غير مدبوغ، فإذا دبغ يجوز الانتفاع به، وهو معنى الأحاديث الأخُر، فبهذا المعنى تتفق الأحاديث كلها ولا يضاد بعضها بعضًا؛ فافهم.
قوله: "من أَهَبها المدبوغة" بفتح الهمزة والهاء، جمع إهاب، وقد يضم على القياس، وقد مرّ مرة.
ثم إسناد حديث جابر المذكور صحيح.
وأبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، ومحمد بن راشد الخراعي أبو عبد الله الشامي المعروف بالمكحولي، وثقه أحمد ويحيى، وروى له الأربعة.
وسليمان بن موسى القرشي أبو أيوب الدمشقي فقيه أهل الشام في زمانه، ثقة صدوق، وقال ابن عدي: ثبت صدوق، وروى له مسلم في مقدمة كتابه والأربعة.
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن المثنى، نا عبد الوهاب، نا برد، نا سليمان بن موسى، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال:"كنا نصيب مع رسول الله عليه السلام الأسقية والآنية فنغسلها ونأكل فيها، يعني آنية المشركين".