الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الجنازة تمر بالقوم بالقوم أيقومون لها أم لا
؟
ش: أي هذا باب في بيان أن الجنازة إذا مرت على قوم وهم قعود هل يقومون لها أم لا يقومون؟
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلي بن منصور، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن أمية، عن موسى بن عمران بن منَّاح:"أن أبان بن عثمان مرت به جنازة فقام لها، وقال: إن عثمان مرت به جنازة فقام لها وقال: إن رسول الله عليه السلام مرت به جنازة فقام لها".
حدثنا يزيد، قال: ثنا دُحَيم، قال: ثنا سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك، عن إسماعيل بن أمية
…
فذكر بإسناده مثله إلا أنه قال: "رأيت عثمان يفعل ذلك، وأخبرني أن رسول الله عليه السلام يفعل ذلك".
ش: هذان طريقان:
الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن معل بن منصور الرازي أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ البخاري في غير "الصحيح"، روى له الجماعة.
عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي ثقة قال: دحيم غاية في الشاميين وخلط عن المدنيين.
عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي الأموي المكي روى له الجماعة.
عن موسى بن عمران بن منَّاح -بالنون المشددة- المديني قيل: إنه ليس بمشهور.
عن أبان بن عثمان بن عفان روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا زكرياء بن أبي زكرياء، حدثني [يحيى بن](2) سليم، نا إسماعيل بن أمية، عن موسى بن عمران بن منَّاح، قال:"رأى أبان بن عثمان جنازة فقام لها، ثم قال: رأى عثمان بن عفان جنازة فقام لها، ثم حدث: أن رسول الله عليه السلام رأى جنازة فقام لها".
وأخرجه أيضًا ابن شاهين في كتاب "الناسخ والمنسوخ"(3).
والثاني: عن يزيد بن سنان القزاز البصري، عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي الملقب بدُحَيْم -بضم الدال، وفتح الحاء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف- شيخ البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه.
عن سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، عن يحيى: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، ليس بقوي. وقال البخاري: منكر الحديث، في حديثه نظر. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يخطئ. روى له الترمذي وابن ماجه.
وهو يروي عن إسماعيل بن أمية بن عمرو القرشي، عن موسى بن عمران، عن أبان بن عثمان.
وأخرجه البزار في "مسنده"(4): ثنا بشر بن خالد، قال: ثنا سعيد بن مسلمة، قال: ثنا إسماعيل بن أمية، عن موسى بن عمران بن منَّاح، عن أبان، عن عثمان:"أنه رأى جنازة مقبلة، فلما رآها قام لها قائمًا، ثم أخبر أنه رأى رسول الله عليه السلام يفعله".
(1)"مسند أحمد"(1/ 64 رقم 457).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند" أحمد، ويحيى بن سليم هو: الطائفي، ووقع في "الناسخ والمنسوخ" لابن شاهين:"يحيى بن سليمان"، وهو تحريف.
(3)
"الناسخ والمنسوخ"(1/ 295 رقم 334).
(4)
"مسند البزار"(2/ 21 رقم 359).
وأخرجه عبد الله بن أحمد (1) قال: حدثني الحكم بن موسى أبو صالح، نا سعيد بن مسلمة، عن إسماعيل بن أمية، عن موسى بن عمران بن منَّاح، عن أبان بن عثمان:"أنه رأى جنازة مقبلة، فلما رآها قام وقال: رأيت عثمان يفعل ذلك، وأخبرني أنه رأى النبي عليه السلام يفعله".
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة، أن النبي عليه السلام:"إذا رأيتم الجنازة فقدموا لها حتى توضع أو تخلفكم".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا سفيان
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أزهر بن سعد السمان، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة قال: قال لي رسول الله عليه السلام: "إذا رأيت جنازة فقم".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبر في ابن شهاب، قال: أخبرني سالم، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة، عن النبي عليه السلام قال:"إذا رأيتم الجنازة فقدموا لها حتى توضع أو تخلفكم".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة، عن النبي عليه السلام نحوه.
ش: هذه خمس طرق صحاح:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن
(1)"زوائد عبد الله على مسند أحمد"(1/ 68 رقم 495).
عمر بن الخطاب، عن عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك أبي عبد الله العدوي، من المهاجرين الأول، أسلم قبل عمر رضي الله عنه وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله عليه السلام، روى عنه جماعة كثيرون منهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وأخرج حديثه الجماعة:
فالبخاري (1): عن علي بن عبد الله، عن سفيان
…
إلى آخره، نحوه ولفظه:"إذا رأيتم الجنازة فقدموا حتى تخلفكم -زاد الحميدي- أو توضع".
ومسلم (2): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب وابن نمير، جمعيهم عن سفيان
…
إلى آخره نحوه.
وأبو داود (3): عن مسدد، عن سفيان
…
إلى آخره، نحوه.
والترمذي (4): عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة
…
إلى آخره، نحوه.
وعن (5) قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة، عن النبي عليه السلام.
والنسائي (6): عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر، عن ربيعة، عن النبي عليه السلام قال:"إذا رأى أحدكم الجنازة فلم يكن ماشيًا معها، فليقم حتى تخلفه أو توضع من قبل أن تخلفه".
(1)"صحيح البخاري"(1/ 440 رقم 1245).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 659 رقم 958).
(3)
"سنن أبي داود"(3/ 203 رقم 3172).
(4)
"جامع الترمذي"(3/ 360 رقم 1042).
(5)
"جامع الترمذي"(3/ 360 رقم 1041).
(6)
"المجتبى"(4/ 44 رقم 1915).
وعن (1) قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة العدوي، عن رسول الله عليه السلام
…
إلى آخره، نحو رواية البخاري.
وابن ماجه (2): عن محمد بن رمح، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة، عن النبي عليه السلام.
وعن هشام بن عمار، عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عامر ابن ربيعة سمعه، يحدث، عن النبي عليه السلام قال:"إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع".
الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن إبراهيم بن أبي الوزير، وهو: إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي المكي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة.
الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أزهر بن سعد أبي بكر السمان الباهلي البصري، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن عامر بن ربيعة
…
إلى آخره.
وأخرجه الطبراني (3): ثنا علي بن عبد العزيز، نا معلى بن أسد العمي، نا محمد بن دينار، ثنا ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا رأيت الجنازة فقم حتى تجاوزك".
الرابع: عن أبي بكرة بكار، عن حسين بن مهدي بن مالك شيخ الترمذي وابن ماجه، عن عبد الرزاق بن همام صاحب "المصنف"، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة
…
إلى آخره.
(1)"المجتبى"(4/ 44 رقم 1916).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 492 رقم 1542).
(3)
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 445 رقم 15712) من طريق يزيد بن هارون، عن ابن عون، به مطولًا.
وأخرجه أحمد في مسنده (1): ثنا عبد الرزاق، نا معمر، ثنا الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حتى تخلفه أو توضع".
الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة
…
إلى آخره.
وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه نحوه وقد ذكرناه (2).
قوله: "حتى توضع أو تخلفكم" هذا كما رأيت روي بألفاظ مختلفة ففي رواية البخاري وغيره: "حتى تخلفكم أو توضع" وفي رواية النسائي: "حتى تخلفه أو توضع" وفي رواية للبخاري: "حتى تخلفكم" فقط.
وقال عياض: وفي لفظ: "حتى تخلف أو توضع" ثم معنى قوله: "حتى توضع" أي على الأرض من أعناق الرجال، وقيل: حتى توضع في اللحد.
قوله: "أو تخلفكم" أي أو تترككم وتتأخر عنكم، من قولك: خَلَّفْت فلانًا ورائي فَتَخَلَّف عني، أي تأخر، وهو بتشديد اللام، وأما خَلَفْت بتخفيف اللام فمعناه صرت خليفة عنه، تقول: خلفت الرجل في أهله إذا أقمت بعده فيهم وقمت عنه بما كان يفعله، وأخلف الله لك خلفًا بخير، وأخلف عليك خيرًا أي أبدلك بما ذهب منك وعوضك عنه، والخَلَف بتحريك اللام والسكون كل من يجيء بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشر، يقال: خَلَفَ صدق وخَلْف سوء، قال الله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} (3) ثم الأمر في الحديث قيل: للندب والاستحباب، وإليه ذهب ابن حزم فقال في "المحلى": يستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء وإن كانت جنازة كافر حتي توضع أو تخلفه، فإن لم يقم فلا حرج.
(1)"مسند أحمد"(3/ 445 رقم 15720).
(2)
تقدم.
(3)
سورة مريم، آية:[59].
وهو قول جماعة من الفقهاء.
وقيل: الأمر للوجوب، وأن القيام للجنازة إذا مرت واجب.
وقيل: كان واجبًا ثم نسخ على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: ما الحكمة في ذلك؟
قلت: الحكمة فيه تعظيم الميت، فإن ابن آدم مكرم محترم حيًا وميتًا ولا سيما في هذه الحالة؛ فإنه آخر العهد به، هذا إذا كان مسلمًا، وأما إذا كان كافرًا فإما أن يكون لأجل الملائكة، أو فرارًا من السخط النازل عليه، أو لأجل الموعظة والتذكر بالموت، والله أعلم.
ص: حدثنا يزيد بن سنان ومبشر بن الحسن، قالا: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني ربيعة بن سيف المعافري، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال:"سأل رجل رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله عليه السلام، تمر بنا جنازة الكافر أفنقوم لها؟ قال: نعم؛ فإنكم لستم تقومون لها إنما نقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس".
ش: إسناده حسن، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد القرشي المقرئ شيخ البخاري، وسعيد بن أبي أيوب مقلاص الخزاعي أبو يحيى المصري، روى له الجماعة، وربيعة بن سيف بن ماتع المعافري الصنمي الإسكندراني، قال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: مصري صالح. روى له أبو داود والترمذي والنسائي، والمعافري -بفتح الميم وكسر الفاء نسبة إلى المعافر بن يعفر، قبيل ينسب إليه كثير عامتهم بمصر.
وأبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحبلي المعافري المصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".
والحديث أخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث سعيد بن أبي أيوب، عن ربيعة بن سيف إلى آخره نحوه سواء.
وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده"(2).
وقال الحكم (3): صحيح الإسناد.
قوله: "أفنقوم لها" الهمزة فيه للاستفهام، أي أفنقوم لجنازة الكافر؟
قوله: "إعظامًا" نصب على التعليل؛ أي لأجل التعظيم.
قوله: "للذي يقبض النفوس" أي الأرواح.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح).
وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال:"قعد سهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عبادة بالقادسية، فمُرَّ عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنه من أهل الأرض -أي مجوسي- فقالا: إن رسول الله عليه السلام مُرَّ عليه بجنازة فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: أليس ميتًا؟! أوَليس نفسًا؟! ".
ش: هذان طريقان صحيحة:
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (4): ثنا آدم، ثنا شعبة، ثنا عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 27 رقم 6673).
(2)
"مسند أحمد"(2/ 168 رقم 6573).
(3)
"مستدرك الحاكم"(1/ 509 رقم 1320).
(4)
"صحيح البخاري"(1/ 441 رقم 1250).
بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض -أي من أهل الذمة- فقالا: إن النبي عليه السلام مرت به جنازة يهودي، فقال: أليست نفسًا".
وأخرجه النسائي (1): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن شعبة، عن عمرو ابن مرة
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة. إلى آخره.
وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا غندر، عن شعبة.
وثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "بالقادسية" هي موضع بأرض الكوفة كانت بها حرب المسلمين مع الفرس سنة أربع عشرة من الهجرة، وكان أمير المسلمين سعد بن أبي وقاص، وكانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وكان أمير الفرس رستم من قبل يزدجرد الملك في مائة وعشرين ألفا تتبعها ثمانون ألفًا، وكانت وقعة عظيمة لم تكن بالعراق وقعة أعجب منها، وقتل من المسلمين في هذا اليوم وما قبله من الأيام ألفان وخمسمائة، ومن الكفار أكثر من ثمانين ألفًا.
قوله: "فمر عليهما" أي على سهل بن حنيف وقيس بن سعد، وسهل بن حنيف هو والد أبي أمامة بن سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم المدني، أخو عثمان بن حنيف، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله عليه السلام، ومات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة وصلى عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكبر ستًّا.
وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم له ولأبيه صحبة، توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية، وكان قيس بن سعد من النبي عليه السلام بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.
(1)"المجتبى"(4/ 45 رقم 1921).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 661 رقم 961).
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر قال:"قام رسول الله عليه السلام ومن معه لجنازة حتى توارت".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان (ح).
وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا أبان، عن يحيى بن أبي كثير (ح).
وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال:"بينما نحن مع رسول الله عليه السلام إذ مرت عليه جنازة فقمنا لنحملها، فإذا جنازة يهودي أو يهودية فقلنا: يا نبي الله، إنها جنازة يهودي أو يهودية، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم. الجنازة فقدموا".
حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى
…
فدكر بإسناده مثله.
ش: هذه خمس طرق:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة: فيه مقال. عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله.
وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابزا يقول:"قام النبي عليه السلام لجنازة مرت به حتى توارت". وفي لفظ له: "قام النبي عليه السلام وأصحابه لجنازة يهودي حتى توارت" أي حتى غابت.
الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي أي عمرو القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار، عن يحيى بن أبي كثير
(1)"صحيح مسلم"(2/ 661 رقم 960).
الطائي، عن عبيد الله بن مقسم القرشي المدني مولى ابن أبي نمر، عن جابر بن عبد الله.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه النسائي (1): أنا علي بن حجر، قال: ثنا إسماعيل، عن هشام.
وأنا إسماعيل بن مسعود، قال: ثنا خالد، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال:"مرت بنا جنازة، فقام رسول الله عليه السلام وقمنا معه، فقلت: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي أو يهودية فقال: إن للموت فزعًا فإذا رأيتم الجنازة فقوموا".
الثالث: صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (2): ثنا معاذ بن فضالة، ثنا هشام، عن يحيى، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال:"مرت بنا جنازة فقام لها النبي عليه السلام وقمنا له، فقلنا: يا رسول الله عليه السلام، إنها جنازة يهودي، قال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا".
الرابع: مثله صحيح، عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر.
وأخرجه مسلم (3): حدثني [سريج](4) بن يونس وعلي بن حجر، قالا: نا إسماعيل وهو ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن
(1)"المجتبى"(4/ 45 رقم 1922).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 441 رقم 1249).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 660 رقم 960).
(4)
في "الأصل، ك": "شريح"، وهو تصحيف، والمثبت من "صحيح" مسلم، ومصادر ترجمته.
عبيد لله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال:"مرت جنازة فقام لها رسول الله عليه السلام وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله عليه السلام، إنها يهودية، فقال: إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا".
الخامس: كذلك صحيح: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني السكري شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، نحوه.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا مؤمل بن الفضل، ثنا الوليد، ثنا أبو عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، قال: حدثني جابر قال: "كنا مع النبي عليه السلام إذ مرت جنازة فقام لها، فلما ذهبنا لنحمل إذا هي جنازة يهودي، فقلنا: يا رسول الله، إنما هي جنازة يهودي، فقال: إن الموت فزع فإذا رأيتم جنازة فقوموا".
قوله: "بينما نحن" قد ذكرنا في غير مرة أن أصل "بينما" بين، فزيدت فيه الألف لإشباع الفتحة فصار "بينا" ثم زيدت فيه "الميم" فصار "بينما"، بينا وبينما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى الجملة ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ وإذا، وقد جاء في الجواب كثيرًا كما في هذا الموضع؛ لأن قوله:"إذ مرت" جواب لقوله: "بينما".
قوله: "فإذا جنازة يهودي" كلمة "إذا" ها هنا للمفاجأة، وقوله:"جنازة يهودي" كلام إضافي مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: فإذا جنازة يهودي كانت، كما في قولك: خرجت فإذا السبع، أي واقف، ويجوز أن يكون مرفوعًا على الخبرية ويكون المبتدأ محذوفًا تقديره: فإذا هي جنازة يهودي.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 204 رقم 3174).
قوله: "إن الموت فزع" أي خوف، ومعناه: مخوف، جعل الموت نفس الفزع للمبالغة، أو التقدير: إن الموت ذو فزع، وعلل ها هنا القيام للجنازة يكون الموت فزعًا، فحينئذ يكون القيام لأجل الفزع من الموت وعظمة هوله، والجنازة تذكر ذلك فتستوي فيه جنازة المسلم والكافر. فافهم.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن النبي، عن أبي سعيد الخدري قال:"مُرَّ على مروان بجنازة فلم يقم، فقال أبو سعيد: إن رسول الله عليه السلام مرت عليه جنازة فقام، قال: فقام مروان".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام قال:"إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعدن حتى توضع".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا محمد بن عبد الله، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى (ح)
وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: ثنا أبو سعيد، عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: هذه خمس طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر -واسمه سعيد- ابن يُحْمد الثوري الكوفي روى له الجماعة سوى الترمذي، والسفر- بفتح السين المهملة، وفتح الفاء، ويُحْمِد- بضم الياء آخر الحروف، وسكون الحاء المهملة، وكسر الميم.
وهو يروي عن عامر النبي، عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا وهب بن جرير، نا شعبة
…
إلى آخره، نحوه سواء.
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات روى له الجماعة، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه مسلم (2): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير
…
إلى آخره، ولفظه:"إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتلى توضع".
وكذا لفظ في داود (3): عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن سهيل.
ولفظ أحمد في "مسنده" كلفظ الطحاوي.
الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري، عن أبان بن يزيد العطار، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه البخاري (4): ثنا مسلم -يعني: ابن إبراهيم- ثنا هشام، ثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام قال:"إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع".
الرابع: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي سعيد.
(1)"مسند أحمد"(3/ 47 رقم 11455).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 660 رقم 959).
(3)
"سنن أبي داود"(3/ 203 رقم 3173).
(4)
"صحيح البخاري"(1/ 441 رقم 1248).
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن مسكين، نا محمد بن يوسف، ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع".
الخامس: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1): حدثني سريج بن يونس وعلي بن حجر، قالا: ثنا إسماعيل -وهو ابن علية- عن هشام الدستوائي.
وثنا محمد بن المثنى -واللفظ له- قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله عليه السلام قال:"إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع". وأخرجه الترمذي، (2) والنسائي (3) أيضًا.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن سعيد بن مرجانة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال:"إذا صلى أحدكم على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه، وإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع".
ش: إسناده صحيح، والوهبي هو أحمد بن خالد بن موسى الوهبي الكندي، وثقه أبو زرعة ويحيى، وروى عنه البخاري في غير "الصحيح".
وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني ثقة، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي المدني روى له الجماعة.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 660 رقم 959).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 360 رقم 1043).
(3)
"المجتبى"(4/ 44 رقم 1917)، "المجتبى"(4/ 77 رقم 1998).
وسعيد بن مرجانة هو سعيد بن عبد الله القرشي أبو عثمان الحجازي، ومرجانة أمه، روى له الجماعة سوى ابن ماجه، لكن أبو داود في "المراسيل".
ولما روى أبو داود (1) حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام:"إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع". قال: روى الثوري هذا الحديث عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"حتى توضع بالأرض" ورواه أبو معاوية، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال:"حتى توضع في اللحد" ثم قال: وسفيان أحفظ من أبي معاوية.
ص: فذهب قوم إلى هذه الآثار فاتبعوها وجعلوها أصلًا وقلدوها، وأمروا من مرت به جنازة أن يقوم لها حتى تتوارى عنه، ومن مشى معها أن لا يقعد حتى توضع.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: المسور بن مخرمة وقتادة ومحمد بن سيرين والشعبي والنخعي وإسحاق بن إبراهيم وعمرو بن ميمون؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار وهي أحاديث عثمان بن عفان وعامر بن ربيعة وعبد الله بن عمرو بن العاص وسهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عبادة وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهم ولم يروها منسوخة، وقالوا: من مرت به جنازة يقوم لها، ومن مشى معها لا يقعد حتى توضع عن أعناق الناس.
قال أبو عمر في "التمهيد": جاءت آثار صحاح ثابتة توجب القيام للجنازة، وقال بها جماعة من السلف والخلف ورأوها غير منسوخة، وقالوا: لا يجلس من اتبع الجنازة حتى توضع عن أعناق الرجال، منهم: الحسن بن علي وأبو هريرة والمسور بن مخرمة وابن عمر، وابن الزبير وأبو سعيد الخدري وأبو موسى الأشعري، والنخعي والشعبي وابن سيرين، وذهب إلى ذلك الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وبه قال محمد بن الحسن، وجاءت أيضًا آثار صحاح ناسخة لذلك، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومالك والشافعي. انتهى.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 203 رقم 3173).
وقال الحازمي: اختلف أهل العلم في هذا؛ فقال بعضهم: على الجالس أن يقوم إذا رأى الجنازة، وممن رأى ذلك: أبو مسعود البدري وأبو سعيد الخدري وقيس بن سعد وسهل بن حنيف وسالم بن عبد الله.
وقال أحمد بن حنبل: إن قام لم أَعِبْهُ، وإن قعد فلا بأس. وبه قال إسحاق بن إبراهيم
وزعم صاحب "المهذب" أنه مخير بين القيام والقعود، وفي شرحه: قال جماعة: يكره القيام إذا لم يرد المشي معها. وبه قال أبو حنيفة، وقال صاحب "التتمة": يستحب القيام، وحديث علي رضي الله عنه مبين للجواز، وقال القرطبي: فأما القيام على القبر حتى يقبر فكرهه قوم، وعمل به آخرون، روي ذلك عن علي وعثمان وابن عمر، وأمر به عمرو بن العاص.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس على من مرت به جنازة أن يقوم لها، ولمن تبعها أن يجلس وإن لم توضع.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود ونافع بن جبير وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: ليس على الذي مرت به جنازة أن يقوم لها، وللذي تبعها أن يجلس وإن لم توضع. وهو قول عطاء بن أبي رباح ومجاهد وأبي إسحاق، ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب وابنه الحسن وابن عباس وأبي هريرة؛ قاله الحازمي، وقال عياض: ومنهم من ذهب إلى التوسعة والتخيير وليس بشيء، وهو قول أحمد وإسحاق، وقاله ابن حبيب المالكي وابن ماجشون من المالكية.
ص: وقالوا: أما قيام النبي عليه السلام لجنازة اليهودي في الحديث الذي رواه قيس بن سعد وسهل بن حنيف؛ فإن ذلك لم يكن من النبي عليه السلام لأن من حكم الجنائز أن يقام لها، ولكن كان لمعنى غير ذلك، وذكروا في ذلك ما حدثنا
ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: سمعت محمد بن علي بن حسين، يحدث عن الحسن وابن عباسر رضي الله عنهم أو عن أحدهما:"أن رسول الله عليه السلام مرت به جنازة يهودي فقام، فقال: آذاني ريحها". فدل هذا الحديث على أن قيامه كان لما آذاه ريحها ليتباعد عنه لا لغير ذلك، وأما ما روي من قيامه لجنازة المسلم فإنما كان ليصلي عليها.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"أن العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي رضي الله عنهم مرت بهما جنازة، فقام العباس ولم يقم الحسن، فقال العباس للحسن: أما علمت أن رسول الله عليه السلام مرت عليه جنازة فقام؟ فقال: نعم. وقال الحسن للعباس: أما علمت أن رسول الله عليه السلام كان يصلي عليها؟ قال: نعم".
فدل هذا الحديث أن قيام رسول الله عليه السلام ذلك إنما كان ليصلي عليها، لا لأن من سنتها أن يقام لها، وأما ما ذكر من أمر رسول الله عليه السلام من القيام للجنازة ومن ترك القعود إذا تبعت حتى توضع؛ فإن ذلك قد كان ثم نُسِخ.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن واقد بن عمرو، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"قام رسول الله عليه السلام مع الجنازة حتى توضع، وقام الناس معه، ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود".
حدثنا يونس وبحر، قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي، أن محمد بن عمرو بن علقمة، حدثه عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن نافع، عن مسعود بن الحكم الزرقي، عن علي رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام، مثله.
حدثنا يونس، قال: أخبرني أنس بن عياض، عن محمد بن عمرو، عن واقد بن عمرو، عن نافع بن جُبير، عن مسعود بن الحكم، أنه قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: "أمرنا رسول الله عليه السلام بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس".
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر، عن موسى بن عقبة، عن إسماعيل بن مسعود بن الحكم الزرقي، عن أبيه قال:"شهدت جنازة بالعراق فرأينا رجالًا قيامًا ينتظرون أن توضع، ورأيت بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشير إليهم أن اجلسوا؛ فإن النبي عليه السلام قد أمر بالجلوس بعد القيام".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، عن علي رضي الله عنه قال:"رأينا رسول الله عليه السلام قام فقمنا، ورأيناه قعد فقعدنا".
فثبت بما ذكرناأن القيام للجنازة قد كان ثم نسخ.
ش: لما كان المذكور في الأحاديث السابقة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى ثلاثة أشياء:
أحدها: قيام النبي عليه السلام لجنازة اليهودي.
والثاني: قيامه لجنازة السلم.
والثالث: أمره عليه السلام بالقيام للجنازة وترك القعود إذا تبعت حتى توضع.
وخالف هذه كلها أهل المقالة الثانية؛ أجابوا عنها واحدًا واحدًا، وقالوا: أما قيام النبي عليه السلام لجنازة اليهودي فلم يكن لكون أن من حكم الجنائز أن يقام لها البتة، وإنما كان ذلك لمعنى مذكور في حديث الحسن بن علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم.
أخرجه بإسناد صحيح.
عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمد بن علي بن الحسين أبي جعفر الباقر، عن الحسن بن علي وعبد الله بن عباس- أو عن أحدهما:"أن رسول الله عليه السلام مرت به جنازة يهودي فقام، فقال: آذاني ريحها".
وأخرجه ابن شاهين أيضًا (1). فدل هذا أن قيامه لجنازة اليهودي كان لأجل أن ريحها آذاه فقام ليتباعد عنه، ولم يكن قيامه لها لغير ذلك المعنى، هذا الذي ذكره الطحاوي عنهم، وفي نفسي منه شيء؛ وذلك لأن النبي عليه السلام علل القيام لها بقوله:"أليس ميتًا أَوَلَيْسَ نفسًا" فالذي يظهر منه أن العلة للقيام لها هي كونه نفسًا، مع قطع النظر عن كونها مجوسيًّا أو مسلمًا، وذلك كما علل القيام أيضًا في حديث جابر بن عبد الله بقوله:"إن الموت فزع" فالذي يظهر منه أن العلة للقيام لها: هي كون الموت فزعًا وخوفًا، فهذا أيضًا معنى يرجع إلى غير الميت، ويستوي في ذلك المسلم وغيره.
وقالوا: أما قيامه عليه السلام لجنازة المسلم فلم يكن إلا ليصلي عليها لا لأن من سنتها القيام لها.
واحتجوا على ذلك بما أخرجه بإسناد رجاله ثقات: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي روى له الجماعة، عن سعيد بن أبي عروبة روى له الجماعة، عن قتادة، عن الحسن البصري: "أن العباس والحسن ابن علي رضي الله عنهم
…
" والحسن البصري لم يدرك عباسًا، ورأى عليًّا ولم يسمع منه، وقال ابن حبان: خرج الحسن من المدينة ليالي صفين ولم يلق عليًّا.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2) وفي روايته: عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس والحسن بن علي رضي الله عنهم، وقال: ثنا الثقفي، عن أيوب، عن محمد، عن الحسن بن علي وابن عباس:"أنهما رأيا جنازة فقام أحدهما وقعد الآخر، فقال الذي قام للذي لم يقم: ألم يقم رسول الله عليه السلام؟ قال: بلى، ثم قعد".
وكذا رواية أحمد في مسنده (3): ثنا عفان، ثنا يزيد -يعني ابن إبراهيم- وهو التستري، نا محمد قال: "نبئت أن جنازةً مرت على الحسن بن علي وابن عباس
(1)"الناسخ والمنسوخ"(1/ 300 رقم 344).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 40 رقم 11921).
(3)
"مسند أحمد"(1/ 200 رقم 1726).
- رضي الله عنهم، فقام الحسن وقعد ابن عباس، فقال الحسن لابن عباس: ألم تر أن النبي عليه السلام مرت به جنازة فقام؟ فقال ابن عباس: بلى وقد جلس، فلم ينكر الحسن ما قال ابن عباس رضي الله عنهم".
وأخرجه النسائي (1) أيضًا.
وقالوا: أما ما ذكر من أمر النبي عليه السلام من القيام للجنازة، ومن ترك القعود إذا تبعت حتى توضع، فإنه منسوخ؛ قد كان رسول الله عليه السلام يفعل ذلك ثم تركه.
قال أبو عمر: قال الشافعي: القيام لها منسوخ.
وقال ابن شاهين: لما جاءت الأخبار التي يخبر فيها علة القيام، والأخبار التي فيها النهي عنه ثبت أن القيام منسوخ.
وقال ابن عبد البر: جاءت آثار صحاح ثابتة توجب القيام للجنازة، وجاءت أيضًا آثار صحاح ناسخة لذلك.
ومن جملة الأحاديث الناسخة حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخرجه من خمس طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن واقد بن عمرو بن سعد المدني من رجال مسلم، عن نافع بن جبير بن مطعم المدني روى له الجماعة، عن مسعود بن الحكم بن الربيع الأنصاري الزرقي المدني ولد على عهد النبي عليه السلام روى له الجماعة.
وهذا الحديث أخرجه الجماعة غير البخاري.
فقال مسلم (2): حدثني محمد بن مثنى وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر جميعًا، عن الثقفي -قال ابن المثنى: حدثنا عبد الوهاب- قال: سمعت يحيى بن سعيد
(1)"المجتبى"(4/ 47 رقم 1926).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 662 رقم 962).
قال: أخبرني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ الأنصاري، أن نافع بن جبير أخبره، أن مسعود بن الحكم الأنصاري أخبره، أنه سمع علي بن أبي طالب يقول في شأن الجنائز:"إن رسول الله عليه السلام قام ثم قعد".
وقال أبو داود (1): حدثنا القعنبي، عن مالك
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي سندًا، ومتنه:"أن رسول الله عليه السلام قام في الجنائز ثم قعد".
وقال الترمذي (2): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن يحيى بن سعيد
…
إلى آخره ولفظه: عن علي بن أبي طالب: "أنه ذكر القيام في الجنائز حتى توضع، قال علي: قام رسول الله عليه السلام ثم قعد".
قال أبو عيسى: حديث علي حديث حسن صحيح وفيه رواية أربعة من التابعين بعضهم عن بعض.
وقال: النسائي (3): أنا محمد بن منصور، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر قال: "كنا عند علي رضي الله عنه فمرت به جنازة فقاموا لها، فقال علي رضي الله عنه: ما هذا؟ قالوا: أمر أبي موسى، فقال: إنما قام النبي عليه السلام لجنازة يهودية، ولم يعد بعد ذلك.
وقال ابن ماجه (4): ثنا علي بن محمد، نا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، عن علي بن أبي طالب قال:"قام رسول الله عليه السلام لجنازة فقمنا، ثم جلس فجلسنا".
الثابْ: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا وبحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري، كلاهما عن عبد الله بن وهب المصري، عن أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن واقد
…
إلى آخره.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 204 رقم 3175).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 361 رقم 1044).
(3)
"المجتبى"(4/ 46 رقم 1923).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 493 رقم 1544).
وأخرجه البيهقي (1) من حديث ابن وهب، أنا أسامة بن زيد، أن محمد بن عمرو بن علقمة، حدثه عن واقد بن عمرو، عن نافع، عن مسعود، عن علي رضي الله عنه:"قام رسول الله عليه السلام مع الجنائز حتى توضع، وقام الناس معه، ثم قعد بعد ذلك اليوم، وأمرهم بالقعود".
الثالث: عن يونس أيضًا، عن أنس بن عياض بن ضمرة الليثي المدني شيخ الشافعي، عن محمد بن عمرو
…
إلى آخره.
وأخرجه العدني "مسنده" نحوه.
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، عن إسماعيل بن مسعود بن الحكم، عن أبيه مسعود
…
إلى آخره.
ورجاله ثقات، وإسماعيل هذا وثقه ابن حبان.
وأخرجه البزار في مسنده (2): ولكن في روايته يوسف بن مسعود بن الحكم عوض إسماعيل، فقال: ثنا محمد بن مرزوق، قال: ثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا أبو مصعب، عن موسى بن عقبة، عن يوسف بن مسعود بن الحكم، عن أبيه:"أنه شهد جنازة بالكوفة مع علي رضي الله عنه، فمر علي بالناس وهم قيام، فأشار إليهم أن اجلسوا؛ فإن رسول الله عليه السلام -أحسبه- قد كان يقوم ثم قعد".
وقد روى هذا الحديث ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن يوسف بن مسعود بن الحكم، عن أبيه، عن علي، عن النبي عليه السلام.
الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم
…
إلى آخره.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 27 رقم 6677).
(2)
"مسند البزار"(3/ 123 رقم 909).
وأخرجه ابن ماجه (1) نحوه وقد ذكرناه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، قال: قال علي رضي الله عنه: "قام رسول الله عليه السلام للجنازة فقمنا، ثم جلس فجلسنا".
ص: فقال قوم: إنما نسخ ذلك لخلاف أهل الكتاب، واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: ثنا بشر بن رافع، عن عبد الله بن سليمان، عن أبيه، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ذكر النبي عليه السلام قال:"كان النبي عليه السلام إذا اتبع جنازة لم يجلس حتى توضع في اللحد، قال: فعرض للنبي عليه السلام حبر من أحبار اليهود، فقال: يا محمد هكذا نفعل، قال: فجلس النبي عليه السلام وقال: خالفوهم".
ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا وليث بن أبي سليم وأبا معمر وآخرين؛ فإنهم قالوا: نسخ القيام للجنازة إنما كان لأجل مخالفة أهل الكتاب والدليل عليه: حديث عبادة بن الصامت؛ وذلك لأنه عليه السلام كان إذا اتبع جنازة لا يجلس حتى توضع في اللحد، فلما قال له ذلك الحبر من اليهود: هكذا نفعل. جلس النبي عليه السلام حينئذ وقال: خالفوهم. فعلم من ذلك أن النسخ إنما كان لأجل مخالفتهم.
ثم إنه أخرج حديث عبادة بن الصامت، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن صفوان بن عيسى القرشي الزهري أبي محمد البصري القسَّام شيخ أحمد روى له الجماعة -البخاري مستشهدًا- عن بشر بن رافع النجراني -بالنون والجيم- أبي الأسباط الحارثي إمام أهل نجران ومفتيهم، فيه مقال؛ فقال النسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: ضعيف، منكر الحديث، لا يروى له حديث قائم. وقال ابن عدي: هو مقارب الحديث، لا بأس بأخباره، ولم أجد له حديثًا منكرًا، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 493 رقم 1544).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 40 رقم 11926).
عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية الأزدي الدوسي، قال البخاري: في حديثه نظر لا يتابع على حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، روى له هؤلاء الثلاثة.
عن أبيه سليمان بن جنادة قال أبو حاتم: منكر الحديث. روى له هؤلاء الثلاثة.
عن جده جنادة بن أبي أمية الأزدي الصحابي، عن عبادة بن الصامت.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا هشام بن بهرام المدائني، أنا حاتم بن إسماعيل، أنا أبو الأسباط الحارثي، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية، عن أبيه، عن جده، عن عبادة بن الصامت قال:"كان رسول الله عليه السلام يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فجلس النبي عليه السلام وقال: اجلسوا، خالفوهم".
وأخرجه الترمذي (2): ثنا محمد بن بشار، قال: نا صفوان بن عيسى، عن بشر بن رافع، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية، عن أبيه، عن جده، عن عبادة بن الصامت قال:"كان رسول الله عليه السلام إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد، قال: فجلس رسول الله عليه السلام وقال: خالفوهم".
وأخرجه ابن ماجه (3): ثنا محمد بن بشار وعقبة بن مكرم، قالا: ثنا صفوان بن عيسى، ثنا بشر بن رافع
…
إلي آخره نحو رواية الترمذي.
وقال الترمذي: حديث غريب، وبشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث.
وقال أبو بكر الهمداني: هذا الحديث ضعيف، ولو صح لكان صريحًا في النسخ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت، فلا يقاوم هذا الإسناد.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 204 رقم 3176).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 340 رقم 1020).
(3)
"سنن ابن ماجه"(11/ 493 رقم 1545).
ص: وليس هذا الحديث عندنا يدل على ما ذهبوا إليه؛ لأن رسول الله عليه السلام قد روي عنه ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول الله عليه السلام كان يَسدلُ شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم، وكان رسول الله عليه السلام يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله عليه السلام".
حدثنا محمد بن عُزَيْز الأيلي، قال: ثنا سلامة، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عبيد الله
…
فذكر بإسناده مثله.
فأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام كان يتبع أهل الكتاب حتى يؤمر بخلاف ذلك، فاستحال أن يكون ما أمر به من القعود في حديث عبادة هو لخلاف أهل الكتاب قبل أن يؤمر بخلافهم في ذلك؛ لأن حكمه عليه السلام أن يكون على شريعة النبي عليه السلام الذي كان قبله حتى تحدث له شريعة تنسخ ما تقدمها، قال الله عز وجل:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1)، ولكنه ترك ذلك عندنا -والله أعلم- حين أحدث الله له شريعة في ذلك وهو القعود، نسخ ما قبلها وهو القيام.
ش: رد الطحاوي ما ذهب إليه أولئك القوم واستدلالهم فيه بحديث عبادة بن الصامت المذكور، بيانه: أنه ورد في حديث ابن عباس أنه عليه السلام كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم أمر فيه بشيء، وكان يتبعهم إلى أن يؤمر بخلافه، فمن المستحيل أن يكون ما أمر به النبي عليه السلام من القعود في حديث عبادة لأجل مخالفته أهل الكتاب قبل أن يؤمر بخلافهم في ذلك؛ فإنه عليه السلام كان حكمه أن يكون على شريعة النبي عليه السلام الذي كان قبله إلى أن يبعث الله شريعة تنسخ ذلك، وكيف وقد أمره الله عليه السلام أن بهدى الذين هداهم الله من قبله من الأنبياء عليهم السلام كما قال عز وجل في كتابه الكريم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1) فظهر من ذلك أن
(1) سورة الأنعام، آية:(90).
تركه عليه السلام القيام وأمره إياهم بالقعود؛ لأجل ما أحدث الله له من شريعة -وهو القعود- بنسخ ما قبله- وهو القيام.
ثم اعلم أن أهل الأصول اختلفوا في شرائع من قبلنا، فمنهم من قال: ما كان شريعة لنبي فهو باق أبدًا حتى يقوم دليل النسخ فيه، وكل من يأتي فعليه أن يعمل به على أنه شريعة ذلك النبي ما لم يظهر ناسخه.
وقال بعضهم: شريعة كل نبي تنتهي ببعث نبي آخر بعده، حتى لا يعمل به إلا أن يقوم الدليل على بقائه، وذلك ببيان من النبي المبعوث بعده.
وقال بعضهم: شرائع من قبلنا يلزمنا العمل بها على أن ذلك شريعة لنبينا عليه السلام فيما لم يظهر دليل النسخ فيه، ولا يفصلون بين ما يصير معلومًا من شرائع من قبلنا بنقل أهل الكتاب أو برواية المسلمين عما في أيديهم من الكتاب، وبين ما يثبت من ذلك ببيان في القرآن أو السنة.
وقال شمس الأئمة: وأصحُّ الأقاويل عندنا أن ما ثبت بكتاب الله أنه كان شريعة من قبلنا أو ببيان من رسول الله عليه السلام فإن علينا العمل به على أنه شريعة لنبينا ما لم يظهر ناسخه، فأما ما علم بنقل أهل الكتاب أو بفهم المسلمين من كتبهم فإنه لا يجب اتباعه؛ لقيام دليل موجب للعلم على أنهم حرفوا الكتب فلا يعتبر نقلهم في ذلك لتوهم أن المنقول من جملة ما حرفوا، ولا يعتبر فهم المسلمين ذلك مما في أيديهم من الكتاب؛ لجواز أن يكون ذلك من جملة ما غيروا وأبدلوا.
ثم إنه أخرج حديث ابن عباس من طريقين صحيحين ورجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن عُزَيْز -بضم العين وبزائين معجمتين- وسلامة بن روح بن خالد وهما أيضًا ثقتان.
ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم، والثاني يونس بن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وعُقَيْل -بضم العين- ابن خالد الأيلي.
وأخرجه البخاري (1): ثنا أحمد بن يونس، ثنا إبراهيم بن سعد، ثنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال:"كان النبي عليه السلام يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، فسدل النبي عليه السلام ناصيته، ثم فرق بعد".
ومسلم (2): حدثني أبو الطاهر، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله
…
إلى آخره نحوه.
وأبو داود (3): نا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا إبراهيم بن سعد قال: أخبرني ابن شهاب
…
إلى آخره نحوه.
والنسائي (4): أنا محمد بن مسلمة، ثنا ابن وهب، عن يونس، عن الزهري
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "كان يسدل شعره" من السدل وهو الإرخاء والإرسال، وفي "المطالع" وهو إرسال الشعر على الوجه من غير تفريق، وكذلك السدل في الصلاة إرخاء الثوب على المنكبين إلى الأرض دون أن يضم جوانبه. قال الجوهري: سدل ثوبه يَسْدُلُهُ -بالضم- سدلًا أي أرخاه، وشعر مُنْسَدِلٌ.
قوله: "ثم فرق" من فَرَقْت الشعر أَفْرُقُه فَرْقًا، وانفرق شعره إذا زال عن الاجتمال، وإن لم يفترق كان وفرة، قال الجوهري: فَرَقْتُ بين الشيئين أَفْرُقُ فَرقًا وفُرْقانًا، وفَرَّقْت الشيء تَفْرِيقًا وتَفْرِقة فانفرق وافترق وتَفَرَّق، والمَفْرِق: وسط الرأس، وهو الموضع الذي يُفْرَق فيه الشعر، وكذلك مفرق الطريق.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2213 رقم 5573).
(2)
"صحيح مسلم"(4/ 1818 رقم 2336).
(3)
"سنن أبي داود"(4/ 82 رقم 4188).
(4)
"المجتبى"(8/ 184 رقم 5238).
وفي "المطالع": وكانوا يَفْرِقُون- بالتخفيف أشهر، وقد شدها بعضهم، والمصدر الفَرْق -بالسكون- وقد انفرق شعره انقسم في مقرقه، وهو وسط رأسه، وأصله الفرق بين الشيئين، والمفرق مكان فرق الشعر من الجبين ببن دائرة وسط الرأس، يقال: بفتح الراء والميم وكسرهما، وكذلك مفرق الطريق.
ص: وقد روي هذا المذهب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن سخبرة قال:"كنا قعودًا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ننتظر جنازة فمُرَّ بجنازة أخرى فقمنا، فقال: ما هذا القيام؟ فقلت: ما تأتونا به يا أصحاب محمد! قال أبو موسى رضي الله عنه قال رسول صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم جنازة مسلم أو يهودي أو نصراني فقوموا؛ فإنكم لستم لها تقومون، إنما تقومون لمن معها من الملائكة. فقال علي رضي الله عنه: إنما صنع ذلك رسول الله عليه السلام مرة واحدة، كان يتشبه بأهل الكتاب في الشيء، فإذا نُهي عنه تركه".
فأخبر علي رضي الله عنه في هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام إنما كان قام في بدء أمره على التشبه منه بأهل الكتاب وعلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء عليهم السلام حتى أحدث له خلاف ذلك -وهو القعود- فثبت بذلك ما صرفنا إليه وجه حديث عبادة رضي الله عنه.
ش: أراد بهذا المذهب الذي ذهب إليه بقوله: "وليس هذا الحديث عندنا ما يدل على ما ذهبوا إليه
…
إلى آخره" وذلك لأنه ذكر فيه أن حكم النبي عليه السلام أن يكون على شريعة النبي عليه السلام الذي قبله حتى تُحْدَث له شريعة تنسخ ذلك، وقد أيد ذلك بما روي عن علي رضي الله عنه، فإنه أخبر في حديثه هذا أنه عليه السلام إنما كان يقوم للجنازة في ابتداء الأمر موافقة لأهل الكتاب فيه وعلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء عليهم السلام حتى أحدث الله تعالى له خلاف ذلك -وهو القعود- وترك القيام للجنازة، فكان القيام ثم القعود لهذا المعنى دون ما ذكره أولئك القوم بأنه نسخ القيام لخلاف
أهل الكتاب، فصح بذلك ما أوله في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فصار ما روي عن علي رضي الله عنه شاهدًا له. فافهم.
ثم إسناده حديث علي رضي الله عنه صحيح، ومسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، وعبد الواحد بن زياد العبدي البصري روى له الجماعة، وليث بن أبي سليم القرشي أبو بكر الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة روى له الجماعة- البخاري مستشهدًا ومسلم مقرونًا بغيره، وابن سخبرة وهو عبد الله بن سخبرة الكوفي أبو معمر روى له الجماعة.
والحديث أخرجه الحازمي: ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن، ثنا أبو بكر الطبري، ثنا يحيى بن محمد البصري، ثنا أبو حذيفة، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي معمر قال: "مرت بنا جنازة فقمت، فقال علي رضي الله عنه: من أفتاك بهذا؟ قلت: أبو موسى الأشعري، فقال علي رضي الله عنه: ما فعله رسول الله عليه السلام إلا مرة، فلما نسخ ذلك ونهي عنه انتهى.
ورواه أبو عاصم، عن الثوري بالإسناد وقال فيه:"قام رسول الله عليه السلام مرة ثم نهي عنه".
وحديث أبي موسى الأشعري أخرجه الحكم (1): من حديث ابن أبي سليم، عن مجاهد، عن أبي موسى، أن رسول الله عليه السلام قال:"إذا مرت بكم جنازة إن كان مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا فقوموا لها؛ فإنه ليس يقام لها ولكن يقام لمن معها من الملائكة".
ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا شريك، عن عثمان بن أبي زرعة، عن زيد بن وهب قال:"تذاكرنا القيام إلى الجنازة عند علي رضي الله عنه فقال أبو مسعود: قد كنا نقوم، فقال علي رضي الله عنه: ذلك وأنتم يهود".
(1) وأخرجه أحمد في "مسنده"(4/ 391 رقم 19509)، والطيالسي في "مسنده"(1/ 71 رقم 528).
فمعنى هذا أنهم كانوا يقومون على شريعتهم، ثم نسخ ذاك شريعة الإسلام فيه، وقد ثبت بما وصفنا في هذا الباب أيضًا نسخ ما رويناه في أوله من الآثار، عن رسول الله عليه السلام في القيام للجنازة بالآثار التي رويناها بعد ذلك.
ش: ذكر هذا أيضًا تأكيدًا لما قاله من أن نسخ القيام للجنازة إنما كان برفع شريعة الإِسلام إياه لا لأجل المخالفة لأهل الكتاب، وهو ظاهر؛ دل عليه حديث علي رضي الله عنه
أخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عثمان بن أبي زرعة -وهو عثمان بن المغيرة- الكوفي روى له الجماعة سوى مسلم، عن زيد بن وهب الجهني أبي سليمان الكوفي، رحل إلى النبي عليه السلام فقبض وهو في الطريق روى له الجماعة.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن فضيل، عن [يزيد](2)، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:"كنا مع علي رضي الله عنه، فمرت علينا جنازة، فقام رجل، فقال علي رضي الله عنه: ما هذا؟! كان هذا من صنيع اليهود".
قوله: "وقد ثبت بما وصفنا
…
إلى آخره" أشار بذلك إلى أن الأحاديث التي رواها في أول الباب نسخت بالأحاديث التي رواها بعد ذلك.
ص: وقد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني أنس بن عياض، عن أنيس بن أبي يحيى، قال: سمعت أبي يقول: "كان ابن عمر وأصحاب النبي عليه السلام يجلسون قبل أن توضع الجنازة".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 40 رقم 11920).
(2)
في "الأصل، ك": "زيد"، وهو تحريف، والمثبت من المصنف، ويزيد هذا هو ابن أبي زياد القرشي أبو عبد الرحمن الكوفي، يروي عن ابن أبي ليلى، ويروي عنه محمد بن فضيل بن غزوان. انظر ترجمته في "تهذيب الكمال".
فهذا ابن عمر قد كان يفعل هذا، وقد روى عن عامر بن ربيعة عن النبي عليه السلام خلاف ذلك فدل تركه لذلك إلى ما كان يفعل على ثبوت نسخ ما حدثه عامر بن ربيعة.
حدثنا يونس أيضًا، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه:"أن القاسم كان يجلس قبل أن توضع الجنازة ولا يقوم لها، ويخبر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها إذا رأوها، ويقولون: في أهلك ما أنت، في أهلك ما أنت".
فهذه عائشة تنكر القيام لها أصلًا، وتخبر أن ذلك كان من أفعال أهل الجاهلية وكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله يذهبون في كل ما ذكرنا في هذا الباب إلى ما قد بينا نسخه لما قد خالفه، وبه نأخذ.
ش: ذكر هذا تأييدًا لما ذكره من انتساخ حكم القيام للجنازة، وانتساخ الأحاديث التي دلت على ذلك، وذكر شيئين:
أحدهما: أن عبد الله بن عمر كان يجلس قبل أن توضع الجنازة.
أخرج ذلك بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني روى له الجماعة، عن أنيس بن أبي يحيى سمعان الأسلمي المدني وثقه يحيى والنسائي والحاكم، عن أبيه أبي يحيى سمعان بن يحيى الأسلمي المدني وفقه ابن حبان وروى له الأربعة.
وأبو يحيى هذا أخبر عن ابن عمر أنه كان يجلس قبل أن توضع الجنازة، والحال أن ابن عمر قد روى عن عامر بن ربيعة عن النبي عليه السلام خلاف ذلك، فدل تركه لما رواه إلى ما كان فعله من تركه القيام قبل وضع الجنازة على ثبوت انتساخ ما حدث به عن عامر، عن النبي عليه السلام؛ لأن الراوي لا يجوز له أن يعمل بخلاف ما روى إلا بعد ثبوت النسخ عنده.
والآخر: أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم كان يجلس قبل أن توضع الجنازة ولا يقوم لها، وكان يخبر عن عمته عائشة أم المؤمنين أنها كانت تنكر القيام للجنازة أصلًا وتقول: إن ذلك كان من أفعال الجاهلية. فدل هذا أيضًا على
ثبوت النسخ؛ إذ لو لم يثبت ذلك عند القاسم لما خالف ذلك، ولو لم يثبت عن عائشة أيضًا لما أنكرته، والله أعلم.
ثم إسناد أبو القاسم صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح.
وأخرجه البيقهي في "سننه"(1): من حديث عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن ابن القاسم:"أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة، ويجلس قبل أن توضع، ولا يقوم لها، ويخبر عن عائشة أنها قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها إذا رأوها، ويقولون: في أهلك ما أنت، في أهلك ما أنت".
قوله: "وكان أبو حنيفة
…
إلى آخره" فيه أن مذهب أبي حنيفة وصاحبيه انتساخ القيام للجنازة وقبل وضعها عن أعناق الرجال، وأنه لا يستحب القيام لها، ولا يكره الجلوس قبل وضعها، وقد ذكر في كتب الحنفية: ويكره الجلوس قبل وضعها عن أعناق الرجال. وبين الكلامين مخالفة ولكن القول ما قاله الطحاوي؛ لأنه الأعلم بمذاهب العلماء.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 28 رقم 6683).