الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: المشي مع الجنازة أين ينبغي أن يكون منها
؟
ش: أي هذا باب في بيان المشي مع الجنازة، أمامها أفضل أو ورائها؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:"رأيت رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم أن:"عبد الله بن عمر كان يمشي أمام الجنازة، قال: وكان رسول الله عليه السلام يفعل ذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنهم".
حدثنا محمد بن عزيز الأيلي، قال: ثنا سلامة، عن عقيل، قال: حدثني ابن شهاب، أن سالمًا أخبره
…
ثم ذكر مثله.
حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل
…
ثم ذكر مثله.
حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب، قال: ثنا عُقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر:"أنه كان يمشي أمام الجنازة، وأن رسول الله عليه السلام كان يمشي بين يدي الجنازة، وأبو بكر وعمر وعثمان، وكذلك السنة في اتباع الجنازة".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك (حَ)
وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب قال:"كان رسول الله عليه السلام يمشي أمام الجنازة وابن عمر والخلفاء، هلم جرّا".
ش: هذه سبع طرق صحاح:
الأول رجاله رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر
…
إلى آخره.
وأخرجه الأربعة.
فأبو داود (1): عن القعنبي، عن سفيان بن عيينة
…
إلى آخره.
والترمذي (2): عن قتيبة وأحمد بن منيع وإسحاق بن منصور ومحمود بن غيلان، أربعتهم عن سفيان بن عيينة .... إلى آخره.
والنسائي (3): عن إسحاق بن إبراهيم وعلي بن حجر وقتيبة، عن سفيان .... إلى آخره.
وابن ماجه (4): عن علي بن محمد وهشام بن عمار وسهل بن أبي سهل، قالوا: ثنا سفيان .... إلى آخره نحوه.
قوله: "أمام الجنازة" أي قدامها.
الثاني: أيضًا رجاله رجال الصحيح، ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي.
وأخرجه أحمد في مسنده (5): عن حجاج، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر:"أنه كان يمشي بين يدي الجنازة، وقد كان رسول الله عليه السلام وأبو بكر وعمر وعثمان يمشون أمامها".
الثالث: عن محمد بن عزيز الأيلي شيخ النسائي وابن ماجه، عن سلامة بن روح بن خالد الأيلي، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر
…
إلى آخره.
وأخرجه الطبراني (6) نحوه، من حديث زياد، عن الزهري.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 205 رقم 3179).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 329 رقم 1007).
(3)
"المجتبى"(4/ 56 رقم 1944).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 475 رقم 1482).
(5)
"مسند أحمد"(2/ 140 رقم 6254).
(6)
"المعجم الكبير"(12/ 286 رقم 13133).
الرابع: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله ابن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره، أن عبد الله بن عمر كان يمشي بين يدي الجنازة، وأن رسول الله عليه السلام كان يمشي بين يديها، وأبو بكر وعمر وعثمان
رضي الله عنهم.
الخامس: عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، عن سعيد بن كثير بن عفير المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن عُقيل بن خالد الأيلي، عن الزهري .... إلى آخره.
وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(2): من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن سالم نحوه، وقال في آخره:"قال الزهري: وكذلك السنة".
قلت: هذا يوضح أن قوله: "وكذلك السنة في اتباع الجنائز" في رواية الطحاوي من كلام الزهري أيضًا.
السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك، عن الزهري.
وهذا معضل منقطع.
السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن الزهري.
وهذا أيضًا كذلك.
وأخرجه كذلك مالك في "موطأه"(3): عن ابن شهاب: "أن
(1)"مسند أحمد"(2/ 140 رقم 6253).
(2)
"صحيح ابن حبان"(7/ 320 رقم 3048).
(3)
"موطأ مالك"(1/ 225 رقم 526).
رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة، والخلفاء، هلم جرا، وعبد الله بن عمر".
قال ابن عبد البر (1): هكذا هذا الحديث في "الموطأ" مرسل عند الرواة عن مالك للموطأ، وقد وصله قوم عن مالك، منهم يحيى بن صالح الوحاظي، وعبد الله بن عون الخزاز وحاتم بن سالم القزاز.
وقال أبو عمر (2): الصحيح فيه عن مالك الإرسال، ولكنه قد وصله جماعه ثقات من أصحاب ابن شهاب، منهم: ابن عيينة ومعمر ويحيى بن سعيد وموسى ابن عقبة وابن أخي ابن شهاب وزياد بن سعد، وعباس بن [الحسن](3) الجزري على اختلاف عن بعضهم.
وقال الخليلي: أسنده يحيى بن صالح الوحاظي، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي عليه السلام. وهو وإن كان ثقة فلا يتابع على هذا الحديث.
قوله: "هَلُمَّ جَرًا" هو نصب على الحال عند البصرين أي هلم جارِّين، وعلى المصدر عند الكوفيين؛ لأن في هلم معنى جُرُّوا جرًّا، وهلم مركبة من "ها" و"لم" من لممت الشيء إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، ويستوي فيه الواحد والتثنية والجمع، والمذكر والمؤنث، تقول: هَلُمَّ يا رجل، وَهَلَّم يا رجلان، وهَلُم يا رجال، وهَلُمَّ يا امراءة، وهَلُمَّ يا امرائتان، وهَلُمَّ يا نساء، وأما بنوا تميم فإنهم يصرفونها، ويقولون للواحد: هَلُمَّ وللمثنى هَلُمَّا وللجمع هَلُمُّوا، وللواحده هَلُمِّي، وللمثناة هَلُمَّا، وللجمع هَلُمَّنَّ، والأول أفصح ويكون لازمًا إذا كان معناه تعال كما في قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} (4) ويكون متعديًا إذا كان
(1)"التمهيد"(12/ 83).
(2)
"التمهيد"(12/ 85).
(3)
في "الأصل، ك": سعد، والمثبت من "التمهيد"، ولكن عباس هذا ليس من الثقات كما قال ابن عبد البر، وقال أبو حاتم: مجهول، وقال ابن عدي: يخالف الثقات، وانظر "لسان الميزان"(3/ 239).
(4)
سورة الأحزاب، آية:[18].
معناه هات كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ} (1) وتدخل فيه نون التأكيد تقول: هَلُمَّنَّ هَلُمَّانَّ هَلُمُّنَّ هَلُمِّنَّ، هَلِمَّانَّ هَلِمَّنانَّ.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن المشي أمام الجنازة أفضل من المشي خلفها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: القاسم وسالم بن عبد الله والزهري وشريحًا وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعلقمة والأسود وعطاء ومالكًا والشافعي وأحمد؛ فإنهم ذهبوا إلى أن المشي أمام الجنازة أفضل، ويحكى ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن عمر وأبي هريرة والحسن بن علي وابن الزبير وأبي قتادة وأبي أسيد رضي الله عنهم.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي والثوري والأوزاعي وسويد بن غفلة ومسروقًا وأبا قلابة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق وأهل الظاهر؛ فإنهم قالوا المشي خلف الجنازة أفضل.
ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدرداء وأبي أمامة رضي الله عنهم.
ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى: أن حديث ابن عيينة الذي ذكرناه في أول هذا الباب قد رواه عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:"رأيت رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يمشون أمام الجنازة" فصار في ذلك خبرًا عن ابن عمر عَمَّار رأي أي رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر يفعلونه في ذلك، وقد يجوز أن يكون كانوا يفعلون شيئًا وغيره عندهم أفضل منه للتوسعة؛ كما قد توضأ رسول الله عليه السلام مرة مرة والوضوء مرتين مرتين أفضل منه، والوضوء ثلاثًا ثلاثًا أفضل من ذلك كله ولكنه فعل ما فعل من ذلك للتوسعة.
(1) سورة الأنعام، آية:[150].
ثم قد خالف ابن عيينة في إسناده في هذا الحديث كل أصحاب الزهري غيره، فرواه مالكًا عن الزهري قال:"كان رسول الله عليه السلام يمشي أمام الجنازة"، فقطعه، ثم رواه عُقيل، ويونس، عن ابن شهاب، عن سالم قال:"كان رسول الله عليه السلام وأبو بكر وعمر وعثمان يمشون أمام الجنازة" هذا معناه، وإن لم يكن لفظه كذلك؛ لأن أصل حديثه إنما هو عن سالم قال:"كان عبد الله بن عمر يمشي أمام الجنازة، وكذلك كان رسول الله عليه السلام وأبو بكر وعمر وعثمان" فصار هذا الكلام كله في هذا الحديث إنما هو عن سالم لا عن ابن عمر، فصار حديثًا منقطعًا.
وفي حديث يحيى بن أيوب، عن عُقيل، "كذلك السنة في اتباع الجنائز" زيادة على ما في حديث الليث وسلامة عن عُقيل فكذلك أيضًا لا حجة فيه؛ لأنه إنما هو من كلام سالم أو من كلام الزهري، وقد روي عن ابن عمر خلافه مما سنرويه في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى.
ش: أي وكان من الحجة والبرهان لهؤلاء الآخرين كل أهل المقالة الأولى: أن حديث سفيان بن عيينة
…
إلى آخره، وهذا جواب عن الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الأولى.
وملخصه من وجهين.
أحدهما: أن ما رواه الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:"رأيت رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان يمشون أمام الجنازة" لا يدل على أن هذا أفضل من المشي خلفها؛ لأنه قد يجوز أن يكون كانوا يفعلون شيئًا والحال أن غيره كان أفضل منه عندهم، ولكن إنما فعلوه لأجل التوسعة على الناس، كما في الوضوء فإن النبي عليه السلام توضأ مرة مرة والحال أن التوضؤ مرتين مرتين أفضل منه، وتوضأ مرتين مرتين والحال أن التوضؤ ثلاثًا ثلاثًا أفضل منه، وإنما فعل ذلك توسعًا لأمته وترفهًا لهم.
والآخر: وهو الذي أشار إليه بقوله: "ثم قد خالف ابن عيينة
…
إلى آخره، وهو ظاهر.
وحاصله: أن أصل الحديث منقطع معضل فلا تقوم به الحجة، على أنه روي.
عن ابن عمر ما يخالف هذا على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: قد قال الترمذي: روى هذا الحديث ابن جريج وزياد بن سعد وغير واحد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه نحو حديث ابن عيينة.
قلت: وكذلك قال: رواه معمر ويونس بن يزيد ومالك بن أنس وغيرهم من الحفاظ عن الزهري: "أن النبي عليه السلام .... " فذكر الحديث، ثم قال: وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح، وسمعت يحيى بن موسى يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: قال ابن المبارك: حديث الزهري في هذا مرسلًا أصح من حديث ابن عيينة وأرى ابن جريج أخذه من ابن عيينة.
ثم أخرجه الترمذي (1): عن [محمد بن مثنى، عن محمد بن بكر](2)، ثنا يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال:"كان النبي عليه السلام يمشي أمام الجنازة وأبو بكر وعمر وعثمان". قال الترمذي: وسألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: أخطأ فيه محمد بن [بكر] وإنما يروى هذا عن يونس، عن الزهري:"أن النبي عليه السلام وأبا بكر كانوا يمشون أمام الجنازة".
وقال النسائي: هذا حديث خطأ، وهم فيه ابن عيينة، وخالفه مالك فرواه عن الزهري مرسلًا، وهو الصواب.
قال: وإنما أتي عليه فيه من جهة أن الزهري رواه عن سالم عن أبيه: "أنه كان يمشي أمام الجنازة" قال: "وكان النبي عليه السلام وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة" فقوله: "وكان النبي عليه السلام
…
" إلى آخره من كلام الزهري لا من كلام ابن عمر، قال
(1)"جامع الترمذي"(3/ 331 رقم 1010) مع اختلاف في ألفاظه.
(2)
في "الأصل، ك": محمد بن بكير، وهو خطأ من وجهين:
الأول: أن محمد بن المثنى سقط من الإسناد.
الثاني: أن بكر تصحفت فكتبت بكير، ومحمد بن بكر هو البرساني.
والمثبت من "تحفة الأشراف"(1/ 399 رقم 1562)، و "جامع الترمذي".
ابن المبارك: الحفاظ عن الزهري ثلاثة: مالك، ومعمر، وابن عيينة، فإذا اجتمع اثنان منهم على قول أخذنا به وتركنا قول الآخر. انتهى.
وقال أحمد بن حنبل: هذا الحديث عن الزهري: أن رسول الله عليه السلام مرسل، وحديث سالم: فعل ابن عمر، وحديث ابن عيينة كأنه وهم فيه.
فإن قيل قال المنذري: وقد قيل: إن ابن عيينة من الحفاظ الأثبات، وقد أتى بزيادة على من أرسل فوجب تقديم قوله، على أن ابن عيينة قد تابعه على رفعه ابن جريج وزياد بن سعد وغير واحد، وقال البيهقي: ومن وصله واستقر على وصله ولم يختلف عليه فيه -وهو سفيان بن عيينة- ثقة حجة.
قلت: الجواب عن هذا ما قاله ابن المبارك، وقد ذكرناه.
فإن قيل: قال أبو عمر: وقد رواه بعض أصحاب مالك عن مالك موصولا، فحينئذ يكون مالك وابن عيينة متفقين على الوصل؛ فينبغي أن يؤخذ به دون قول معمر في القطع.
قلت: قال أبو عمر نفسه الصحيح عن مالك: الإرسال، وإن كان روى عنه بعض أصحابه موصولًا، وقال الخليلي: أسنده يحيى بن صالح الوحاظي، عن مالك، وهو وإن كان ثقة فلا يتابع على هذا الحديث.
ص: وقال أصحاب المقالة الأولى: وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة، وذكروا ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن المنكدر سمع ربيعة بن عبد الله بن هدير:"يقول رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدّم الناس أمام جنازة زينب رضي الله عنها".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن المنكدر
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، قال:"سألت سعيد بن جبير، عن المشي أمام الجنازة، قال: نعم، رأيت ابن عباس يمشي أمام الجنازة".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، أن أبا راشد مولى معيقيب بن أبي فاطمة أخبره:"أنه رأى عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهم يفعلونه".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، أنه رأى أبا هريرة وعبد الله بن عمر وأبا أسيد الساعدي وأبا قتادة رضي الله عنهم يمشون أمام الجنازة".
فقد دل هذا على أن المشي أمام الجنازة أفضل من المشي خلفها.
قيل لهم: ما دل ذلك على شيء مما ذكرتم، لكنه أباح المشي أما الجنازة، وهذا مما لا ينكره مخالفكم أن المشي أمام الجنازة مباح، وإنما اختلفتم أنتم وأياه في الأفضل من ذلك ومن المشي خلف الجنازة، فإن كان عندكم أثر صحيح فيه أن المشي أمام الجنازة أفضل من المشي خلفها ثبت بذلك ما قلتم، وإلا فقوله إلى الآن مكافئ لقولكم.
ش: أخرج أربعة آثار عن الصحابة رضي الله عنهم احتجت بها أهل المقالة الأولى في أن المشي أمام الجنازة أفضل، ثم أجاب عنها بقوله: قيل لهم .... إلى آخره، وهو ظاهر.
قوله: "وإلا فقوله" أي وإن لم يكن عندكم أثر صحيح فيما أدعيتم فقول المخالف. "إلى الآن مكافئ" أي مساوٍ لقولكم، فلا تقوم بما ذكرتم حجة.
الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأخرجه من طريقين صحيحين:
أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة بن عبد الله بن هدير القرشي المدني عم محمد بن المنكدر
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث ابن عيينة، عن ابن المنكدر، عن
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 24 رقم 6651).
ربيعة بن عبد الله بن هدير: "أنه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم الناس أمام جنازة زينب بنت جحش". انتهى.
قلت: هي أم المؤمنين زوج النبي عليه السلام، ماتت سنة عشرين من الهجرة، وصلى عليها عمر بن الخطاب.
والآخر: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة بن عبد الله نحوه.
وأخرجه مالك في "موطأه"(1).
الأثر الثاني: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة- ضعفه أحمد وأبو زرعة والنسائي.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه".
الثالث: عن عثمان بن عفان ومن معه.
أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، السبائي المصري، عن أبي راشد مولى معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي
…
إلى آخره.
وهذا الإسناد فيه مقال لأن فيه ابن لهيعة قد ضعفه جماعة.
وفيه أبو راشد ذكره ابن يونس في تاريخه ولم يذكر له اسمًا ولا جرحًا ولا تعديلًا.
ومعيقيب صحابي شهد فتح مصر قاله: ابن يونس.
الرابع: عن أبي هريرة ومن معه: أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن صالح بن
(1)"موطأ مالك"(1/ 225 رقم 527).
سهل مولى التوأمة بنت أمية بن خلف الجمحي المدني، ضعفه مالك والنسائي، وعن يحيى: صالح مولى التوأمه ثقة حجة، وإنما أدركه مالك بعد أن كبر وخرف، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة قال:"رأيت أبا هريرة وأبا قتادة وابن عمر وأبا أسيد يمشون أمام الجنازة".
قلت: أبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي، وأبو أسيد -بضم الهمزة- اسمه مالك بن ربيعة، وأبو هريرة اختلف في اسمه اختلافًا شديدًا، والأكثرون أنه عبد الرحمن.
ص: وإن احتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، عن مالك، عن ابن شهاب، قال:"ليس من السنة المشي خلف الجنازة" وقال ابن شهاب: "المشي خلف الجنازة من خطأ السنة".
قيل لهم: هذا كلام ابن شهاب، فقوله في ذلك كقولكم إذ كان لمخالفه ومخالفكم من الحجة عليه وعليكم ما سنذكره في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
ش: أي وإن احتج أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بما حدثنا يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .... إلى آخره. "قيل لهم" أي لهؤلاء المحتجين بقول الزهري:"إن هذا" الذي رواه مالك هو "كلام" ابن شهاب وهو محمد بن مسلم الزهري "فقوله في ذلك" أي فيما ذهبتم إليه "كقولكم" حين كان لمخالفه أي لمخالف الزهري "ومخالفكم من الحجة عليه" أي على الزهري "وعليكم ما سنذكره في هذا الباب" أراد أنه يذكر آثارًا تدل على إباحة المشي أمام الجنازة وخلفها، وعن يمينها وعن شمالها، وتدل أيضًا على أنَّا أمرنا باتباع الجنائز والمتبع للشيء هو الذي يتأخر عنه ولا يتقدم أمامه،
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 477 رقم 11227).
وهذا كله يدل على فساد قول الزهري: "المشي خلف الجنازة من خطأ السنة" على ما يجيء مستقصى عن قريب إن شاء الله.
ص: ثم رجعنا إلى ما روي في هذا الباب من الآثار، هل فيه شيء ييبح المشي خلف الجنازة؟ فإذا ربيع الجيزي وابن أبي داود قد حدثانا، قالا: ثنا أبو زرعة، قال: أنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك:"أن رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بكر البرساني، عن يونس بن يزيد .... ثم ذكر بإسناده مثله.
ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام كان يمشي خلف الجنازة كما كان يمشي أمامها، فإن كان مشيُ رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر أمام الجنازة حجة لكم أنَّ ذلك أفضل من المشي خلفها، فكذلك مشيُ رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر خلفها حجة لمخالفكم عليكم أنَّ ذلك أفضل من المشي أمامها، فقد استوى خصمكم وأنتم في هذا الباب، فلا حجة لكم فيه عليه.
وقد حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: ثنا سعيد بن عبيد الله، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله عليه السلام: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها".
فأباح في هذا الحديث أيضًا رسول الله عليه السلام المشي خلف الجنازة كما أباح المشي أمامها، وليس في شيء مما ذكرنا ما يدل على الأفضل من ذلك ما هو؟.
وقد روي عن أنس بن مالك ما معناه قريب من معنى حديث المغيرة، ولم يذكر عن النبي عليه السلام.
حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك في الرجل يتبع الجنازة قال:"إنما أنتم مشيعون لها، فامشوا بين يديها، وخلفها، وعن يمينها، وعن شمالها".
حدثنا روح الفرج، قال: ثنا ابن غفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن حميد، عن أنس بن مالك، مثله.
وقد روي عن رسول الله عليه السلام في ذلك أيضًا ما حدثنا عبد الغنيم بن رفاعة اللخمي، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن أشعث بن سليم، قال: سمعت معاوية بن سويد بن مقرن، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: "أمرنا رسول الله عليه السلام باتباع الجنازة". ففي هذا الحديث أنه أمرهم باتباع الجنازة، والمتبع للشيء هو المتأخر عنه لا المتقدم أمامه، ففيما ذكرنا ما قد دل على فساد قول الزهري:"إن المشي خلف الجنازة من خطأ السنة".
ش: لما احتجت أهل المقالة الأولى في جملة احتجاجهم بما رووه عن الزهري من أن المشي خلف الجنازة من خطأ السنة، أورد ها هنا أحاديث وآثارًا تدل على أن المشي خلف الجنازة مباح، وكذا عن يمينها وشمالها وعلى أنَّا أمرنا باتباع الجنازة، والمتبع للشيء هو المتأخر عنه بلا شك، فهذا كله يدل على فساد ما رووه عن الزهري.
ثم إنه أخرج في ذلك عن أنس بن مالك والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب رضي الله عنهم.
أما عن أنس فأخرجه من أربع طرق.
الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، وعن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك.
وهذا إسناد حسن جيد لأن رجاله ثقات.
فإن قيل: كان النسائي لا يرضى أبا زرعة هذا، وغمزه سعيد بن أبي مريم.
قلت: قال أبو حاتم: محله الصدق، وذكر ابن يونس أن القضاة كانت تقبله.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود، عن محمد بن بشار البصري بندار شيخ الجماعة، عن محمد بن بكر بن عثمان البرساني البصري، وبرسان -بضم الباء الموحدة- من الأزد عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن أنس.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه الترمذي (1): عن محمد بن المثنى، عن محمد بن بكر، عن يونس بن يزيد، نحوه، وليس فيه:"وخلفها".
الثالث موقوف وإسناده صحيح: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحفاظ -بالنون- المقرئ روى له الجماعة، عن حميد بن أبي حميد الطويل روى له الجماعة، عن أنس.
الرابع أيضًا موقوف وإسناده صحيح: عن روح أيضًا، عن سعيد بن كثير بن عفير المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن حميد، عن أنس.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن أبي جعفر الرازي، عن حميد الطويل قال:"سمعت العيزار يسأل أنس بن مالك عن المشي أمام الجنازة، فقال له أنس: إنما أنت مشيع، فامش إن شئت أمامها، وإن شئت خلفها، وإن شئت عن يمينها، وإن شئت عن يسارها".
وأما عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح.
عن أبي بكرة بكار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط البصري روى له الجماعة، عن سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية الثقفي الجبيري البصري، روى له البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن زياد بن جبير بن حية الثقفي البصري، روى له الجماعة، عن أبيه جبير بن
(1)"جامع الترمذي"(3/ 331 رقم 1010).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(3/ 445 رقم 6261).
حية بن مسعود الثقفي البصري، روى له الجماعة سوى مسلم، وجُبَير -بضم الجيم وفتح الباء الموحدة- وَحيَّة -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف-.
والحديث أخرجه الأربعة.
فقال أبو داود (1): ثنا وهب بن بقية، عن خالد، عن يونس، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة - قال: وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي عليه السلام قال: "قال: الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبًا منها، والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة".
وقال الترمذي (2): ثنا بشر بن آدم، قال: ثنا إسماعيل بن سعيد بن عبيد الله قال: نا أبي، عن زياد بن جبير بن حية، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي عليه السلام قال:"الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء، والطفل يصلى عليه".
وقال النسائي (3): أنا إسماعيل بن مسعود، قال: أنا خالد، قال: أنا سعيد بن عبيد الله قال: سمعت زياد بن جبير يحدث، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، أنه ذكر أن رسول الله عليه السلام قال:"الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه".
وأخرجه ابن ماجه (4) مقتصرًا على الصلاة على الطفل.
ولما رواه الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه الحاكم في "مستدركه"(5) وقال: صحيح على شرط البخاري.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 222 رقم 3180).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 349 رقم 1031).
(3)
"المجتبى"(4/ 58 رقم 1948).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 483 رقم 1507).
(5)
"مستدرك الحاكم"(1/ 517 رقم 1344).
فإن قيل: هذا الحديث في سنده اضطراب، وفي متنه أيضًا؛ لأن في رواية أبي داود وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه، وفي رواية غيره: عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة.
وفي رواية ابن ماجه: عن زياد بن جبير، سمع المغيرة. وليس فيه عن أبيه.
وقال البيهقي: هذا حديث مشكوك في رفعه، وكان يونس يَقِفُه على زياد.
قلت: لا نسلم أنه مضطرب؛ لأن الطحاوي وأحمد بن حنبل وأبا داود والنسائي والترمذي أخرجوه عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة كما ذكرناه، وأخرجوه مرفوعًا، وصححه الترمذي والحاكم، فسقط ما قيل فيه فافهم.
وأما عن البراء بن عازب رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح: عن عبد الغني بن رفاعة بن عبد الملك الجحمي المصري، شيخ أبي داود، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، وثقه ابن حبان وأبو حاتم (1)، عن شعبة بن الحجاج، عن أشعث بن سليم أبي الشعثاء المحاربي الكوفي روى له الجماعة، عن معاوية بن سويد بن مقرن المزني الكوفي ابن أخي النعمان بن مقرن روى له الجماعة، عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (2) بأتم منه في عشرة مواضع من "صحيحه": ثنا أبو الوليد، نا شعبة، عن الأشعث، قال: سمعت معاوية بن مقرن، عن البراء قال:"أمرنا رسول بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم -أو المقسم- وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، وعن المياثر والحرير والديباج والقسي والإستبرق [وإنشاد الضال] (3) ".
(1) الذي قاله أبو حاتم في "الجرح والتعديل": "سألت أبي عنه، فقال: صدوق".
(2)
"صحيح البخاري" (1/ 417 رقم 1182 وانظر رقم [2313، 488، 5312، 5326، 5500، 5511، 5525، 5868، 5881، 6278].
(3)
كذا في "الأصل، ك"، ولم أجد هذه اللفظة في هذه المواضع المذكورة في "صحيح البخاري"، وإنما هي في إحدى روايات مسلم في "صحيحه"(3/ 1636 رقم 2066)
وفي لفظ (1) وعن الشرب في آنية الفضة، فإنه من شرب فيها في الدنيا، لم يشرب فيها في الآخرة.
وأخرجه مسلم (2) أيضًا.
قوله: "أمرنا رسول الله عليه السلام باتباع الجنازة" قد ذكرنا أن المتبع للشيء هو المتأخر عنه، والذي يتقدم عليه لا يسمى متبعًا، وهذا دليل صريح قاطع لأصحابنا فيما ذهبوا إليه.
وقال الداودي: اتباع الجنائز يحمله بعض الناس عن بعض وهو واجب على ذي القرابة الحاضر، والجار، وكذا في عيادة المريض.
وقال ابن التين: لا أعلم أحدًا من الفقهاء ذكر هذه التفرقة إلا أن يريد بقوله واجب التأكيد، والذي يقوله غيره: إنه أمر ندب، وعند الجمهور من فروض الكفاية.
وقال ابن قدامة: هو على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يصلي عليها ثم ينصرف، قال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك، وقال أبو داود: رأيت أحمد ما لا أحصي يصلي على الجنازة ولم يتبعها إلى القبر ولم يستأذن.
الثاني: يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن.
الثالث: أن يقف بعد الدفن فيستغفر له، ويسأل له التثبيت، ويدعو له بالرحمة، كذا روى عنه عليه السلام فيما ذكره أبو داود، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها" انتهى.
ثم اعلم أن حديث أنس صرح فيه أن رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر كانوا يمشون خلف الجنازة، وحديث المغيرة يخبر بأن المشي خلف الجنازة، يباح كما هو
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1636 رقم 2066) ولم أجده في "صحيح البخاري".
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1635 رقم 2066).
كذلك في المشي أمامها، وحديث البراء يخبر باتباع الجنازة، والاتباع لا يكون إلا إذا كان خلف الجنازة، فكل ذلك يدل على فساد قول الزهري المذكور، وقال ابن شاهين: هذا باب بن مشكل عن القطع فيه بشيء، فيجوز أن يكون مشي النبي عليه السلام
بين يدي الجنازة لعلة، وخلفها لعلة، كما كان إذا صلى سلم واحدة فلم كثر الناس عن يمينه وخلا اليسار سلم عن يمينه ويساره، ثم جاءت الرخصة منه بأنه يمشي حيث شاء، وقد جاء في المشي خلفها من الفضل ما لم يجيء في المشي أمامها.
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن يسار، عن عمرو بن حريث، قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما تقول في المشي أمام الجنازة؟ فقال علي رضي الله عنه: "المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل المكتوبة على التطوع، قلت: ما لي أرى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشيان أمامها؟ فقال: إنهما يكرهان أن يحرجا الناس".
حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي فروة الهمداني، عن زائدة بن خراش، قال: ثنا ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال:"كنت أمشي في جنازة فيها أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فكان أبو بكر وعمر يمشيان أمامها، وعلى يمشي خلفها يدي في يده، فقال علي رضي الله عنه: أما إن فضل الرجل يمشي خلف الجنازة على الذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وإنهما ليعلمان من ذلك مثل الذي أعلم، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس".
ففي هذا الحديث تفضيل المشي خلف الجنازة على المشي أمامها، وقوله:"أن أبا بكر وعمر يعلمان من ذلك مثل الذي أعلم" وأنهما إنما يتركان ذلك؛ للتسهيل على الناس، لا لأن ذلك أفضل، وهذا مما لا يقال بالرأي، وإنما يقال ويعلم بما قد وقفهم عليه رسول الله عليه السلام وعلمهم إياه من ذلك.
فقد ثبت بتصحيح ما روينا أن المشي خلف الجنازه أفضل من المشي أمامها.
ش: لما قالت أهل المقالة الأولى: ليس فيما رويتم من الأحاديث ما يدل صريحًا على أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، شرع يذكر الأحاديث والآثار التي فيها تصريح بأن الأفضل هو المشي خلف الجنازة.
فأخرج عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من طريقين صحيحين:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن حماد بن سلمة، عن يعل بن عطاء العامري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن عبد الله بن يسار أبي همام الكوفي، وثقه ابن حبان (1)، عن عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المدني المخزومي الصحابي.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2) مطولًا: ثنا يزيد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن يسار:"أن عمرو بن حريث عاد الحسن بن علي، فقال له علي: أتعود الحسن وفي نفسك ما فيها؟! فقال له عمرو: إنك لست بربي فتصرِّف قلبي حيث شئت، قال علي رضي الله عنه: إما إن ذلك لا يمنعنا أن نؤدي النصيحة، سمعت رسول الله عليه السلام يقول: ما من مسلم عاد أخاه إلا ابتعث الله [له] (3) سبعين ألف ملك يصلون عليه من أي ساعات النهار كان حتى يمسي، ومن أي ساعات الليل كان حتى يصبح. قال له عمرو: كيف تقول في المشي مع الجنازة بين يديها أو خلفها؟ فقال عليّ رضي الله عنه: [إن] (3) فضل المشي خلفها على بين يديها كفضل صلاة المكتوبة في جماعة على الواحدة. قال عمرو: فإني رأيت أبا بكر وعمر يمشيان أمام الجنازة؟ قال على رضي الله عنه: إنهما كرها أن يحرب الناس".
(1) قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب التهذيب"(6/ 77): وقال ابن المديني: هو شيخ مجهول، وكذا قال أبو جعفر الطبري، قال: وقد سماه غير يعلى بن عطاء: عبد الله بن نافع.
(2)
"مسند أحمد"(1/ 97 رقم 754).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".
الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن أبي فروة عروة بن الحارث الهمداني الكوفي، وهو أبو فروة الأكبر من رجال مسلم، عن زائدة بن خراش -بكسر الخاء- وقيل زائدة بن أوس بن خراش الكندي وثقه ابن حبان.
وهو يروي عن ابن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه عبد الرحمن بن أبزى، إلى آخره، وعبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مختلف في صحبته، قال البخاري: له صحبة. وذكره غير واحد في الصحابة، وقال أبو حاتم: أدرك النبي عليه السلام، وصلى خلفه، وروى عنه ابناه سعيد وعبد الله ابنا عبد الرحمن بن أبزى، وكلاهما ثقتان.
والظاهر أن المراد من ابن عبد الرحمن بن أبزى ها هنا هو سعيد؛ لأن البيهقي قال: زائدة بن خراش يروي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى والله أعلم.
وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن أبي فروة -وليس بالذي يروي عن ابن أبي ليلى- عن زائدة الهمداني عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه:"أن أبا بكر وعمر كانا في الجنازة يمشيان أمامها، وعلي يمشي خلفها، فقلت لعلي رضي الله عنه، فقال: إنهما قد علمًا أن المشي خلفها أفضل، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس".
ولا نعلم روى ابن أبزى عن علي رضي الله عنه إلا هذا الحديث.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أبزى، قال: "كنت في جنازة وأبو بكر وعمر أمامها، وعلي يمشي خلفها، قال: فجئت إلى علي، فقلت: المشي خلفها أفضل أو المشي أمامها فإني أراك تمشي خلفها وهذان يمشيان أمامها؟ قال:
(1)"مسند البزار"(2/ 136 - 137 رقم 497).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 477 رقم 11239).
فقال علي رضي الله عنه: لقد علما أن المشي خلفها أفضل من أمامها مثل صلاة الجماعة على الفذ، ولكنهما يسيران مُيسِّرَان [يحبان أن ييسِّرا](1) على الناس.
قوله: "ففي هذا الحديث" أراد به حديث علي رضي الله عنه.
قوله: "لا لأن ذلك أفضل" أي لا لأجل أن المشي أمام الجنازة أفضل.
قوله: "وهذا مما لا يقال" أي الحكم بتفضيل شيء على آخر لا يقال بالرأي ولا مجال للرأي فيه، وإنما هو أمر توقيفي، ولولا أن عليًّا رضي الله عنه علم ذلك من النبي عليه السلام لما فعله ولما قال:"المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل المكتوبة على التطوع، وفضل الرجل يمشي خلف الجنازة على الذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ" أي الواحد.
ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع البهراني، قال: ثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن نافع قال:"خرج عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأنا معه على جنازة فرأى معها نساء، فوقف ثم قال: ردهن فإنهن فتنة الحي والميت، ثم مضى فمشي خلفها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن كيف المشي في الجنازة، أمامها أم خلفها؟ فقال: أما تراني أمشي خلفها؟! ".
فهذا عبد الله بن عمر لما سئل عن المشي في الجنازة أجاب سائله أنه خلفها، وهو الذي روينا عنه في هذا الباب أن رسول الله عليه السلام كان يمشي أمامها، فدل ذلك أن رسول الله عليه السلام كان يفعل ذلك على جهة التخفيف على الناس ليعلمهم أن المشي خلف الجنازة وإن كان أفضل من المشي أمامها ليس هو مما لا بد منه ولا مما لا يحرج تاركه، ولكنه مما له أن يفعله ويفعل غيره، وكذلك ما روي عن ابن عمر من ذلك، فروى عنه سالم أنه كان يمشي أمام الجنازة، فدل ذلك أيضًا على إباحة المشي أمامها لا على أن ذلك أفضل من المشي خلفها، ثم روى عنه نافع أنه مشي خلفها فدل ذلك أيضًا على إباحة المشي خلفها لا على أن ذلك أفضل من غيره، فلما سأله أخبره بالمشي
(1) في "الأصل، ك": يختاران تيسيرًا. والمثبت من "المصنف".
الذي ينبغي أن يفعل في الجنازة أنه خلفها علي أنه هو الذي أفضل من غيره، وقد روينا في حديث البراء أن النبي عليه السلام أمرهم باتباع الجنازة، والأغلب من معنى ذلك هو المشي خلفها أيضًا، فصار بذلك من حق الجنازة اتباعها، والصلاة عليها، فكان المصلي عليها يكون في صلاته متأخرًا عنها فالنظر على ذلك أن يكون المتبع لها في اتباعه متأخرًا عنها، فهذا هو النظر مع ما قد وافقه من الآثار.
ش: أخرج أثر عبد الله بن عمر لمعنيين:
الأول: لما فيه دلالة صريحة على أن المشي خلف الجنازة أفضل.
والثاني: ليوفق بين ما روي عنه من فعله وبين ما رواه عن النبي عليه السلام أنه كان يمشي أمامها، وأشار إلى ذلك بقوله:"فهذا عبد الله بن عمر لما سئل .... " إلى قوله: "ويفعل غيره" وهو ظاهر.
قوله: "وكذلك ما روى عن ابن عمر .... إلى آخره" إشارة أيضًا إلى بيان وجه التوفيق بين ما رواه سالم عنه أنه كان يمشي أمام الجنازة، وبين ما رواه نافع عنه هذا.
قوله: "وقد روينا في حديث البراء .... إلى آخره" أشار به إلى بيان أن النظر والقياس أيضًا يقتضي أفضليه المشي خلف الجنازة، بيان ذلك: أن النبي عليه السلام أمر باتباع الجنازة، والأغلب في معنى الاتباع المشي خلفها كما قد ذكرنا فيما مضى، ومن الاتباع الصلاة عليها، ولا تكون الصلاة عليها إلا والجنازة بين يديه وهو يتأخر عنها، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون المتبع لها في اتباعه متأخرًا عنها، وتكون هي بين يديه.
فهذا هو الذي يقتضيه القياس مع موافقة الآثار له في هذا المعنى.
ثم إنه أخرج أثر عبد الله بن عمر، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع البهراني شيخ البخاري ونسبته إلى بهرا -بالباء الموحدة- ابن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وزيدت فيه النون على خلاف القياس كما في الصنعاني، والقياس: بهراوي وصنعاوي.
عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني قيل: اسمه بكير بن عبد الله بن أبي مريم، وقيل: عبد السلام، وهو مشهور بكنيته، ضعفه يحيى بن معين، وعن دحيم: حمصي من كبار شيوخ حمص وفي حديثه بعض ما فيه. وقال ابن حبان: كان من خيار أهل الشام ولكن كان رديء الحفظ، يحدث بالشيء فَيَهِمُ، ويكثر من ذلك حتى استحق الترك.
وهو يروي عن راشد بن سعد المقرائي، ويقال: الحبراني الحمصي، قال يحيى وأبو حاتم والعجلي والنسائي: ثقة. وروى له الأربعة.
عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما.
واستفيد منه: أن المشي خلف الجنازة أفضل، وأن النساء يمنعن من اتباعها، وقال ابن المنذر: روينا عن ابن مسعود وابن عمر وعائشة وأبي أمامة: أنهم كرهوا ذلك للنساء -أي: اتباع الجنازة- وكرهه أيضًا إبراهيم والحسن ومسروق وابن سيرين والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال الثوري: اتباع النساء للجنائز بدعة، وعن أبي حنيفة: لا ينبغي ذلك للنساء، وروي إجازه ذلك عن ابن العباس والقاسم وسالم والزهري وربيعة وأبي الزناد، ورخص فيه مالك.
وقال القرطبي: كرهه مالك للشابة، وأجازه لغيرها، ونقل العبدري عن مالك: يكره إلا أن يكون الميت ولدها أو والدها أو زوجها، وكانت ممن يخرج مثلها لمثله، وعند الشافعي مكروه.
ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا إسرئيل، عن عبد الله بن شريك العامري، قال:"سمعت الحارث بن أبي ربيعة، سأل عبد الله بن عمر عن أم ولد له نصرانية ماتت، فقال له ابن عمر: تأمر بأمرك وأنت بعيد منها ثم تسير أمامها فإن الذي يسير أمام الجنازة ليس معها".
فهذا بن عمر رضي الله عنهما يخبر أن الذي يمشي أمام الجنازة ليس معها، فاستحال أن يكون ذلك عنده كذلك وقد رأى النبي عليه السلام يمشي أمامها، فقد ثبت بذلك أن أصل
حديث سالم الذي رويناه في أول هذا الباب إنما هو كما رواه مالك عن الزهري موقوفًا، أو كما رواه عُقيل ويونس عن الزهري عن سالم موقوفًا، لا كما رواه ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعًا.
ش: ذكر هذا الأثر لمعنيين أيضًا:
أحدهما: إن فيه دلالة صريحة على أن المشي خلف الجنازة هو الأفضل؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما نفى من يسير أمام الجنازة أن يكون معها، فإذا لم يكن معها لم يحصل له ثواب التشييع.
والآخر: لينبه على أن أصل الحديث الذي رواه سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر قال:"رأيت رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة". موقوف كما رواه مالك عن الزهري موقوفًا، وكما رواه عقيل بن خالد الأيلي، ويونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، عن سالم موقوفًا، وكيف لا يكون موقوفًا وقد قال ابن عمر في الحديث المذكور:"الذي يسير أمام الجنازة ليس معها؟ " فمن المستحيل أن يقول هذا القول والحال أنه قد كان رأى النبي عليه السلام يمشي أمامها، فدل ذلك قطعًا أن أصل الحديث موقوف، ولهذا قال النسائي: هذا حديث خطأ. وهم فيه ابن عيينة. وقال ابن المبارك: حديث الزهري في هذا مرسلًا أصح من ابن عيينة. وقد مر الكلام فيه مستقصى.
فإن قيل: إذا ثبت هذا يكون عن ابن عمر روايتان متضادتان.
قلت: لا، لأن المروي عنه في المشي أمام الجنازة إما لبيان أنه مباح، وإما لضرورة دعت إلى ذلك، والمروي عنه في المشي خلفها لبيان الفضيلة، فلذلك نفى من يسير أمامها أن يكون معها. فافهم.
ثم إسناد الأثر المذكور صحيح؛ لأن رجاله ثقات، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي حافظ ثقة ثبت، قاله ابن عساكر وغيره.
وأحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي الكوفي شيخ البخاري ومسلم، وقد ينسب إلى جده.
وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، وعبد الله بن شريك العامري الكوفي وثقه ابن حبان، وفي "التكميل" قال الإِمام أحمد وأبو زرعة ويحيى: ثقة.
والحارث بن أبي ربيعة -واسم أبي ربيعة عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المعروف بالقُبَاع، ويقال: الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة- روى له مسلم وأبو داود في "المراسيل" والنسائي ولم يسمه.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن وكيع، عن شريك، عن عبد الله بن شريك، قال:"سمعت أن عمر سئل عن الرجل المسلم يتبع أمه النصرانية تموت؟ قال: يتبعها ويمشي أمامها".
وأخرج الدارقطني في "سننه"(2): ثنا علي بن محمد بن جنيد الحافظ، ثنا علي بن سهل بن المغيرة، حدثني أبي، ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال:"جاء ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله عليه السلام فقال: إن أمه توفيت وهي نصرانية وهو يحب أن يحضرها؟ فقال النبي عليه السلام: "اركب دابتك، وسر أمامها، فإنك إذا كنت أمامها لم تكن معها".
وأبو معشر ضعيف.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: أن الذي يمشي أمام الجنازة ليس مع الجنازة، وأنه يدل على أن الأفضل هو المشي خلفها.
والثاني: جواز استخدام النصرانيات في التسري بهن.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 33 رقم 11846).
(2)
"سنن الدارقطني"(2/ 75 رقم 6).
والثالث: أن المسلم إذا مات له قريب نصراني له أن يتبع جنازته إلى أن يواروه في تراب.
وقد روى أبو داود (1) وغيره: عن علي رضي الله عنه قال: "قلت للنبي عليه السلام إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فوار أباك، ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فذهبت فواريته وجئته، فأمرني فاغتسلت، ودعى لي".
وبه استدل أصحابنا على أن المسلم إذا مات له قريب كافر يغسله ويدفنه، وقال صاحب "الهداية": وإن مات الكافر وله وليّ مسلم يغسله ويكفنه ويدفنه، بذلك أمِرَ علي رضي الله عنه في حق أبيه أبي طالب.
قلت: وليس في الحديث الغسل والتكفين إلا أن يؤخذ ذلك من مفهوم قوله: "فأمرني فاغتسلت" فإن الاغتسال شُرعَ من غسل الميت مع أنه قد جاء مصرحًا به في بعض الأحاديث، فروى ابن سعد في "الطبقات" (2): أنا محمد بن عمر الواقدي، حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال:"لما أخبرت رسول الله عليه السلام بموت أبي طالب بكي، ثم قال لي: اذهب فاغسله وكفنه وواره .... " الحديث.
قلت: قالت العلماء: لكن لا يراعي فيه سنة الغسل والتكفين والله أعلم.
ص: حدثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو يحيى، عن مجاهد، قال: "كنت مع عبد الله بن عمر جالسًا، فمرت به جنازة، فقام ابن عمر ثم قال: قم، فإني رأيت رسول الله عليه السلام قام لجنازة يهودي مرت عليه، فقيل: هل لك أن تتبعها فإن في اتباعها أجرًا؟ فانطلقنا نمشي معها، فنظر فرأى ناسًا، فقال: ما أولئك الذين بين يدي الجنازة؟ فقلت: هم أهل الجنازة، فقال: ما
(1)"سنن أبي داود"(3/ 214 رقم 3214) وأخرجه النسائي في "المجتبى"(1/ 110 رقم 190) وأحمد في "مسنده"(1/ 97 رقم 759).
(2)
"الطبقات الكبير"(1/ 123).
هم مع الجنازة ولكن كنفيها أو ورائها. فبينما هو يمشي إذ سمع رانة، فاستدارني وهو قابض على يدي، فاستقبلها فقال لها: شرًّا حرمتينا هذه الجنازة. اذهب يا مجاهد فإنك تريد الأجر وهذه تريد الوزر، إن رسول الله عليه السلام نهانا أن نتبع جنازة معها رانة".
ش: أخرجه أيضًا لدلالته قطعًا أن من مشي أمام الجنازة لا يكون معها، حيث قال ابن عمر رضي الله عنهما:"ما هم مع الجنازة، ولكن كنفيها" أي جنبيها يمينها وشمالها "وورائها".
ورجال إسناده ثقات، وابن أبي مريم هو أحمد بن سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي مريم شيخ النسائي وأبي داود، والفريابي هو محمد بن يوسف شيخ البخاري، وإسرائيل هو ابن يونس روى له الجماعة، وأبو يحيى القتات صاحب القت الكوفي اسمه زاذان أو دينار أو عبد الرحمن بن دينار أو مسلم أو زبان، فهو وإن كان ضعفه قوم فقد وثقه يحيى وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
والحديث أخرجه ابن ماجه (1): مقتصرًا على قوله: "نهى رسول عليه السلام أن تتبع جنازة معها رانة، قال: ثنا أحمد بن يوسف، نا عبيد الله، أنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عمر.
و"الرانة" بفتح الراء المهملة وتشديد النون وهي الصائحة النائحة، من رنت المرأة ترن رنينًا وأَرَنَّت أيضًا إذا صاحت.
وفيه: القيام إذ صاحت.
وفيه: القيام للجنازة إذا مرت عليه على ما فيه من اختلاف العلماء على ما يجيء إن شاء الله.
وإن المشي خلفها أفضل.
وكراهة اتباعها إذا كانت معها نائحة وكراهة الصياح عندها.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 504 رقم 1583).
ص: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام في جنازة زينب رضي الله عنهما يقدم الناس أمامها، فذلك دليل على أنه كان لا يرى المشي خلفها أصلًا، ولولا ذلك لأباحه لمن مشي خلفها.
قيل: وكيف يجوز ما ذكرت وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنهما -يريد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما-يعلمان أن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها" ثم يفعل هذا المعنى الذي ذكرت، ولكنه فعل ذلك -عندنا والله أعلم- لعارض إما لنساء كن خلفها، فكره للرجال مخالطتهن فأمرهم بالتقدم لذلك العارض لا لأنه أفضل من المشي خلفها.
وقد سمعت يونس يذكر، عن ابن وهب، أنه سمع من يقول ذلك، وهو أولى ما حمل عليه هذا الحديث، حتى لا يتضاد ما ذكره علي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.
ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف يكون المشي خلف الجنازة أفضل وقد كان عمر رضي الله عنه أمر الناس أن يتقدموا في جنازة زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها كما مر فيما مضى، وكان ذلك بحضرة الصحابة، فلم ينكر عليه أحد، فدل ذلك أن المشي أمام الجنازة أفضل، وأن عمر لا يرى المشي خلفها أصلًا.
وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن تقديم عمر الناس في جنازة زينب لأجل ما ذكرتم، وكيف يكون كذلك وقد أخبر علي رضي الله عنه في حديثه أن عمر كان يعلم أن المشي خلف الجنازة أفضل، وإنما فعل ذلك لأجل التيسير على الناس، أو فعله لعارض، وهو أن الجنازة كانت وراءها نساء فأمر الرجال أن يتقدموا حتى لا يختلطوا بهن، قال الطحاوي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يذكر عن عبد الله بن وهب أنه سمع من يقول هذا القول.
فهذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث حتى لا يتضاد ما ذكره علي رضي الله عنه عن أبي بكر وعمر ويتفق الأثران والله أعلم.
وعندي وجه أخر لأمر عمر الناس بالتقدم في جنازة زينب رضي الله عنها: وهو أنه يحتمل أن يكون الناس كلهم قد تأخروا عن جنازة زينب، فظن عمر رضي الله عنه أنهم قد اعتقدوا كراهة المتقدم على الجنازة أو عدم إباحته، فأمرهم بذلك تعليمًا منه إياهم أن المشي أمام الجنازة مباح وغير محظور، فأمرهم أن يتقدموا وإن كان المشي خلفها أفضل من ذلك، والله أعلم.
ص: وقله حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: "كان الأسود إن كان معها نساء أخد بيدي فيقدمنا نمشي أمامها، فإذا لم يكن معها نساء مشينا خلفها، فهذا الأسود بن يزيد على طول صحبته لعبد الله بن مسعود وعلى صحبته لعمر رضي الله عنه قد كان قصده في المشي مع الجنازة إلى المشي خلفها إلا أن يعرض له عارض فيمشي أمامها لذلك العارض لا لأن ذلك أفضل عنده من غيره، فكذلك عمر رضي الله عنه فيما رويناه عنه فيما فعله في جنازة زينب هو على هذا المعنى عندنا والله أعلم.
ش: ذكر هذا الأثر عن الأسود بن يزيد تأييدا لصحة التأويل الذي ذكره في تقديم عمر الناس في جنازة زينب، وهو ظاهر.
وإسناده صحيح، ومحمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، وشريك هو ابن عبد الله النخعي، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، وإبراهيم بن يزيد النخعي، وقد ذكروا غير مرة.
ص: وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن أبي السري، قال: ثنا فضيل بن عياض، قال: ثنا منصور، عن إبراهيم (ح).
وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:"كانوا يكرهون السير أمام الجنازة".
فهذا إبراهيم يقول: كانوا يكرهون السير أمام الجنازة وإذا قال: "كانوا" فإنما يعني بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود، فقد كانوا يكرهون هذا ثم يفعلونه
للعذر؛ لأن ذلك أسهل من مخالطة النساء إذا قَرُبْن من الجنازة، فأما إذا بعدن منها أو لم يكن معها نساء فإن المشي خافها أفضل من المشي أمامها وعن يمينها وعن شمالها، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: ذكر هذا الأثر أيضًا تأكيدًا لما ذكره من وجه تقديم عمر الناس في جنازة زينب وهو ظاهر.
وأخرجه من طريقين صحيحين.
الأول: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن محمد بن أبي السري وهو محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن العسقلاني شيخ أبي داود وأبي حاتم، عن فضيل بن عياض الزاهد المشهور، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي.
والثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي.
قوله: "لأن ذلك أسهل" أي لأن المتقدم على الجنازة أسهل من مخالطة النساء لأن مخالطة النساء الأجنبيات حرام، والتقدم على الجنازة مباح؛ فالإتيان بالمباح أسهل بل أفضل من ذلك، وقال محمد بن الحسن في "آثاره": أنا أبو حنيفة، عن حماد قال:"رأيت إبراهيم يتقدم الجنازة ويتباعد منها من غير أن يتوارى عنها"، وقال محمد:"لا نرى بتقدم الجنازة بأسًا، والمشي خلفها أفضل، وهو قول أبي حنيفة".
قلت: كان تقدم إبراهيم وتباعده عنها لأجل النساء كما ذكرنا، وكان يخاف أن يختلط بهن فيتباعد عنها من غير أن يتوارى عنها، ولكن إذا لم يكن نساء كان يمشي خلفها طلبا للأفضل وقول محمد رحمه الله:"لا نرى بتقدم الجنازة بأسًا" يشعر أن هذا الفعل مباح غير محظور ولكن الأفضل أن يمشي خلفها، ذكرنا من الأدلة والبراهين، والله أعلم.