الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: المشي في الجنازة كيف هو
ش: أي هذا باب في بيان المشي مع الجنازة كيف هو؟ السرعة بها أفضل أو التأني؟.
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا محمد بن جعفر المدائني، قال: ثنا شعبة، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال:"كنا في جنازة عبد الرحمن بن سمرة، أو عثمان بن أبي العاص، فكانوا يمشون بها مشيا لينًا، فكان أبا بكرة انتهرهم ورفع عليهم صوته، وقال: لقد رأيتنا نرمل بها مع النبي عليه السلام".
ش: إسناده صحيح، ومحمد بن جعفر روى له مسلم والترمذي، وعيينة -بضم العين المهملة، وفتح الياء أخر الحروف الأولى، وسكون الثانية، وفتح النون- بن عبد الرحمن جوشن الغطفاني الجوشني البصري، وثقه ابن معين، وقال أحمد: ليس به بأس، صالح الحديث. روى له الترمذي وأبو داود وابن ماجه.
وأبوه عبد الرحمن بن جوشن الغطفاني صهر أبي بكرة على ابنته، وثقه أبو زرعة، وروى له الأربعة.
وأبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي الصحابي رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسلم بن إبراهيم، نا شعبة، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه:"أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكنا نمشي مشيًا خفيفًا، فلحقنا أبو بكرة، فرفع سَوْطه، فقال: لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله عليه السلام نرمل رملًا".
وأخرج من طريق آخر (2) وفيه: "في جنازة عبد الرحمن بن سمرة".
وقال النووي: إسناده صحيح.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 205 رقم 3182).
(2)
"سنن أبي داود"(3/ 205 رقم 3183).
وأخرجه الحكم في "مستدركه"(1): في الفضائل وسكت عنه.
قوله: "انتهرهم" أي: زجرهم.
قوله: "ورفع عليهم صوته" هكذا هو في نسخ الطحاوي، وفي رواية أبي داود "سوطه".
وفي رواية له (2): "فحمل عليهم بغلته وأهوى بالسوط".
وفي رواية الطيالسي: "وشد عليهم بالسوط".
قال (3): ثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه قال:"كنت في جنازة عبد الرحمن بن سمرة، فجعل زياد ورجال من مواليه يمشون على أعقابهم أمام السرير يقولون: رويدًا رويدًا، بارك الله فيكم، فلحقهم أبو بكرة فحمل عليهم البغلة، وشد عليهم بالسوط، وقال: خلوا، والذي كرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأيتنا على عهده لنكاد أن نرمل بها رملًا".
وأخرجه البيهقي في "سننه"(4): من طريقه.
قوله: "لقد رأيتُنا" بضم التاء أي رأيت أنفسنا.
قوله: "نرمل بها" أي نسرع بها، من رَمَلَ يَرْمُلُ، من باب نَصَرَ يَنْصُرَ رَمَلًا وَرَمَلانًا: إذا أسرع في المشي وهز منكبيه.
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، أنه قال:"كنت جالسًا مع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالبقيع، فطلع علينا بجنازة، فأقبل علينا ابن جعفر يتعجب من مشيهم بها، فقال: عجبًا لما تغير من حال الناس، والله إن كان إلا الجمز، وإن كان الرجل ليلاحي الرجل، فيقول: يا عبد الله اتق الله، فوالله لكأنك قد جُمزَ بك".
(1)"مستدرك الحاكم"(3/ 504 رقم 5884).
(2)
"سنن أبي داود"(3/ 205 رقم 3183).
(3)
"مسند الطيالسي"(1/ 120 رقم 883).
(4)
"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 22 رقم 6638).
ش: إسناده صحيح، وابن أبي الزناد هو عبد الرحمن بن أبي الزناد المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وأبوه عبد الله بن ذكوان المعروف بأبي الزناد -بالنون- روى له الجماعة.
وأخرجه الحكم في "مستدركه"(1): بسند صحيح: عن عبد الله بن جعفر الطيار: "أنه رأى جنازة، فتعجب من إبطاء مشيهم، فقال: عجبًا لما تغير من حال الناس
…
". إلى آخره نحوه، وفي آخره: "متعجبًا لإبطاء مشيهم".
وأخرج الحاكم هذا شاهد الحديث أبي بكرة المقدم ذكره.
قوله: "فَطُلِعَ علينا" على صيغة المجهول.
قوله: "يتعجب من مشيهم" جملة حالية أي من مشي الناس بتلك الجنازة.
قوله: "عجبًا" نصب على أنه مفعول مطلق تقديره: عجيب عجبًا.
قوله: "والله إن كان إلا الجمز" كلمة إن للنفي، أي والله ما كان المشي بالجنازة إلا الجمز، أي الإسراع بالمشي.
قال الجوهري: الجمز ضرب من السير أشد من العنق، وقد جَمَزَ البعير يَجْمِزُ جَمْزًا، ومادته جيم وميم وزاي معجمة.
قوله: "وإن كان الرجل""إن" هذه مخففة من المثقلة، وأصله وإنه كان، أي وإن الشأن كان الرجل لَيْلاحي -بفتح اللام- لأنها "لام" التأكيد من لَاحَى يُلَاحِي مُلَاحَاةً إذا نازع منازعة، ومنه حديث ليلة القدر:"تلاحى رجلان"(2).
قوله: "فوالله لكأنك" وفي رواية الحاكم: "لكأنه".
قوله: "قد جُمِز بك" على صيغة المجهول.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: ثنا أبو أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت
(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 507 رقم 1312).
(2)
أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (1/ 27 رقم 49).
رسول الله عليه السلام يقول: "أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحه قربتموها إلى الخير، وإن كانت غير ذلك كان شرًّا تضعونه عن رقابكم".
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني زمعة بن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن عبد الرحمن بن مهران، أن أبا هريرة حين حضرته الوفاة قال: أسرعوا بي، فإن رسول الله عليه السلام قال:"إذا وضع الرجل الصالح على سريره قال: قدموني قدموني، وإذا وضع الرجل السوء على سريره قال: يا ويلتي أين تذهبون بي؟ ".
ش: هذه أربع طرق.
الأول: رجاله رجال الصحيح، ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى، والثاني هو يونس بن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.
وأبو أمامة قيل: اسمه أسعد، وقيل: سعيد، وقيل: اسمه كنيته والأول هو المشهور، وهو من كبار التابعين، روى له الجماعة.
والحديث أخرجه الجماعة (1)، والنسائي (2) أخرجه بهذا الطريق: أنا سويد بن نصر، أبنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: حدثني أبو أمامة بن سهل، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله عليه السلام .... إلى آخره نحوه سواء.
قوله: "فإن كانت صالحة" أي فإن كانت الجنازة صالحة، وهذا من قبيل ذكر المحل وإرادة الحال، وذلك لأن الجنازة لا توصف بالصلاح ولا بغيره، وإنما يوصف به الميت. أو يكون هذا على الحقيقة إذا كان المراد من الجنازة هو الميت؛ لأنا
(1) سيأتي.
(2)
"المجتبى"(4/ 40 رقم 1908).
قد ذكرنا أن الجنازة بالفتح اسم للميت، فحينئذ يكون التأنيث في الفعل باعتبار لفظ الجنازة.
قوله: "قربتموها" من التقريب.
قوله: "كان شرًّا" يجوز أن يكون الضمير في "كان" راجعًا إلى الجنازة، وكذلك الضمير المنصوب في "تضعونه" فيكون التذكير باعتبار معنى الجنازة؛ لأن معناه الميت كما قلنا، ويجوز أن يعود إلى قوله:"غير ذلك"، والمعنى يكون ذلك الغير شرًّا تضعونه عن رقابكم، وغير الصلاح: الفساد.
والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن زمعة بن صالح الجندي اليماني، فعن أحمد، ويحيى: ضعيف. وعن يحيى: صويلح الحديث. وقال الجوزجاني: متماسك. وقال النسائي: ليس بالقوي، كثير الغلط. عن الزهري، روى له مسلم مقرونًا بمحمد بن أبي حفصة والأربعة، أبو داود في "المراسيل".
عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .... إلى آخره.
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن بشار ومحمد بن معمر، قالا: ثنا أبو عامر، نا زمعة، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة يقول: النبي عليه السلام قال: "أسرعوا بجنائزكم، فإن كان خيرًا فخيرًا تقدموا، وإن كان شرًّا تلقونه عن رقابكم" وهذا الحديث لا نعلم رواه عن سعيد وأبي سلمة إلا زمعة عن الزهري.
الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه البخاري (1): ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، حفظناه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام أنه قال:"أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم".
(1)"صحيح البخاري"(1/ 442 رقم 1252).
ومسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، جميعًا عن ابن عيينة -قال أبو بكر: حدثنا سفيان بن عيينة- عن الزهري
…
إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه:"غير ذلك".
وابن ماجه (2): عن أبي بكر بن أبي شيبة نحوه.
وأبو داود (3): عن مُسدّد، عن سفيان
…
إلى آخره.
والترمذي (4): عن أحمد بن منُيع، عن سفيان
…
إلى آخره.
الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الرحمن بن مهران مولى بني هاشم، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
وأخرجه النسائى (5): أنا سويد، قال: أنا عبد الله، عن ابن أبي ذئب
…
إلى آخره مقتصرًا على قوله: "إذا وضع الرجل الصالح
…
" إلى آخره.
والبيهقي (6) أيضًا: من حديث ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد الرحمن بن مهران:"أن أبا هريرة أوصى عند موته: أن لا تضربوا على قبري فسطاطًا، ولا تتبعوني بمجمر، وأسرعوا بي، أسرعوا بي، فإني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: إذا وضع الميت على سريره يقول: قدموني قدموني، وإذا وضع الكافر على سريره قال: يا ويلتاه أين تذهبون بي".
(1)"صحيح مسلم"(2/ 65 رقم 944).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 474 رقم 1477).
(3)
"سنن أبي داود"(3/ 205 رقم 3181).
(4)
"جامع الترمذي"(3/ 335 رقم 1015).
(5)
"السنن الكبرى"(1/ 624 رقم 2035).
(6)
"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 21 رقم 6636).
وأخرج البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، ثنا سعيد، عن أبيه، أنه سمع أبا سعيد الخدري قال:"كان النبي عليه السلام يقول: إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع لَصَعِقَ".
قوله: "وإذا وضع الرجل السَّوء" أي السيء، وهو بفتح السين وسكون الواو، وقال الجوهري: سَاَعَه يَسُوءَه سوءًا -بالفتح- نقيض سَرَّه والاسم السُّوء -بالضم- وتقول: رجل سَوْء بالإضافة، ثم تدخل عليه الألف واللام فتقول: هذا رجل السوء قال الأخفش: ولا يقال: الرجل السوء؛ لأن السوء ليس بالرجل، ولا يقال أيضًا: هذا رجل السُوء بالضم.
قلت: الحديث يُرّدُ عليه ومعنى قوله: الرجل السوء: القصد إلى المبالغة في توصيفه بالقبح والسوء، كما يقال: الرجل العدل إذا كان كثير العدل، أو يأوّل على معنى الرجل ذو السوء كما يقال في رجل عدل: ذو عدل.
قوله: "يا ويلتي" كلمة تقال عند الدعاء على الإنسان، تقول: ويلك، وويل زيد. والويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، وكل من وقع في هلكة دعى بالويل.
والمعنى ها هنا يا حزني ويا هلاكي ويا عذابي، أين تذهبون بي، وليس لي موضع فيه راحة؟ وقد تُبْدل الياء ألفًا فيقال: يا ويليتا وقد تدخل فيه الهاء فيقال: يا ويلتاه.
ص: فذهب قوم إلى أن السرعة بالسير بالجنازة أفضل من غير ذلك، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمد بن سيرين والحسن البصري وقتادة وعمر بن عبد العزيز وعلقمة وأبا وائل، فإنهم قالوا: الإسراع بالجنازة في مشيها أفضل،
(1)"صحيح البخاري"(1/ 442 رقم 1251).
واستدلوا على ذلك بهذه الأحاديث المذكورة، ويروي ذلك عن القاسم وسالم، وإليه ذهب أهل الظاهر وقال ابن حزم في "المحلى": ويجب الإسراع بالجنازة.
وقال ابن قدامة: اختلفوا في الإسراع المستحب فقال القاضي: المستحب إسراع لا يخرج عن المشي المعتاد، وهو قول الشافعي، وقال أصحاب الرأي يخب ويرمل.
قلت: هذا ليس بصحيح عن أصحابنا، فإنهم كرهوا الخبب.
وقال ابن المتن: الإسراع هو مشي الناس على سجيتهم، ويكره الإسراع المفرط.
وفي "شرح المهذب": جاء عن بعض السلف كراهة الإسراع بالجنازة ولعله يكون محمولًا على الإسراع المفرط الذي يخاف منه انفجار الميت أو خروج شيء منه، كما قالوا هكذا في حديث عطاء عن ابن عباس قال:"حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرِف، فقال ابن عباس: هذه ميمونة، إذا رفعتم نعشها فلا تزعوعوا ولا تزلزلوا".
رواه البخاري (1)، ومسلم (2)، وأراد به شدة الإسراع الذي يخاف منها الانفجار.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يمشي بها مشيًا لينًا، فهو أفضل من غير ذلك.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جمهور العلماء، منهم: الثوري ومالك والشافعي وأحمد، فإنهم قالوا: يمشون بالجنازة مشيًا قصدًا لا يتجاوزون به عن الاعتدال، وقال عياض في قوله عليه السلام:"أسرعوا بالجنازة" أكثر العلماء على أن معناه الإسراع بحملها إلى قبرها، وقيل: الإسراع بتجهيزها إذا تحقق موتها، والأول أظهر ومعنى هذا الإسراع عند بعضهم: ترك التراخي في المشي به والتباطؤ والزهو في المشي، ويكره الإسراع الذي يشّق على من يتبعها ويحرك الميت، وربما سبّب خروج شيء منه، وعلى هذا حملوا نهي من نهى عن الدبيب بها دبيب
(1)"صحيح البخاري"(5/ 1990 رقم 4780).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 1086 رقم 1465).
اليهود من السلف وأمر بالإسراع، وجمعوا بينه وبين من روي عنه النهي عن الإسراع، واستدلوا بما جاء في الحديث مفسرًا عنه وهو ما دون الخبب، وفي حديث آخر:"عليكم بالقصد في جنائزكم" وهذا قول جمهور العلماء وأبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وابن حبيب من أصحابنا.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا مبشر بن الحسن، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا شعبة، عن ليث بن أبي سليم، قال: سمعت أبا بردة يحدث، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام مُرَّ عليه بجنازة وهم يسرعون بها، فقال: "ليكن عليكم السكينة".
فلم يكن عندنا في هذا الحديث حجة على أهل المقالة الأولى؛ لأنه قد يجوز أن يكون في مشيهم ذلك عنف يجاوز ما أمروا به في الأحاديث الأول من السرعة، فنظرنا في ذلك هل نجد في ذلك دليلًا يدلنا على شيء من ذلك؟ فإذا عبد الله بن محمد بن خشيش البصري قد حدثنا، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا زائدة، عن ليث، عن أبي بردة، عن أبيه قال:"مر على رسول الله بجنازة يسرعون بها المشي وهي تمخض كمخض الزق، فقال: عليكم بالقصد بجنائزكم".
معنى هذا الحديث أن الميت كان يمخض لتلك السرعة كمخض الزق، فيحتمل أن يكون أمرهم بالقصد؛ لأن تلك السرعة سرعة يخاف منها أن يكون من الميت شيء، فنهاهم عن ذلك، فكان ما أمرهم به من السرعة في الآثار الأُوَل هي أفضل من هذه السرعة.
فنظرنا في ذلك أيضًا هل روي فيه شيء يدلنا على شيء من هذا المعنى؟ فإذا أبو أمية قد حدثنا، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا الحسن بن صالح، عن يحيى الجابر، عن أبي ماجدة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة، فقال: ما دون الخبب، فإن يك مؤمنًا عجل بالخير، وإن يك كافرًا فبعدًا لأهل النار".
فأخبر رسول الله عليه السلام في هذا الحديث أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب، فذلك عندنا دون ما كانوا يفعلون في حديث أبي موسى حتى أمرهم رسول الله عليه السلام بما
أمرهم به من ذلك، ومثل ما أمر به من السرعة في حديث أبي هريرة؛ فبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي أحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بما حدثنا مبشر
…
إلى آخره، وهو حديث أبي موسى الأشعري ولكن لا حجة فيه على أهل المقالة الأولى، لأنه يحتمل أن يكون قد كان في مشيهم ذلك عنف أي شدة إسراع وإزعاج للميت قد تجاوز ما كانوا أمروا به في الأحاديث الأُوَل من السرعة، وهي الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى المذكورة في أول الباب، فإذا كان كذلك يحتاج إلى النظر فيه، هل يوجد ما يدل على شيء من ذلك؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا حديثًا آخر عن أبي موسى الإشعري أيضًا يخبر أن الميت كان يمخض من مشيهم وعنفهم فيه كما يمخض الزق، فلذلك قال لهم: عليه السلام "عليكم بالقصد بجنائزكم" ولكن هذا أيضًا يحتمل أن يكون أمره إياهم بالقصد لكون تلك السرعة سرعة يخاف منها أن يخرج من الميت شيء، فلذلك أمرهم بالقصد في المشي ونهاهم عن تلك السرعة، فيكون حينئذ ما أمرهم به من السرعة المذكورة في الأحاديث الأُوَل أفضل من هذه السرعة، ولكن يحتاج هذا إلى دليل يدل عليه، فوجدنا حديث ابن مسعود رضي الله عنه أخبر أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب -وهو ما دون العدو- فهذا دون ما فعلوا من الإسراع المذكور في حديث أبي موسى، ومثل ما أمر به من السرعة المذكورة في حديث أبي هريرة.
قال الطحاوي: وبهذا نأخذ أي وبما دل عليه حديث ابن مسعود من السير دون الخبب نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وعن هذا قال أصحابنا في كتبهم: ويسرعون به -أي بالميت- دون الخبب.
فالحاصل أنه أشار ها هنا إلى ثلاثة مذاهب: الأول الإسراع من غير قيد، والثاني المشي اللين، والثالث الإسراع دون الخبب، وصرح بالمذهبين الأولين بقوله: فذهب قوم إلى أن السرعة بالسير بالجنازة أفضل من غير ذلك، وقوله وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا بل يمشي بها مشيًا لينًا فهو أفضل من غير ذلك، وبين المذهب
الثالث الذي هو مذهب أصحابنا في وجه التوفيق بين الأحاديث في هذا الباب بقوله: فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ثم إنه أخرج حديث في موسى رضي الله عنه من وجهين بإسنادين رواتهما ثقات.
الأول: عن مبشر بن الحسن بن مبشر بن مكسر القيسي البصري نزيل مصر وثقه ابن يونس، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن عمرو روى له الجماعة، عن شعبة، عن ليث بن أبي سليم بن زنيم الكوفي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم مقرونًا بأبي إسحاق الشيباني، عن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري روى له الجماعة عن أبيه أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا محمد بن عبيد بن عقيل، نا بشر بن ثابت، ثنا شعبة، عن ليث، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي عليه السلام:"أنه رأى جنازة يسرعون بها، قال: لتكن عليكم السكينة".
وأخرجه البيهقي (2) أيضًا.
الثاني: عن عبد الله بن محمد بن خُشيش -بالمعجمات وضم الأول- عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن زائدة بن قدامة الثقفي الكوفي روى له الجماعة، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي بردة عامر، عن أبيه
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(3): من حديث زائدة، عن ليث
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "وهي تمخض" على صيغة المجهول، جملة حالية من المخض وهو تحريك السقاء الذي فيه اللبن ليخرج زبده، وأراد وهي تحرك تحريكًا سريعًا كتحريك الزق وهو قربة اللبن.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 474 رقم 1479).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 22 رقم 6642).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 22 رقم 6642).
قوله: "فعليكم بالقصد" أي بالاعتدال لا بالإسراع المفرط ولا بالمشي البطيء، والقصد من الأمور: الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط، ومنه الحديث:"كانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا"(1) وجاء في صفته عليه السلام: "كان أبيض مقصدًا"(2) وهو الذي ليس بطويل متباين ولا قصير متفاحش.
وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح بن صالح بن حيّ الثوري الكوفي العابد روى له الجماعة البخاري ذكره في كتاب الشهادات، عن يحيى بن عبد الله الجابر ويقال: المجبر أبي الحارث الكوفي وثقه الترمذي، عن أبي ماجدة ويقال: أبو ماجد
واسمه عائذ بن نضلة العجلي الكوفي قال الترمذي: مجهول له حديثان. وقال النسائي: منكر الحديث. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود (3) بأتم منه: ثنا مسدد، قال: ثنا أبو عوانة، عن يحيى المجبر، قال: أبو داود هو يحيى بن عبد الله التميمي، عن أبي ماجدة، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة، فقال: ما دون الخبب، فإن يك خيرًا يعجل إليه، وإن يك غير ذلك فبعدًا لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تتبع ليس منها من يقدمها".
وأخرجه الترمذي (4): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن يحيى إمام بني تيم الله، عن أبي ماجدة، عن عبد الله بن مسعود قال: "سألنا رسول الله عليه السلام عن المشي خلف الجنازة، فقال: ما دون الخبب، فإن كان خيرًا
(1) أخرجه مسلم في "صحيحه"(2/ 591 رقم 866).
(2)
أخرجه مسلم أيضًا في "صحيحه"(4/ 1820 رقم 2340).
(3)
"سنن أبي داود"(3/ 206 رقم 3184).
(4)
"جامع الترمذي"(3/ 332 رقم 1011).
عجلتموه، وإن كان شرًّا فلا يبعد إلا أهل النار، والجنازة متبوعة ولا تتبع، ليس منها من تقدمها".
وأخرجه ابن ماجه (1): مقتصرًا على قوله: "الجنازة متبوعة
…
" إلى آخره.
وقال البيهقي: هذا حديث ضعيف.
وقال الترمذي: هذا حديث لا يعرف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه، وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث -يعني حديث أبي ماجد- قال الحميدي: قال ابن عيينة قيل ليحيى: من أبو ماجد؟ قال: طائر طار فحدثنا.
قال أبو عيسى: إن أبا ماجدة رجل مجهول لا يعرف، إنما يروى عنه حديثان عن ابن مسعود. وقال أبو أحمد الكرابيسي: حديثه ليس بالقائم، وقال الدارقطني: مجهول متروك.
قلت: أما يحيى الجابر فإن الترمذي قال: يحيى إمام بني تيم الله ثقة يكنى أبا الحارث، ويقال له: يحيى الجابر، ويقال له: يحيى المجبر، وهو كوفي روى له شعبة وسفيان الثوري وأبو الإحوص وسفيان بن عيينة.
وأما أبو ماجدة فإن أبا داود لما ذكره قال: هو بصري. ولم يقل شيئًا غير ذلك، فدل أنه رضيه، وترتفع جهالته بذلك المقدار، وقد ذكرنا أن اسمه عائذ، واسم أبيه نضلة فإذا عرف اسم الشخص واسم أبيه ونسبته إلى القبيلة والبلد لم تبق فيه جهالة (2).
ولهذا رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(3): ثنا نصر بن علي، ثنا عبد المؤمن بن عبادة، ثنا أيوب السختياني، عن أبي ماجدة، عن ابن مسعود قال: "مرت على
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 476 رقم 1484).
(2)
قلت: قال البخاري: منكر الحديث. وكذا قال النسائي. وقال الدارقطني: مجهول متروك.
(3)
وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(6/ 137 رقم 6020) من طريق محمد بن حسين بن مكرم، عن نصر بن علي به.
رسول الله عليه السلام جنازة تمخض مخض الزق، فقال: رسول الله عليه السلام: عليكم بالقصد في مشي جنائزكم دون الهرولة، فإن كان خيرًا أعجلتم إليه، وإن كان شرًّا فلا يُبعد الله إلا أهل النار، إن الجنازة متبعة وليست متابعة، ليس معها من تقدمها".
قوله: "فإن يك مؤمنًا" أي فإن يك الميت مؤمنًا عند الله "عُجل بالخير" أي بحصول الخير له عند الله، أو بلحاقه إلى الخير.
قوله: "فبعدًا لأهل النار" أي أبعد الله بعدًا، وهو منصوب بالفعل المضمر؛ لأنه من المصادر المنصوبة بأفعال مضمرة لا يستعمل إظهارها، كقولك شقيًا، وخيبةً، وجدعًا، وعقرًا، وبؤسًا، وبعدًا، وسحقًا وحمدًا وشكرًا، ومثل هذا يستعمل في الدعاء في الخير أو الشر.