المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الصلاة على الشهداء - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٧

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ص: باب: الصلاة على الشهداء

‌ص: باب: الصلاة على الشهداء

ش: أي هذا باب في بيان الصلاة على الشهداء، وهو جمع شهيد، وهو في الأصل من قُتِلَ مجاهدًا في سبيل الله، ثم اتسع فيه فأطلق على مَنْ سماه النبي عليه السلام من المبطون والغريق والحريق وصاحب الهدم وذات الجنب وغيرهم، وسمي شهيدًا لأن الله وملائكته شهود له بالجنة، وقيل: لأنه حي لم يمت كأنه شاهد حاضر، وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده، وقيل: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله عز وجل حتى قتل، وقيل: لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل، وقيل غير ذلك، فهو فَعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول على اختلاف التأويل.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن ابن شهاب حدثه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبد الله أخبره:"أن رسول الله عليه السلام أمر بدفن قتلى أحد بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا".

ش: رجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه البخاري (1): ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر قال:"كان النبي عليه السلام يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم".

وأخرجه الأربعة (2) أيضًا، وليس لفظة:"ولم يصل عليهم". إلا في رواية البخاري والترمذي فقط.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 450 رقم 1278).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 213 رقم 3138)، و "جامع الترمذي"(3/ 354 رقم 1036)، و"المجتبى"(4/ 62 رقم 1955)، و"سنن ابن ماجه"(1/ 485 رقم 1514).

ص: 377

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وقال النسائي: لا أعلم أحدًا تابع الليث من أصحاب الزهري على هذا الإسناد، واختلف عليه فيه، وقال الترمذي: وقد روي هذا الحديث عن الزهري، عن أنس، عن النبي عليه السلام، وروي عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صُعَيْر، عن النبي عليه السلام، ومنهم من ذكره عن جابر.

قوله: "قتلى أُحُد" القتلى فعلى جمع قتيل، وأُحُد جبل مشهور بالمدينة، سمي بهذا الاسم لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، قال السهيلي: وفي أُحُد قبر هارون عليه السلام أخي موسى عليه السلام، وفيه قبض، وَثَمَّ واراه موسى عليه السلام، وكانا قد مَرَّا بأُحُد حاجّين أو معتمرين، وكانت غزوة أحد في شوال سنة ثلاث، قاله الزهري وقتادة وموسى بن عقبة ومالك ومحمد بن إسحاق، قال ابن إسحاق: في النصف من شوال. وقال قتادة: يوم السبت في الحادي عشر منه. قال مالك: وكانت الوقعة أول النهار.

قوله: "بدمائهم" جمع دم وأصله: دَمَو بالتحريك، وإنما قالوا: دَمِيَ يَدْمي بحال الكسرة التي قبل الياء كما قالوا رضي يرضى، وهو من الرضوان، وقال سيبويه: الدم أصله دَمْي على فعل بالتسكين؛ لأنه يجمع على دماء مثل ظَبْي وظباء وظُبْي، ودلو ودلاء ودُلي، قال: ولو كان مثل قفا وعصا لما جمع على ذلك، وقال المبرد: أصله فَعَلَ بالتحريك وإن جاء جمعه مخالفًا لنظائره، والذاهب منه الياء، والدليل عليه قولهم في تثنيته دَمَيان فافهم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا يصلى على من قتل من الشهداء في المعركة، ولا على من جرح منهم فمات قبل أن يحمل من مكانه كما لا يغسل، وممن قال ذلك أهل المدينة.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق في رواية؛ فإنهم قالوا: الشهيد لا يصلي عليه كما لا يغسل، وإليه ذهب أهل الظاهر.

ص: 378

وقال ابن حزم في "المحلى": والصلاة على المسلمين فرض حاشى المقتول بأيدي المشركين في سبيل الله في المعركة خاصة؛ فإنه لا يغسل ولا يكفن لكن يدفن بدمه وثيابه، إلا أنه ينزع السلاح عنه، وإن صلي عليه فحسن، وإن لم يُصل عليه فحسن، فإن حمل عن المعركة وهو حي فمات، غسل وكفِّن وصلي عليه.

ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: بل يصلى على الشهيد.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة أخرون، وأراد بهم: ابن أبي ليلى والحسن ابن حي وعبيد الله بن الحسن وسليمان بن موسى وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا، وأحمد في رواية وإسحاق في رواية؛ فإنهم قالوا: يصلى على الشهيد. وهو قول أهل الحجاز أيضًا.

ص: وكان من الحجة لهم على مخالفيهم: أن الذي في حديث جابر إنما هو أن النبي عليه السلام لم يصل عليهم، فقد يجوز أن يكون تركه ذلك لأن سنتهم أن لا يصلي عليهم كما كان من سنتهم أن لا يغسلوا، ويجوز أن يكون لم يصل عليهم وصلى عليهم غيره؛ لما كان به حينئذ من ألم الجراح وكسر الرباعية وما أصابه يومئذ من المشركين.

فإنه حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي حازم وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن أبي حازم -قال سعيد في حديثه: سمعت سهل بن سعد، وقال ابن أبي حازم-: عن سهل: "أنه سئل عن وجه رسول الله عليه السلام يوم أحد بأي شيء دُووي؟ قال سهل: كسرت البيضة على رأسه، وكسرت رباعيته، وجرح وجهه، وكانت فاطمة رضي الله عنها تغسله وكان علي رضي الله عنه يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها ولصقتها على جرحه فاستمسك الدم. يختلف لفظ ابن أبي حازم وسعيد في هذا الحديث والمعنى واحد".

ص: 379

حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن هشام، عن أبي حازم، عن سهل:"أن النبي عليه السلام أصيب يوم أحد في وجهه بجرح، وأن فاطمة ابنته رضي الله عنها أحرقت قطعة من حصير فجعلته رمادًا وألصقته على وجهه، وقال النبي عليه السلام: اشتد غضب الله عز وجل على قوم دَمَّوا وجه رسول الله عليه السلام".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا أبو غسان، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد قال:"هشمت البيضة على رأس رسول الله عليه السلام يوم أحد، وكسرت رباعيته، وجرح وجهه".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا خالد بن عبد الله، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي عليه السلام قال:"اشتد غضب الله على قوم دَمَّوا وجه رسول الله عليه السلام، وكانوا قد دَمَّوا وجهه يومئذ وهشموا عليه البيضة، وكسروا رباعيته".

حدثنا عبد الله بن محمد بن حشيش، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا حماد، عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجهه؛ فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟! فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ".

ش: أي كان من الدليل للأخرين على أهل المقالة الأولى، وأراد به الجواب عن حديث جابر الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن ترك النبي عليه السلام الصلاة عليهم يومئذ يحتمل وجهين:

الأول: أنه يحتمل أنه عليه السلام ترك الصلاة عليهم؛ لكون السنة في حقهم ترك الصلاة عليهم كما كانت السنة في حقهم ترك غسلهم فيكون ذلك مخصوصًا بهم.

والثاني: يحتمل أن يكون عليه السلام لم يصل عليهم لأمرٍ منعه، ولا يسلتزم ذلك نفي صلاة غيره عليهم، وذلك لكون النبي عليه السلام مشغولًا بنفسه في ذلك اليوم غير متفرغ

ص: 380

للصلاة عليهم؛ لما قد حصل له فيه من ألم الجراحة وكسر رباعيته وما أصابه يومئذ من أذى المشركين.

والدليل على ذلك: ما روي عن سهل بن سعد وأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم.

أما حديث سهل فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد العزيز بن أبي حازم، واسم أبي حازم سلمة بن دينار المدني، روى له الجماعة.

وعن سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله الجمحي المدني، روى له مسلم، وأبو داود والنسائي وابن ماجه، كلاهما يرويان.

عن أبي حازم الأعرج الأفزر التمار المدني القاص الزاهد الحكيم روى له الجماعة، عن سهل بن سعد بن مالك الأنصاري الساعدي له ولأبيه صحبة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا يعقوب، عن أبي حازم:"أنه سمع سهل بن سعد وهو يُسأل عن جرح رسول الله عليه السلام، فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله عليه السلام ومن كان يسكب الماء بالمجن، وبما دووي، قال: كانت فاطمة بنت رسول الله عليه السلام تغسله، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة رضي الله عنها أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها، فاستمسك الدم، وكُسِرت رباعيته يومئذ، وجُرح وجهه، وكُسرت البيضة على رأسه".

وأخرجه مسلم (2): نا يحيى بن يحيى، قال: نا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه: "أنه سمع سهل بن سعد يُسأل عن جرح رسول الله عليه السلام يوم أحد، فقال: جرح وجه رسول الله عليه السلام، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فكانت

(1)"صحيح البخاري"(4/ 1496 رقم 3847).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1416 رقم 1790).

ص: 381

فاطمة ابنة رسول الله عليه السلام تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادًا، وألصقته بالجرح، فاستمسك الدم".

الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن نافع الصائغ القرشي المدني، عن هشام ابن سعد المدني، عن أبي حازم سلمة بن دينار

إلى آخره.

وأخرج الطبراني (1) نحوه: ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، ثنا داود ابن عمرو الضبي، ثنا زهرة بن عمرو بن معبد التيمي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:"شهدت النبي عليه السلام حين كسرت رباعيته وجرح وجهه وهشمت البيضة على رأسه؛ وإني لأعرف من يغسل الدم عن وجهه، ومن ينقل عليه الماء، وماذا جعل على وجهه حتى رقأ الدم؛ كانت فاطمة بنت محمد رسول الله عليه السلام تغسل الدم عن وجهه، وعلي رضي الله عنه ينقل الماء عليها في مجنة، فلما غسلت الدم عن وجه أبيها أحرقت حصيرًا حتى إذا صارت رمادًا أخذت من ذلك الرماد فوضعته على وجهه حتى رقأ الدم، ثم قال يومئذ: اشتد غضب الله على قوم كَلَمُوا وجه رسول الله، ثم مكث ساعة، ثم قال: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون".

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم شيخ البخاري، عن أبي غسان محمَّد بن مطرف الليثي المدني نزيل عسقلان، عن أبي حازم سلمة بن دينار

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (2): ثنا محمَّد بن سهل التميمي، قال: حدثني ابن أبي مريم، قال: ثنا محمَّد يعني ابن مطرف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد نحوه.

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون بن أوس السلمي أبي عثمان الواسطي البزاز روى له

(1)"المعجم الكبير"(6/ 162 رقم 5862).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1416 رقم 1790).

ص: 382

الجماعة، عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان روى له المجماعة، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني روى له الجماعة مسلم في المتابعات والبخاري مقرونًا بغيره، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن عبد الله ابن محمَّد بن خُشَيْش -بالمعجمات وضم الأول- عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس.

وأخرجه مسلم (1): عن القعنبي، عن حماد بن سلمة

إلى آخره.

قوله: "بأي شيء دووي" بواوين، ووقع في بعض النسخ بواو واحدة، فتكون الأخرى محذوفة كما حذفت من داود وطاوس.

قوله: "البَيْضة" بفتح الباء، وهي الخوذة.

قوله: "رباعيته" بفتح الراء، قال الجوهري: الرباعية مثل الثمانية: السنن الذي بين الثَّنيَّة والناب، والجمع: رباعيات.

قوله: "بالمِجَنّ" وبكسر الميم، وهو الترس، والميم زائدة؛ لأنه من الجُنَّه: وهي السترة.

قوله: "هُشِّمت" أي كسرت، من الهشم وهو الكسر.

قوله: "دَمَّوا" بتشديد الميم بمعنى أدموا، ويروى كذا أيضًا.

قوله: "كَلَمُوا" أي جرحوا، من الكَلْم وهو الجرح، ومنه اشتقاق الكلام.

قوله: "تسلت الدم" أي تميطه وتمسحه عن خده، يقال سلتت المرأة خضابها عن يَديْها إذا ألقت عنها العُصْم، والعُصم -بضم العين-: بقية كل شيء، وأثره من القطِران والخضاب ونحوهما.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1417 رقم 1791).

ص: 383

فإن قيل: ممن كان الشج وكسر الرباعية لرسول الله عليه السلام؟.

قلت: زعم ابن سعد أن عتبة بن أبي وقاص شج النبي عليه السلام في وجهه، وأصاب رباعيته. وزعم السهيلي أن عبد الله بن قمئة هو الذي جرح وجه رسول الله عليه السلام.

ص: فيجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم تخلف عن الصلاة عليهم لألم نزل به، وصلى عليهم غيره.

وقد حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب حدثه أن أنس بن مالك حدثه: "أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم".

ففي هذا الحديث ما ينفي الصلاة عليهم من رسول الله عليه السلام ومن غيره؛ فنظرنا في هذا الحديث كيف هو؟ وهل زيد على ابن وهب فيه شيء، فإذا ابن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: أنا أسامة، عن الزهري، عن أنس بن مالك:"أن رسول الله عليه السلام مَرّ يوم أحد بحمزة رضي الله عنه وقد جُدِع ومُثِّل به، فقال: لولا أن تجزع صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع فكفنه في نمرة إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه بدا رأسه، فخمر رأسه، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره وقال: أنا شهيد عليكم يوم القيامة".

ففي هذا الحديث أن النبي عليه السلام لم يصل يومئذ على أحد من الشهداء غير حمزة رضي الله عنه، فإنه صلى عليه وهو أفضل شهداء أحد، فلو كان من سنه الشهداء أن لا يصلى عليهم، لما صلى على حمزة كما لم يغسله، إذْ كان من سنة الشهداء أن لا يغسلوا وصارمًا في هذا الحديث أن النبي عليه السلام صلى على حمزة ولم يصل على غيره، فقد يحتمل أن يكون لم يصل على غيره لشدّة ما به مما ذكرنا، وصلى عليهم غيره من الناس.

ش: لما ذكر أن حديث جابر رضي الله عنه يحتمل وجهين، الثاني منهما: أنه يجوز أن يكون عليه السلام ترك الصلاة عليهم لشده الألم الذي نزل به، وأن هذا لا ينفي صلاة غيره

ص: 384

عليهم؛ أو رد عليه حديث أنس؛ فإنه أخبر فيه أنه لم يُصَلّ عليهم، وهو يقتضي ترك الصلاة عليهم من رسول الله عليه السلام ومن غيره، فلذلك ذكره أولًا.

وأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس.

وأخرجه الحاكم (1): عن محمد بن يعقوب، أبنا ابن عبد الحكم، أبنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد، أن ابن شهاب حدثه، أن أنشا حدثه:"أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم، ولم يصلّ عليهم".

وقال: وهو صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

ثم أخرج عن أنس أيضًا بزيادة على حديثه المذكور تدل على أن المراد من قوله في ذاك الحديث "ولم يصلَّ عليهم" غير حمزة، فإنه صلى عليه لكونه أفضل شهداء أحد، ولم يصلي على غيره، لما ذكرنا من أجل شدة الألم الذي نزل به واشتغل به عن الصلاة عليهم، وهو ما رواه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أنس بن مالك

إلى آخره.

وإسناده صحيح.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا عباس العنبري، ثنا عثمان بن عمر، نا أسامة، عن الزهري، عن أنس:"أن النبي عليه السلام مر بحمزة وقد مُثِّل به، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره".

وقال أيضًا (3): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا زيد يعني ابن الحباب.

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 520 رقم 1352).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 169 رقم 3137).

(3)

"سنن أبي داود"(3/ 195 رقم 3136).

ص: 385

ونا قتيبة بن سعيد، نا أبو صفوان يعني المرواني، عن أسامة، عن الزهري، عن أنس المعنى:"أن رسول الله عليه السلام مر على حمزة وقد مثل به، فقال: لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية حتى يحشر من بطونها وقلت الثياب وكثرت القتلى، فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد -زاد قتيبة- ثم يدفنون في قبر واحد، فكان رسول الله عليه السلام يسأل أيهم أكثر قرآنًا؟ فيقدمه إلى القبلة".

وأخرجه الترمذي (1) وقال: حديث غريب لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه، وفي حديثه:"لم يصل عليهم".

وأخرجه الحاكم (2) أيضًا: ولفظه: "ولم يصل على أحد من الشهداء غيره

" الحديث.

فإن قيل: ذكر الترمذي في "علله"(3) قال محمد: حديث أسامة عن الزهري عن أنس غير محفوظ، غلط فيه أسامة.

وقال الدارقطني (4): تفرد به أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس بهذه الألفاظ، ورواه عثمان بن عمر، عن أسامة، عن الزهري، عن أنس وزاد فيه حرفا لم يأت به غيره، فقال:"ولم يصل على أحد من الشهداء غيره يعني حمزة".

وقال الدارقطني: لم ينقل هذه اللفظة غير عثمان بن عمر البصري، فليس بمحفوظ. قلت: أما أسامة بن زيد فقد احتج به مسلم واستشهد به البخاري، وأما عثمان بن عمر البصري فقد اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، والزيادة من الثقة مقبولة. والله أعلم.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 335 رقم 1016).

(2)

"مستدرك الحاكم"(1/ 519 رقم 1351).

(3)

"العلل الكبير"(1/ 308).

(4)

"سنن الدارقطني"(4/ 116 رقم 43).

ص: 386

قوله: "وقد جُدع" جملة وقعت حالًا من الجدع وهو قطع الأنف أو الأذن أو الشفة والمعنى ها هنا أن رسول الله عليه السلام مرّ يوم أحد على حمزة والحال أنه وجده وهو مقطوع الأنف.

قوله: "ومُثِّل به" من مَثَّلت بالحيوان أمثل مَثْلًا -بالسكون- إذا قطعت أطرافه وشوهت به، ومثلت بالقتيل إذا جدعت أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئًا من أطرافه والاسم المُثْلة ومُثِّل بالتشديد للمبالغة وبابه من نَصَرَ يَنْصُر.

قوله: "لولا أن تجزع صفية" وهي أخت حمزة، عمة النبي عليه السلام بنت عبد الطلب، وهي أم الزبير بن العوام، ولم يُسلم من عمات النبي عليه السلام وكن ستًّا غير صفية، وقيل: عاتكة أيضًا.

قوله: "في نَمِرة" بفتح النون وكسر الميم، وهي كل شملة مخططة من مآزر الأعراب وجمعها نمِار، كأنها أخذت من لون النمر، لما فيها من السواد والبياض.

قوله: "إذا خمر" أي غطى، ومنه الخمار لتغطيته الرأس، والخمر لتغطيته العقل.

قوله: "حتى تأكله العافية" أي السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها، وتجمع على العوافي، وقال ابن الأثير: العافية والعافي كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر، وجمعهما العوافي وقد تقع العافية على الجماعة، يقال: عَفَوْتَه واعتَفَيْته أي أتيته أطلب معروفه.

ص: وقد جاء في غير هذا الحديث: أن رسول الله عليه السلام صلى يومئذ على حمزة وعلى سائر الشهداء.

حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام كان يوضع بين يديه يوم أُحُد عشرة فيصلي عليهم وعلى حمزة، ثم يرفع العشرة وحمزة موضوع، ثم توضع عشرة فيصلي عليهم وعلى حمزة معهم".

ص: 387

حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"أمر رسول الله عليه السلام يوم أحد بالقتلى، فجعل يصلي عليهم، فيوضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يجاء بتسعة فيكبر عليهم سبعًا حتى فرغ منهم".

حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يحمض بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله ابن الزبير:"أن رسول الله عليه السلام أمر يوم أحد بحمزة فسجي ببردة، ثم صلى عليه فكبر تسع تكبيرات ثم أتي بالقتلى يصفون ويصلي عليهم وعليه معهم".

فهذا ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم قد خالفا أنس بن مالك فيما روينا عنه قبل هذا.

ش: أي قد جاء في حديث آخر غير حديث أنس، أنه عليه السلام صلى يوم أحد على حمزة وعلى سائر الشهداء، وهو حديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم فإن حديثهما يصرح بأنه عليه السلام صلى يوم أحد على جميع من استشهد هناك، فدل أن الشهيد يصلي عليه. فهذا خلاف ما رواه أنس، فهذا أولى من حديث أنس؛ لأنه مثبت، وحديث أنس نافي والمثبت أولى، وكذلك قالوا في حديث جابر لأنه نافي، وقد قيل: إن جابرًا كان يومئذ مشغولًا؛ فإنه قتل أبوه وأخوه وخاله، فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة، فلم يكن حاضرًا حين صلى النبي عليه السلام عليهم، فلهذا روى في روايته ولم يصلي عليهم، ومن شاهد النبي عليه السلام قد روى أنه صلى عليهم.

وقيل: يجوز أن النبي عليه السلام لم يصل عليهم في ذلك اليوم وصلى عليهم في يوم غير ذلك اليوم، ويؤيد ذلك ما جاء في صلاته عليهم بعد ثمان سنين.

فإن قيل: الشهيد وُصِفَ بأنه حَيٌّ بالنص، والصلاة شرعت على الميت لا على الحي.

ص: 388

قلت: الشهيد حي في أحكام الآخرة، فأما في أحكام الدنيا فهو ميت يقسم ميراثه، وتتزوج امرأته والصلاة عليه من أحكام الدنيا.

فإن قيل: الصلاة ما شرعت إلا بعد الغسل، فسقوطه دليل على سقوطها.

قلت: غسله لتطهيره، والشهادة طهرته فاغنت عن الغسل، كسائر الموتى بعدما غسلوا.

أما حديث ابن عباس فأخرجه من طريقين:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي شيخ الشيخين، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ، واسمه محمد أو عبد الله أو سالم أو شعبة أو رؤبة أو مسلم أو خداش أو مطرف أو حماد أو حبيب، والصحيح أن اسمه كنيته، روى له الجماعة مسلم في مقدمة كتابه.

عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، احتج به الأربعة، وروى له مسلم مقرونًا بغيره.

عن مقسم بن بَجَرَة -بباء موحدة وجيم وراء مفتوحات، وقيل: بضم الباء وسكون الجيم، وقيل: ابن نجدة بالنون والجيم- مولي عبد الله بن الحارث بن نوفل، ويقال له: مولى ابن عباس للزومه له، روي له الجماعة سوى مسلم.

وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، نا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"أتي بهم رسول الله عليه السلام يوم أحد، فجعل يصلي على عشرة عشرة، وحمزة هو كما هو، يرفعون وهو كما هو موضوع".

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 485 رقم 1513).

ص: 389

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن أبي بكر بن عياش إلى آخره.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1) بأتم منه: ثنا العباس بن عبد الله البغدادي، نا أحمد بن عبد الله بن يونس، نا أبو بكر بن عياش، نا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"لما قتل حمزة رضي الله عنه يوم أحد أقبلت صفية تسأل ما صنع؟ فلقيت عليًّا والزبير رضي الله عنهما فقالت: يا علي ويا زبير ما فعل حمزة فأوهماها أنهما لا يدريان، قال: فضحك النبي عليه السلام وقال: إني أخاف على عقلها، فوضع يده على صدرها ودعا فاسترجعت وبكت، ثم قام عليه وقال: لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير، ثم أُتي بالقتلى فجعل يصلي عليهم، فتوضع سبعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة مكانه ثم يجاء فيكبر عليهم سبع تكبيرات حتى فرغ منهم".

وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.

وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(2)، والطبراني في "معجمه"(3)، والبيهقي في "سننه" (4) ولفظهم (5):"أمر رسول الله عليه السلام بحمزة يوم أحد فهيئ للقبلة ثم كبر عليه سبعًا، ثم جُمع إليه الشهداء حتى صلى عليه سبعين صلاة". زاد الطبراني: "ثم وقف عليهم حتى واراهم". وسكت الحاكم عنه، وتعقبه الذهبي فقال: ويزيد بن أبي زياد لا يحتج به.

(1) عزاه الهيثمي له في "مجمع "الزوائد" (3/ 142) بهذه الألفاظ، وفيها خلاف مع ألفاظ الروايات الآتية، وقال الهيثمي: "وفي إسناد البزار والطبراني يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف".

(2)

"المستدرك"(3/ 218 رقم 4895).

(3)

"المعجم الكبير"(3/ 142 رقم 2935).

(4)

"السنن الكبرى"(4/ 12 رقم 6596).

(5)

هذا لفظ الدارقطني في "السنن"(4/ 116 رقم 42)، والطبراني (11/ 62 رقم 11051)، وانظر "نصب الراية"(2/ 310).

ص: 390

وقال البيهقي: هكذا رواه يزيد بن أبي زياد، وحديث جابر أنه لم يصل عليهم أصح.

وقال ابن الجوزي في "التحقيق": ويزيد بن أبي زياد منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وتعقبه صاحب "التنقيح" بأن ما حكاه عن البخاري والنسائي إنما هو في يزيد بن زياد، وأما راوي هذا الحديث فهو الكوفي، ولا يقال فيه: ابن زياد، وإنما هو ابن أبي زياد، وهو ممن يكتب حديثه على لينه، وقد روى له مسلم مقرونًا بغيره، وروى له أصحاب السنن، وقال أبو داود: لا أعلم أحدًا ترك حديثه، وابن الجوزي جعلهما في كتابه الذي في الضعفاء واحدًا، وهو وهم، وغلط (1).

قلت: ومما يؤيد حديث [يزيد](2) بن أبي زياد هذا ما رواه ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق، حدثني من لا أتهم، عن مقسم مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"أمر رسول الله عليه السلام بحمزة فَسُجِّي ببردة، ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة، وقال السهيلي في "الروض الأنف": قول ابن إسحاق في هذا الحديث حدثني من لا أتهم إن كان هو الحسن بن عمارة كما قاله بعضهم فهو ضعيف بإجماع أهل الحديث، وإن كان غيره فهو مجهول، ولم يرو عن النبي عليه السلام أنه صلى على شهيد في شيء من مغازيه إلا في هذه الرواية ولا في مدة الخليفتين من بعده. انتهى.

قلت (1): وقد ورد مصرحًا فيه بالحسن بن عمارة كما رواه الإمام أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في "سننه" عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون من قتلى أحد، أشرف

(1) هذا نص كلام الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 311)، وانظر ما بعده أيضًا.

(2)

في "الأصل، ك": "زياد"، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله.

ص: 391

رسول الله عليه السلام على القتلى، فرأى منظرا أساءه، فرأى حمزة قد شق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال: لولا أن [تحزن](1) النساء فتكون سنة بعدي لتركته حتى يحشره الله في بطون السباع والطير ولمثلت بثلاثين منهم مكانه، ثم دعى ببردة فغطى بها وجهه فخرجت رجلاه، فغطى بها رجليه فخرج رأسه، فغطى بها رأسه، وجعل على رجليه من الإذخر ثم قدمه فكبر عليه عشرًا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع إلى جنبه فيصلي عليه ثم يرفع، ويجاء بآخر فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى سبعين صلاة، وكانت القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} (2) الآية، فصبر عليه السلام ولم يقتل ولم يعاقب. انتهى.

ولما أخرج البيهقي حديث ابن إسحاق الذي ذكرناه في "سننه" قال: ورواه الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام صلى على قتلى أحد" ثم أخرج عن محمود بن غيلان، ثنا أبو داود الطيالسي، قال لي شبعة: ائت جرير بن حازم فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة فإنه كذاب، قال أبو داود: فقلت لشعبة ما علامة كذبه؟ قال: روى عن الحكم أشياء فلم أجد لها أصلًا، قلت للحكم: صلى النبي عليه السلام على قتلى أحد؟ قال: لا، وقال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"أنه عليه السلام صلى على قتلى أحد".

قلت: ذكر الرامهرمزي في كتابه "الفاصل" هذه الحكاية عن ابن المديني، عن محمود، عن أبي داود، ثم ذكر عن ابن المديني قال: ثنا عبدان، ثنا محمد بن عبد الله المخرمي، ثنا أبو داود، سمعت شعبة يقول: ألا تعجبون من هذا المجنون؟! جرير بن حازم وحماد بن زياد أتياني يسألان أن أسكت عن الحسن بن عمارة،

(1) في "الأصل": "تخرج"، والمثبت من "نصب الراية".

(2)

سورة النحل، آية:[126].

ص: 392

ولا والله لا أسكت عنه، ثم قال: والله لا أسكت عنه، فذكر وضع الزكاة في صنف ثم قال: وهذا الحسن يحدث عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وعن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن علي:"أنه عليه السلام صلى على قتلى أحد وغسلهم" وأنا سألت الحكم عن ذلك فقال: يصلى عليهم ولا يغسلون

إلى آخره.

ثم قال الرامهرمزي: أصل هذه الحكاية من أبي داود وقد خَلَّط فيها أو خُلِّط عليه فيها، والمخرمي أضبط من ابن غيلان، وبين الحكايتين تفاوت شديد، ولا يستدل على تكذيب الحسن بالطريق الذي استدل به شعبة؛ لأنه استفتى الحكم في المسألتين فأفتى بما عنده، وهو أحد فقهاء الكوفة، فلما قال: شعبة عمن قال في إحداهما: هو قول إبراهيم، وفي الأخرى: هو قول الحسن. ولا يلزم المفتى أن يفتي بما روى، ولا يترك رواية ما لا يفتي به، هذا مذهب فقهاء الأمصار، هذا مالك يعمل بخلاف كثير مما روى والزهري، عن سالم، عن أبيه أثبت عند أهل الحديث من الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وقد حدث به مالك، عن الزهري ثم ترك العمل به، وأبو حنيفة روى حديث فاطمة بنت أبي حبيش في المستحاضة، ثم قال بخلافه، ويمكن أن يحدث الحكم بما العمل عليه عنده بخلافه، فيسأله شعبة فيجيب بما العمل عليه عنده، والإنصاف أولى بأهل العلم.

وأما حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنها: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن يوسف بن بُهلول التميمي أبي يعقوب الأنباري نزيل الكوفة، أحد أصحاب أبي حنيفة وثقه الحضرمي والخطيب، عن عبد الله بن إدريس بن يزيد الزعافري الكوفي روى له الجماعة، عن محمد بن إسحاق المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي المدني، وثقه يحيى والنسائي والدارقطني وابن حبان، وروى له الأربعة، عن أبيه عباد بن عبد الله، روى له الجماعة، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.

ص: 393

وأخرجه ابن شاهين في كتابه: من حديث ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، أن الزبير رضي الله عنه قال:"صلى النبي عليه السلام على حمزة فكبر سبعًا"، وقال البغوي: حفظي أنه قال: عن عبد الله بن الزبير.

قوله: "فسُجِّي ببردة" أي غطي بها، وهي الشملة المخططة، وقيل: كساء أسود مربع فيه خطوط تلبسه الأعراب، وجمعها برد.

ص: وروي مثل ذلك أيضًا عن أبي مالك الغفاري:

حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، عن حصين ابن عبد الرحمن، قال: سمعت أبا مالك الغفاري قال: "كان قتلى أحد يؤتي بتسعة وعاشرهم حمزة فيصلي عليهم رسول الله عليه السلام ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة فيصلي عليهم وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول الله عليه السلام".

ش: أي روي عن أبي مالك الغفاري مثل ما روى عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم.

وقد أخرج حديثه بإسناد صحيح، ولكنه مرسل: عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس التميمي، شيخ البخاري، واسم أبي إياس عبد الرحمن.

عن شعبة، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي ابن عم منصور بن المعتمر، عن أبي مالك الغفاري واسمه غزوان الكوفي وثقه ابن معين وذكره ابن حبان في التابعين الثقات.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): ثنا ابن صاعد، نا بندار، نا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن أبي مالك قال:"كان يجاء بقتلى أحد تسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم النبي عليه السلام ثم يرفعون تسعة ويدعون حمزة، ويجاء بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، فيرفعون التسعة ويدعون حمزة رضي الله عنه".

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 78 رقم 9).

ص: 394

وأخرجه العسكري: عن محمد بن إبراهيم الشلاباني، عن إسحاق بن إبراهيم الشهيد، عن ابن فضيل، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال:"صلى النبي عليه السلام على حمزة، فكان يجاء بتسعة معه، فلم يزل كذلك حتى صلى على جماعتهم".

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث أبي يوسف القاضي، نا حصين، عن أبي مالك الغفاري قال:"صلى النبي عليه السلام على قتلى أحد رضي الله عنهم عشرة عشرة، في كل عشرة منهم حمزة، حتى صلى عليه سبعين صلاة" قال الذهبي في "مختصر السنن": كذا قال، ولعله سبع صلوات؛ إذ شهداء أحد سبعون أو نحوها.

وأخرجه البيهقي أيضًا (2): من حديث شعبة، عن حصين، سمعت أبا مالك الغفاري يقول: "كان قتلى أحد يؤتى بتسعة وعاشرهم حمزة فيصلى عليهم

".

وأخرجه أبو داود أيضًا في "المراسيل"(3).

ص: وقد روي أيضًا عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: "أن النبي عليه السلام صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن أبا الخير أخبره، أنه سمع عقبة بن عامر يقول:"إن آخر ما خطب لنا رسول الله عليه السلام أنه صلى على شهداء أحد، ثم رقي على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني لكم فرط، وأنا شهيد عليكم".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر:"أن رسول الله عليه السلام خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 12 رقم 6595).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 12 رقم 6594).

(3)

"المراسيل"(1/ 307 رقم 428) من طريق عطاء عن الشعبي كما عند البيهقي.

ص: 395

ففي حديث عقبة أن رسول الله عليه السلام صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين فلا تخلو صلاته عليهم في ذلك الوقت من أحد ثلاثة معانٍ: إما أن تكون سنتهم كانت أن لا يصلى عليهم، ثم نسخ ذلك الحكم بَعْدُ بأن يصلى عليهم.

أو تكون تلك الصلاة التي صلاها عليهم تطوعًا وليس للصلاة عليهم أصل في السنة والإيجاب.

أو يكون من سنتهم أن لا يصلى عليهم بحضرة الدفن ويصلى عليهم بعد طول المدة.

لا يخلو فعله عليه السلام من هذه المعاني الثلاث، فأعتبرنا ذلك، فوجدنا أمر الصلاة على سائر الموتى هو أن يصلى عليهم قبل دفنهم، ثم تكلم الناس في التطوع عليهم قبل أن يدفنوا أو بعدما يدفنون، فجوَّز ذلك قوم وكرهه آخرون، فأمر السنة فيه أوكد من التطوع؛ لاجتماعهم على السنة واختلافهم في التطوع، فإن كان قتلى أحد ممن تُطوع بالصلاة عليهم فإن في ثبوت ذلك ثبوت السنة في الصلاة عليهم قبل أوان وقت التطوع بها عليهم وكل تطوع فله أصل في الفرض، فإن ثبت أن تلك الصلاة كانت من النبي عليه السلام تطوعًا تطوع به فلا يكون ذلك إلا والصلاة عليهم سنة كالصلاة على غيرهم، وإن كانت صلاته عليهم لعلمه نسخ فعله الأول وتركه الصلاة عليهم؛ فإن صلاته هذه عليهم توجب أن من سنتهم الصلاة عليهم، وأن تركه الصلاة عليهم عند دفنهم منسوخ، وإن كانت صلاته عليهم إنما كانت لأن هكذا سنتهم أن لا يصلي عليهم إلا بعد هذه المدة، وأنهم خصوا بذلك، فقد يحتمل أن يكون كذلك حكم سائر الشهداء أن لا يصلي عليهم إلا بعد مضي مثل هذه المدة، ويجوز أن يكون سائر الشهداء تعجل الصلاة عليهم غير شهداء أحد؛ فإن سنتهم كانت تأخير الصلاة عليهم، إلا أنه قد ثبت بكل هذه المعاني أن من سنتهم ثبوت الصلاة عليهم إما بعد حين وإما قبل الدفن ثم كان الكلام بين المختلفين في وقتنا هذا إنما

ص: 396

هو في إثبات الصلاة عليهم قبل الدفن ثم كان الكلام بين المختلفين في وقتنا هذا إنما هو في إثبات الصلاة عليهم قبل الدفن أو في تركها البتة، فلما ثبت في هذا الحديث الصلاة عليهم بعد الدفن كانت الصلاة عليهم قبل الدفن أحرى وأولى.

ش: ذكر حديث عقبة هذا لتأكيد صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من إثبات الصلاة على الشهداء، وشاهدًا لما ذكر من الدلائل الدالة على ذلك.

وأخرجه من طريقين:

الأول: بإسناد صحيح؛ لأن رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا عبد الله بن لهيعة فهو وإن كان فيه مقال، ولكنه ذكر متابعة، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري.

وأخرجه مسلم في فضائل النبي عليه السلام (1) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر: "أن رسول الله عليه السلام خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم

" الحديث.

الثاني: أيضًا بإسناد صحيح؛ لأن رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن معبد فإنه أيضًا ثقة، ويونس بن محمد بن مسلم البغدادي أبو محمد المؤدب روى له الجماعة.

وأخرجه البخاري في المغازي في غزوة أحد (2): حدثني عمرو بن خالد، ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر: "أن النبي عليه السلام خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم، وإني لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح

(1)"صحيح مسلم"(4/ 1795 رقم 2296).

(2)

"صحيح البخاري"(4/ 1498 رقم 3857).

ص: 397

خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها".

قوله: "ثم رقى" أي صعد، من رقيت في السلم -بالكسر- رَقْيًا ورُقيًّا إذا صعدت، وارتقيت مثله، ورقى عليه ترقية إذا رفع، وترقَّى في العلم أي رقى فيه درجة درجة.

قوله: "فَرَط" بفتح الراء هو الذي يتقدم الوارد فيهئ لهم ما يحتاجون إليه، والمراد به ها هنا الثواب والشفاعة، والنبي عليه السلام يتقدم أمته ليشفع لهم وكذلك الولد لأبويه يقال: فَرَطَهم يَفْرُطُهم فهو فَارِطٌ وفَرَط، والجمع: فُرَّاط.

قوله: "ففي حديث عقبة أن رسول الله عليه السلام صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين" وذلك لأن غزوة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة وكانت صلاته عليه السلام عليهم عقيب خطبته التي هي آخر خطبه.

قوله: "فلا يخلو

" إلى آخره، ملخص هذا: أن صلاته عليه السلام في ذلك الوقت إما لأن السنة كانت أن لا يصلي عليهم أولًا ثم نسخ ذلك وسير إلى الصلاة حتى صلى عليهم بعد المدة الطويلة.

وإما كانت هذه الصلاة تطوعًا من النبي عليه السلام وليس للصلاة عليهم أصل لا من حيث السنة ولا من حيث الوجوب.

وإما كانت السنة في حقهم أن لا يصلى عليهم بحضرة الدفن بل بعد مدة طويلة، وأمر الصلاة في حق غيرهم أن يكون قبل دفنهم، ولكن اختلفوا في صلاة التطوع عليهم، قبل الدفن أو بعده؟ فمنهم من أجاز ذلك وهو معنى قوله:"فجوز ذلك قوم" وأراد بهم: الشافعي وأحمد وإسحاق، ومنهم من كره ذلك وهو معنى قوله:"وكرهه آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة ومالكًا وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية، ولكن أمر السنة في هذا آكد من التطوع للاتفاق من الكل على السنة والاختلاف منهم في التطوع، ثم لا يخلو قتل أحد إما أن يكونوا

ص: 398

ممن تطوع عليهم فإن كان هذا ففيه ثبوت السنة من الصلاة عليهم كالصلاة على غيرهم؛ لأن كل تطوع له أصل في الفرض، وإلا فإن كانت صلاته عليه السلام عليهم لانتساخ ما كان من الترك ابتداء، ففيه ثبوت سنية الصلاة عليهم في الوقت الذي صلى عليهم، وفيه دليل على نسخ ترك الصلاة عند دفنهم، وإلَّا فإن كانت صلاته لأجل أن السنة أن لا يصلي عليهم إلا بعد هذه المدة، وأخهم مخصوصون بذلك دون سائر القتل، ففيه احتمال أن يكون كذلك حكم سائر الشهداء أن لا يصلى عليهم إلا بعد مضي مثل هذه المدة، ولكنه يجوز تعجيل الصلاة على سائر الشهداء غير شهداء أحد؛ فإن السنة في حقهم تأخير الصلاة عليهم، وأيًاما كان من هذه المعاني ففيه ثبوت الصلاة عليهم إما بعد حين وإما قبل الدفن، والكلام بين المخالفين في هذه الأيام إنما هو في إثبات الصلاة عليهم قبل الدفن كما هو مذهب أهل المقالة الثانية، أو في ترك الصلاة عليهم بالكلية كما هو مذهب أهل المقالة الأولى، وقد أثبتنا بالتقسيمات المذكورة ثبوت الصلاة عليهم بعد الدفن، فإذا كانت بعد الدفن ثابتة على ما دل عليه صريح الحديث، مع أنه مخالف للنظر؛ فثبوتها قبل الدفن أحرى وأجدى، لكونه على وفق النظر والقياس، فافهم. والله أعلم.

ص: ثم قد روي عن النبي عليه السلام في غير شهداء أحد: أنه صلى عليهم فمن ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: أنا عبد الله بن المبارك، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني عكرمة بن خالد أن ابن أني عمار أخبره، عن شداد بن الهاد: "أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي عليه السلام فآمن به واتبعه، وقال: أهاجر معك، فأوصى به النبي عليه السلام بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم رسول الله عليه السلام فيها أشياء، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوا إليه، فقال: ما هذا قالوا قسم قسمه لك رسول الله عليه السلام فأخذه فجاء به النبي عليه السلام فقال: يا محمد ما هذا؟! قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت وأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلًا ثم نهضوا إلى

ص: 399

العدو، فأتى به النبي عليه السلام يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي عليه السلام أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه، وكفنه النبي عليه السلام في جُبَّة ثم قدمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته عليه: اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا أنا شهيد عليه".

ففي هذا الحديث إثبات الصلاة على الشهداء الذين لا يغسلون؛ لأن النبي عليه السلام في هذا الحديث لم يغسل الرجل، وصلى عليه فثبت بهذا أن يكون كذلك حكم الشهيد المقتول في المعركة يصلى عليه ولا يغسل، فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح الآثار.

ش: ذكر هذا الحديث لمعنيين:

أحدهما: شاهدًا لما ذكره من الدلائل في إثبات الصلاة على الشهداء.

والثاني: ردًّا على من زعم أنه لم ينقل عن النبي عليه السلام أنه صلى على أحد ممن قتل في المعركة في غير غزوة أحد.

وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارض الأعور نزيل مصر، وثقه يحيى والعجلي وروى له الجماعة سوى النسائي لكن مسلمًا في مقدمة كتابه.

عن عبد الله بن المبارك روى له الجماعة، عن [عبد الملك بن](1) عبد العزيز ابن جريج المكي روى له الجماعة، عن عكرمة بن خالد بن العاص المكي روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القرشي المكي، كان يلقب بالقس لعبادته روى له الجماعة سوى البخاري، عن شداد بن الهاد الكناني الصحابي واسم الهاد أسامة بن عمرو، لقب به لأنه كان يوقد النار ليلًا للأضياف.

(1) ليست في "الأصل، ك"، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز كما في مصادر ترجمته، وقد مرَّ مرارًا.

ص: 400

وأخرجه النسائي (1): أنا سويد بن نصر، قال: أنا عبد الله، عن ابن جريج، قال: أخبرني عكرمة بن خالد، أن ابن أبي عمار أخبره، عن شداد بن الهاد: "أن رجلًا من الأعراب

" إلى آخره نحوه سواء.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج

إلى آخره نحوه، غير أن في روايته: "فلما كانت غزوة خيبر -أو غزوة حنين- غنم رسول الله عليه السلام

". وقال أبو عبد الرحمن: ما أعلم أحدًا تابع ابن المبارك على هذا، والصواب: ابن أبي عمار، عن ابن شداد بن الهاد، وابن المبارك أحد الأئمة ولعل الخطأ من غيره. وقال في موضع آخر: هذا خطأ والصواب عندنا: عن ابن شداد مرسل.

قلت: تخطئة عبد الله بن المبارك بلا دليل خطأ، وعدم متابعة أحد إياه لا تضر صحة حديثه لجلالة قدره، ولئن سلمنا أنه مرسل فهو حجة!

قوله: "من الأعراب" وهم سكان البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه والنسبة إليه: عربي، وإلى الأعراب أعرابي، وليس الأعراب جمعًا للعرب، وإنما العرب اسم جنس، والأعراب خاص، فلا يكون جمعًا للجنس؛ فافهم.

والعرب العاربة هم الخُلَّص منهم وأُخِذَ من لفظه كقولك ليلٌ أليل، وربما قالوا: العرب العرباء، والعرب المستعربة: هم الذين ليسوا بخلص، وكذلك المتعربة.

قوله: "وكان يرعى ظهورهم" أي إبلهم، قال ابن الأثير: الظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب، يقال: عند فلان ظهر: أي إبل.

قوله: "أن أرمى" على صيغة المجهول.

قوله: "أهو هو" بهمزة الاستفهام في هو الأول وفي بعض نسخ النسائي: "أهو أهو" بهمزة الاستفهام في الموضعين، والصحيح الأول.

(1)"المجتبى"(4/ 60 رقم 1953).

(2)

"المعجم الكبير"(7/ 271 رقم 7108).

ص: 401

قوله: "إن تَصْدُقِ الله" بنصب لفظة "الله"، من صَدَقَهُ الحديث، بالتخفيف.

قوله: "يَصْدُقْكَ" بتخفيف الدال أيضًا.

قوله: "صدق الله" بنصب لفظة "الله" أيضًا، وتخفيف الدال.

قوله: "في جبته" أي في جبة النبي عليه السلام ويروى: "وكفنه النبي عليه السلام في جبة النبي عليه السلام".

ص: وأما النظر في ذلك: فإنا رأينا الميت حتف أنفه يُغَسَّل ويصلى عليه، ورأيناه إذا صُلي عليه ولم يغسل كان في حكم من لم يصل عليه، فكانت الصلاة عليه مضمنة بالغسل الذي يتقدمها، فإن كان الغسل قد كان جازت الصلاة عليه، وإن لم يكن غسل لم تجز الصلاة عليه، ثم رأينا الشهيد قد سقط عنه أن يغسل؛ فالنظر على ذلك أن يسقط ما هو مضمن بحكم الغسل، ففي هذا ما يوجب ترك الصلاة عليه، إلا أن في ذلك معنى، وهو أنا رأينا غير الشهيد يغسل ليطهر، وهو قبل أن يغسل في حكم غير الطاهر لا تنبغي الصلاة عليه ولا دفنه على حاله تلك حتى ينقل عنها بالغسل، ثم رأينا الشهيد لا بأس بدفنه على حاله تلك قبل أن يغسل، وهو في حكم سائر الموتى الذين قد غسلوا؛ فالنظر على ذلك أن يكون في الصلاة عليهم في حكم سائر الموتى الذين غسلوا؛ هذا هو النظر في هذا الباب مع ما قد شهد له من الآثار، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.

ش: ملخص هذا الكلام: أن النظر والقياس يشهد لا قاله أهل المقالة الأولى؛ لأن الصلاة على الميت مترتبة على الغسل، ألا ترى أن الميت حتف أنفه إذا لم يغسل لا يصلى عليه؟ فالقياس على ذلك أن لا يصلى على الشهيد؛ لأنه لا يغسل بلا خلاف، ولكن فيه معنى آخر ينظر إليه، وهو أن غير الشهيد إنما يغسل ليطهر لأجل الصلاة عليه والشهيد في حكم الموتى الذين غسلوا؛ لأن السيف قد طهَّره، فكأنه مغسول، حقيقة فيصلى عليه.

قوله: "مُضَمَّنة بالغسل" بفتح الميم الثانية.

ص: 402

قوله: "يُغَسل ليطهر وهو قبل أن يغسل في حكم غير الطاهر" فيه بحث، وهو أن الميت هل يتنجس بالموت أم لا؟ فيه أقوال:

فقال العراقيون من أصحابنا: يجب الغسل لنجاسة الميت لا بسبب الحدث؛ لأن للآدمي دمًا سائلًا كالحيوانات الباقية فيتنجس بالموت قياسًا على غيره منها، ألا ترى أنه إذا مات في البئر نجسها ولو حمله المصلي لم تجز صلاته ولو لم يكن نجسًا لجازت، كما لو حمل مُحْدِثا ويجوز أن تزول نجاسته بالغسل كرامة.

وقال الآخرون: الآدمي لا ينجس لا حيًّا ولا ميتًا، وإنما وجب الغسل لحدث يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسة تحل به إذْ لو كان يتنجس بالموت لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات.

وقال الآخرون: هو أمر تُعبِّدنا به كرامة للميت إذ المؤمن مكرم حيًّا وميتًا.

فإن قيل: فعلى القول الثاني كان ينبغي أن يقتصر في الغسل على أعضاء الوضوء كما في حال الحياة.

قلت: نعم كان القياس ذلك، ولكن لما حل الحدث في سائر بدنه وجب غسل جميعه، وليس فيه حرج؛ لأن الحدث بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة لا يكتفى فيها بغسل الأعضاء الأربعة بخلاف حالة الحياة، حيث اكتفي فيها بالأعضاء الأربعة للحرج فيما يتكرر كل يوم، فافهم.

فإن قيل: أي قول من هذه الأقوال أصوب؟

قلت: قول من قال: إن الميت لا يتنجس بالموت.

وذلك لما روى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال:"لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن لا ينجس حيًّا ولا ميتًا".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 469 رقم 11134)، ولفظه:"فإن المؤمن ليس بنجس".

ص: 403

وأخرجه الحكم مرفوعًا (1) وقال: صحيح على شرطهما.

وأخرج الحكم أيضًا (2): من حديث عمرو بن أبي عمرو، عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم من غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه؛ فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم".

وقال: صحيح الإسناد على شرط البخاري، وفيه رفض لحديث مختلف فيه على محمَّد بن عمرو بأسانيد:"من غسل ميتًا فليغتسل".

فإن قيل: روي عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي عليه السلام كان يغتسل من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة ومن غسل الميت".

وهو حديث أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"(3) وقال البيهقي (4): رواته كلهم ثقات. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ".

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(5) وقال الترمذي (6): حديث حسن.

قلت: قال الحاكم: قال محمد بن يحيى الذهلي: لا نعلم فيمن غسل ميتًا فليغتسل حديثا ثابتًا، ولو ثبت للزمنا استعماله، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: حديث أبي هريرة موقوف، رفعه خطأ لا يرفعه الثقات (7).

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 542 رقم 1422).

(2)

"مستدرك الحاكم"(1/ 543 رقم 1426).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 126 رقم 256).

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 299 رقم 1328).

(5)

"صحيح ابن حبان"(3/ 435 رقم 1161) بنحوه.

(6)

"جامع الترمذي"(3/ 318 رقم 993).

(7)

"علل ابن أبي حاتم"(1/ 351 رقم 1035).

ص: 404

وقال أبو داود في "سننه": (1) هذا منسوخ، وذكر ابن حبيب، عن مالك أن حديث الغسل من غسل الميت ضعفه بعضهم. وقال ابن العربي: قالت جماعة أهل الحديث: هو حديث ضعيف.

وروى الدارقطني في "سننه"(2): حديثًا صحيحًا، عن ابن عمر:"فمنا من يغتسل، ومنا من لم يغتسل". وقال ابن التين حمله بعضهم على الاستحباب لا الوجوب، وقال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بوجوب الغسل منه وأوجب أحمد وإسحاق الوضوء منه.

ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الخطاب بن عثمان الفوزي، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن عبد الله قال:"سمعت مكحولًا يسأل عبادة بن أوفى النميري عن الشهداء أيصلى عليهم؟ فقال عبادة: نعم" فهذا عبادة بن أوفى رضي الله عنه يقول هذا ومغازي أصحاب رسول الله عليه السلام بعد رسول الله عليه السلام إنما كان جلها هناك نحو الشام، فلم يكن يخفي على أهله ما كانوا يصنعون بشهدائهم من الغسل والصلاة وغير ذلك.

ش: ذكر هذا تأكيدًا لما ذكره من الدلائل الموجبة للصلاة على الشهيد، وذلك لأن أكثر غزوات الصحابة بعد النبي عليه السلام كانت في الشام، وعبادة بن أوفى ممن سكن الشام، ولما سأله مكحول عن الصلاة على الشهداء أيصلى عليهم؟ قال: نعم، وذلك لأنه لم يكن يخفى عليه ما كانوا يفعلون بشهدائهم من الغسل والصلاة ونحوهما، فلو كانوا لا يصلى عليهم لقال: لا؛ فحيث أجاب بنعم دَلَّ على أن الصحابة وغيرهم كانوا يصلون على الشهداء، وفعلهم من غير إنكار واحدٍ عليهم يدل على الإجماع على ذلك.

(1)"سنن ابن أبي داود"(2/ 218 رقم 2162).

(2)

"سنن الدارقطني"(2/ 72 رقم 4).

ص: 405

وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن الخطاب بن عثمان الطائي الفوزي أبي عمرو الحمصي شيخ البخاري وكان يعد من الأبدال، عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي ثقة، قال دحيم: هو في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين. وروى له الأربعة.

عن سعيد بن عبد الله الأغطش الخزاعي الشامي وثقه ابن حبان، عن مكحول الدمشقي الفقيه روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن عبادة بن أوفى وقيل: ابن أبي أوفى بن حنظلة بن عمرو بن رياح بن جَعْونة بن الحارث بن نمير ابن عامر بن صعصعة أبي الوليد النميري، اختلف في صحبته وهو شامي سكن قنسرين وقيل: دمشق، والله أعلم.

ص: 406