المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: ما يقتل المحرم من الدواب - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٩

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: ما يقتل المحرم من الدواب

‌ص: باب: ما يقتل المحرم من الدواب

ش: أي هذا باب في بيان ما يجوز للمحرم أن يقتل من الدواب؟ وهو جمع دابة، قال صاحب "المنتهى": كل ماشٍ على الأرض دابة ودبيت، والهاء للمبالغة، والدابة في التي تركب أشهر.

وفي "المحكم": الدابة تقع على المذكر والمؤنث، وحقيقته الصفة.

وقال الجوهري: دَبَّ على الأرض يدب دبيبًا، وكل ماشٍ على الأرض دابة ودبيب، والدابة التي تركب.

قلت: الدابة في الأصل لكل ما يدب على وجه الأرض، ثم نقله العرف العام إلى ذات القوائم الأربع من الخيل والبغال والحمير، ويسمي هذا منقولًا عرفيًّا، كما يسمي نحو الصلاة والصيام: منقولًا شرعيًّا، لأنهما في الأصل للدعاء ومطلق الإِمساك، ثم نقله الشرع إلى الأركان المخصوصة والإِمساك المخصوص مع النية، وكما تسمي اصطلاحات النحاة والنظار منقولًا اصطلاحيًّا.

وقال ابن خالويه: ليس في كلام العرب تصغير بالألف إلَّا حرفان ذكره الشيباني عن أبي عمرو الهذلي: دوابة تصغير دويبة وهداهد بمعنى هديهد.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا وهيب، قال: أخبرني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله عليه السلام قال: خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحداءة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام مثله.

ش: هذان طريقان صحيحان، ورجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا ربيعًا، وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 649 رقم 1730).

ص: 275

ومسلم (1): عن يحيى، عن مالك.

وأخرجه النسائي (2): عن قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام أذن في قتل خمس من الدواب للمحرم: الغراب، والحداءة، والفأرة، والكلب العقور، والعقرب".

قوله: "جناح" أي إثم وحرج.

قوله: "الغراب" أي أحدها الغراب، قال أبو المعالي: هو واحد الغربان، وجمع القليل: أغربة، ويجمع على غُرُب أيضًا، وفي "الجامع" ويجمع على أغرب أيضًا، وفي "المحكم" غرابين جمع الجمع، وقيل: سمى غرابًا لأنه نأى واغترب لمَّا نوح عليه السلام يستخبر أمر الطوفان، وفي كتاب "الحيوان" للجاحظ: الغراب الأبقع غريب، وهو غراب البين، وكل غراب فقد يقال له: غراب البين إذا أرادوا به الشؤم إلَّا غراب البين نفسه، فإنه غراب صغير، وإنما قيل لكل غراب: غراب البين لسقوطه في مواضع منازلهم إذا بانوا، وناس يزعمون أن تسافدها على غير تسافد الطير وأنها تزاقُّ بالمناقير وتلقح من هنالك، وفي "الموعب" الغراب الأبقع هو الذي في صدره بياض، وفي "المحكم" غراب أبقع يخالط سواده بياض، وهو أخبثها، وبه يضرب المثل لكل خبيث، وقال أبو عمر: هو الذي في بطنه وظهره بياض، وذكر صاحب "الهداية": المراد بالغراب آكل الجيف، وهو الأبقع، روي ذلك عن أبي يوسف.

قوله: "والحداءة" بكسر الحاء وبعد الدال ألف ممدودة بعدها همزة مفتوحة، وجمعها "حِدَء" مثل عِنب و"حدّان" كذا في "الدستور" وقال الجوهري: ولا يقال: حَدَاه، وفي "المطالع" الحداءة لا يقال فيها إلَّا بكسر الحاء، وقد جاء الحِدَاء يعني بالفتح وهو جمع حَداءة أو مذكرها، وجاء الحُدَيَّا على وزن الثريَّا.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 858 رقم 1199).

(2)

"المجتبى"(5/ 189 رقم 2830).

ص: 276

قوله: "والعقرب" قال ابن سيدة: "العقرب" للأنثى: عقربة، والعقربان للذكر منها، وفي "المنتهى": الأنثى "عقرباء" ممدود غير مصروف، وقيل:"العقربان" دويبة كثيرة القوائم غير العقرب، وعقربة شاذة، ومكان معقرب بكسر الراء -ذو عقارب، وأرض معقربة، وبعضهم يقول: معقرة كأنه ردَّ العقرب إلى ثلاثة أحرف، ثم بنى عليه، وفي "الجامع": ذكر العقارب عُقْربان والدابة الكثيرة القوائم عقرَّبان بتشديد الباء.

قوله: "والفأرة" واحدة الفئران والفئرة، ذكره ابن سيدة، وفي "الجامع": أكثر العرب على همزها.

قوله: "الكلب العقور" ذكر أبو عمر: أن ابن عيينة قال: هو كل سبع يعقر، ولم يخص الكلب، قال سفيان: وكذا فسره لنا زيد بن أسلم، وكذا قال أبو عُبيد، وعن أبي هريرة: الكلب العقور الأسد، وعن مالك: هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم، مثل: الأسد والنمر والفهد، فأما ما كان من السباع لا يعدو، مثل الضبع والثعلب وشبههما فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه، وزعم النووي أن العلماء اتفقوا على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم، واختلفوا في المراد به، فقيل: هو الكلب المعروف، حكاه عياض عن أبي حنيفة والأوزاعي والحسن بن حيّ، وألحقوا به الذئب، وحمل زفر الكلب على الذئب وحده، وذهب الشافعي والثوري وأحمد وجمهور العلماء إلى أن المراد كل مفترس غالبًا. قال أبو المعاني: جمع الكلب أكلب وكلاب وكليب وهو جمع عزيز لا يكاد يوجد إلَّا القليل نحو عبد وعبيد، وجمع الأكلب أكالب، وفي "المحكم" وقد قالوا في جمع كلاب: كلابات، والكالب كالجامل جماعة الكلاب، والكلبة أنثى الكلاب وجمعها كلبات ولا يكسَّر.

واستفيد من الحديث:

جواز قتل هذه الخمسة من الدواب للمحرم، فإذا أبيح للمحرم فللحلال بالطريق الأولى، أما الغراب فقد قلنا المراد به الأبقع وهو الذي يأكل الجيف، كما قال صاحب "الهداية" وقال القرطبي: هذا تقييد لمطلق الروايات التي ليس فيها

ص: 277

الأبقع، وبذلك قالت طائفة، فلا يجيزون إلَّا قتل الأبقع خاصة، وطائفة رأوا جواز قتل الأبقع وغيره من الغربان، ورأوا أن ذكر الأبقع إنما جرى لأنه الأغلب.

قلت: روى مسلم (1) عن ابن مثنى وابن بشار، كلاهما عن محمد بن جعفر، عن شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي عليه السلام أنه قال:"خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: والحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدئا" فالروايات المطلقة محمولة على هذه الرواية المقيدة، وذلك لأن الغراب إنما أبيح قتله لكونه يبتدئ بالأذى ولا يبتدئ بالأذى إلَّا الغراب الأبقع، أما الغراب غير الأبقع فلا يبتدئ بالأذى فلا يباح قتله كالعقعق وغراب الزرع، ولأن الغراب الأبقع يأكل الجيف ويقع على وبر البعير وصاحبه قريب منه بخلاف غيره فإنه لا يأكل الجيف.

فإن قيل: قال ابن بطال: هذا الحديث لا يعرف إلَّا من حديث سعيد ولم يروه عنه غير قتادة وهو مدلس، وثقات أصحاب سعيد من أهل المدينة لا يوجد عندهم هذا القيد، مع معارضة حديث ابن عمر وحفصة رضي الله عنهم فلا حجة فيه حينئذ.

قلت: هذا الذي ذكره ليس بعلة يرد بها الحديث.

وقوله: "مع معارضة حديث ابن عمر وحفصة" غير صحيح إذ لا معارضة بين الحديثين وإنما هما مطلق ومقيد، فحمل المطلق على المقيد كما ذكرنا، وقال ابن بطال أيضًا: روى عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا: لا يقتل الغراب ولكن يرمي قال: وهذا خلاف السنة.

قلت: روي عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه: "يقتل الغراب الأبقع، ويرمى الغراب تخويفًا، وأما الغراب الذي يأكل الزرع فهو الذي يرمى ولا يقتل، وهو الصفة الذي استثناه مالك من جملة الغربان، قال القشيري: في قتله قولان للمالكية: أشهرها القتل لعموم الحديث، وأما منع القتل فإنه اعتبر الصفة التي علل

(1)"صحيح مسلم"(2/ 856 رقم 1198).

ص: 278

بها القتل وهو الفسق على ما يشهد به إيماء اللفظ، وهذا الفسق معدوم في الصغار حقيقة، والحكم يزول بزوال علته، وعن أبي مصعب فيما ذكره ابن العربي: في الغراب والحدأة وإن لم يبدءا بالأذى ويؤكل لحمهما عند مالك، ورُوي عنه المنع في المحرم سدًّا لذريعة الاصطياد، قال أبو بكر: وأصل المذهب ألَّا يقتل من الطير إلَّا ما آذى بخلاف غيره فإنه يقتل ابتداء، وقال أبو عمر: الأبقع من الغربان الذي في ظهره وبطنه بياض، وكذلك الكلب الأبقع أيضًا، والغراب الأذرع، والذرعى هو الأسود، والغراب الأعصم هو الأبيض الرجلين وكذلك الوَعِلُ عصمته بياض في رجليه، وقال مجاهد: يرمى الغراب ولا يقتله، وقال به قوم، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري (1):"أن النبي عليه السلام سئل عما يقتله المحرم، فقال: الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله" وقال أبو عمر: حديث عبد الرحمن بن [أبي أنعم](2) عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال في الغراب: "يرميه المحرم ولا يقتله" فليس مما يحتج به على مثل حديث نافع عن ابن عمر وسالم عن ابن عمر أنه أباح للمحرم قتل الغراب، وقال أبو عمر: احتج من كره أكل الغراب وغيره من الطير التي تأكل الجيف ومن كره أكل هوام الأرض أيضًا بحديث النبي عليه السلام هذا "أنه أمر بقتل الغراب والحدأة والعقرب والحية والفأرة"، قال: وكل ما أمر رسول الله عليه السلام بقتله فلا يجوز أكله، هذا قول الشافعي وأبي ثور وداود، وقال مالك: لا بأس بأكل سباع الطير كلها، الرخم والنسور والعقبان وغيرها، ما أكل الجيف منها وما لم يأكل، قال: ولا بأس بأكل لحوم الدجاج الجلالة وكل ما يأكل الجيف، وهو قول الليث بن سعد ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد، وقال الأوزاعي: الطير كله حلال إلَّا أنهم يكرهون الرخم، وقال مالك: لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت، وهو قول: ابن أبي ليلى والأوزاعي، إلَّا أنهما لم يشترطا فيها الزكاة، وقال ابن القاسم عن مالك: لا بأس بأكل الضبع (*)، وقال ابن القاسم: لا بأس بأكل

(1)"سنن أبي داود"(2/ 170 رقم 1848).

(2)

في "الأصل، ك": "منعم"، وهو تحريف، والمثبت من "التمهيد"(15/ 173).

(*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، وهو خطأ ظاهر، وصوابه: الضفدع، وقد وردت على الصواب في طبعة المنهاج (12/ 418)، وانظر المدونة (1/ 115)، وقال مالك في الضبع: لَا أُحِبُّ أَكْلَ الضَّبُعِ وَلَا الذِّئْبِ وَلَا الثَّعْلَبِ وَلَا الْهِرِّ الْوَحْشِيِّ وَلَا الْإِنْسِيِّ وَلَا شَيْئًا مِنْ السِّبَاعِ. انظر المدونة (1/ 541)، وانظر (3/ 148).

ص: 279

خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك، وقال مالك: لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه، وأما الحداءة فإنه يجوز قتلها سواء كان للمحرم أو للحلال لأنها تبتدئ بالأذى وتخطف اللحم من أيدي الناس، وروي عن مالك في الحداءة والغراب أنه لا يقتلهما المحرم إلَّا أن يبتدئا بالأذى، والمشهور من مذهبه خلافه، وأما العقرب فإنه يجوز قتله مطلقًا حتى في الصلاة، لأنه يقصد اللدغ ويتبع الحسَّ، وذكر أبو عمر عن حماد بن أبي سليمان والحكم أن المحرم لا يقتل الحية ولا العقرب. رواه عنهما شعبة، قال: وحجتهما أنهما من هوام الأرض، وقال القاضي: لم يختلف في قتل الحية والعقرب، ولا في قتل الحلال الوزغ في الحرم وقال أبو عمر: لا خلاف عند مالك وجمهور العلماء في قتل الحية والعقرب في الحل والحرم وكذلك الأفعى.

وأما الفأرة فإنه يجوز قتلها مطلقًا، وقال ابن المنذر: لا خلاف بين العلماء في جواز قتل المحرم الفأرة، إلَّا النخعي فإنه منع المحرم من قتلها، وهو قول شاذ، وقال القاضي: وحكى الساجي عن النخعي أنه لا يقتل المحرم الفأرة فإن قتلها فداها، وهذا خلاف النص، فافهم.

ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن محمد بن العجلان، عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام بنحو حديث مالك والليث، يعني أن رسول الله عليه السلام قال:"خمس من الدواب يقتلن في الحرم: العقرب والحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور" إلَّا أنه قال في حديثه: "والحية والذئب والكلب العقور".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا زهير بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:"الكلب العقور: الأسد".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا حفص بن ميسرة، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن ابن سيلان، عن أبي هريرة مثله.

ص: 280

ش: هله ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن علي بن عبد الرحمن، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الشافعي المصري روى له الجماعة، عن محمد بن عجلان المدني، احتجت به الأربعة، عن القعقاع بن حكيم الكناني المصري روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح، عن أبي صالح ذكوان الزيات روى له الجماعة.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا علي بن بحر، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"خمس قتلهن حلال في الحرم: الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور".

والثاني: عن محمد بن خزيمة، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن محمد التميمي العنبري أبي المنذر الخرساني الخَرَقي من أهل قرية من قرى مرو تسمى خَرَق روى له الجماعة

إلى آخره.

وأخرجه أبو عمر نحوه (2).

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن منصور الخرساني شيخ مسلم وأبي داود، عن حفص بن ميسرة العقيلي الثقة، عن زيد بن أسلم، عن ابن سيلان بكسر السين المهملة وسكوت الياء آخر الحروف وهو عبد ربه بن سيلان وثقه ابن حبان وقال: عداده في أهل الكوفة.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: الكلب العقور الذي أباح النبي عليه السلام قتله هو الأسد، وكل سبع عقور فهو داخل في ذلك.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري

(1)"سنن أبي داود"(2/ 170 رقم 1847).

(2)

"التمهيد" لابن عبد البر (15/ 170).

ص: 281

وأبا عُبيد القاسم بن سلام ومالكًا -في رواية- والشافعي وأحمد -في رواية- فإنهم قالوا: الكلب العقور هو الأسد، وكل سبع عقور فهو داخل في الحكم المذكور، وقال أبو عمر عن مالك: الكلب العقور هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والفهد، وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب وشبههما فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الكلب العقور هو الكلب المعروف، وليس الأسد منه في شيء، وقالوا: ليس في حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام أن الكلب العقور هو الأسد، وإنما ذلك من قول أبي هريرة-رضي الله عنه.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي والحسن ابن يحيى وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد -في رواية- فإنهم قالوا: الكلب العقور هو الكلب المعروف، وإنما أبيح قتله لأن من شأنه العدو على الناس وعقرهم ابتداء من حيث الغالب ولا يكاد يهرب من بني آدم حتى إن الأسد أو الذئب أو الفهد أو النمر إذا عدا على المحرم فله أن يقتله وليس عليه شيء.

قوله: "وقالوا" أي هؤلاء الآخرون "ليس في حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام أن الكلب العقور هو الأسد وإنما هو من كلام أبي هريرة" إنما قال ذلك لأن الأسد يعقر الناس ويعدو عليهم ويخيفهم كما أن الكلب العقور كذلك، وقد قلنا إن كل حيوان مفترس إذا عدا على المحرم وأخافه يصير حكمه حينئذ حكم الكلب العقور، فلا وجه إذن في تخصيص الأسد بالحكم المذكور.

ص: وقد وجدنا عن رسول الله عليه السلام نصًّا ما يدفع ذلك، وهو ما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن عُبيد بن عمير، أن عبد الرحمن بن أبي عمار أخبره، قال:"سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، فقلت: آكلها؟ قال: نعم، قال: أصيد هي، قال: نعم، قلت: سمعت ذلك عن النبي عليه السلام فقال نعم".

ص: 282

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا حسان وشيبان وهدبة، قالوا: ثنا جرير بن حازم (ح).

وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو غسان (ح).

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال قالا: ثنا جرير، قال: ثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: ثنا ابن أبي عمار، عن جابر بن عبد الله:"أن رسول الله عليه السلام سئل عن الضبع، فقال: هي من الصيد، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشًا".

حدثنا هارون بن كامل، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، قال: ثنا إسماعيل بن أمية وابن جريج وجرير بن حازم، أن عبد الله بن عُبيد بن عمير حدثهم، قال: ثنا ابن أبي عمار: "أنه سأل جابر بن عبد الله عن الضبع، فقال: آكلها؟ فقال: نعم، قلت: أصيدهي؟، قال: نعم، قلت: أسمعت ذلك من رسول الله عليه السلام؟ قال: نعم".

حدثنا يزيد، قال: ثنا حبان (ح).

وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي قالا: ثنا حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم الصائغ عن عطاء، عن جابر، عن النبي عليه السلام مثله، وزاد:"وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشًا مسنًّا وتؤكل".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال:"قضى في الضبع إذا قتلها المحرم بكبش". فلما كانت الضبع هي سبع ولم يبح النبي عليه السلام قتلها، وجعلها صيدًا، وجعل على قاتلها الفداء؛ دَلَّنَا ذلك على أن الكلب العقور ليس هو السبع، وبطل بذلك ما ذهب إليه أبو هريرة، وكان الكلب العقور هو الكلب الذي تعرفه العامة.

ش: أي قد وجدنا عن النبي عليه السلام نصًّا صريحًا يدفع ما ذكره أهل المقالة الأولى من قولهم: الكلب العقور هو الأسد وكل عقور من السباع، محتجين بقول أبي هريرة،

ص: 283

بيان ذلك أن الضبع سبع، لأن السبع حيوان مفترس جارح، فكذلك الضبع يفترس ويجرح غالبًا، والنبي عليه السلام لم يبح قتلها في حديث جابر، وجعلها من جملة الصيود، وأوجب على قاتلها الجزاء، فدل ذلك على أن الكلب ليس هو السبع، وكان هو الذي يعرفه الناس ويعهدونه، لا كما ذهب إليه أبو هريرة.

ثم إنه أخرج حديث جابر بن عبد الله من ثماني طرق صحاح:

الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن محمد بن بكر بن عثمان البرساني شيخ أحمد وابن معين الثقة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عبد الله بن عُبيد بن عمير بن قتادة بن سعد بن عامر الليثي المكي، عن عبد الرحمن بن أبي عمار المكي الملّقب بالقس لعبادته، عن جابر بن عبد الله.

وهذا الإِسناد على شرط مسلم، وأخرجه الترمذي (1): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أنا ابن جريج، عن عبد الله بن عُبيد بن عمير، عن ابن أبي عمار، قال:"قلت لجابر: الضبع أصيد هو؟ قال: نعم. قال: قلت: آكله؟ قال: نعم، قال: قلت له: أقاله رسول الله عليه السلام؟ قال: نعم" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

الثاني: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن حبان -بفتح الحاء- بن هلال، وشيبان بن فروخ الأيلي شيخ مسلم وأبي داود، عن هُدبة بن خالد شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، ثلاثتهم عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر.

وأخرجه أبو داود (2): نا محمد بن عبد الله الخزاعي، قال: نا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن أبي عمار، عن جابر بن عبد الله، قال:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع، فقال: هو صيد، ويُجعل فيه كبش إذا صاده المحرم".

(1)"جامع الترمذي"(3/ 207 رقم 851).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 355 رقم 3801).

ص: 284

الثالث: عن علي بن شيبة، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عمير

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن وكيع، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عمير

إلى آخره نحوه.

الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن جرير

إلى آخره.

وأخرجه الدارقطني (2): نا محمد بن القاسم بن زكريا، نا أبو كريب، ثنا قبيصة، عن جرير بن حازم، حدثني عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر بن عبد الله قال:"سئل رسول الله عليه السلام عن الضبع، فقال: هي صيد، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشًا".

الخامس: عن هارون بن كامل الفهري، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص المكي، وعبد الملك بن جريج، وجرير بن حازم، ثلاثتهم عن عبد الله بن عمير

إلى آخره.

وأخرجه ابن ماجه (3): نا هشام بن عمار ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا عبد الله بن رجاء المكي، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن أبي عمار وهو عبد الرحمن:"قال سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هو؟ قال: نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أشيء سمعت من رسول الله عليه السلام؟ قال: نعم".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 254 رقم 13960).

(2)

"سنن الدارقطني"(2/ 246 رقم 48).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1078 رقم 3236).

ص: 285

السادس: عن يزيد بن سنان، عن حبان بن هلال، عن حسان بن إبراهيم بن عبد الله الكرماني أحد أصحاب أبي حنيفة، عن إبراهيم بن ميمون الصائغ المروزي، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث حسان بن إبراهيم، نا إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر، قال رسول الله عليه السلام:"الضبع فكلها وفيها كبش سمين إذا أصابها المحرم".

السابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن حسان بن إبراهيم الصائغ

إلى آخره.

الثامن: موقوف، عن صالح بن عبد الرحمن .. إلى آخره.

ورجاله رجال الصحيح ما خلا عبد الرحمن.

ويستفاد من هذا الحديث شيئان:

أحدهما: كون الضبع صيدًا فلا يجوز للمحرم قتله، ولو قتله يجب عليه الجزاء، وعن الشافعي قولان، أصحهما الوجوب.

والآخر: كون الضبع مما يؤكل، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وعند أبي حنيفة وأصحابه وعبد الله بن المبارك لا يؤكل الضبع، وقال الأوزاعي: كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها، واستدلت الحنفية على ذلك بنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع، وقالوا: الضبع لها ناب فهي من السباع، وكذلك الخلاف في الثعلب، وقالوا: حديث جابر منسوخ، وسيأتي تحقيق الكلام في بابه إن شاء الله تعالى.

ص: فإن قال قائل: فلم تبيحون قتل الذئب؟ قيل له: لأن النبي عليه السلام قال: "خمس من الدواب يقتلن في الحرم والإِحرام فذكر الخمس ما هن، فَذِكْرُ الخمس

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 183 رقم 9655).

ص: 286

يدل على أن غير الخمس حكمه غير حكمهن وإلَّا لم يكن لذكر الخمس معنى، فالذين أباحوا قتل الذئب أباحوا قتل جميع السباع، والذين منعوا قتل الذئب حظروا قتل سائر السباع غير الكلب العقور خاصة، وثبت خروج الضبع من القتل، ولم يكن كلبًا عقورًا وثبت أن الكلب العقور هو الكلب الذي تعرفه العامة.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن العلة في قتل الكلب العقور هو عدوه على بني آدم وابتداؤه بالأذى، فهذا المعنى موجود في الذئب بل الذئب أحرئ من الكلب في ذلك، فكان ينبغي أن يباح قتل الذئب للمحرم كالكلب العقور، حتى أن زفر حمل الكلب العقور على الذئب.

وتقدير الجواب أن النبي عليه السلام نص على قتل خمس من الدواب في الحرم والإِحرام، وبين الخمس ماهن، فدل هذا أن حكم غير هذه الخمس غير حكم الخمس، وإلَّا لم يكن لتنصيصه على الخمس فائدة، فالذئب خارج من الخمس، فلا يباح قتله إلَّا إذا بدأنا بالأذى، وقال عياض: ظاهر قول الجمهور أن المراد أعيان ما سمي في هذا الحديث، وهو ظاهر قول مالك وأبي حنيفة، ولهذا قال مالك: لا يقتل المحرم الوزغ، وإن قتله فداه، ولا يقتل خنزيرًا ولا قردًا مما لا يطلق عليه اسم كلب في اللغة، إذ جعل الكلب صفة فيه لا اسمًا، وهو قول كافة العلماء، وإنما قال رسول الله عليه السلام خمس، فليس لأحد أن يجعلهن ستًّا ولا سبعًا، وقال أيضًا: مالك والشافعي يريان أن التحريم متعلق بمعاني هذه الخمس دون أسمائها، وأنها إنما ذكرت لينبه بها على ما يشاركها في العلة ولكنهما اختلفا في العلة ما هي؟ فقال الشافعي: العلة أن لحومها لا تؤكل، وكذلك كل ما لا يؤكل لحمه في الصيد مثلها، ورأى مالك أن العلة كونها مضرة لينبه به على ما يضر الأبدان، على جهة المواجهة والمغالبة، وذكر العقرب لينبه به على ما يضر بالأجسام على جهة الاختلاس، وكذلك ذكر الحدأة والغراب، للتنبيه على ما يضر بالأموال مجاهرة، وذكر الفأرة للتنبيه على ما يضر بالأموال اختفاء.

ص: 287

قوله: "فالذين أباحوا" أي القوم الذين أباحوا قتل الذئب للمحرم وأراد بهم: الثوري والشافعي وأحمد وابن عيينة وزيد بن أسلم، فإنهم قالوا: لفظة الكلب لم تختص بالاسم، وإنما ينطلق على كل عادٍ مفترس غالبًا كالسباع والفهد والذئب.

قوله: "والذين منعوا" أي القوم الذين منعوا، وأراد بهم: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي.

قوله: "حظروا" أي منعوا، من قولهم: حظرت الشيء إذا منعته، وهو في الأصل راجع إلى المنع، لأن الحظر هو المنع، قال تعالى:{وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (1) أي ممنوعًا.

ص: فأما ما رُوي عن النبي عليه السلام فيما يقتل في الإِحرام والحرم، فما حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي وأحمد بن عبد الرحمن، قالا: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، قال: قالت حفصة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب يقتلهن المحرم: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور".

حدثنا ربيع الجيزي قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، أن عبد الله بن عمر قال: قالت حفصة: قال رسول الله عليه السلام

ثم ذكر مثله.

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن عيسى بن إبراهيم

إلى آخره، ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.

وأخرجه البخاري (2): حدثني أصبغ، قال: أخبرني عبد الله بن وهب، عن

(1) سورة الإِسراء، آية:[20].

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 649 رقم 1731).

ص: 288

يونس

إلى آخره نحوه، ولفظه:"خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن" والباقي نحوه.

وأخرجه مسلم (1): عن حرملة بن يحيى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس

إلى آخره نحوه.

الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن.

وأخرجه الطبراني (2): نا مسعدة بن سعد العطار المكي، نا إبراهيم بن المنذر الحزامي، نا عبد الله بن وهب

إلى آخره نحو رواية البخاري.

وقال أبو عمر: رواية نافع عن ابن عمر مقتصرة على إباحة قتل الخمسة للمحرم في حال إحرامه في الحل والحرم جميعًا، وفي رواية سالم:"لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم" وهذا أعم، لأنه يدخل فيه المحرم وغير المحرم، ومعلوم أنه ما جاز للمحرم قتله فغير المحرم أحرى أن يجوز ذلك له لكن لكل وجه منها حكم، وفي رواية أيوب:"قيل لنافع: فالحية؟ قال: الحية لا شك في قتلها"، وفي لفظ "لا يختلف في قتلها" قال أبو عمر: وليس كما قال نافع؛ قد اختلف العلماء في جواز قتل الحية للمحرم، ولكنه شذوذ، وليس في حديث ابن عمر عن أحد من الرواة ذكر الحية، وهو محفوظ من حديث عائشة وأبي سعيد وابن مسعود رضي الله عنه.

قلت: فيه نظر؛ لأن الييهقي (3) روى من حديث حجاج بن أرطاة، عن وبرة، سمع ابن عمر يقول:"أمر رسول الله عليه السلام بقتل الذئب والفأرة والحدأة، فقيل: أين الحية والعقرب؟ فقال: قد كان يقال ذلك".

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا

(1)"صحيح مسلم"(2/ 858 رقم 1200).

(2)

"المعجم الكبير"(23/ 194 رقم 333).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 210 رقم 9822).

ص: 289

زيد بن جبير: "أن رجلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما عما يقتل المحرم؟ قال: أخبرتني إحدى نسوة رسول الله عليه السلام إنه كان يأمر

" ثم ذكر مثله.

ش: إسناده صحيح، ومحمد بن خزيمة بن راشد، وحجاج هو ابن منهال شيخ البخاري، وأبو عوانة الوضاح اليشكري روى له الجماعة، وزيد بن جبير بن حرمل الطائي الكوفي روى له الجماعة.

وأخرجه البخاري (1): نا مسدد، نا أبو عوانة، عن زيد بن جبير، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "حدثتني إحدى نسوة النبي عليه السلام عن النبي عليه السلام يقتل المحرم

".

وأخرجه مسلم (2) نا أحمد بن يونس، قال: نا زهير، قال: ثنا زيد بن جبير: "أن رجلاً سأل ابن عمر ما يقتل المحرم من الدواب، فقال: أخبرني إحدى نسوة النبي عليه السلام أنه أقر أو أمر أن يقتل الفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور والغراب".

فإن قيل: زيد بن جبير لم يسمع من عبد الله بن عمر، قال العجلي: زيد بن جبير ثقة ليس بتابعي، في عداد الشيوخ.

قلت: قد خرّج البخاري في روايته بسماعه عن ابن عمر، وقد ذكرناه الآن.

ص: حدثنا محمد بن عمرو قال: ثنا أسباط بن محمد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "سئل النبي عليه السلام ما يقتل المحرم

" فذكر مثله.

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الأعلى بن حماد، قال: ثنا وهيب، قال ثنا أيوب (ح).

وحدثنا يزيد، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام مثله.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 649 رقم 1730).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 858 رقم 1200).

ص: 290

حدثنا يزيد، قال: ثنا شيبان، قال: ثنا جرير، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام نحوه.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام مثله.

يزيد، قال: ثنا القعنبي، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال شعبة: قلت عن النبي عليه السلام؟ قال: نعم، وهو متثاقل مثله.

ش: هذه سبع طرق صحاح:

الأول: [

] (1).

الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن علي بن حماد البصري المعروف بالنرسي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن وهيب بن خالد عن أيوب السختياني عن نافع عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه النسائي (2) أيضًا: أنا زياد بن أيوب، قال: نا ابن علية، قال: نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال:"قال رجل: يا رسول الله، ما نقتل من الدواب إذا أحرمنا؟ قال: خمس لا جناح على من قتلهن: الحدأة، والغراب، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور".

الثالث: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر.

(1) طمس في "الأصل، ك، ح".

(2)

"المجتبى"(5/ 190 رقم 2833).

ص: 291

وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو كامل، قال: نا حماد، قال: نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر

نحوه.

الرابع: عن يزيد أيضًا، عن شيبان بن فروخ شيخ مسلم وأبي داود، عن جرير بن حازم، عن نافع عن ابن عمر.

الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر

نحوه.

السادس: عن يزيد بن سنان، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): نا إسحاق، نا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خمس من الدواب من قتلهن وهو محرم فلا جناح عليه: العقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحدأة".

السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر.

قوله: "وهو متناقل" جملة وقعت حالاً من عبد الله بن دينار.

وقوله: "مثله" أي مثل الحديث المذكور، يتعلق بقوله:"حدثنا" وليس بمتعلق بقوله "وهو متثاقل".

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام

مثله.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 859 رقم 1199).

(2)

"مسند أحمد"(2/ 65 رقم 5324).

(3)

"مسند أحمد"(2/ 138 رقم 6228).

ص: 292

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة

فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"الغراب الأبقع".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله عليه السلام قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الكلب العقور، والفأرة، والحدأة، والعقرب، والغراب".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبو عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي، عن شعبة

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي عليه السلام:"ليقتل المحرم الفأرة والعقرب والحدأة والغراب والكلب العقور". وفي رواية: "والحية".

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القصاب، عن شعبة

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن شيبة، قال: نا غندر، عن شعبة (ح).

ونا ابن مثنى وابن بشار، قالا: نا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي عليه السلام أنه قال:"خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحُديَّا".

وأخرجه النسائي (3) وابن ماجه (4) نحوه.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 351 رقم 14836).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 856 رقم 1198).

(3)

"المجتبى"(5/ 208 رقم 2885).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1031 رقم 3087).

ص: 293

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن زيد، عن هشام بن عروة

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو الربيع الزهراني، قال: نا حماد -وهو ابن زيد- قال: نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله عليه السلام: "خمس فواسق يقتلن في الحرم: العقرب، والفأرة، والحُديا، والغراب، والكلب العقور".

وأخرجه البخاري (2): عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة

نحوه.

قوله: "فواسق" جمع فاسقة، ومعنى تسميتها فواسق أن أصل الفسق في كلام العرب: الخروج، ومنه سمي الفاسق لخروجه عن أمر الله وطريق طاعته، فسميت هذه الخمس فواسق لخروجها عن الحرمة التي لغيرهن، وأن قتلهن للمحرم وفي الحرم مباح.

وقال الفراء: سميت الفأرة بذلك لخروجها من جحرها.

وقال ابن قتيبة: سمي الغراب بذلك لتخلفه عن نوح عليه السلام حين أرسله ليأتيه بخبر الأرض، فترك أمره ووقع على جيفة، ويقال: إنه يقع على وبر البعير وينقب الفراء، ويقال: سميت الحدأة بذلك لأنها تغير على اللحم وكرش والعقرب لأنه يتبع الحس ويلدغ اختلاسًا، والفأرة لأنها تسرق أموال الناس وتفسد بضائعهم، والكلب العقور لأنه من شأنه العدو على الناس وعقرهم ابتداء، ولا يكاد يترك من بني آدم.

ص: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن

(1)"صحيح مسلم"(2/ 857 رقم 1198).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 650 رقم 1732).

ص: 294

رسول الله عليه السلام أنه قال: "يقتل المحرم الحية والعقرب والفأرة والفويسقة. قال يزيد: وعدّ غير هذا فلم أحفظ، قال قلت: ولم سميت الفأرة الفويسقة؟ قال: استيقظ رسول الله عليه السلام ذات ليلة وقد أخذت فأرة فتيلة لتُحَرِّق على رسول الله عليه السلام، فقام إليها فقتلها، وأحل قتلها لكل محرم أو حلال".

ش: علي بن معبد بن شداد العبدي أحد أصحاب محمد بن الحسن، وثقه أبو حاتم، وموسى بن أعين الجزري أبو سعيد الحراني روى له الجماعة سوى الترمذي، ويزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف الحديث. وقال العجلي: جائز الحديث، روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتج به الأربعة، وابن أبي نعم هو عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي الكوفي العابد روى له الجماعة، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك.

والحديث أخرجه ابن ماجه (1): ثنا أبو كريب، نا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام أنه قال:"يقتل المحرم الحية والعقرب والسبع العادي والكلب العقور والفأرة الفويسقة، فقيل له: لم قيل لها الفويسقة؟ قال: لأن رسول الله عليه السلام استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت".

وأخرجه أبو داود (2): نا أحمد بن حنبل، نا هشيم، قال: أنا يزيد بن أبي زياد، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي، عن أبي سعيد الخدري:"أن النبي عليه السلام سئل عما يقتل المحرم، قال: الحية، والعقرب، والفويسقة، ويَرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي".

وأخرجه الترمذي (3) مختصرًا: نا أحمد بن منيع، قال: نا هشيم، قال: نا يزيد بن

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 1032 رقم 3089).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 170 رقم 1848).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 198 رقم 838).

ص: 295

أبي زياد، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام قال:"يقتل المحرم السبع العادي". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

ص: فهذا ما أباح النبي عليه السلام للمحرم قتله في إحرمه، وأباح للحلال قتله في الحرم، وعدَّ ذلك خمسًا، فذلك ينفي أن يكون (أشكال)(1) شيء من ذلك كحكم هذه الخمس إلَّا ما اتفق عليه من ذلك أن النبي عليه السلام عناه.

ش: أي فهذا المذكور وهو الخمس الفواسق التي أباح النبي عليه السلام قتلها في الحل والحرم للمحرم والحلال، ونص عليها بالعدد، والتنصيص عليها بالعدد ينافي أن يكون أشكال شيء أي أنظاره وأمثاله كحكم هذه الخمس، ألا ترى أنه ذكر الحدأة والغراب وهما من ذي المخلب من الطيور وعينهما؛ فلا يلحق بهما سائر ذوي المخالب من الطيور، كالصقر والبازي والشاهين والعقاب ونحو ذلك، وهذا بلا خلاف.

فإن قلت: التنصيص على الشيء باسمه العلم لا يقتضي الخصوص سواء كان المنصوص عليه باسم العدد مقرونًا أو لم يكن، فكيف تقول فذلك ينفي أن يكون أشكال شيء من ذلك كحكم هذه الخمس؟

قلت: هذا الباب فيه خلاف، فذهب قوم إلى أن المنصوص إذا كان مقرونًا بالعدد، يدل على نفي الحكم عن غيره، لأن في إثبات الحكم في غيره إبطال العدد المنصوص، وذا لا يجوز، كما في قوله عليه السلام:"أحلت لنا ميتتان ودمان .. " الحديث (2) فيحتمل أن يكون الطحاوي قد ذهب إلى هذا المذهب.

فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز قتل الحية للمحرم على قوله.

قلت: ذكر ابن برندة في أحكامه: قال الطحاوي: لا يقتل المحرم الحية ولا الوزغ ولا شيئًا غير الحدأة والغراب والكلب العقور والفأرة والعقرب، فهذا يدل

(1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار":"حكم أشكال".

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده"(2/ 97 رقم 5723)، وابن ماجه في "سننه"(2/ 1073 رقم 3218)، والشافعي في "مسنده"(1/ 340) وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 296

على أنه قصر هذا الحكم على الخمس المنصوص عليه في الحديث، ولكن الذي يفهم من كلامه ها هنا أن للمحرم قتل الحية لورود الحديث بذلك عمومًا وخصوصًا، على ما يأتي ذكره عن قريب إن شاء الله، ولا يقال: إنه ينافي ما ذكره من قوله: ينفي أن يكون أشكال شيء من ذلك كحكم الخمس، لأنا نقول: إنه دفع هذا بقوله إلَّا ما اتفق عليه من ذلك أن النبي عليه السلام عناه أي قصده، والحية من جملة ما عَنَاه من ذلك، على ما يأتي من حديث عبد الله بن مسعود:"أن النبي عليه السلام أمرهم بقتل الحية في منى". وجاء أحد الخمس الحية فيما رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري كما ذكرناه الآن.

ص: فإن قال قائل فقد رأينا الحية مباح قتلها في ذلك كله، وكذلك جميع الهوام فإنما ذكر النبي عليه السلام من ذلك العقرب خاصة، فجعلتم كل الهوام كذلك فما تنكرون أن تكون السباع كذلك أيضًا، فيكون ما ذكر إباحة قتله منها إباحة لقتل جميعهن.

قيل له: قد أوجدنا له عن النبي عليه السلام نصًّا في الضبع وهي من السباع، أنها غير داخلة فيما أباح قتله من الخمس، فثبت بذلك أن النبي عليه السلام لم يرد قتل سائر السباع بإباحته قتل الكلب العقور، وإنما أراد بذلك خاصًّا من السباع، ثم قد رأيناه أباح مع ذلك أيضًا قتل الغراب والحداءة وهما من ذوي المخلب من الطير، وقد أجمعوا أنه لم يرد بذلك كل ذي مخلب من الطير، لأنهم قد أجمعوا أن العقرب والصقر والبازي ذوو مخلب غير مقتولين في الحرم كما يقتل الغراب والحداءة، وإنما الإِباحة من النبي عليه السلام لقتل الغراب والحداءة عليها خاصة لا على ما سواهما من كل ذي مخلب من الطير، وأجمعوا أن النبي عليه السلام أباح قتل العقرب في الإِحرام والحرم، وأجمعوا أن جميع الهوام مثلها، وأن مراد النبي عليه السلام بإباحة قتل العقرب قتل جميع الهوام، فذو الناب من السباع بذي المخلب من الطير أشبه منه بالهوام، مع ما قد بين ذلك، وشدَّه ما رواه جابر عن النبي عليه السلام في حديث الضبع.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن الحية يباح قتلها لكل أحد في كل الأحوال وكل الأمكنة، وكذلك سائر الهوام القتالة كالرتيلاء والزنبور وأم أربعة وأربعين

ص: 297

ونحوها، والنبي عليه السلام إنما ذكر في الخمس الفواسق المذكورة العقرب خاصة وأشركتم في الحكم المذكور الحية وسائر الهوام قياسًا على العقرب، فلِمَ لا تشركون سائر السباع للكلب العقور المذكور بعينه بينهن فتكون إباحة قتل الكلب العقور إباحة لقتل غيره من السِّباع.

وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن يكون ما ذكرتم من القياس صحيحًا؛ وذلك لأن النبي عليه السلام قد نص على الضبع -وهو من السِّباع- أنه صيد، وأنه غير مباح قتله من الخمس، فدل هذا كله أنه عليه السلام لم يرد بإباحته قتل الكلب العقور إباحة قتل سائر السِّباع، وإنما أراد بذلك خاصًا من السِّباع، ألا ترى أنه عليه السلام أباح قتل الغراب والحداءة والحال أنهما من ذوي المخلب من الطير، وقد أجمع العلماء كلهم على أنه لم يرد بذلك كل ذي مخلب من الطير، لأنكم أنتم ونحن مجمعون على الحداءة أن نحو العقاب والصقر والبازي لا يقتل في الحرم كما يقتل الغراب والحداءة، فثبت بهذا أن الإِباحة من النبي عليه السلام لقتل الغراب والحداءة بأعيانهما خاصة لا على ما سواهما من سائر ذوي مخلب من الطير.

قوله: "وأجمعوا أن جميع الهوام مثلها" أي مثل العقرب، والتحقيق فيه أن المراد من الكلب العقور عنى ما سمي به فلا يلحق به غيره من السِّباع، والمراد من العقرب معناها وهو قصدها الأذى والإِهلاك بطريق الاختلاس يلحق بها غيرها من سائر الهوام المؤذية كالحية والرتيلاء وأم الأربعة والأربعين والسام الأبرص والوزغة والنمل المؤذية ونحو ذلك، ولا يقال: إن هذا تحكم؛ لأنا نقول: لولا حديث جابر في الضبع لكان المراد من الكل معانيها لا أعيانها فافهم.

قوله: "فذو الناب من السِّباع بذي المخلب من الطير أشبه منه بالهوام" جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: يلحق سائر السِّباع في القتل بالعقرب وسائر الهوام ليصير حكمها حكم العقرب والهوام.

ص: 298

وتقرير الجواب أن يقال: إن إلحاق الشيء بالشيء إنما يكون إذا كان بينهما شبه، والشبه بين السِّباع والهوام بعيد، والأقرب أن يلحق السِّباع بذي المخلب من الطيور لقرب المشابهة بينهما.

ص: فإن قال قائل: إنما جعل النبي عليه السلام حكم الضبع كما ذكرت لأنها تؤكل، فأما ما كان لا يؤكل من السباع فهو كالكلب.

قيل: قد غلطت في التشبيه، لأنا قد رأينا النبي عليه السلام قد أباح قتل الغراب والحداءة والفأرة، وأكل لحوم هؤلاء مباح عندكم، فلم يكن إباحة أكلهن ما يوجب حرمة قتلهن، فكذلك الضبع ليست إباحة أكلها أوجب حرمة قتلها، وإنما منع من قتلها أنها صيد، وإن كانت سبعًا، وكل السِّباع كذلك الَّا الكلب الذي خَصَّه النبي عليه السلام بما خص به.

ش: هذا السؤال وارد على الجواب عن السؤال المتقدم، تقريره أن يقال: إنما جعل النبي عليه السلام حكم الضبع كما ذكرت من أنها غير داخلة فيما أبيح قتله من الخمس لأنها تؤكل، فأما ما كان لا يؤكل من السباع فينبغي أن يكون كالكلب في إباحة القتل.

وتقرير الجواب أن يقال: إن هذا التشبيه أعني تشبيه سائر السباع [بالكلب](1) العقور في هذا الحكم غلط، وذلك لأن النبي عليه السلام قد أباح قتل الغراب والحداءة والفأرة، والحال أن لحوم هؤلاء مباح عندكم فلم يكن إباحة قتلهن مما يوجب حرمة قتلهن، فكذلك الضبع ليس أوجب حرمة قتلها إباحة قتلها وإنما أوجب ذلك كونها من الصيد فافهم.

قوله: "يباح عندكم" الخطاب فيه للمالكية ومن تبعهم في هذا، قال أبو عمر: قال مالك: لا بأس بأكل سباع الطير كلها، الرخم والنسور والعقبان وغيرها، ما أكل الجيف منها وما لم يكن (*)، وهو قول الليث بن سعد ويحيى بن سعيد وربيعة

(1) في "الأصل، ك": "للكلب".

(*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوعة، وفي طبعة المنهاج:"وما لم يكن يأكل"، ولعله الأقرب، والله أعلم.

ص: 299

وأبي الزناد، وقال الأوزاعي: الطير كله حلال إلَّا أنهم يكرهون الرخم، وقال ابن القاسم: لا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك.

قلت: خِشاش -بكسر الخاء المعجمة-: الحشرات، قال الجوهري: وقد تفتح الخاء وهو يتناول الفأرة والوزغة والحية والعقرب والسام الأبرص ونحو ذلك من هوام الأرض.

ص: فإن قال قائل: فكيف يكون سائر السِّباع كذلك وهي لا تؤكل؟! قيل له: قد يكون من الصيد ما لا يؤكل ويباح للرجل صيده ليطعمه كلابه إذا كان في الحل حلالًا.

ش: هذا السؤال دار في قوله: "وكل السِّباع كذلك" أي كيف تكون سائر السباع كالضبع والحال أنها لا تؤكل بخلاف الضبع فإنها تؤكل؟! وهذا على مذهبهم، فأجاب عنه بقوله: "قيل له

إلى آخره" يعني أن الصيد لا يلزم منه أن يكون فيما يؤكل لحمه، وقد يكون من الصيد ما لا يؤكل لحمه فيصاد إما لجلده، وإما لدفع أذاه، وإما ليطعم لحمه كلابه ليتمرن على الصيد ويغرس على إمساكه، وإما لعظمه، أو وجه من الوجوه، وكل ذلك يجوز في الحل للحلال، والله أعلم.

ص: وقد رُوي عن النبي عليه السلام في قتل الحية أيضًا ما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله قال:"أمرنا رسول الله عليه السلام بقتل الحية ونحن بمنى" فقد دل ذلك على أن سائر الهوام مباح قتله في الإِحرام والحرم.

ش: ذكر هذا تأييدًا لما قاله من إلحاق الحية وجميع الهوام بالعقرب في إباحة القتل في الكل مع تنصيص العقرب وحدها.

وأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي أميه محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن موسى بن داود الضبي الخلقاني قاضي طرسوس، روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن حفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة وأحد أصحاب

ص: 300

أبي حنيفة روى له الجماعة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (1): حدثني أبو كريب، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله:"أن رسول الله عليه السلام أمر محرمًا بقتل حية بمنى".

وقال ابن بطال: أجمع العلماء على جواز قتل الحية في الحل والحرم، وقال الطبري: فإن قيل: قد صح أمر النبي عليه السلام بقتل الحيات، فما أنت قائل في قوله أيضًا: نهى عن قتل حيات البيوت؟ قيل له: اختلف السلف قبلنا في ذلك، فقال بعضهم بظاهر الأمر بقتل الحيات كلها من غير استثناء شيء منها، كما روى أبو إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، قال رسول الله عليه السلام:"اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس مني"(2) وروي هذا أيضًا عن عمر (3) رضي الله عنه.

وقال آخرون: لا ينبغي أن نقتل عوامر البيوت وسكانها إلَّا بعد مناشدة العهد الذي أخذ عليهن، فإن ثبت بعد إنشاده قتل، قال الطبري: وجميع هذه الأخبار عن النبي عليه السلام حق وصدق وليس في شيء منها خلاف لصاحبه، والرواية عنه أنه أمر بقتل الحيات من غير استثناء شيء منها خبر مجمل بين معناه الخبر الآخر، نهى عن قتل جنان البيوت إلَّا بعد النشدة حذار الإِصابة فيلحقه ما لحق الفتى المعرس بأهله، روى ابن أبي مليكة، عن عائشة بنت طلحة: "أن عائشة رضي الله عنها رأت في مغتسلها حية فقتلتها، فأتيت في منامها، فقيل لها: إنك قتلت مسلمًا، فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أمهات المؤمنين فقيل: ما

(1)"صحيح مسلم"(4/ 1755 رقم 2234).

(2)

أخرجه أبو داود في "سننه"(4/ 363 رقم 5249)، والطبراني في "الكبير"(9/ 351 رقم 9747)، (10/ 170 رقم 10355).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 261 رقم 19903).

ص: 301

دخل عليك إلَّا وعليك ثيابك، فأصبحتْ فزعة، ففرقت في المساكين اثني عشر ألفًا". وقال ابن قانع: لا تنذر عوامر البيوت إلَّا بالمدينة خاصة، على ظاهر الحديث، وقال مالك: تنذر بالمدينة وغيرها، وهو بالمدينة أوجب، ولا تنذر بالصحاري، وقال غيره: المدينة وغيرها سواء في الإِنذار.

قلت: "جنان البيوت" بكسر الجيم، واحدها جن، والإِثنان والجمع جنان، مثل صنو، وصنوان للاثنين والجمع، وهي الحيات، وروي عن ابن عباس: الجنان مسخ الجن كما مسخت القردة من بني إسرائيل والله أعلم.

ص: وجميع ما صححنا في هذا الباب قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله غير الذئب فإنهم جعلوه في ذلك كالكلب سواء.

ش: أي فإن أبا حنيفة وصاحبيه جعلوا الذئب في حكم إباحة قتله كالكلب العقور، فلا يجب بقتله شيء، وذكر في "مطامح الأفهام": قال أبو حنيفة: لا يقتل من الكلاب العقورة إلَّا السبع الإِنسي، والذئب الوحشي، لأنه في معناه وخلقته، واختلف قول مالك في الذئب هل يقتل أم لا. انتهى.

فهذا كما رأيت قد ألحق أبو حنيفة وصاحباه الذئب بالكلب المذكور في الحديث، وأما زفر بن الهذيل فإنه قال: المراد بالكلب في الحديث هو الذئب. والله أعلم بالصواب.

***

ص: 302