الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الهدي يساق لمتعة أو قران هل يركب أم لا
؟
ش: أي هذا باب في بيان الهدي الذي يسوقه الحاج لأجل التمتع أو القران هل يجوز ركوبه أم لا؟
"الهدي" اسم لما يهدى إلى الحرم من الأنعام، أعني من الإِبل والبقر والغنم، وهو بإسكان الدال وتخفيف الياء، وفيه لغة أخرى وهي كسر الدال وتشديد الياء، يقال: أهديت إلى البيت هديًا وهدِيًّا، ذكره ثعلب في "فصيحه" وسوى بينهما، ويقال: اللغة الأول هي الأفصح والأشهر، وقال اللحياني: وواحد الهدي هدية، وقال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخففون ياء الهدي، وتميم وسفلى قريش يثقلون الياء، وقد قرئ بالوجهين جميعًا {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) والهَدِيُّ محله، وهو قول الأكثرين، وفي الحديث:"هلك الهدي ومات الودي" قال الهروي: أي هلكت الإِبل ويبست النحل والعرب تقول: كم هدي بني فلان أي كم إبلهم.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: اركبها، فقال: يا رسول الله، إنها بدنة، قال: اركبها ويلك".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن [ابن](2) عجلان، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عمه موسى ابن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله، غير أنه قال له في الثالثة أو الرابعة:"اركبها ويحك".
(1) سورة البقرة، آية:[196].
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:"مر رسول الله عليه السلام برجل يسوق بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: حدثني معتمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام:"أنه رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، قال: فلقد رأيته يساير النبي عليه السلام في عنقها نعل".
ش: هذه ستة طرق:
الأول: رجاله رجال الصحيح كلهم، وأبو الزناد -بالنون-: عبد الله بن ذكوان، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.
ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
وأبو داود (3): عن القعنبي، عن مالك.
والنسائي (4): عن قتيبة، عن مالك، ولفظ الموطأ (5):"اركبها ويلك، في الثالثة أو الرابعة"، ولفظ البخاري:"اركبها ويلك، في الثالثة" ولفظ مسلم: "ويلك اركبها، ويلك اركبها".
(1)"صحيح البخاري"(2/ 606 رقم 1604).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 860 رقم 1322).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 147 رقم 1760).
(4)
" المجتبى"(5/ 176 رقم 2799).
(5)
"موطأ مالك"(1/ 377 رقم 842) والذي في "الموطإ": "اركبها ويلك، في الثانية أو الثالثة".
قوله: "يسوق بدنة": أراد بها الإِبل ها هنا، والبدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة، ولكن بالإِبل أشبه ووسميت (بدنة) لعظمها وسمنها.
قوله: "اركبها ويلك": مخرجه مخرج الدعاء عليه إذ أبى من ركوبها في أول مرة، وقال له: إنها بدنة، وقد كان يعلم [أن] (1) رسول الله عليه السلام يعلم أنها بدنة فكأنه قال: الويل لك في مراجعتك إياي فيما لا تعرفه وأعرفه، قال الأصمعي:"ويل" كلمة عذاب، و"ويح" كلمة رحمة، وجاء في الحديث:"أن ويلًا وادي في جهنم"(2).
وقال القاضي: وقيل في قوله: "ويلك" تأديبُ مَنْ راجع العَالِم في فتواه بغليظ الكلام.
وقد قيل: إن "ويلك" ها هنا قد تكون إغراء بما أمر به من ركوبها، إذْ رآه قد تحرج منه.
الثاني: أيضًا رجاله كلهم رجال الصحيح، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن ابن الحارث بن أبي ذئب المدني، وعجلان هو مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة والد محمد بن عجلان.
وأخرجه البزار في "مسنده"(2): ثنا عمرو بن علي، ثنا أبو عاصم، ثنا ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام:"أنه سئل عن ركوب البدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة قال: اركبها ويلك أو ويحك".
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن عمه موسى بن يسار روى له الجماعة إلَّا البخاري، عن أبي هريرة، وهذا أيضًا إسناد صحيح.
(1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.
(2)
رواه أحمد في "مسنده" عن طريق ابن أبي ذئب به (2/ 473 رقم 10131).
وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا الحجاج بن يوسف المعروف بابن الشاعر، نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام:"أنه رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة. قال: اركبها".
الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، وهذا أيضًا إسناد صحيح.
الخامس: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عثمان التبان المدني، وقيل: الكوفي مولى المغيرة بن شعبة، قال أبو حاتم: كوفي شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات" واستشهد به البخاري في "الصحيح" وروى له في غيره، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أبيه أبي عثمان واسمه عمران وقيل: سعد، وقيل: لا يعرف اسمه، استشهد به البخاري في "الصحيح" وروى له أبو داود والترمذي.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا عبد الله بن الوليد ومؤمل، قالا: ثنا سفيان، حدثني أبو الزناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال:"مرَّ رسول الله عليه السلام برجل يسوق بدنة، قال: اركبها، قال: يا رسول الله إنها بدنة، قال: اركبها".
السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري شيخ البخاري ومسلم، عن يزيد بن زريع العيشي البصري، عن معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي البصري، عن أيوب السختياني، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا إسناد صحيح.
(1) أخرجه أحمد في "مسند"(3/ 75 رقم 11730)، وابن حبان في "صحيحه"(16/ 508 رقم 7467) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
"مسند أحمد"(2/ 464 رقم 9988).
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الرزاق، نا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال:"مرَّ النبي عليه السلام برجل يسوق بدنة، قال النبي عليه السلام: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، قال أبو هريرة: فلقد رأيته يساير النبي عليه السلام وفي عنقها نعل".
ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا هشيم، عن الحجاج بن أرطاة، عن نافع:"أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: اركبها، وما أنتم مستنين سنة أهدى من سنة محمد صلى الله عليه وسلم".
ش: يعقوب فيه مقال، والباقي ثقات.
ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"مرّ رسول الله عليه السلام برجل، وهو يسوق بدنة قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها".
حدثنا عبد الله بن محمد بن خُشيش البصري، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم قال: ثنا هشيم وشعبة، قالا: ثنا قتادة، عن أنس، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذان طريقان صحيحان.
الأول: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي .. إلى آخره.
وأخرجه مسلم (2): نا عمرو الناقد وسريج بن يونس، قالا: نا هشيم، قال: نا حميد، عن ثابت، عن أنس، قال [وأظنني](3) قد سمعته من أنس.
وحدثني يحيى بن يحيى -واللفظ له- قال: ثنا هشيم، عن حميد، عن ثابت البناني، عن أنس، قال: "مرَّ رسول الله عليه السلام برجل يسوق بدنة، فقال: اركبها.
فقال: إنها بدنة، قال: اركبها، مرتين أو ثلاثًا".
(1)"مسند أحمد"(2/ 278 رقم 7723).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 960 رقم 1323).
(3)
في "الأصل، ك": "وأظنهن".
وأخرجه النسائي (1): نا محمد بن المثنى، قال: نا خالد، قال: ثنا حميد، عن ثابت، عن أنس:"أن النبي عليه السلام رأى رجلاً يسوق بدنة، وقد جهده المشي، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها وإن كانت بدنة".
الثاني: عن ابن خُشيش بالمعجمات وضم الأول، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي البصري القصاب شيخ البخاري، عن هشام الدستوائي وشعبة، كلاهما عن قتادة، عن أنس.
وأخرجه البخاري (2): ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام وشعبة، قالا: ثنا قتادة، عن أنس:"أن النبي عليه السلام رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها -ثلاثًا".
وأخرجه الترمذي (3): نا قتيبة، نا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس بن مالك:"أن النبي عليه السلام رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها. فقال: يا رسول الله، إنها بدنة، قال له: -في الثالثة أو الرابعة-: ويحك أو ويلك".
وأخرجه ابن ماجه (4): ثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، عن هشام صاحب الدستوائي، عن قتادة، عن أنس بن مالك:"أن النبي عليه السلام مُرَّ عليه ببدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها. قال: فرأيته راكبها مع النبي عليه السلام في عنقها نعل".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الرجل الذي ساق بدنة لمتعة أو قران أن له أن يركبها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا وعروة بن الزبير وأحمد وإسحاق وآخرين من أهل الحديث، فإنهم قالوا: القارن أو المتمتع يجوز له أن يركب بدنته مطلقًا، وفي
(1)"المجتبى"(5/ 176 رقم 2801).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 606 رقم 1605).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 254 رقم 911).
(4)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1036 رقم 3104).
"الاستذكار" ذهب أهل الظاهر إلى جواز ركوب الهدي من ضرورة وغير ضرورة، وبعضهم يوجب ذلك لقول النبي عليه السلام:"اركبها". وذهبت طائفة من أهل الحديث أنه لا بأس بركوب الهدي على كل حال.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إنما كان هذا من النبي عليه السلام لضرٍّ رآه من الرجل، فأمره بما أمره به لذلك، وهكذا نقول نحن: لا بأس بركوبها في حال الضرورة، ولا يجوز في حال الوجود.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأصحابهم، فإنهم قالوا: لا يُركب الهدي إلَّا عن ضرورة واحتياج إليه، وقال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام وغيرهم في ركوب البدنة إذا احتاج إلى ظهرها، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال بعضهم: لا يركب ما لم يضطر إليه انتهى.
وقال ابن القاسم: فإن ركبها محتاجًا فليس عليه أن ينزل إذا استراح، وقال القاضي إسماعيل: مذهب مالك يدل على أنه إذا استراح نزل، وقال ابن التين: وعن بعض الشافعية والحنفية إن نقصها ركوبه ضمن النقصان.
وقال أبو عمر: وقال أبو حنيفة والشافعي: إن نقصها الركوب، أو شرب لبنها فعليه قيمة ما شرب من لبنها وقيمة ما نقصها الركوب.
ص: فاحتمل أن يكون النبي عليه السلام أمر بذلك للضرورة كما قالوا، واحتمل أن يكون ذلك لا للضرورة ولكن؛ لأن حكم البدن كذلك تركب في حال الضرورة، وفي حال الوجود، فنظرنا في ذلك فإذا نصر بن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا علي ابن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام رأى رجلاً يسوق بدنة وقد جهد، قال: اركبها، قال: يا رسول الله، إنها بدنة، قال: اركبها".
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان والنفيلي، قالا: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا حميد الطويل، عن ثابت، عن أنس:"أن النبي عليه السلام رأى رجلاً يسوق بدنة، فكأنه رأى به جهد، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها وإن كانت بدنة".
ش: أشار بهذا الكلام إلى أن ما جاء من أمره عليه السلام بركوب البدنة مطلقًا فإنه محمول على التقييد بالضرورة والاحتياج إليه، ولكن لأن ما ذكر في الأمر بالركوب في الأحاديث المذكورة يحتمل أن يكون ذلك للضررة كما قاله أهل المقالة الثانية، ويحتمل أن يكون حكم البدنة أنها تركب مطلقًا، فنظرنا في أمر هذين الاحتمالين، فوجدنا بعض الأحاديث المروية في هذا الباب تدل على ترجيح أحد الاحتمالين، وهو ما قاله أهل المقالة الثانية، وذلك في حديث أخرجه من طريقين بإسناد صحيح.
الأول: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن حميد الطويل، عن أنس
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (1): كما ذكرناه فإنه فيه: "وقد جُهِدَ" على صيغة المجهول، أي أعيي وكلّ، وفي رواية النسائي:"وقد جهده المشي" أي غلب عليه وشق، فدلّ ذلك أن أمره المطلق فيما استدلت به الطائفة الأولى محمول على حالة الضرورة.
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، وعن عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي الحراني شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما عن زهير بن معاوية، عن حميد الطويل، عن ثابت عن أنس.
وأخرجه أحمد (2) نحوه.
قوله: "جُهدًا" بضم الجيم: مشقة وتعبًا.
(1)"المجتبى"(5/ 176 رقم 2801).
(2)
"مسند أحمد"(3/ 106 رقم 12059).
ص: وقد روى في حديث ابن عمر حرف يدل على هذا المعنى: حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا هشيم، عن الحجاج، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يقول في الرجل إذا ساق بدنته فَأَعْي: اركبها، وما أنتم بمستنين بسنة هي أهدى من سنة النبي عليه السلام". فدل ذلك أيضًا على أن ما أمر به ابن عمر وأخبر أنه سنة محمد عليه السلام هو ركوب البدنة في حال الضرورة.
ش: أي قد روي في حديث عبد الله بن عمر الذي أخرجه فيما مضى عن قريب عن أحمد بن داود، عن يعقوب بن حميد، عن هشيم، عن الحجاج، عن نافع، عنه حرف، أي لفظة أو كلمة من إطلاق اسم الجزء على الكل وأراد به قوله:"نا يحيى" يدل على هذا المعنى وهو الذي ذكره وأن الركوب مقيد بالعجز والضرورة، فإنه إنما كان يقول لصاحب البدنة: اركبها، إذا رآه قد أعيى وعجز عن المشي ولم يجد غيرها وكان مضرورًا إلى ذلك محتاجًا إليه، وأنه أخبر في حديثه أن ركوب البدنة في حال الضرورة هو سنة محمد عليه السلام.
وأخرج الحديث هنا عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن هشيم بن بشير، عن الحجاج بن أرطاة، عن نافع
…
إلى آخره.
فهذا مقيد، وذاك الحديث مطلق، فحمل ذلك المطلق على هذا المقيد، فافهم.
ص: ثم التمسنا حكم ركوب الهدي في غير حال الضرورة هل نجد له ذكرًا في غير هذه الآثار؟ فإذا فهد قد حدثنا، قال: ثنا أبو بكر بن أبى شيبة، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريح، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام: "اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرًا".
حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم (ح).
وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله صالح، قالا: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر -في ركوب الهدي- سمعت رسول الله عليه السلام يقول:"اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا".
فأباح النبي ركوبها في حال الضرورة ومنع من ذلك إذا ارتفعت الضرورة ووجد غيرها، فثبت بذلك أن هكذا حكم الهدي من طريق الآثار، تركب للضرورات وتترك لارتفاع الضرورات.
ش: أي ثم طلبنا حكم ركوب الهدي في غير حال الضرورة هل يوجد في غير هذه الأحاديث المذكورة؟ فإذا فهد بن سليمان
…
إلى آخره.
وأخرجه من حديث جابر بن عبد الله من ثلاث طرق:
الأول: عن فهد، عن أبي بكر بن أبي شيبة صاحب "المسند" و"المصنف"، عن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، عن جابر، وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن حاتم، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، قال "سمعت جابر بن عبد الله سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت النبي عليه السلام يقول: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا".
الثاني: عن يزيد بن سنان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن جابر، وعبد الله بن لهيعة فيه مقال، والحديث صحيح.
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة
…
إلى آخره.
وهذا كالذي قبله.
وآخرجه أبو داود (2): ثنا أحمد بن حنبل، قال: نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، قال: "سألت جابر بن عبد الله عن ركوب
(1)"صحيح مسلم"(2/ 961 رقم 1324).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 147 رقم 1761).
الهدي، فقال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا".
وأخرجه النسائي (1): عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "إذا ألجئت إليها" أبي إذا اضطررت إليها، أي إلى ركوبها.
ص: ثم اعتبرنا حكم ذلك من طريق النظر كيف هو؟ فرأينا الأشياء على ضربين:
فمنها: ما الملك فيها متكامل لم يدخله شيء (يزيله)(2) عنه شيئاً من أحكام الملك كالعبد الذي لم يدبره مولاه، وكالأمة التي لم تلد من مولاها، وكالبدنة التي لم يوجبها صاحبها، فكل ذلك جائز بيعه وجائز الاستمتاع به وجائز تمليك منافعه بإبدال وبلا إبدال.
ومنها: ما قد دخله شيء منع من بيعه ولم يُزل عنه حكم الانتفاع به، من ذلك: أم الولد التي لا يجوز لمولاها بيعها، والمدبر -في قول من لا يرى بيعه- فذلك لا بأس بالانتفاع به وبتمليك منافعه التي لربِّه أن ينتفع بها بإبدال وبلا إبدال، وكان ما له أن ينتفع به فله أن يملك منافعه من شاء بإبدال وبلا إبدال.
ثم رأينا البدنة إذا أوجبها ربها كلٌ قد أجمع أنه لا يجوز له أن يؤجرها ألَّا يتعوض بمنافعها بدلاً، فكما كان ليس له له تمليك منافعها ببدل كان كذلك ليس له الانتفاع بها ولا يكون له الانتفاع بشيء إلَّا شيء له التعوض بمنافعه إبدالًا منها، فهذا هو النظر أيضًا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي ثم اعتبرنا حكم ركوب الهدي من طريق النظر والقياس، ووجهه ظاهر.
(1)"المجتبى"(5/ 177 رقم 2802).
(2)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار":"يزيل".
قوله: "ما الملك فيه متكامل" كلمة "ما" موصولة مبتدأ، وقوله:"الملك فيه متكامل" جملة صلتها.
وقوله: "لم يدخله شيء" خبر المبتدأ.
قوله: "جائز تمليك منافعه بإبدال" كالإِجازة.
قول: "وبلا إبدال" كالعادة.
قوله: "والمدبر في قول من لا يرى بيعه" وأراد بهم الحنفية؛ فإنهم لا يجوزون بيع المدبر، ولكن المدبر المطلق وهو الذي علق عتقه بالموت من غير تعرض بصفة كقوله: أنت حر بعد موتى أو إن مت فأنت حر، وعند مالك والشافعي وأحمد يجوز بيعه، وسيجيء الكلام فيه في بابه إن شاء الله.
قوله: "وكلٌ قد أجمع" أي كل العلماء قد أجمعوا، والله أعلم.
ص: وقد روي ذلك عن جماعة من المتقدمين، حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة -أراه- عن مغيرة، عن إبراهيم:"قال: لا تشرب لبن البدنة ولا تركبها إلَّا أن تضطر إلى ذلك".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال:"البدنة إذا احتاج إليها سائقها ركبها ركوبًا غير فادح".
حدثنا محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قيس، عن عطاء مثله.
ش: أي وقد رُوي ما ذكرنا من إباحة ركوب البدنة عند الضرورة عن جماعة من التابعين، وأخرج في ذلك عن ثلاثة منهم، وهم: إبراهيم النخعي، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، ورجالها كلهم ثقات، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، وحجاج هو ابن المنهال الأنماطي شيخ البخاري، وحماد هو ابن سلمة، وليث وهو ابن سعد المكي.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن عبد الصمد، عن حماد [بن](2) سلمة، عن هشام، عن أبيه:"قال في البدنة: إذا احتاج إليها سائقها ركبها غير فادح، ويشرب فضل ريِّ ولدها".
قوله: "إلا أن تضطر إلى ذلك" إشارة إلى الركوب، يعني إذا احتاج إلى الركوب يركبها بالمعروف، وقيل: يجوز أن تكون الإِشارة إلى الجميع، يعني إلى الشرب والركوب، يعني إذا احتاج إلى شرب لبنها أيضًا يشربها، ولكن عليه القيمة عند أبي حنيفة والشافعي.
وقال أبو عمر: كره مالك شرب لبنها بعد ري فصيلها، فإن فعل شيئاً من ذلك فلا شيء عليه.
وعن مجاهد (3): "إن احتاج إلى اللبن شرب، وإن احتاج إلى الركوب ركب، وإن احتاج إلى الصوف أخذ".
وعن الشعبي (4): "لا يشرب من لبنها إلَّا أن يرمل".
وعن عروة (5): "إذا احتاج إلى الركوب ركبها غير فادح، ويشرب فضل ريّ ولدها".
وعن عطاء (6): "إن احتاج إلى ظهرها ركب وحمل عليها بالمعروف".
وكل ذلك أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه".
قوله: "غير فادح" نصب على الحال من الضمير المرفوع في "ركبها" أبي غير مثقل عليها، من فدحه بالفاء إذا أثقله، وقال الجوهري: فدحه الدين: أثقله.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 359 رقم 14920).
(2)
في "الأصل، ك": "عن"، وهو تحريف، والمثبت من "المصنف".
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 359 رقم 14926).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 360 رقم 14928).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 359 رقم 14290).
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 359 رقم 14921).
ص: وقد رُوي عن المتقدمين في قول الله عز وجل {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد.
وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، عن سفيان وحبان عن حماد، كلاهما عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (2) قال: في ظهورها وألبانها وأصوافها وأوبارها حتى تصير بدنًا".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، قال: أنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) قال: هي الإِبل ينتفع بها حتى تقلد".
حدثنا أبو بكر قال ثنا أبو داود قال ثنا ورقاء عن منصور عن إبراهيم {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) قال: إن احتاج ظهرها ركب، وإن احتاج لبنها شرب، يعني البدن".
ش: أخرج التفسير المذكور عن مجاهد وإبراهيم النخعي، أما مجاهد فمن ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد.
الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري وحبان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- عن ابن هلال، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن أبي نجيح يسار المكي، عن مجاهد.
الثالث: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد
…
إلى آخره.
(1) سورة الحج، آية:[33].
(2)
سورة الحج، آية:[32].
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو خالد، عن الحجاج، عن القاسم، عن مجاهد:" {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (2) قال: في ألبانها وظهورها وفي أوبارها حتول تسمى بدنًا، فإذا سميت بدنا فمحلها إلى البيت العتيق".
قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وإنما يَعْتَدُّ الله بالمنافع الدينية قال تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (3) وأعظم هذه المنافع وأبعدها شرطًا في النفع محلها إلى البيت أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت، كقوله:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (4) والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت، لأن الحرم هو حريم البيت.
قوله: "إلى أجل مسمى" أي إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها.
وأما عن إبراهيم فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن ورقاء بن عمر اليشكري أبي بشر الكوفي، روى له الجماعة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده".
…
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 359 رقم 14917).
(2)
سورة الحج، آية:[33].
(3)
سورة الأنفال، آية:[67].
(4)
سورة المائدة، آية:[95].