المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: رفع اليدين عند رؤية البيت - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٩

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: رفع اليدين عند رؤية البيت

‌ص: باب: رفع اليدين عند رؤية البيت

ش: أي هذا باب في بيان حكم رفع اليدين عند رؤية الكعبة، وقد علم أن البيت إذا أطلق مُعَرَّفًا باللام يكون المراد منه الكعبة.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا الفضل بن موسى، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر.

وعن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام قال:"ترفع الأيدي في سبعة مواطن: في افتتاح الصلاة، وعند البيت، وعند الصفا والمروة، وبعرفات، وبالمزدلفة، وعند الجمرتين".

حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا المحاربي، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

ش: هذان طريقان:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارضي الأعور نزيل مصر، فيه مقال، فعن النسائي: ضعيف، وعنه: ليس بثقة. وعن يحيى: ثقة. وقال العجلي: ثقة، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

عن الفضل بن موسى السيناني -بكسر السين المهملة- المروزي أحد أصحاب أبي حنيفة روى له الجماعة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، فيه لين، عن نافع وعن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بجرة مولى ابن عباس، والصحيح أنه مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، روى له الجماعة سوى مسلم.

وأخرجه الحكم ثَمَّ البيهقي (1): من حديث ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 72 رقم 8992).

ص: 348

وعن نافع، عن ابن عمر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترفع الأيدي في سبع مواطن: عند افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، والجمرتين".

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني أبي زكريا الكوفي وثقه ابن معين، عن المحاربي وهو عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي شيخ أحمد روى له الجماعة عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أبو كريب محمد بن العلاء، نا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس.

وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"ترفع الأيدي في سبع مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال القبلة، والصفا والمروة، والموقفين، وعند الحجر"، وقد مر الكلام فيه مستوى في باب التكبير للركوع، والسجود، والرفع من الركوع.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: وكان هذا الحديث مأخوذًا به، لا نعلم أحدًا خالف شيئًا منه غير رفع اليدين عند البيت، فإن قومًا ذهبوا إلى ذلك، واحتجوا بهذا الحديث.

ش: أراد أن هذا الحديث قد عمل بما في جميعه أهل العلم، ولم يخالف أحد في ذلك غير رفع اليدين عند رؤية البيت، فإنهم اختلفوا فيه، فذهب قوم إلى أنه يستحب ذلك، واحتجوا فيه بالحديث المذكور، وأراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس وخيثمة وسعيد بن جبير وأصحاب عبد الله بن مسعود؛ فإنهم قالوا: يرفع الحاج يديه عند البيت.

وقال ابن أبي شيبة (1): نا أبو خالد، عن (شعبة)(2) عن الحكم، قال: "كان

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 436 رقم 15750).

(2)

كذا في "الأصل، ك"، وفي "مصنف ابن أبي شيبة":"أشعث" وهو تحريف.

ص: 349

أصحاب عبد الله يقولون: ترفع الأيدي في ثمانية مواطن: عند البيت، وعلى الصفا والمروة، وبعرفة، وبالمزدلفة، وعند الجمرتين".

ثنا (1) أبو خالد، عن حجاج، عن طلحة، عن إبراهيم وخيثمة، قالا:"ترفع الأيدي في الصلاة، وعند البيت، وعلى الصفا والمروة، وبالمزدلفة".

وهو قول الشافعي أيضًا، وقال (2): أبنا سعيد، عن ابن جريج:"أن النبي عليه السلام كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وكرمه ممن حجَّه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبرًا". ذكره البيهقي.

قلت: هذا معضل، وقال البيهقي (3): وله شاهد مرسل، ثم أخرج عن الثوري عن أبي سعيد الشامي، عن مكحول، قال: "كان النبي عليه السلام إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام؛ فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفًا

" إلى آخر ما ذكره.

قلت: قال الذهبي: هذا منقطع، وأبو سعيد هذا لا يعرف، ولعله ذاك المصلوب.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا رفع اليدين عند رؤية البيت.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وعطاء وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وأحمد، فإنهم كرهوا رفع اليدين عند رؤية البيت.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي قزعة الباهلي، عن المهاجر، عن جابر بن

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 436 رقم 15751).

(2)

"مسند الشافعي"(1/ 125).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 73 رقم 8995).

ص: 350

عبد الله: "أنه سُئل عن رفع الأيدي عند البيت، فقال: ذلك شيء يفعله اليهود، قد حججنا مع رسول الله عليه السلام فلم يفعل ذلك".

فهذا جابر رضي الله عنه يخبر أن ذلك ليس من فعل أهل الإِسلام، وأنهم قد حجوا مع رسول الله عليه السلام فلم يفعل ذلك، فإن كان هذا الباب يوجد من طريق معاني الآثار، فإن جابرًا قد أخبر أن ذلك من فعل اليهود، فقد يجوز أن يكون رسول الله عليه السلام أمر به على الاقتداء منه بهم، إذ كان حكمه أن يكون على شريعتهم لأنهم أهل كتاب حتى يُحْدِث الله عز وجل له شريعة تنسخ شريعتهم، ثم حج رسول الله عليه السلام فخالفهم فلم يرفع يديه، إذ أُمِرَ بمخالفتهم.

فحديث جابر أولى؛ لأن فيه (تصحيح)(1) النسخ لحديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.

وإن كان يوجد من طريق النظر فإنا قد رأينا الرفع المذكور في هذا الحديث على ضربين، فمنه رفع لتكبير الصلاة، ومنه رفع للدعاء، فأما ما للصلاة فرفع اليدين عند افتتاح الصلاة، وأما ما للدعاء فرفع اليدين عند الصفا والمروة وبجمع وعرفة وعند الجمرتين، فهذا متفق عليه، وقد روي عن رسول الله عليه السلام أيضًا [في](2) رفع اليدين بعرفة، ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن بشر بن حرب، عن أبي سعيد الخدرى:"أن رسول الله عليه السلام كان يدعو بعرفة، وكان يرفع يديه نحو ثندوته".

فأردنا أن ننظر في رفع اليدين عند رؤية البيت هل هو كذلك أم لا؟ فرأينا الذين ذهبوا إلى ذلك ذهبوا أنه لا لعلة الإِحرام ولكن لتعظيم البيت، وقد رأينا الرفع بعرفة والمزدلفة وعند الجمرتين وعلى الصفا والمروة إنما أمر بذلك من طريق الدعاء في الموطن الذي جعل ذلك الوقوف فيه لعلة الإِحرام، وقد رأينا من صار إلى عرفة أو

(1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار":"مع تصحيح هذين الحديثين".

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"، وهي مذكورة في الشرح.

ص: 351

مزدلفة أو موضع رمي الجمار أو الصفا والمروة وهو غير محرم أنه لا يرفع يديه لتعظيم شيء من ذلك، فلما ثبت أن رفع اليدين لا يؤمر به في هذه المواطن إلَّا لعلة الإِحرام، ولا يؤمر به في غير الإِحرام؛ كان كذلك لا يؤمر برفع اليدين لرؤية البيت في غير الإِحرام، فإذا ثبت أنه لا يؤمر بذلك في غير الإِحرام؛ ثبت أن لا يؤمر به أيضًا في الإِحرام.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث جابر رضي الله عنه.

أخرجه بإسناد صحيح، عن ابن مرزوق، عن وهب، عن شعبة، عن أبي قزعة سويد بن حجير بن بيان الباهلي روى له الجماعة سوى البخاري، عن المهاجر بن عكرمة المكي ذكره ابن حبان في الثقات، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا يحيى بن معين، أن محمد بن جعفر حدثهم، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا قزعة يحدث، عن المهاجر المكي، قال:"سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يري البيت أَوَ يرفع يديه؟ قال: ما كنت أرى أن أحدًا يفعل هذا إلَّا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله عليه السلام فلم يكن يفعله".

وأخرجه الترمذي (2): نا يوسف بن عدي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن أبي قزعة الباهلي، عن المهاجر المكي قال:"سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت، أيرفع يديه؟ قال: ما كنت أظن أحدًا يفعل هذا إلَّا اليهود؛ حججنا مع رسول الله عليه السلام فلم يفعله"(3).

(1)"سنن أبي داود"(2/ 175 رقم 1870).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 210 رقم 855).

(3)

كذا جاء لفظ الحديث في "الأصل، ك"، والذي في "جامع الترمذي":"سئل جابر بن عبد الله، أيرفع الرجل يديه إذا رأى البيت؟ فقال: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكنا نفعله". وشرح المباركفوري: "فكنا نفعله" في "تحفة الأحوزي" على أنه: "أفكنا نفعله" وبزيادة همزة في أوله، وقال: الهمزة فيه للإِنكار (3/ 501).

ص: 352

قوله: "فإن كان هذا الباب

إلى آخره" إشارة إلى بيان أن الأخذ والعمل بأحد الحديثين المتعارضين لا يخلو إما أن يكون من طريق إسناد أحدهما، أو من طريق معاني الآثار، أو من طريق النظر والقياس، فإن كان الأول، فالأخذ بحديث جابر أولى؛ لأن إسناده أحسن من إسناد الحديث الأول؛ لأن في إسناد الحديث الأول من يتكلم فيه على ما ذكرناه.

فإن قيل: حديث جابر أيضًا ضعيف، وذكر الخطابي أن سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ضعفوا حديث جابر هذا؛ لأن مهاجرًا راويه عندهم مجهول، وقال البيهقي: حديث ابن عباس وابن عمر مع إرساله أشهر عند أهل العلم، وله شواهد مرسلة، والقول قول من رأى وأثبت.

إن كان تضعيفهم إياه لأجل مهاجر المكي فقد قلنا: إن ابن حبان وثقه، واحتج به أبو داود والترمذي والنسائي، ولم يتعرض أحد منهم حين خرَّج هذا الحديث إلى تضعيفه بسبب مهاجر، وسكوتهم عن ذلك دليل على رضاهم بالحديث لا سيما من عادة أبي داود أنه إذا سكت عن حديث خرجه يدل على صحته عنده وأدنى الأمر أنه يدل على حسنه (1)، وقول البيهقي:"مع إرساله أشهر" غير مسلم؛ لأن المرسل لا يلحق الحديث المسند، وقوله:"والقول قول من رأى وأثبت" غير مسلم أيضًا؛ فإن القول إنما يكون قول من رأى وأثبت إذا لم يكن ثمة ناسخ لذلك، وها هنا النسخ موجود على ما نذكره الآن.

(1) في هذا نظر لا يخفى، ومحله كتب مصطلح الحديث، وغاية ما فيه أن أبو داود قال عن أحاديث كتابه:"ما فيه ضعف شديد بينته، وما سكتُّ عنه فهو صالح".

ومفهوم هذا الكلام أن ما كان من الأحاديث فيه ضعف ليس شديد فإنه يسكت عنه أيضًا، ومع هذا لم يوف رحمه الله بهذا الشرط فقد سكت عن أحاديث كثيرة فيها ضعف شديد كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة لعلم الحديث. وراجع كلام الحافظ ابن حجر في كتابه النفيس "النكت على ابن الصلاح".

ص: 353

وإن كان من طريق معاني الآثار فإن جابرًا قد أخبر أن ذلك من فعل اليهود، وهو يدل على النسخ، وذلك أن النبي عليه السلام كان أمر به حين كان حكمه أن يكون على شريعتهم؛ لأنهم أهل كتاب إلى أن يحدث الله عز وجل شريعة تنسخ شريعتهم، ثم إنه عليه السلام لمَّا حجَّ خالفهم فلم يرفع يديه، لأنه أُمِرَ بمخالفتهم في ذلك، فحينئذٍ يكون حديث جابر أولى لما فيه تصحيح النسخ لحديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.

وإن كان يوجد من طريق النظر والقياس فإن الرفع المذكور في ذاك الحديث على ضربين:

أحدهما: رفع لتكبير الصلاة عند الافتتاح.

والآخر: رفع للدعاء عند الصفا والمروة وبجمع -وهو المزدلفة- وعرفة وعند الجمرتين، ثم ينظر في رفع اليدين عند رؤية البيت هل هو كذلك أم لا؟ فوجدنا القوم الذين استحبوا ذلك قد استحبوا لتعظيم البيت لا لأجل الإِحرام، ووجدنا الرفع في تلك المواضع إنما أمر به من طريق الدعاء لأجل وجود الإِحرام، حتى إنه لو كان غير محرم لا يرفع يديه لتعظيم شيء من ذلك، ولما ثبت أن رفع اليدين لا يؤمر به في هذه المواضع إلَّا لأهل الإِحرام، ولا يؤمر به في غير الإِحرام، فالنظر على ذلك أن لا يؤمر به لرؤية البيت في غير الإِحرام، فإذا ثبت عدم الأمر في غير الإِحرام ثبت عدمه أيضًا في الإِحرام.

قوله: "وقد روي عن رسول الله عليه السلام أيضًا في رفع اليدين بعرفه .. إلى آخره". ذكره تأييدًا لما قاله من أن استحباب رفع اليدين في المواطن المذكورة إنما هو لأجل الإِحرام، وأخرجه عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن بشر بن حرب الندبي الأزدي أبي عمرو البصري، فيه مقال، فعن أحمد: ليس هو قويًّا في الحديث، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: شيخ ضعيف. روى له الترمذي وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 354

وأخرجه أحمد في "مسند"(1): ثنا روح، قال: أنا حماد، عن بشر بن حرب، عن أبي سعيد الخدري قال:"كان رسول الله عليه السلام واقفًا بعرفة يدعو هكذا، ورفع يديه حيال ثندويه، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض".

قوله: "ثندويه" الثندوة للرجل كالثدي للمرأة فمن ضم الثاء همز، ومن فتحها لم يهمز، قاله ابن الأثير: قال الجوهري: قال ثعلب: الثندوة بفتح أولها غير مهموزة مثال الترقوة، على وزن فُعْلوة، وهي مغرز الثدي، فإذا ضممت همزت وهي فعللة.

وقال أبو عُبيدة: وكان رؤبة يهمز الثندوة وسية القوس والعرب لا تهمز واحدًا منهما.

وأستفيد منه سنيَّة رفع اليدين حيال الثديين عند الدعاء يوم عرفة بعرفة.

وروى البيهقي في "سننه"(2): من حديث عبد المجيد بن أبي رواد، ثنا ابن جريج، عن حسين بن عبد الله الهاشمي، عن عكرمة، عن ابن عباس:"رأيت رسول الله عليه السلام يدعو بعرفة يداه إلى صدره كاستطعام المسكين".

قال الذهبي: حُسَيْن ليس بمعتمد.

ص: وحجة أخرى؛ أَنَّا قد رأينا ما يؤمر برفع اليدين عنده في الإِحرام ما كان مأمورًا بالوقوف عنده من المواطن التي ذكرنا، وقد رأينا جمرة العقبة جمرة كغيرها من الجمار غير أنه لا يوقف عندها، فلم يكن هناك رفع، فالنظر على ذلك أن يكون البيت لما لم يكن عنده وقوف أن لا يكون عنده رفع؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من ذلك، وهذا الذي ثبتناه بالنظر هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي دليل آخر من وجه النظر والقياس، وهو أن الذي أُمِرَ برفع اليدين عنده في الإِحرام، هو الذي كان مأمورًا بالوقوف عنده من المواطن المذكورة، ولما كانت

(1)"مسند أحمد"(3/ 13 رقم 11108).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 117 رقم 9257).

ص: 355

جمرة العقبة لا يوقف عندها، فلم يكن هناك رفع بوجه النظر، والقياس على ذلك ألَّا يكون عند رؤية البيت رفع أيضًا؛ لأنه لم يكن عنده وقوف.

ص: وقد روي في ذلك عن إبراهيم النخعي، حدثنا سليمان بن شعيب بن سليمان، عن أبيه، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن طلحة بن مصرف، عن إبراهيم النخعي قال:"ترفع الأيدي في سبع مواطن: في افتتاح الصلاة، وفي التكبير للقنوت، وفي الوتر، وفي العيدين، وعند استلام الحجر، وعلى الصفا والمروة، وبجمع، وعرفات، وعند المقامين عند الجمرتين".

قال أبو يوسف: فأمَّا في افتتاح الصلاة وفي العيدين وفي الوتر وعند استلام الحجر فيجعل ظهر كفيه إلى وجهه، وأما في الثلاث الأخر فيستقبل بباطن كفيه وجهه.

فأما ما ذكرنا في افتتاح الصلاة فقد اتفق المسلمون على ذلك جميعًا.

وأما التكبيرة في القنوت وفي الوتر فإنها تكبيرة زائدة في تلك الصلاة، وقد أجمع الذين يقنتون قبل الركوع على الرفع معها، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك كل تكبيرة زائدة في كل صلاة، فتكبير العيدين الزائد فيها على سائر الصلوات كذلك أيضًا.

وأما عند استلام الحجر فإن ذلك يجعل تكبيرًا يفتتح به الطواف كما يفتتح بالتكبير للصلاة، وأمر به رسول الله عليه السلام أيضًا: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أبي يعفور العبدي قال:"سمعت أميرًا كان على مكة منصرف الحاج سنة ثلاث وسبعين يقول: كان عمر رضي الله عنه رجلاً قويًّا، وكان يزاحم على الركن، فقال له النبي عليه السلام: يا أبا حفص، أنت رجل قوي وإنك تزاحم على الركن فتؤذي الضعيف، فإذا رأيت خلوة فاستلمه وإلَّا فكبِّر وامضِ".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي يعفور، عن رجل من خزاعة، وكان الحجاج استعمله على مكة .. ثم ذكر مثله.

ص: 356

فلما جعل ذلك التكبير يفتتح به الطواف كالتكبير الذي جعل يفتتح به الصلاة؛ أمرنا بالرفع فيه كما نؤمر بالرفع في التكبير لافتتاح الصلاة، ولا سيما إذ قد جعل النبي عليه السلام الطواف بالبيت صلاة:

حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا أسيد (ح).

وثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قالا: ثنا الفضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام قال:"الطواف بالبيت صلاة إلَّا أن الله -تعالى- قد أحلَّ لكم المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلَّا بخير".

فهذه العلة هي التي لها وجب الرفع فيما زاد على ما في الحديث الأول.

وأما الرفع على الصفا والمروة وبجمع وعرفات وعند المقامين وعند الجمرتين؛ فإن ذلك قد جاء منصوصًا في الخبر الأول.

وهذا الذي وصفنا من هذه المعاني التي ثبتناها قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي قد روي في رفع اليدين فيما ذكر من المواضع: عن إبراهيم النخعي، ما حدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه شعيب بن سليمان بن سليم بن كيسان أحد أصحاب أبي يوسف، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي، عن الإِمام أبي حنيفة الكوفي، عن طلحة بن مصرف بن عمرو الكوفي روى له الجماعة، عن إبراهيم.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو خالد، عن حجاج، عن طلحة، عن إبراهيم وخيثمة قالا:"ترفع الأيدي في الصلاة، وعند البيت، وعلى الصفا والمروة، وبالمزدلفة".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 436 رقم 15751).

ص: 357

قوله: "قال أبو يوسف

إلى آخره" ظاهر، وهو من إملاء أبي يوسف، نقله عنه أصحابه، ونقل عنهم الطحاوي رحمه الله.

قوله: "فأما ما ذكرنا في افتتاح الصلاة

إلى آخره" من كلام الطحاوي.

قوله: "فإن ذلك يجعل تكبيرًا" أي فإن رفع اليدين عند استلام الحجر يجعل كالتكبير له لافتتاح الطواف، كما تفتتح بالتكبير الصلاة، فكما ترفع الأيدي في التكبير لافتتاح الصلاة، فكذلك ترفع عند الاستلام لافتتاح الطواف، ولا سيما وقد شبه النبي عليه السلام الطواف بالبيت بالصلاة، حيث قال:"الطواف بالييت صلاة"(1) معناه: كالصلاة؛ لأنه ليس بصلاة حقيقة، إذ الصلاة عبارة عن الأقوال والأفعال المعهودة فإن قيل: إذا كان الطواف بالبيت صلاة؛ ينبغي أن لا يجوز إلَّا بالطهارة كما ذهب إليه الشافعي.

قلت: هذا تشبيه، والتشبيه لا عموم له، فالله -تعالى- أمر بالطواف مطلقًا عن شرط الطهارة، فلا يجوز تقييده بخبر الواحد، فيحمل على التشبيه إما في الثواب، أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة.

أو نقول: الطواف يشبه الصلاة وليس بصلاة حقيقة، فمن حيث إنه ليس بصلاة حقيقة لا يفترض له الطهارة، ومن حيث إنه يشبه الصلاة تجب له الطهارة؛ عملًا بالدليلين بالقدر الممكن.

قوله: "وأمر به رسول الله عليه السلام" أي أمر بالتكبير عند استلام الحجر لافتتاح الطواف، فلما أمر به لذلك؛ أمرنا برفع اليدين فيه كما أمرنا به في التكبير لافتتاح الصلاة، ثم بيَّن ذلك بقوله:"حدثنا يونس .. إلى آخره".

(1) أخرجه النسائي في "المجتبى"(5/ 222 رقم 2922)، والحاكم في "مستدركه" (1/ 630 رقم 1686) وهو عند الترمذي بلفظ آخره (3/ 293 رقم 960) ولفظه: "الطواف حول البيت مثل الصلاة

" إلخ.

ص: 358

وأخرجه من طريقين:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن سفيان بن عيينة، عن أبي يعفور العبدي واسمه: واقد ولقبه وقدان، روى له الجماعة، عن رجل من خزاعة -وكان الحجاج بن يوسف الثقفي استعمله على مكة- قال سفيان بن عيينة: هو عبد الرحمن بن الحارث، وكان استعمال الحجاج إياه على مكة سنة ثلاث وسبعين، وهي السنة التي قتل فيها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي يعفور

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث أبي عوانة، عن أبي يعفور، عن شيخ من خزاعة استخلفه الحجاج على مكة قال:"إن عمر كان رجلاً شديدًا، وكان يزاحم عند الركن، فقال له رسول الله عليه السلام: يا عمر، لا تزاحم عند الركن؛ فإنك تؤذي الضعيف، فإن رأيت خلوةً فاستلمه، وإلَّا فاستقبله وكبِّر وامض" ثم قال: ورواه ابن عيينة، عن أبي يعفور، عن الخزاعي، ثم قال ابن عيينة: هو عبد الرحمن ابن الحارث.

قوله: "ولا سيما إذ قد جعل النبي عليه السلام

إلى آخره" "لا سيما" بمعنى خصوصًا، و"إذْ" للتعليل، وأراد بهذا تأكيد ما قاله من أن التكبير عند استلام الحجر لافتتاح الطواف كما أن التكبير في أول الصلاة لافتتاح الصلاة، وكما أنه ترفع اليدان في التكبير لافتتاح الصلاة، فكذلك ترفعان في التكبير لافتتاح الطواف، خصوصًا الطواف بالبيت صلاة، لقوله عليه السلام: "الطواف بالبيت صلاة".

وأخرجه عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريقين صحيحين:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن الفضيل بن عياض الزاهد المشهور، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 80 رقم 9044).

ص: 359

وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): ثنا الحميدي، نا فضيل بن عياض، عن عطاء ابن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "الطواف بالبيت صلاة، إلَّا أن الله أحلَّ فيه المنطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلَّا بخير".

الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن الفضيل ابن عياض، عن عطاء بن السائب

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2) من حديث ابن عيينة وفضيل وموسى بن أعين وجرير، عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس رفعه:"الطواف بالبيت مثل الصلاة إلَّا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلَّا بخير"، وفي لفظ موسى:"الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحلَّ لكم المنطق". ووقفه ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة، وهو أصح.

وأخرجه النسائي (3) أيضًا: أنا يوسف بن سعد، قال: نا حجاج، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن رجل أدرك النبي عليه السلام قال:"الطواف بالبيت صلاة، فأقلوا من الكلام" انتهى.

وقد ذكرنا معنى قوله عليه السلام: "الطواف بالبيت صلاة".

قوله: "فهذه العلة هي التي لها وجب الرفع" أي وجب رفع اليدين عند استلام الحجر لأجل هذه العلة، وهي كون الطواف بالبيت صلاة، زيادة على ما في الحديث الأول وهو المذكور في أول الباب؛ لأنه ليس فيه ذكر رفع اليدين عند استلام الحجر، وإنما فيه رفعهما عند رؤية البيت.

قوله: "وأما الرفع على الصفا

إلى آخره" عطف على قوله: "فأما ما ذكرنا في افتتاح الصلاة".

(1)"سنن الدارمي"(2/ 66 رقم 1847).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 87 رقم 9085).

(3)

"المجتبى"(5/ 222 رقم 2922).

ص: 360