المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الصيد يذبحه الحلال هل للمحرم أن يأكل منه أم لا - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٩

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الصيد يذبحه الحلال هل للمحرم أن يأكل منه أم لا

‌ص: باب: الصيد يذبحه الحلال هل للمحرم أن يأكل منه أم لا

؟

ش: أي هذا باب في بيان حكم الصيد الذي يذبحه الحلال، هل يجوز للمحرم أن يأكل منه أم لا يجوز؟

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح).

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل:"أن عثمان بن عفان رضي الله عنه نزل قديدًا، فأتى بالحجل في الجفان شائلة بأرجلها، فأرسل إلى علي رضي الله عنه وهو يضفز بعيرًا له، فجاءه والخبط يتحات من يديه فأمسك علي رضي الله عنه وأمسك الناس، فقال علي رضي الله عنه: من ها هنا من أشجع؟ هل علمتم من رسول الله عليه السلام جاءه أعرابي ببيضات نعام وتتمير وحش، فقال: أطمعهن أهلك، فأنا حرم، قالوا نعم".

ش: هذان طريقان:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، أسد السنة، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان البصري المكفوف، فيه مقال فعن أحمد ليس بالقوي، وعن يحيى ضعيف، وعنه ليس بحجة، وقال العجلي: كان يتشيع لا بأس به. وقال الترمذي: صدوق إلَّا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره، روى له مسلم مقرونًا بنائب القناني واحتج به الأربعة.

عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي روى له الجماعة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عفان، نا حماد بن سلمة، أنا علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل: "أن عثمان نزل قديدًا، فأتى بالحجل

" إلى آخره

(1)"مسند أحمد"(1/ 103 رقم 814).

ص: 303

نحو رواية الطحاوي غير أن بعد قوله: قالوا بلى فتورك عثمان عن سريره ونزل، فقال: خبثت علينا".

وأخرجه عبد الله بن أحمد (1): حدثني هدبة، عن خالد، نا همام نا علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث:"أن أباه ولى طعام عثمان، قال: فكأني أنظر إلى الحجل حوالي الجفان، فجاء رجل فقال إن عليًّا رضي الله عنه يكره هذا، فبعث إلى علي وهو ملطخ بدنه بالحبط، فقال: إنك لكثير الخلاف علينا، فقال علي: أذكر الله من شهد النبي عليه السلام أُتي بعجز حمار وحش وهو محرم، فقال: إنا محرمون فأطعموه أهل الحل؟ فقام رجال فشهدوا، ثم قال: أذكر الله رجلاً شهد النبي عليه السلام أُتي بخمس بيضات -بيض نعام- فقال: إنا محرمون فأطمعوه أهل الحل؟ فقام رجال فشهدوا، فقام عثمان رضي الله عنه فدخل فسطاطه وتركوا الطعام على أهل الماء".

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (2): نا محمد بن كثير، قال: نا سليمان بن كثير، عن حميد الطويل، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه قال: وكان الحارث خليفة عثمان رضي الله عنه على الطائف، فصنع لعثمان طعامًا وصنع فيه من الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش، قال: فبعث إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجاءه الرسول وهو يخبط لأباعر له، فجاء وهو ينفض الخبط عن يده، فقالوا له: كل، قال: أطعموا قومًا حلالاً فأنا محرم، قال علي: أنشد من كان ها هنا من أشجع، أتشهدون أن رسول الله عليه السلام أهدى إليه رِجْل حمارٍ وحشي وهو محرم فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم".

قوله: "نزل قديدا" هو اسم موضع قد ذكرناه.

(1)"زوائد مسند أحمد"(1/ 100 رقم 784).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 170 رقم 1849).

ص: 304

قوله: "بالحجل" بفتح الحاء والجيم وهو [القَبَج](1) الطائر المعروف، واحده حجلة.

"والجفان" جمع "جفنة" وهي القصعة.

قوله: "شائلة" نصب على الحال من الحجل.

قوله: "وهو يضفز بعيرًا له" بالضاد والزاي المعجمتين بينهما فاء، يقال: ضفزت البعير إذا علفته الضفائز، وهي اللقم الكبار، واحدتها ضفيزة، والضفيز شعير يجرش وتعلفه الإِبل.

قوله: "والخبط يتحات من يديه" جملة اسمية وقعت حالاً من الضمير المرفوع في "فجاءه" والخبط بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة، على وزن فَعَلْ بالتحريك بمعنى مفعول، وهو الورق الساقط من الشجر، وهو من علف الإِبل، والخَبْط بالتسكين ضرب الشجرة بالعصي ليتناثر ورقها، والمخبط بكسر الميم العصي الذي يخبط به الشجرة، ومعنى يتحات: يتساقط ويتناثر.

قوله: "من أشجع" بسكون الشين المعجمة وفتح الجيم بعدها عين مهملة، هو أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس [بن](2) غيلان بن مضر، بطن وقيل: قبيلة، والأول أظهر.

قوله: "وتتمير وحش" التتمير قطع اللحم صغارًا كالتمر وتجفيفه وتنشيفه، وأراد به ما قدَّد من لحوم الوحش.

قوله: "فأنا حُرُم" بضمتين، جمع حرام.

و"اليعاقيب" جمع يعقوب وهو الذكر.

يستفاد منه: جواز أكل لحم الحجل، ولحم الحمر الوحش، والنعام وبيضها.

(1) القَبَجْ: ذكور اليعاقيب، والحَجَل أنثاها، انظر "الغريب" لابن قتيبة (2/ 255).

(2)

ليست في "الأصل، ك".

ص: 305

وفيه دلالة على فضيلة علي بن أبي طالب وغزارة علمه، وغاية مسكنته وتواضعه.

وفيه أن الإِمام إذا أشكل عليه أمر سعي له، بل يجب عليه أن يسأل أهل العلم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا يحل للمحرم أن يكل لحم صيد قد ذبحه حلال؛ لأن الصيد نفسه حرام عليه، فلحمته أيضًا حرام عليه.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي وطاوسًا ومجاهدًا وجابر بن زيد أبا الشعباء والثوري والليث بن سعد ومالكًا في رواية وإسحاق في رواية فإنهم قالوا: لا يحل للمحرم أن يأكل لحم صيد قد ذبحه حلال بوجه من الوجوه، وروي ذلك عن علي (1) وابن عمر (2) وابن عباس (3) رضي الله عنهم سواء صِيدَ من أجله أو لم يُصَد؛ لعموم قوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (4) قال ابن عباس (5): هي مبهمة.

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن عمران، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن ابن عباس، عن علي رضي الله عنهم:"أن النبي عليه السلام أتى بلحم صيد وهم محرم فلم يأكله".

ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا بحديث علي رضي الله عنه أخرجه عن فهد بن سليمان، عن محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي شيخ البخاري في غير الصحيح، قال أبو حاتم: كوفي صدوق، عن أبيه

(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 308 رقم 14479).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 308 رقم 14483).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 308 رقم 14472).

(4)

سورة المائدة، آية:[96].

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 308 رقم 14478).

ص: 306

عمران بن محمد، وثقه ابن حبان، وقال الأزدي: ليس بذاك، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، فيه لين، وقال أبو حاتم: كان محله الصدق، روى له الأربعة، عن عبد الكريم بن مالك الجزري أبي سعيد الحراني روى له الجماعة، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل روى له الجماعة.

وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1): ثنا عثمان بن عمران بن محمد بن أبي ليلى، عن أبيه، عن عبد الكريم

إلى آخره نحوه سواء.

قلت: أخرج البزار في "مسنده"(2) عن علي بهذا الإِسناد ما يخالف هذه الرواية، فقال: ثنا محمود بن بكر بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبي، قال: نا عيسى بن المختار، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام رخص في لحم الصيد للمحرم". ثم قال: وهذا الحديث لا نعلم رواه إلَّا عبد الكريم، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي رضي الله عنه، ورواه عنه محمد بن أبي ليلى، ورواه عن محمد: عمران بن أبي ليلى وعيسى بن المختار.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن قيس بن مسلم الجدلي، عن الحسن بن محمد بن علي، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام أهُدي إليه وشيقة ظبي وهو محرم فرده". وقال يونس: سمعته كله عن سفيان غير قوله: "وشيقة" فإني لم أفهم ذلك منه، وحدثنيه بعض أصحابنا عنه.

ش: يونس هو ابن عبد الأعلى، وسفيان هو ابن عيينة، وعبد الكريم هو ابن مالك الجزري، وقيس بن مسلم الجدلي العدواني الكوفي روى له الجماعة، والحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية وروى له الجماعة.

(1)"مسند أبي يعلى"(1/ 341 رقم 433).

(2)

"مسند البزار"(2/ 103 رقم 454).

ص: 307

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الرزاق، نا الثوري، عن قيس بن مسلم، عن حسن بن محمد، عن عائشة قالت:"أهُدي لرسول الله عليه السلام وشيقة ظبي وهو محرم فلم يأكله".

وأخرجه أبو قرة في "سننه": من حديث ابن جريج، أخبرني عبد الكريم، عن قيس بن مسلم، عن حسن بن محمد بن علي، قال: قالت عائشة: "أهديت للنبي عليه السلام ظبية فيها وشيقة صيد وهو حرام فأبى أن يأكله".

قوله: "وشيقة ظبي" الوشيقة أن يؤخذ اللحم فيغلى قليلاً ولا ينضج ويحمل في الأسفار، وقيل: هي القديد، وقد وشقت اللحم أشِقْه وشقًا واتشقت مثله، ويجمع على وشيق ووشائق.

قوله: "ظبية فيها وشيقة صيد" جراب صغير عليه شعر، وقيل: هي شبه الخريطة والكيس، وجاء في حديث آخر:"أهدى إلى النبي عليه السلام ظبية فيها خرز فأعطى الآهل منها والعزب"(2).

ص: وليس في هذا الحديث ذكر علة رده لحم الصيد ما هي؟ فقد يحتمل أن يكون ذلك لعلة الإِحرام، ويحتمل أن يكون لغير ذلك، فلا دلالة في هذا الجانب لأحد.

ش: أراد بهذا الكلام أن الأحاديث المذكورة لا تصلح أن تكون حجة لأهل تلك المقالة، لأنه لم يبين فيها علة الرد ماذا كانت؟ فقد يحتمل أن تكون العلة هي كونه محرمًا، ويحتمل أن تكون غير ذلك، فلا يتم به الاستدلال، ولقائل أن يقول: هذا يتمشى من حديث علي وعائشة لوجود الاحتمالين المذكورين فيه؟ وأما الحديث الأول الذي كانت الهدية فيه لعثمان رضي الله عنه فإن علة الرد فيه ظاهرة وهي قوله: "فأنا محرم" فافهم.

(1)"مسند أحمد"(6/ 225 رقم 15924).

(2)

كذا في "النهاية" لابن الأثير، والحديث أخرجه أبو داود في "سننه"(3/ 136 رقم 2952)، وأحمد في "مسنده" (6/ 159 رقم 25300) وغيرهم من حديث عائشة قالت:"أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بظبية فيها خرز فقسم للحرة والأمة".

ص: 308

ص: وقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها من رأيها في الصيد يصيده الحلال فيذبحه، أنه لا بأس بأكله للمحرم.

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، قال: حدثني شيخ كخير الشيوخ يقال له: عبيد الله بن عمران القريعي، قال: سمعت عبد الله بن شماس يقول: "أتيت عائشة رضي الله عنها فسألتها عن لحم الصيد يصيده الحلال ثم يهديه للمحرم. فقال: اختلف فيها أصحاب رسول الله عليه السلام فمنهم من حرم، ومنهم من أحله، وما أرى بشيء منه بأسًا".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عمران بن عبيد الله -أو عبيد الله بن عمران- رجل من بني تميم، عن عبيد الله بن شماس، عن عائشة

مثله.

فهذه عائشة لم يكن رد النبي عليه السلام لحم الصيد على الحلال عندها على ما قد دلها على حرمته على المحرم.

ش: أخرج هذا عن عائشة من طريقين شاهدًا لما قاله في الاحتمال المذكور من حديث عائشة الذي رواه عنها الحسن بن محمد بن علي رضي الله عنهم وذلك لأنها قالت: وما أرى بشيء منه بأسًا، فقولها هذا يدل على أن رد النبي عليه السلام لحم الصيد على الحلال لم يكن لأجل حرمته على المحرم وهو معنى.

قوله: "فهذه عائشة

إلى آخره" وهي جملة من المبتدأ والخبر.

وقوله: "رد النبي عليه السلام" اسم لم يكن.

وقوله: "على ما قد دلها" خبره، والضمير المنصوب في "دلها" يرجع إلى عائشة فافهم.

الطريق الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث التميمي البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن عبيد الله بن عمران القريعي، وثقه بن حبان، وقال أبو حاتم: شيخ. ونسبته إلى قريع -بضم القاف- بطن

ص: 309

من بني تميم، عن عبد الله بن شماس ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه وقال: لم يرو عنه غير عبيد الله بن عمران القريعي وسكت عنه، وفي "التكميل": عبيد الله بن شماس، عن عائشة، وعنه عبيد الله بن عمران القريعي مجهولان.

الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمران بن عبيد الله -أو عبيد الله بن عمران- رجل من بني تميم هو القريعي المذكور.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث شعبة، عن عبيد الله بن عمران، عن عبد الله بن شماس، قال:"أتيت عائشة رضي الله عنها فسألتها عن لحم الصيد يهديه الحلال للحرام؟ فقالت: اختلف فيها أصحاب رسول الله عليه السلام فكرهه بعضهم، وليس به بأس" انتهى.

قوله: "فقالت: اختلف فيها أصحاب رسول الله عليه السلام" وذلك لأن علي بن أبي طالب وابن عباس قد ذهبا إلى التحريم مطلقًا، وخالفهما عمر وعثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم.

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال لزيد بن أرقم:"حدثتني أن رسول الله عليه السلام أُهدي له عضو صيد وهو محرم فلم يقبله".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، قال: لما قدم زيد بن أرقم أتاه ابن عباس فقال: أهدى رجل إلى النبي عليه السلام لحم صيد فرده، وقال: إني حرام".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قيس عن عطاء:"أن ابن عباس قال لزيد بن أرقم: هل علمت أن النبي عليه السلام أهُدي له عضو صيد وهو محرم فلم يقبله؟ قال: نعم".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 194 رقم 9721).

ص: 310

فهذا أيضًا مثل حديث علي عن النبي عليه السلام، وفيه أن رسول الله عليه السلام إنما رد ذلك العضو الذي أهداه إليه لأنه حرام.

ش: أي احتج أولئك القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس عن زيد بن أرقم، وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن الحجاج بن محمد المصيصي الأعور، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن الحسن بن مسلم بن يناق المكي، عن طاوس عن عبد الله بن عباس.

وأخرجه مسلم (1): حدثني زهير بن حرب، قال نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"قدم زيد بن أرقم فقال له عبد الله بن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أُهدي لرسول الله عليه السلام وهو حرام؟ قال: قال: أهدي له عضو من لحم صيد فرده فقال: إنا لا نأكله إنا حرم".

الثاني: عن ابن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك ابن جريج

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (2): أنا عمرو بن علي، عن يحيى وأبي عاصم، كلاهما عن ابن جريج

إلى آخره نحوه.

الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن ابن عباس.

وأخرجه أبو داود (3): نا أبو سلمة، ثنا حماد، عن قيس، عن عطاء عن ابن عباس أنه قال يا زيد بن أرقم هل علمت أن النبي عليه السلام أُهدي إليه عضو صيد فلم يقبله وقال أنا حرم: قال نعم.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 851 رقم 1195).

(2)

"المجتبى"(5/ 184 رقم 2821).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 170 رقم 1850).

ص: 311

وأخرجه النسائي (1) أيضًا: عن أحمد بن سليمان، عن عفان، عن حماد بن سلمة

إلى آخره نحوه.

قوله: "فهذا أيضًا مثل حديث علي" أي هذا الحديث مثل حديث علي بن أبي طالب عن النبي عليه السلام المذكور في أول الباب، حيث ذكر في كل واحد منهما ما يدل على الرد، ففي حديث علي قوله:"فأنا حرم"، وفي حديث ابن عباس عن زيد بن أرقم:"إني حرام".

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جثامة قال:"مرّ بي رسول الله عليه السلام وأنا بالإِبواء أو بودان فأهديتُ [له] (2) لحم حمار وحشي فرده عليَّ، فلما رأى الكراهة في وجهي قال: ليس بنا رد عليك ولكنا حرم".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا المسعودي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري

فذكر بإسناده مثله.

ش: أي واحتج أولئك القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث الصعب بن جثامة، وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى

إلي آخره، والكل رجال الصحيح.

وأخرجه ابن ماجه (3): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار، قالا: ثنا سفيان بن عُيينة.

وثنا محمد بن رمح، أنا الليث بن سعد، جميعًا عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: أنبأنا الصعب بن جثامة قال: "مر بي رسول الله عليه السلام وأنا بالأبواء أو بودان

" إلى آخره نحوه سواء.

(1)"المجتبى"(5/ 184 رقم 2821).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1032 رقم 3090).

ص: 312

الثاني: عن سليمان بن شعيب بن الكيساني صاحب محمد بن الحسن الشيباني، عن أسد بن موسى، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن إسحاق بن راشد الجزري ويقال: الرقي الأموي، عن محمد ابن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه الأعمى المدني، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، عن عبد الله بن عباس.

وأخرجه الطبراني في "معجمه"(1): نا أحمد بن زهير التستري، نا علي بن شعيب السمسار ثنا أبو النضر، ثنا المسعودي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة قال:"أهديت لرسول الله عليه السلام حمار وحشي وهو محرم، فرده، فلما رأى الذي في وجهي قال: ليس بنا رد عليك، ولكنا حرم".

وهذا الحديث أخرجه الجماعة غير أبي داود (2).

قوله: "وأنا بالأبواء" جملة حالية، والأبواء بفتح الهمزة ممدود قرية من عمل الفرع بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً، وفي "المطالع" وسميت بذلك لما فيها من الوباء، ولو كان كما قيل: لقيل: الأوباء، أو يكونا مقلوبًا منه، وبه توفيت أم رسول الله عليه السلام، والصحيح أنه إنما سميت بذلك لتبوء السيول بها، قاله ثابت.

و"وَدَّان" بفتح الواو وتشديد لدال قرية جامعة من ناحية الفرع بينها وبين الأبواء ثمانية أميال ينسب إليها الصعب بن جثامة الليثي الوادني لأنه كان ينزلها، وكان هاجر إلى النبي عليه السلام ومات في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وفي "المطالع":"ودان"

(1)"المعجم الكبير"(8/ 84 رقم 7438).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(2/ 917 رقم 2456)، ومسلم في "صحيحه"(2/ 850 رقم 1193)، والترمذي في "جامعه"(3/ 206 رقم 849)، وابن ماجه في "سننه "(2/ 1032 رقم 3090).

ص: 313

قرية جامعة من عمل الفرع بينهما وبين هرشي نحو ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال، قريب من الجحفة.

وقوله: "ولكنا حرم" بضمتين جمع حرام.

ص: فقيل لهم: هذا حديث مضطرب قد رواه قوم على ما ذكرنا، ورواه آخرون فقالوا: إنما أُهدي إليه حمارًا وحشيًّا.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: "أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله عليه السلام حمارًا وحشيَّا

" ثم ذكر مثل حديثه عن سفيان.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن ابن شهاب

، فذكر بإسناده مثله.

حدثنا يونس، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن الزهري

، فذكر بإسناده مثله.

ففي هذه الأحاديث أن الهدية التي ردها رسول الله عليه السلام على الصعب من أجل أنه حرام كانت حمارًا وحشيًّا فإن كان ذلك كذلك فإن هذا لا يختلف أحد في حرمته على المحرم، غير أن سعيد بن جبير قد روى هذا الحديث عن ابن عباس فزاد فيه حرفًا على ما رواه عبيد الله بيَّن بذلك الحرف أن الحمار كان مذبوحًا.

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهذيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله عليه السلام حمارًا وحشيًّا، فرده، وكان مذبوحًا".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله عليه السلام حمارًا وحشيًّا يقطر دمًا، فرده عليه، وقال: إني حرام".

ص: 314

ففي هذا الحديث أن ذلك كان مذبوحًا، وقد رده رسول الله عليه السلام لأنه حرام، وقد رُوي أيضًا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان عجز حمار وحشي أو فخذ حمار.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر وهب عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس:"أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله عليه السلام عجز حمار وحشي وهو بقديد يقطر دمًا، فرده".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورًا، عن الحكم بن عتيبة

، فذكر بإسناده مثله غير أنه قال:"رجل حمار".

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم وحبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله عليه السلام-قال أحدهما عجز حمار وقال الآخر فخذ حمار- وحشي يقطر دمًا، فرده".

فقد اتفقت هذه الآثار المروية عن ابن عباس في حديث الصعب عن رسول الله عليه السلام في رده الهدية عليه أنها كانت في لحم صيد غير حي، فذلك حجة لمن كره للمحرم كل لحم الصيد وإن كان الذي تولى صيده وذبحه حلال.

ش: أي قيل لأولئك القوم الذين احتجوا في جملة ما احتجوا به من حديث الصعب بن جثامة: هذا حديث مضطرب لا يتم به الاستدلال، وقد بين اضطرابه من ثمانية طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري

إلى آخره. والكل رجال الصحيح.

ص: 315

وأخرجه البخاري (1): ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جثامة الليثي:"أنه أهدى لرسول الله عليه السلام حمارًا وحشيًّا وهو بالأبواء -أو بودان- فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلَّا أنا حرم".

وأخرجه مسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.

والنسائي (3): عن قتيبة بن سعيد، عن مالك.

قوله: "أهدى لرسول الله عليه السلام" الأصل في أهدي التعدي بإلى، وقد يتعدى باللام ويكون بمعناه، قيل: ويحتمل أن تكون اللام بمعنى أجل، وهو ضعيف.

قوله: "لم نردَّه عليك" قال القاضي: كذا رواية المحدثين في هذا الحرف بفتح الدال، ورده محققوا شيوخنا من أهل العربية، وقالوا:"لم نردُّه" بضم الدال، وكذا وجدته بخط بعض الأشياخ أيضًا وهو الصواب عندهم، على مذهب سيبويه في مثل هذا من المضاعف إذا دخله الهاء أن يضم ما قبلها في الأمر، ونحوه من المجزوم؛ مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء مكان ما قبلها ولي الواو، ولا يكون ما قبل الواو إلَّا مضمومًا، هذا في المذكر، وأما المؤنث مثل لم نردها وأختها مفتوح الواو إلَّا مضمومًا هذا في المذكر وأما المؤنث مثل لم نردها وأختها فمفتوح الدال مراعاة للألف، قلت: في مثل هذا الصيغة قيل: دخول الهاء عليها يجوز أربعة أوجه: الفتح لأنه أخف الحركات، والضم اتباعًا لضمة عين الفعل، والكسر لأنه الأصل في تحريك الساكن، والعكس، وأما بعد دخول الهاء فلا فيجوز فيه غير الكسر فافهم.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 909 رقم 2434).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 850 رقم 1193).

(3)

"المجتبى"(5/ 1283 رقم 2819).

ص: 316

قوله: "إلَّا أنَّا حُرُم" بفتح "أنا" على أنه تعدي إليه الفعل بحرف التعليل، فكأنه قال: لأنا، وقال أبو الفتح القشيري:"إنَّا" مكسورة الهمزة لأنها ابتدائية و"أَنَّا" حرم مفتوحة لأنه حذف منها لام التعليل.

الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمد بن مسلم الزهري

إلى آخره، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عمر بن حفص السدوسي، ثنا عاصم ابن علي، نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة:"أنه أهدى إلى رسول الله عليه السلام حمارًا وحشيًّا فرده عليه، فلما رأى ما في وجهي من رد هديته قال: أما إنه ليس بنا رد عليك ولكنا حرم".

الثالث: عن يونس أيضًا، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن الزهري

إلى آخره، وهؤلاء أيضًا كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه الترمذي (2): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله، أن ابن عباس أخبره، أن الصعب بن جثامة أخبره:"أن رسول الله عليه السلام مرّ به بالأبواء -أو بودان- فأهدى له حمارًا وحشيًّا فرده عليه، فلما رأى رسول الله عليه السلام في وجهه الكراهية؛ فقال: إنه ليس بنا رد عليك، ولكنا حرم".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي الهذيل غالب بن الهذيل الأودي الكوفي، وثقه ابن حبان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس

إلى آخره.

(1)"المعجم الكبير"(8/ 84 رقم 7433).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 206 رقم 849).

ص: 317

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه، ثنا الفريابي، عن سفيان، عن غالب أبي الهذيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس

إلى آخره نحوه.

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن سعيد بن جبير.

وأخرجه "مسلم"(1): نا يحيى بن يحيى، قال: أنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورًا يحدث، عن الحكم (ح).

ونا ابن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن الحكم (ح).

ونا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: نا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت جميعًا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -في رواية منصور: عن الحكم-: "أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي عليه السلام رجل حمار وحشي". وفي رواية شعبة عن الحكم: "عجز حمار وحشي يقطر دمًا"، وفي رواية شعيب عن حبيب:"أهدي للنبي عليه السلام شق حمار وحشي فرده".

السادس: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، ووهب بن جرير، كلاهما عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس

إلى آخره.

وأخرجه البزار في "مسنده": نا محمد بن المثنى، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله عليه السلام وهو بقديد وهو محرم لحم حمار وحشي، فرده رسول الله عليه السلام وهو يقطر دمًا".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 851 رقم 1194).

ص: 318

السابع: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن معتمر ابن سليمان، عن منصور بن زاذان، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وأخرجه الطبراني (1): نا معاذ بن المثنى، نا مُسّدد، نا معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورًا يحدث، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"أهدى الصعب بن جثامة رجل حمار وحشي يقطر دمًا إلى رسول الله عليه السلام وهو محرم بقديد، فردها".

الثامن: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري وأبي داود، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة وحبيب بن أبي ثابت، كلاهما عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث العباس الأسفاطي، عن سليمان وأبي الوليد، قالا: نا شعبة، عن الحكم وحبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي عليه السلام-قال أحدهما: بقديد عجز حمار- وقال الآخر: حمار وحشي، فرده".

وقال أبو جعفر الطبري: الأخبار عن الصعب مضطربة، والصحيح أنه حمار حيّ؛ للإِجماع على منع قبول المحرم هبة الصيد، وكيف تكون رجله وهو يقول لم نرده عليك إلَّا أنا حرم؟!.

وقال القاضي: قال الإِمام: بوب البخاري على حديث الصعب ما دل على أنه تأول أن الحمار كان حيًّا، فعلى هذا يكون فيه حجة على أن المحرم يرسل ما كان بيده من صيد، وفيه أيضًا أن الهبة لا تدخل في ملك الموهوب إلَّا بالقبول، وأن قدرته على ملكها لا تصيره مالكها، ثم قال: وفي بعض طرق حديث الصعب ما يقدح في

(1)"المعجم الكبير"(12/ 26 رقم 12367).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 193 رقم 9714).

ص: 319

تأويل من تأول الحديث على أن الحمار حي، وهو قوله:"رجل حمار" وفي طريق آخر "عجز حمار وحشي يقطر دمًا"، وفي طريق آخر "شق حمار"، وفي رواية زيد بن أرقم:"أهدى للنبي عليه السلام عضو من لحم صيد فرده وقال: إنا لا نأكله إنا حرم" فبهذه الروايات يحتج من يقول من الناس: إن المحرم لا يأكل لحم صيد وإن لم يصد من أجله.

وقال إسماعيل: سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجله، ولولا ذلك لكان أكله جائزًا، وقال سليمان: ومما يدل على أنه صيد من أجله قولهم في الحديث: "فرده يقطر دمًا كأنه صيد في ذلك الوقت".

وقال ابن بطال: اختلاف روايات حديث الصعب تدل على أنها لم تكن قضية واحدة، وإنما كانت قضايا، فمرة أهدى إليه الحمار كله، ومرة عجزه، ومرة رجله، لأن مثل هذا لا يذهب على الرواة ضبطه حتى يقع فيه التضاد في النقل والقصة واحدة.

وقال القرطبي: بوب البخاري على هذا الحديث وفهم منه الحياة، والروايات الآخر تدل على أنه كان ميتًا، وأنه آتاه بعضو منه، وطريق الجمع: أنه جاء بالحمار ميتا فوضعه بقرب النبي عليه السلام ثم قطع منه ذلك العضو فأتاه به، فصدق اللفظان، أو يكون أطلق اسم الحمار وهو يريد بعضه وهذا من باب التوسع والتجوز، أو نقول: إن الحمار كان حيًّا فيكون قد أتاه به، فلما رده وأقره بيده ذكاه، ثم أتاه بالعضو المذكور، ولعل الصعب ظن أنه إنما رده لمعنى يخص الحمار بجملته، فلما جاء بجزئه أعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد كحكم الصيد لا يحل للمحرم قبوله ولا تملكه.

وقال البيهقي: قال الربيع: قال الشافعي: فإن كان الصعب أهدى إلى النبي عليه السلام الحمار حيًّا فليس لمحرم ذبح حمار وحشي وإن كان أهدى له لحمًا فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده، وأيضًا في حديث جابر وحديث مالك أن الصعب أهدى حمارًا، أثبت من حديث من قال: أهدى له لحم حمار.

ص: 320

قال البيهقي: وقد روي في حديث الصعب أنه أكل منه، ثم روى بإسناده (1): عن يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أبيه:"أن الصعب بن جثامة أهدى للنبي عليه السلام عجز حمار وحشي وهو بالجحفة فأكل منه، وأكل منه القوم". هذا إسناد صحيح، قال البيهقي: إن كان محفوظًا، فكأنه عليه السلام رد الحي وقبل اللحم.

قلت: قال الذهبي: بل هذا خبر منكر شاذ، ويحيى بن أيوب قد ضُعِّفَ، وله أحاديث منكرة، ولكنه من رجال الصحيحين انتهى، وفي سنده أيضًا يحيى بن سليمان الجعفي، قال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن حبان: ربما أغرب، وأما يحيى بن أيوب الغافقي المصري فقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أحمد: كان سيء الحفظ يخطئ خطأ كثيرًا، وكذبه مالك في حديثين فعلى هذا لا يشتغل بتأويل هذا الحديث لأجل سنده لمخالفته للحديث الصحيح، وقول البيهقي:"وقبل اللحم" يرده ما في الصحيح أنه عليه السلام رده.

ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام خلاف ذلك.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن جابر بن عبد الله:"أن رسول الله عليه السلام قال: لحم الصيد حلال لكم وأنتم حرم، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو، عن رجل من الأنصار، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا إبراهيم بن سويد، قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أبي موسى، عن النبي عليه السلام مثله.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 193 رقم 9717).

ص: 321

ش: أي قد رُوي عن النبي عليه السلام خلاف ما رواه الصعب بن جثامة، فكأنه يشير بهذا إلى أن حديث الصعب كما هو مضطرب كما بيناه، معارض أيضًا بحديث جابر وأبي موسى الأشعري، أما حديث جابر فأخرجه من طريقين:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن يعقوب ابن عبد الرحمن بن محمد القاري المدني نزيل إسكندرية روى له الجماعة سوى ابن ماجه وعن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدني روى له مسلم وأبو داود والنسائي، كلاهما عن عمرو بن أبي عمرو ميسرة مولى المطلب المدني روى له الجماعة، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي المخزومي المدني، قال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه. روى له الجماعة سوى مسلم، لكن البخاري في غير الصحيح.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا يعقوب يعني الإِسكندراني القاري، عن عمرو، عن المطلب، عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم".

وأخرجه الترمذي (2): ثنا قتيبة، قال: ثنا يعقوب

إلى آخره، ولكن في روايته:"حلال لكم وأنتم حرم" وقال أبو عيسى: هذا حديث جابر مفسر، والمطلب لا نعرف له سماعًا من جابر، وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب.

وقال الحافظ المنذري: قال الترمذي في موضع آخر: والمطلب بن عبد الله بن حنطب يقال: إنه لم يسمع من جابر، وذكر أبو حاتم الرازي أنه لم يسمع من جابر، وقال ابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم: يشبه أن يكون أدركه.

الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن رجل من الأنصار، عن جابر

إلى آخره، وفيه مجهول، والظاهر أنه هو المطلب المذكور.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 171 رقم 1851).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 203 رقم 846).

ص: 322

وهذا الحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه"(1) وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وأخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه"(2).

قوله: "وأنتم حرم" جملة حالية.

قوله: "أو يصاد لكم" برفع الدال خبر مبتدأ محذوف أي أو هو يصاد لكم.

وأما حديث أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله عنه فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن إبراهيم بن سويد بن الحيان المدني وثقه يحيى وأبو زرعة وروى له البخاري وأبو داود، عن عمرو بن أبي عمرو

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(3): ثنا العباس بن محمد المجاشعي نا محمد بن أبي يعقوب الكرماني نا يوسف بن خالد السمتي عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أبي موسى، أن رسول الله عليه السلام قال:"لحم الصيد حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم وأنتم حرم".

ص: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: كل صَيد صِيد من أجل محرم وإن كان الذي صاده حلال فهو حرام على ذلك المحرم، كما يحرم عليه ما تولى هو صيده لنفسه.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح، والشافعي، ومالكًا، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، فإنهم قالوا: الصيد الذي صيد لأجل المحرم حرام على المحرم، وإن كان الذي صاده حلالًا.

(1)"المستدرك"(1/ 621 رقم 1659).

(2)

"صحيح ابن حبان"(9/ 283 رقم 3971).

(3)

رواه الطبراني في "الكبير"، وهو في الجزء المفقود الذي لم يطبع، وعزاه الحافظ للطبراني في "تلخيص الحبير" (2/ 276) وقال: ويوسف متروك، ووافقه إبراهيم بن سويد عن عمرو عند الطحاوي، وقد خالفه إبراهيم بن أبي يحيى، وسليمان بن بلال والدراوردي ويحيى بن عبد الله بن سالم، ويعقوب بن عبد الرحمن ومالك فيما قيل وآخرون، وهم أحفظ منه.

ص: 323

وقال أبو عمر: وذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور إلى أن ما صيد من أجل المحرم لم يجز أكله، وما لم يصد من أجله جاز له كله، وروي هذا القول عن عثمان، وبه قال عطاء في رواية، وإسحاق في رواية، وحجتهم حديث جابر الذي قد ذكر الآن، وقال: قال مالك: وإن أكل المحرم من صيد صِيد من أجله فداه، وهو قول الحسن بن حي والأوزاعي، وقال مالك: ما ذبحه المحرم فهو ميتة لا يحل لمحرم ولا لحلال، وقد اختلف قوله فيما صِيد لمحرم بعينه كالأمير وشبهه، هل لغير ذلك الذي صيد لأجله أن يأكله؟ والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل ما صيد لمحرم معين أو غير معين، ولم يأخذ بقول عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم:"كلوا فلستم مثلي لأنه صيد من أجلي".

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل صيد صاده حلال فلحمه حلال لكل محرم وحلال.

ش: أي خالف الفريقين المذكورين آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا وعطاء -في رواية- وسعيد بن جبير وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد -في رواية- فإنهم قالوا: الصيد الذي اصطاده الحلال لا يحرم على المحرم، وقال أبو عمر: وكان عمر بن الخطاب وأبو هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير، يرون للمحرم كل الصيد على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، لظاهر قوله تعالى:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (1) فحرم صيده وقتله على المحرمين دون ما صاده غيرهم، وحجتهم حديث البهزي، وحديث أبي قتادة.

ص: وكان من الحجة لهم في حديث المطلب الذي ذكرناه: أن قول رسول الله عليه السلام: "أو يصاد لكم" يحتمل أن يكون أراد به أو يصاد ذلكم بأمركم فإن كان ذلك كذلك، فأنتم أيضًا كذلك تقولون: كل صيد صاده حلال لمحرم بأمره فهو حرام على ذلك المحرم.

(1) سورة المائدة، آية:[95].

ص: 324

ش: أي وكان من الدليل والبرهان، وأراد به الجواب عن حديث المطلب بن عبد الله، عن جابر رضي الله عنه الذي احتجت به أهل المقالة الثانية، نصرة لأهل المقالة الثالثة.

بيانه: أن قول رسول الله عليه السلام "أو يصاد لكم" يحتمل أن يكون المراد به "أو يصاد بأمركم" ويحتمل أن يكون المراد: أو يصاد لأجلكم لكن ليس بأمركم، فإن كان المراد الأول فلا نزاع لأحد فيه أنه حرام على ذلك المحرم، وإن كان المراد الثاني فقد وردت أحاديث كثيرة في إباحة لحم الصيد الذي صاده حلال للمحرم إذا لم يكن صيده بأمره ولا بمعونته إياه في ذلك إشارة إليه بقوله.

ص: وقد رويت عن رسول الله عليه السلام أحاديث جاءت مجيئًا متواترًا في إباحة لحم الصيد الذي قد صاده الحلال للمحرم؛ إذا لم يكن صاده بأمره ولا بمعونته إياه عليه.

ش: أراد بالتواتر: التكاثر لا التواتر المصطلح عليه.

ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي، عن أبيه، عبد الرحمن بن عثمان، قال:"كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأهدى له طير، وطلحة راقد فمنا من أكل، ومنا من تورع، فلما استيقظ طلحة وقدم بين يديه أكله، وقال: أكلت مع رسول الله عليه السلام".

ش: وهذا ما بعده بيان؛ لقوله: وقد رويت عن رسول الله عليه السلام أحاديث

إلى آخره، وإسناد هذا صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بشر عبد الملك بن مروان الرقي، وابن جريج هو عبد الملك، وعبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي الصحابي أسلم يوم الحديبية وقيل يوم الفتح، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان أحد العشرة المبشرين بالجنة.

ص: 325

وأخرجه مسلم (1): حدثني زهير بن حرب، قال: نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج

إلى آخره نحوه، غير أن لفظه:"فلما استيقظ طلحة وَفَّقَ من أكله، وقال: أكلت مع رسول الله عليه السلام".

وأخرجه النسائي (2) أيضًا: عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج

إلى آخره نحوه.

قوله: "وفق من أكله" أي دعى له بالتوفيق، أي قال له: وفقت. أي أصبت الحق.

ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة، عن رجل من بهز: "أن رسول الله عليه السلام مرّ بالروحاء، فإذا هو بحمار وحشي عقير فيه سهم، فقال رسول الله عليه السلام: دعوه حتى يجيء صاحبه، فجاء البهزي، فقال: يا رسول الله، هي رميتي فكلوا، فأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يقسمه بين الرفاق وهم مُحرمُون، ثم سار حتى إذا كان بالأثاية إذا هو بظبي مستظلٍ في حقف جبل فيه سهم وهو حي، فقال رسول الله عليه السلام لرجل: قف ها هنا لا يريبه أحدٌ حتى يمضي الرفاق.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه عن يحيى بن سعيد، أنه قال: أخبرني محمد بن إبراهيم، ثم ذكر بإسناده مثله.

ش: هذان طريقان:

الأول: رجاله كلهم رجال الجماعة ما خلال يزيد بن سنان، وعمير بن سلمة الضمري له صحبة، ورجل من بهز غير مسمى، قال أبو عمر بن عبد البر اسمه زيد بن كعب السلمي، ثم البهزي وهو صاحب الحمار العقير وسماه

(1)"صحيح مسلم"(2/ 855 رقم 1197).

(2)

"المجتبى"(5/ 182 رقم 2817).

ص: 326

البغوي وغيره أيضًا زيد بن كعب، ونسبته إلى بهز بالباء الموحدة والزاي المعجمة، وبهز هي تميم بن امرئ القيس بن بهثه بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يزيد بن هارون، نا يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة، عن رجل من بهز:"أن رسول الله عليه السلام خرج وهو يريد مكة، حتى إذا كان في بعض وادي الروحاء، وجد الناس حمار وحشٍ عقيرًا، فذكروا ذلك لرسول الله عليه السلام، فقال: ذروه حتى يأتي صاحبه، فأتى البهزي وكان صاحبه، فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله عليه السلام أبا بكر فقسمه بين الرفاق وهم محرمون، قال: ثم سرنا حتى إذا كان بالأبواء فإذا ظبي حاقف في ظل شجرة وفيه سهم، فأمر النبي عليه السلام رجلاً يقيم عنده حتى يجيز الناس عنه".

وأخرجه البيهقي (2): من طريق أحمد نحوه.

الثاني: رجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه مالك في "موطإه"(3): عن يحيى بن سعيد، أنه قال: أخبرني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، عن عمير بن سلمة الضمري، عن البهزي: "أن رسول الله عليه السلام خرج يريد مكة، حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير، فذكر ذلك لرسول الله عليه السلام، فقال: دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه، فجاء البهزي وهو صاحبه إلى رسول الله عليه السلام، فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله عليه السلام أبا بكر رضي الله عنه فقسمه بين الرفاق، ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف في ظل،

(1)"مسند أحمد"(3/ 452 رقم 15782).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 171 رقم 11738).

(3)

"موطأ مالك"(1/ 351 رقم 781).

ص: 327

وفيه سهم، فزعم أن رسول الله عليه السلام أمر رجلاً يقف عنده؛ لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه".

وأخرجه النسائي (1): عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك

إلى آخره نحوه.

وهذا الحديث صحيح بلا خلاف، ولكن الكلام في أنه هل هو لعمير بن سلمة عن النبي عليه السلام، أو هو عن عمير عن البهزي؟ فقال أبو عمر: من أصحاب يحيى بن سعيد من يجعل هذا الحديث عن عمير بن سلمة، عن النبي عليه السلام لا يذكر فيه البهزي، وعمير بن سلمة من الصحابة، والبهزي هو صاحب الحمار.

وقال أيضًا: لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث، واختلف أصحاب يحيى عنه على يحيى، فرواه جماعة كما رواه مالك، ورواه حماد بن زيد وهشيم ويزيد بن هارون وعلي بن مسهر، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري، عن النبي عليه السلام فالحديث لعمير فيما قال حماد، وتابعه على ذلك جماعة منهم هشيم وعلي بن مسهر ويزيد بن هارون، وعمير بن سلمة من كبار الصحابة، وجعله مالك عن عمير، عن البهزي، عن النبي عليه السلام.

وفي متن حديث حماد بن زيد قال: "جاء رجل من بهز فقال: يا رسول الله، أصبت هذا بالأمس، فشأنكم به".

قال أبو عمر: ومما يدلك على صحة رواية حماد بن زيد ومن تابعه: أن يزيد بن الهاد وعبد الله بن سعيد رويا هذا الحديث عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري، قال:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام". وفي رواية يزيد الهاد: "بينا نحن مع رسول الله عليه السلام". رواه الليث بن سعد هكذا عن يزيد بن الهاد، وقال موسى بن هارون: الصحيح عندنا أن هذا الحديث رواه عمير بن سلمة عن النبي عليه السلام ليس بنيه وبين النبي عليه السلام أحد، قال موسى بن

(1)"المجتبى"(5/ 182 رقم 2818).

ص: 328

هارون: ولم يأت ذكر البهزي عن مالك؛ لأن جماعة رووه عن يحيى كما رواه مالك، ولكن إنما جاء ذلك من يحيى بن سعيد، كان يرويه أحيانًا فيقول فيه: عن البهزي قال، وأحيانًا لي قول فيه: عن البهزي.

قلت: هذه رواية الطحاوي من طريقين عن عمير بن سلمة، عن رجل من بهز، فالحديث للبهزي لا لعمير بن سلمة والله أعلم.

قوله: "بالروحاء" هو موضع بينه وبين المدينة ميل، وفي حديث جابر:"إذا أذن المؤذن هرب الشيطان [حتى] (1) يكون بالروحاء وهي من المدينة ثلاثون ميلًا".

رواه أحمد (2): وقال أبو علي القالي في شهاب "الممدود والمقصور": "الروحاء" موضع على ليلتين من المدينة، وفي "المطالع": الروحاء من عمل الفرع، على نحو أربعين ميلًا من المدينة.

وفي مسلم (3): "على ستة وثلاثين". وفي كتاب ابن أبي شيبة (4): "على ثلاثين".

قوله: "عقير" أبي أصابه عقر ولم يمت بعد، والعقر: الجرح، والعقير تقع صفة للمذكر والمؤنث، يقال: حمل عقير، وناقة عقير.

قوله: "فجاء البهزي" أي الرجل البهزي، وهو زيد بن كعب الصحابي.

قوله: "هي رميتي" الرمية بفتح الراء وكسر الميم وتشديد الياء، وهي الصيد الذي يرميه الرجل فيقصده ويُنْفِذْ فيه سهمه.

قوله: "حتى إذا كان بالأثاية" بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة وبعد الألف ياء آخر الحروف مفتوحة وفي آخره هاء، وهي اسم المنهل بين الرويثة والعرج، وقال أبو عمر: الأثاية والرويثة والعرج والروحاء منازل ومناهل بين مكة والمدينة، وفي

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

(2)

"مسند أحمد"(3/ 316 رقم 14444).

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 290 رقم 388).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 207 رقم 2373).

ص: 329

"المطالع": الأثاية موضع بطريق الجحفة بينه وبين المدينة سبعة وسبعون ميلاً، وهي "فعالة" من أُثيت به إذا وثبت، قاله ثابت، ورواه بعض الشيوخ بكسر الهمزة، وبعضهم يقول: الأثاثة بثائين، وبعضهم الأثانة بالنون، والأول الصواب بالفتح والكسر.

قال أيضًا: "الرويثة" بطريق مكة من المدينة، قلت: هي بضم الراء وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفتح الثاء المثلثة، وفي آخره هاء، و"العَرْج" بفتح العين المهملة وسكون الراء وبالجيم، وهي قرية جامعة من عمل الفرع، على نحو من ثمانية وسبعين ميلًا من المدينة، وهو أول تهامة، وقاله في "المطالع".

قوله: "في حِقف جبل" الحقف بكسر الحاء المهملة وسكون القاف: ما اعوج من الرمل واستطال، ويجمع على أحقاف، وقال الجوهري:"الحقف" المعوج من الرمل، والجمع حقاف وأحقاف، وفي رواية أحمد:"فإذا ظبي حاقف" أي نائم قد انحنى في نومه.

قوله: "لا يريبه أحد" أي لا يتعرض له أحد ويزعجه، وأصله من رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني، وقيل: أرابني في كذا أي شككني وأوهمني الريبة فيه، فإذا استيقنته قلت: رابني بلا ألف.

ويستفاد منه: جواز أكل ما صاده الحلال للمحرم، وعدم جواز تنفير الصيد للمحرم وإعانته عليه، ألا ترى أن رسول الله عليه السلام أمر رجلاً أن يقف عند الظبي الحاقف حتى يجاوزه الناس لا يريبه أحد أي لا يحركه ولا يهيجه.

وفيه: أن الصائد إذا أصاب الصيد برمحه أو نبله فقد ملكه بذلك، إذا كان الصيد لا يمتنع من أجل ذلك الفعل؛ لقوله عليه السلام حتى يأتيه صاحبه.

واستدل به أيضًا من جوَّز هبة المشاع؛ لقول البهزي للجماعة هذه رميتي فكلوه، وفي رواية:"شأنكم بهذا الحمار، فقسمه أبو بكر بينهم بأمر رسول الله عليه السلام".

ص: 330

ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا نافع بن يزيد، عن ابن الهاد، أن محمد بن إبراهيم حدثه، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري، قال:"بينا نحن نسير مع رسول الله عليه السلام ببعض أمياه الروحاء وهو محرم؛ إذا هو بحمار معقور، فقال رسول الله عليه السلام: دعوه، فيوشك صاحبه أن يأتيه، فجاء رجل من بهز هو الذي عقر الحمار، فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله عليه السلام أبا بكر فقسمه بين الناس". ثم ذكر نحو ما في حديث يزيد عن يزيد بن هارون.

حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، ثنا ابن الهاد

ثم ذكر بإسناده مثله.

ش: هذان طريقان آخران في الحديث المذكور وهما أيضًا صحيحان، وفيهما الحديث لعمير بن سلمة الضمري، عن النبي عليه السلام وليس بينه وبين النبي عليه السلام أحد، كما قال موسى بن هارون: الصحيح عندنا أن هذا الحديث رواه عمير بن سلمة عن النبي عليه السلام ليس بينه وبين النبي عليه السلام أحد.

الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار الضمري، وثقه ابن حبان، وعن يحيى: كان رواية عن ابن لهيعة، وكان شيخ صدق، عن نافع بن يزيد الكلاعي المصري استشهد به البخاري وروى له الباقون سوى الترمذي، عن ابن الهاد وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني روى له الجماعة.

وأخرجه يعقوب بن حميد في "مسنده"(1): عن عبد العزيز بن محمد وابن أبي حازم عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة قال: "بينما نحن نسير مع رسول الله عليه السلام ببعض أمياه الروحاء -

(1) وعزاه الحافظ في "الإِصابة"(4/ 719) لابن أبي حاتم في "الوحدان" من طريق الدراوردي وابن أبي حازم به.

ص: 331

وقال ابن أبي حازم: ببعض نواحي الروحاء- إذا حمار وحش معقور، فذكر لرسول الله عليه السلام فقال: دعوه فيوشك أن صاحبه يأتيه، فأتى صاحبه الذي عقره، وهو رجل من بهز، فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله عليه السلام أبا بكر فقسمه بين الرفاق، قال ثم مضى، فلما كان بالأثاية مر بظبي حاقف في ظل شجرة فيه سهم، فأمر النبي عليه السلام إنسانًا أن لا يهيجه إنسان فنفذ الناس".

الثاني: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري قال: "بينا نحن نسير مع رسول الله

" إلى آخره.

وأخرجه ابن الأثير (1): في ترجمة عمير بن سلمة وقال: أنا يحيى بن محمود إجازة بإسناده، عن أبي بكر بن عاصم، قال: ثنا يعقوب بن حميد

إلى آخره، ثم قال: كذا ساق ابن أبي عاصم هذا الحديث، ورواه حماد بن زيد وهشيم والليث بن سعد، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم مثله.

وخالفهم مالك بن أنس وأبو أوس وعبد الوهاب وحماد بن سلمة، فقالوا: عن يحيى، عن محمد عن عيسى، عن عمير، عن البهزي. وقد ذكرنا الاختلاف فيه.

قوله: "بينا" أصله "بين" فزيدت فيه الألف لإِشباع فتحة النون، وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة.

قوله: "دعوه" أي اتركوه.

قوله: "ثم ذكر نحو ما في حديث يزيد عن يزيد بن هارون" أي ثم ذكر الربيع الحديث نحو ما في حديث يزيد بن سنان الفزاري، عن يزيد بن هارون الواسطي.

ص: ففي حديث طلحة وعمير بن سلمة عن رسول الله عليه السلام أنه أباح للمحرمين أكل لحم الصيد الذي تولى صيده الحلال، فقد خالف ذلك حديث علي وزيد بن

(1)"أسد الغابة"(1/ 874).

ص: 332

أرقم والصعب بن جثامة عن النبي عليه السلام، غير أن حديث طلحة وحديث عمير بن سلمة هذين ليس فيهما دليل على حكم الصيد إذا أراد الحلال به المحرم، فنظرنا في ذلك، فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا عياش بن الوليد الرقام، قال: ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن عبيد الله، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال:"بعث رسول الله عليه السلام أبا قتادة الأنصاري على الصدقة، وخرج رسول الله عليه السلام وأصحابه وهم محرمون حتى نزلوا عسفان، فإذا هم بحمار وحشٍ، قال: وجاء أبو قتادة وهو حل، فنكسوا رؤوسهم كراهة أن يحُّدوا أبصارهم فيفطن، فرآه فركب فرسه وأخذ الرمح فسقط منه، فقال: ناولونيه، فقالوا: ما نحن بمعينيك على شيء، فحمل عليه فعقره، فجعلوا يشوون منه، ثم قالوا: رسول الله عليه السلام بين أظهرنا، قال: وكان يقدمهم، فلحقوه، فسألوه، فلم ير بذلك بأسا".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، قال: ثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن أبي قتادة:"أنه كان على فرس وهو حلال، ورسول الله عليه السلام وأصحابه محرمون، فبصر بحمار وحش، فنهى رسول الله عليه السلام أن يعينوه، فحمل عليه، فصرع أتانًا، فأكلوا منها".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عثمان بن عبد الله بن موهب، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه:"أنه كان في قوم محرمين وليس هو بمحرم، وهم يسيرون، فرأوا حمارًا، فركب فرسه فصرعه، فأتوا النبي عليه السلام فسألوه عن ذلك، فقال: أشرتم أو صدتم أو قتلتم؟ قالوا: لا. قال: فكلوا".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي النضر، عن نافع مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة: "أنه كان مع رسول الله عليه السلام، حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حمارًا وحشيًّا، فاستوى على فرسه، ثم سأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا، فسألهم رمحه

ص: 333

فأبوا، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب النبي عليه السلام، وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله عليه السلام سألوه عن ذلك، فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أخبره عن أبي قتادة مثله، وزاد:"أن رسول الله عليه السلام قال: هل معكم من لحمه شيء؟ ".

فقد علمنا أن أبا قتادة لم يصده في وقت ما صاده إرادة منه أن يكون له خاصة، وإنما أراد أن يكون له ولأصحابه الذين كانوا معه، فقد أباح رسول الله عليه السلام ذلك لهم وله ولم يحرمه عليهم لإِرادته أن يكون لهم معه، وفي حديث عثمان بن عبد الله بن موهب:"أن رسول الله عليه السلام سألهم فقال: أشرتم أو صدتم أو قتلتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا". فدل أنه إنما يحرم عليهم إذا فعلوا شيئًا من هذا، ولا يحرم عليهم بما سوى ذلك وفي ذلك دليل أن معنى قول رسول الله عليه السلام في حديث عمرو مولى المطلب:"أو يصاد لكم" أنه على ما صيد لهم بأمرهم، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار المروية عن رسول الله عليه السلام.

ش: أراد بهذا الكلام أن أحاديث علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم والصعب ابن جثامة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه لا يستقيم لهم الاحتجاج بها، وذلك لأن حديثي طلحة بن عبيد الله وعمير بن سلمة قد عارضا أحاديث هؤلاء؛ لأن في أحاديثهم يخبر بأن المحرم لا يباح له الأكل من لحم الصيد الذي اصطاده حلال، وفي حديثي طلحة وعمير يخبر بأن ذلك حلال للمحرم، فسقط الاحتجاج بالجميع، غير أنه ليس في حديثهما ما يدل على حكم الصيد إذا أراد الحلال به المحرم، فلما اعتبرنا ذلك، وجدنا أحاديث عن أبي قتادة رضي الله عنه تدل على شيئين:

أحدهما: جواز أكل المحرم من الصيد الذي اصطاده حلال مريدًا به لأجل المحرم، وذلك لأن أبا قتادة لما صاد صيده لم يكن إراد به أن يكون لنفسه خاصة،

ص: 334

وإنما أراد به أن يكون له ولأصحابه الذين كانوا معه، وهذا معلوم من حديثه بلا ريب، ثم إن رسول الله عليه السلام أباح ذلك الصيد له ولأصحابه ولم يحرمه على أصحابه لأجل إرادته أن يكون لهم معه، أي مع نفسه.

والآخر: يدل على أنه إنما يباح للمحرم ذلك بشرط أن لا تكون منه إشارة ولا دلالة ولا إعانة لأن النبي عليه السلام قال: "أشرتم أو صدتم أو قتلتم؟ " ودل هذا القيد في هذا الحديث على أن المراد من قوله عليه السلام في حديث عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب: "أو يصاد لكم" يعني ما صيد لهم بأمرهم فافهم.

ثم إنه أخرج حديث أبي قتادة من خمس طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- بن الوليد الرقام القطان البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى بن محمد السامي البصري روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبي عثمان المدني روى له الجماعة، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري روى له الجماعة، عن أبي سعيد الخدري سعد بن مالك.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن عثمان العقيلي وإسماعيل بن بشر بن منصور السليمي، قالا: ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن عبيد الله بن عمر عن عياض بن عبد الله بن سعد، عن أبي سعيد الخدري قال: "بعث رسول الله عليه السلام أبا قتادة الأنصاري

" إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "كراهية أن يحدرا أبصارهم فيعلم"، وبعد قوله: "فلم يربه بأسًا" قال: وأحسبه -شك عبيد الله- قال: "هل بقى معكم شيء".

قال البزار: هذا الحديث لا نعلم رواه عن عبيد الله إلَّا عبد الأعلى، ولا يعلم أسند عبيد الله عن عياض إلَّا هذا الحديث. انتهى.

ص: 335

قوله: "بعث رسول الله عليه السلام أبا قتادة على الصدقة". أي على أخذ الزكوات، أراد أنه بعثه عاملًا ليأخذ الزكاة من أصحاب الأموال والمواشي، وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي الأنصاري.

قوله: "وهم محرمون" جملة حالية.

"وعسفان" بضم العين، بَيَّنَّاها فيما مضى.

قوله: "وهو حِلٌّ" جملة حالية، أي والحال أن أبا قتادة حِلّ، أي حلال غير محرم، وهو بكسر الحاء وتشديد اللام، ورواية عياض هذه بينت سبب كون أبي قتادة حلًّا جاوز الميقات غير محرم، وقال الأثرم: كنت أسمع أصحاب الحديث يعجبون من حديث أبي قتادة، ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات غير محرم؟! ولا يدرون ما وجهه حتى رأيته مفسرًا في رواية عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد، وقال أبو الفتح القشيري في الجواب عن عدم إحرام أبي قتادة: يحتمل أنه لم يكن مريدًا للحج، أو أن ذلك قبل توقيت المواقيت.

وزعم المنذري أن أهل المدينة أرسلوه إلى سيدنا رسول الله عليه السلام يعلمونه أن بعض العرب ينوي غزو المدينة.

وقال ابن المتن: يحتمل أنه لم ينو الدخول إلى مكة وإنما صحب النبي عليه السلام ليكثر جمعه.

قلت: كل هذا فيه نظر، وإنما الصحيح في ذلك هو أنه بعثه عليه السلام على الصدقة كما في رواية عياض بن عبد الله هذه، والله أعلم.

وقال أبو عمر: يقال: إن أبا قتادة كان رسول الله عليه السلام وَجَّهه على طريق البحر مخافة العدو، فلذلك لم يكن محرمًا إذ اجتمع مع أصحابه؛ لأن مخرجهم لم يكن واحدًا، وكان ذلك عام الحديبية أو بعده بعام، عام القضية.

قوله: "فنكسوا رؤوسهم" أي طأطأوها، قال الجوهري: الناكس هو المطأطئ رأسه.

ص: 336

قوله: "كراهة أن يحدُّوا أبصارهم" من حددت النظر إلى فلان إذا وجهت نظرك إليه، وانتصاب كراهة على التعليل.

قوله: "فيفطن" أي فيعلم أي أبو قتادة، من الفطنة وهي الفهم، قال الجوهري، وفي الدستور هو من باب علم تعلم تقول فطن يفطن فطانة.

قوله: "ما نحن بمعينيك" أصله ما نحن بمعينين، فلما أضيفت إلى كاف الخطاب سقطت النون.

قوله: "بين أظهرنا" أراد به أنهم أقاموا بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، وكذلك قولهم: بين ظهرانيهم، والمعنى أن ظهرا منهم قدامه وظهرًا وراءه، فهو مكنوف من جانبيه ومن جوانبه.

قوله: "فلم ير بذلك بأسًا" أي فلم ير رسول الله عليه السلام بما أكلوا من الصيد.

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن أبي عمر حفص بن عمر بن الحارث النمري الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان الواسطي روى له الجماعة، عن عمرو بن يحيى بن عمارة الأنصاري المدني أحد مشايخ أبي يوسف القاضي روى له الجماعة، عن عباد بن تميم بن غزيَّة الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن أبي قتادة الحارث بن ربعي.

وأخرجه الجماعة (1): بألفاظ متباينة وأسانيد مختلفة.

قوله: "فبصر بحمار" أي رآه.

قوله: "فصرع أتانا" وهي الأنثى من الحمير الوحشية.

الثالث: عن محمد بن خزيمة

إلى آخره.

(1) البخاري في "صحيحه"(2/ 647 رقم 1725)، ومسلم في "صحيحه"(2/ 851 رقم 1196)، وأبو داود في "سننه"(2/ 171 رقم 1852)، والترمذي في "جامعه"(3/ 205 رقم 848)، والنسائي في "المجتبى"(5/ 186 رقم 2826)، وابن ماجه (2/ 1033 رقم 3093).

ص: 337

ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة.

وأخرجه النسائي (1): أنا محمود بن غيلان، نا أبو داود، أنا شعبة، أخبرني عثمان ابن عبد الله بن موهب، سمعت عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه:"أنهم كانوا في مسيرهم بعضهم محرم وبعضهم ليس بمحرم، قال: فرأيت حمار وحش، فركبت فرسي، وأخذت الرمح، فاستعنتهم فلم يعينوا أي يعينوني فاختلست سوطًا من بعضهم، فشددت على الحمار فأصبته، فأكلوا منه، فأشفقوا، قال: فسئل عن ذلك النبي عليه السلام، فقال: هل أشرتم أو أعنتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا".

وأخرجه الدارمي في "سننه"(2): أنا أبو الوليد، نا شعبة، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب، عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري، عن أبيه قال:"بينا نحن نسير وهم محرمون وأبو قتادة حلال إذ رأيت حمارًا، فركبت فرسًا فأصبته، فأكلوا من لحمه وهم محرمون، ولم آكل، فأتوا النبي عليه السلام فسألوه، فقال: أشرتم؟ -أو قال-: ضربتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا".

وأخرجه البخاري (3) ومسلم (4) مطولًا يعني هذا اللفظ، وفي لفظ لمسلم: وفي رواية شعبة قال: "أشرتم أو أعنتم أو صدتم" قال شعبة: لا أدري قال أعنتم أو صدتم.

قوله: "أشرتم" أي هل أشرتم إليه؟

قوله: "أو صدتم" وفي رواية: "أو أصدتم" بتخفيف الصاد، معناه أمرتم بالصيد أو جعلتم من يصيده؟ وقيل: معناه أثرتم الصيد من موضعه؟ يقال: "أصدته" أي أثرته، قال القاضي: وهو أولى من رواية من روى صدتم أو أصَّدتم بالتشديد، إذ قد علم عليه السلام أنهم لم يصيدوا، وإنما سألوه عن صيد غيرهم.

(1)"المجتبى"(5/ 186 رقم 2826).

(2)

"سنن الدارمي"(2/ 60 رقم 1827).

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 684 رقم 1728).

(4)

"صحيح مسلم"(2/ 853 - 854 رقم 1196).

ص: 338

قلت: فيه نظر؛ لأن أصدت من كلام العامة وهو خطأ، قاله ابن درستويه، وقال الكلبي وغيره: لم نر من قاله بالألف، وقال ابن الأثير: في حديث أبي قتادة: "قال له: هل أشرتم أو أصدتم؟ " يقال: أصدت غيري إذا حملته على الصيد وأغريته به، وفيه: "إنا أصَّدنا حمار وحشٍ هكذا روي بصاد مشددة، وأصله اصطدنا فقلبت الطاء صادًا، وأدغمت، مثل اصَّبر من اصطبر، وأصل الطاء مبدلة من تاء افتعل.

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى

إلى آخره.

ورجاله رجال الصحيح، وأبو النضر بالنون والضاد المعجمة سالم بن أبي أمية.

وأخرجه مسلم (1): قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك

إلى آخره نحوه.

وثنا قتيبة، عن مالك فيما روى عليه، عن أبي النضر، عن نافع مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة: "أنه كان مع رسول الله عليه السلام

" إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك.

والترمذي (3): عن قتيبة، عن مالك.

قوله: "طُعمة" بضم الطاء، أي رزق ساقه الله إليكم.

الخامس: عن يونس أيضًا

إلى آخره.

وهذا أيضًا رجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه مالك في "موطإه"(4)، ومسلم (5)، والترمذي (3) كلاهما عن قتيبة، عن مالك.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 852 رقم 1196).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 171 رقم 1852).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 204 رقم 847).

(4)

"موطأ مالك"(1/ 350 رقم 778).

(5)

"صحيح مسلم"(2/ 852 رقم 1196).

ص: 339

ويستفاد من هذه الأحاديث أحكام:

الأول: فيه دليل على أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده وصاده الحلال.

الثاني: فيه دليل على أن قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1) معناه الاصطياد، وقيل: الصيد وأكله لمن صاده، وأما من لم يصده فليس بمن عني بالآية، والله أعلم، وتكون هذه الآية على هذا التأويل مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) سواء؛ لأن هذه الآية إنما ينهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير، قاله أبو عمر.

الثالث: فيه دليل على أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز له، وهذا إجماع من العلماء، واختلفوا في المحرم يدل الحلال أو المحرم على الصيد، فأما إذا دل المحرم الحلال على الصيد فقال مالك والشافعي وأصحابه: يكره ذلك له، ولا جزاء عليه، وهو قول ابن الماجشون وأبي ثور، ولا شيء عليه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه الجزاء، قال أبو حنيفة: ولو دله في الحرم لم يكن عليه جزاء. وقال زفر: عليه الجزاء، في الحل دله عليه أو في الحرم، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو قول علي وابن عباس وعطاء، واختلف العلماء أيضًا فيما يجب على المحرم يدل المحرم على الصيد فيقتله، فقال قوم: عليه كفارة واحدة، منهم عطاء وحماد بن أبي سليمان، وقال آخرون: على كل واحد منهما كفارة، روي ذلك عن سعيد بن جبير والشعبي والحارث العكلي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وعن سعيد بن جبير أنه قال: على كل واحد من القاتل والآمر والمشير والدال جزاء، وقال الشافعي وأبو ثور: لا جزاء إلَّا على القاتل وحده، واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل صيد، فقال مالك: على كل

(1) سورة المائدة، آية:[96].

(2)

سورة المائدة، آية:[95].

ص: 340

واحد منهم جزاء كامل، محلين كانوا أو محرمين. وبه قال الثوري والحسن بن حي، وهو قول الحسن البصري والشعبي والنخعي، ورواية عن عطاء، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قتل جماعة محرمون صيدًا فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، وإن قتل جماعة محلون صيدًا في الحرم فعلى جماعتهم جزاء واحد، وقال الشافعي: عليهم كلهم جزاء واحد، وسواء كانوا محرمين أو محلين في الحرم، وهو قول عطاء والزهري، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور.

ص: وقد قال بهذا القول أيضًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"أن رجلاً من أهل الشام، استفتاه في لحم الصيد وهو محرم، فأمره بأكله، قال: فلقيت عمر بن الخطاب، فأخبرته بمسألة الرجل فقال: بما أفتيته؟ فقلت: بأكله، فقال: والذي نفسي بيده، لو أفتيته بغير ذلك لعلوتك بالدرة، إنما نهيت أن يصطاده".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث، عن أبي هريرة

فذكر مثله، غير أنه قال:"لفعلت بك، يتواعده".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم، أنه سمع أبا هريرة يحدث أن عمر

فذكر نحوه.

حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب

فذكر بإسناده مثله.

فلم يكن عمر رضي الله عنه ليعاقب رجلاً من أصحاب رسول الله عليه السلام في فتياه في هذا بخلاف ما يرى، والذي عنده في ذلك ما يخالف ما أفتى به رأيًا، ولكن ذلك عندنا والله أعلم، لأنه قد كان أخذ علم ذلك من غير جهة الرأي".

ص: 341

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا نوفل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود:"أن كعبًا سأل عمر رضي الله عنه عن الصيد يذبحه الحلال فيأكله الحرام، فقال عمر رضي الله عنه: لو تركته لرأيتك لا تفقه شيئاً".

ش: أي قد قال بقول أهل المقالة الثالثة، وهو إباحة أكل لحم الصيد الذي اصطاده حلال عمر بن الخطاب.

وأخرج ذلك عنه من أربع طرق صحاح:

الأول: رجاله رجال "الصحيحين": ما خلا ابن مرزوق، ويحيى هو ابن أبي كثير الطائي، وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث إبراهيم بن طهمان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:"سألني رجل من أهل الشام عن لحم اصطيد لغيرهم، أيأكله وهو محرم؟ فأفتيته أن يأكله، فأتيت عمر فذكرت ذلك له، فقال: ما أفتيت؟ قلت: أمرته أن يأكله، قال: لو أفتيته بغير ذلك لعلوت رأسك بالدرة، قال: إنما نهرت أن يصطاده".

الثاني: كلهم رجال الصحيح، وأخرجه مالك في "موطإه" (2): عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث، عن أبي هريرة:"أنه أقبل من البحرين، حتى إذا كان بالربذة وجد ركبان أهل العراق محرمين، فسألوه عن لحم صيد وجدوه عند أهل الربذة، فأفتاهم أن بأكله، [قال: ثم] (3) إني شككت فيما أمرتهم به، فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: ماذا أمرتهم به؟ فقال: أمرتهم بأكله، فقال عمر بن الخطاب: لو أمرتهم بغير ذلك لفعلت بك، يتواعده".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 188 رقم 9693).

(2)

"موطأ مالك"(1/ 351 رقم 782).

(3)

في "الأصل، ك": "ثم قال" وهو خطأ، والمثبت من "الموطأ".

ص: 342

الثالث: وأيضًا كلهم رجال الصحيح، وأخرجه مالك في "موطإه" (1): عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أنه سمع أبا هريرة:"أنه مرّ به قوم محرمون بالربذة، فاستفتوه في لحم صيد وجدوا ناسًا أحلة يأكلونه، فأفتاهم بأكله، قال: ثم قدمت المدينة على عمر بن الخطاب فسألته عن ذلك، فقال: بم أفتيته؟ قال: فقلت: أفتيتهم بأكله. قال: فقال عمر: لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك".

الرابع: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله ابن صالح، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن وكيع، عن أسامة بن زيد، عن سالم، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "لما قدمت من البحرين لقيني قوم من أهل العراق، فسألوني عن الحلال يصيد الصيد فيأكله الحرام، فأفتيتهم بأكله، فقدمت على عمر رضي الله عنه فسألته عن ذلك فقال: لو أفتيتهم بغير هذا ما أفتيت أحدًا أبدًا".

قوله: "فلم يكن عمر لَيُعاقب" بفتح اللام لأنها للتأكيد، معنى هذا الكلام أن أبا هريرة لو أفتى بخلاف ما عند عمر رضي الله عنه مثلاً، وكان ذلك برأيه واجتهاده، وكذلك عند عمر برأيه واجتهاده ولم يكن عمر يعاقب أبا هريرة وهو من أصحاب النبي عليه السلام في فتياه بخلافه لأن ما عند كل منهما رأي واجتهاد، وليس للمجتهد أن يعاقب مجتهدًا آخر عند تخالف رأيهما، ولكن الذي كان عند عمر كان من جهة وقوفه على علم فيه من النبي عليه السلام، ولم يكن رأيه ولا اجتهاده، فوافقه فتوى أبي هريرة، فلذلك قال:"لو أفتيت بغير ذلك لعلوتك بالدرة" لأنه حينئذ كان يكون مفتيًا بالرأي، بخلاف ما عنده مما وقف عليه من جهة النبي عليه السلام، فحينئذ كان يتوجه العقاب لمن يفتي بالرأي عند وجود النص من الشرع بخلافه فافهم.

(1)"موطأ مالك"(1/ 352 رقم 783).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 307 رقم 14466).

ص: 343

قوله: "حدثنا أبو بكرة إلى آخره" ذكره شاهدًا لما رواه أبو هريرة عن عمر رضي الله عنهما، أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن كعب بن ماتع الحميري المعروف بكعب الأحبار، أدرك النبي عليه السلام وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق، وقيل في خلافة عمر بن الخطاب، ويقال: أدرك الجاهلية فقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص حتى توفي بها سنة ثنتين من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد بلغ سنة مائة وأربع وستين، روى له الجماعة غير مسلم، وابن ماجه في التفسير.

ص: وقد احتج في ذلك المخالفون لهذا القول بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: حدثنا أبو عوانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن أبيه قال:"كنا مع عثمان وعلي رضي الله عنهما حتى إذا كنا بمكان كذا وكذا قرّب إليهم طعام، قال: فرأيت جفنة كأني أنظر إلى عراقيب اليعاقيب، فلما رأى ذلك عليٌّ قام وقام معه ناس، قال: فقيل: والله ما أشرنا ولا أمرنا ولا صدنا، قيل لعثمان ما قام هذا ومن معه إلَّا كراهية لطعامك، فدعاه وقال: ما كرهت من هذا؟ فقال: علي رضي الله عنه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1) ثم انطلق". قال: فذهب عليٌّ إلى أن الصيد ولحمه حرام على المحرم.

قيل لهم: فقد خالفه في ذلك عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وعائشة وأبو هريرة، وقد تواترت الروايات عن رسول الله عليه السلام بما يوافق ما ذهبوا إليه، وقوله عز وجل:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1) يحتمل ما حرم عليهم منه هو أن يصيدوه؛ ألا ترى إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (2)

(1) سورة المائدة، آية:[96].

(2)

سورة المائدة، آية:[95].

ص: 344

فنهاهم الله عز وجل في هذه الآية عن قتل الصيد، وأوجب عليهم الجزاء في قتلهم إياه، فدل ما ذكرنا أن الذي حرم على المحرمين من الصيد هو قتله.

ش: أراد بالمخالفين هؤلاء: أهل المقالة الأولى وهم الشعبي وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد والثوري والليث بن سعد ومالك -في رواية- وإسحاق في رواية فإنهم احتجوا فيما ذهبوا إليه بهذا الحديث، وقالوا: لا يحل للمحرم أن يأكل لحم صيد مطلقًا بأي وجه كان.

وأخرجه عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن يزيد بن أبي زياد القرشي، فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعن أبي حاتم: ليس بالقوي. روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتجت به الأربعة، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي روى له الجماعة، عن أبيه الحارث بن نوفل ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين، وفي "التهذيب": الحارث بن نوفل بن الحارث والد عبد الله، له ولأبيه صحبة.

والحديث أخرجه أحمد في "مسنده"(1): بوجوه متعددة وقد ذكرنا بعضها.

قوله: "فقيل لهم" أي لهؤلاء المخالفين المحتجين بهذا الحديث، وأراد به الجواب عن الحديث وهو ظاهر قوله، وقوله عز وجل:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (2)

إلى آخره، جواب عما ذهب إليه علي رضي الله عنه استدلالًا بالآية الكريمة، أن معنى قوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (2) هو الصيد الذي يصيدونه [لا](3) مطلق الصيد، ألا ترى أن الله تعالى أوجب على المحرم الجزاء في قتله الصيد بقوله:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (4)، فدل ذلك أن الذي حرم على

(1) تقدم من عدة طرق.

(2)

سورة المائدة، آية:[96].

(3)

في "الأصل، ك": "ألا"، وما أثبتناه مقتضى السياق.

(4)

سورة المائدة، الآية:[95].

ص: 345

المحرم من الصيد قتله؛ وإن كان عموم الآية يتناول الاصطياد والصيد نفسه، لوقوع الاسم عليهما.

وجواب آخر: أن الله تعالى قال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} (1) وإنما سمي الحيوان صيدًا ما دام حيًّا وأما اللحم فغير مسمى بهذا الاسم بعد الذبح، فإن سمي بذلك على أنه كان صيدًا، فأما اسم الصيد فليس يجوز أن يقع على اللحم حقيقة، ويدل عليه أن لفظ الآية لم ينتظم اللحم.

فإن قيل: يبقى الصيد يحرم على المحرم وإن لم يكن مسمى بصيد فكذا لحمه.

قلت: ليس كذلك؛ لأن المحرم غير منهي عن إتلاف لحم الصيد، فإذا أتلفه لم يضمنه، وهو منهي عن إتلاف البيض والفرخ ويلزمه ضمانه، وأيضاً فإن البيض قد يصير حكمه إلى الصيد، فحكم له حكم الصيد، ولحم الصيد لا يصير صيدًا بحال، وكان بمنزلة لحوم سائر الحيوان، إذْ ليس بصيد في الحال، ولا يجيء منه صيدًا في المآل.

ص: وقد رأينا النظر أيضًا يدل على هذا، وذلك أنهم أجمعوا على أن الصيد يحرمه الإِحرام على المحرم، ويحرمه الحرم على الحلال، وكان من صاد صيدًا في الحل فذبحه في الحل ثم أدخله الحرم فلا بأس بأكله إياه في الحرم، ولم يكن إدخاله لحم الصيد الحرم كإِدخاله الصيد نفسه وهو حيّ؛ لأنه لو كان كذلك لنهي عن إدخاله، ولمنع من أكله إياه فيه، كما يمنع من الصيد في ذلك كله، ولكان إذا أكله في الحرم وجب عليه ما يجب في قتل الصيد، فلما كان المحرم لا يمنع من لحم الصيد الذي صيد في الحل كما يمنع من الصيد الحي، كان النظر على ذلك أن يكون كذلك الإِحرام أيضًا يحرم على المحرم الصيد الحي ولا يحرم عليه لحمه إذا تولى الحلال ذبحه قياسًا على ما ذكرنا من حكم الحرم، فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى-.

(1) سورة المائدة، الآية:[96].

ص: 346

ش: أي وقد رأينا القياس أيضًا يدل على ما ذكرنا من جواز أكل المحرم من لحم الصيد.

قوله: "وذلك" أي وجه القياس والنظر، وهو ظاهر جدًّا.

***

ص: 347