المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف بعرفة - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٩

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف بعرفة

‌ص: باب: من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف بعرفة

ش: أي هذا باب في بيان حكم من أحرم بحجة، فطاف لها قبل أن يقف بعرفة، أراد أنه بعد أن طاف حلَّ قبل الوقوف بعرفة.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أن ابن عباس كان يقول:"لا يطوف أحد بالبيت حاجٌّ ولا غيره إلَّا حلَّ به، قلت له: من أين كان ابن عباس يأخذ ذلك؟ قال: من قبل قول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1)، فقلت له: فإنما ذلك بعد المعرف، قال: كان ابن عباس يراه قبل المعرف وبعده، قال: وكان ابن عباس يأخذها من أمر النبي عليه السلام أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قالها لي غير مرة".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن عروة قال لابن عباس:"أضللت الناس يا ابن عباس، قال: وما ذاك يا عُرَيَّة؟ قال: تفتي الناس أنهم إذا طافوا بالبيت فقد حلَّوا، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجيئان ملبيين بالحج فلا يزالان محرمين إلي يوم النحر؟! قال ابن عباس: بهذا ضللتم، أحدثكم عن رسول الله عليه السلام وتحدثوني عن أبي بكر وعمر، فقال عروة: إن أبا بكر وعمر كانا أعلم برسول الله منك".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا قتادة، قال: سمعت أبا حسان الرقاشي: "أن رجلاً قال لابن عباس، يا ابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد تقشعت عنك أن من طاف بالبيت فقد حلَّ؟! قال: سُنة نبيك وإن رغمتم".

(1) سورة الحج، آية:[33].

ص: 412

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن محمد بن خزيمة، عن عثمان بن الهيثم العصري العبدي البصري مؤذن الجامع بالبصرة وشيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.

وأخرجه مسلم (1): نا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا محمد بن بكر، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، قال: كان ابن عباس يقول: "لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلَّا حلّ، قلت لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله عز وجل {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2)، قلت: فإن ذلك بعد المعرف، فقال: كان ابن عباس يقول: هو بعد المعرف وقبله؛ كان يأخذ ذلك من أمر النبي عليه السلام حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع".

قوله: "إلّا حلَّ" أي صار حلالاً.

قوله: "بعد المعرف" يريد بعد الوقوف بعرفة، وهو التعريف أيضًا، والمعرف في الأصل موضع التعريف، ويكون بمعنى المفعول.

قلت: هو بضم الميم وفتح العين والراء، وهو موضع الوقوف بعرفة، والتعريف الوقوف بها.

قوله: "وكان ابن عباس يأخذها من أمر النبي عليه السلام" إلى آخره. أراد به نسخ الحج في العمرة، وهذا لا يجوز عند جمهور العلماء من الصحابة وغيرهم.

قال ابن عبد البرِّ: ما أعلم من الصحابة من يجيز ذلك إلَّا ابن عباس، وتابعه أحمد وداود وسائر الفقهاء، وكلهم قالوا على أن فسخ الحج في العمرة خص به أصحاب النبي عليه السلام.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 913 رقم 1245).

(2)

سورة الحج، آية:[33].

ص: 413

الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة الأحول، كان قاضيًا لعبد الله بن الزبير ومؤذنًا له.

وأخرجه أسد السنة في "مسنده" عن حماد نحوه.

الثالث: عن سليمان بن شعيب الكسائي، عن عبد الرحمن بن زياد الرصافي الثقفي، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج ويقال: الأجرد واسمه مسلم ابن عبد الله، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا.

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن مثنى: نا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج قال: قال رجل من بني الهجيم لابن عباس: "ما هذي الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس؛ أن من طاف بالبيت فقد حلَّ؟! فقال: سُنَّة نبيكم عليه السلام وإن رغمتم" وفي لفظ له: "إن هذا الأمر قد تقشع الناس".

قوله: "قد تقشعت عنك" على وزن تفعلت بالقاف والشين المعجمة والعين المهملة ومعناه قد فشت وانتشرت عنك، يقال له: تقشع له الولد إذا كثر وانتشر، وقد يكون معناه: قد كسَّدت الناس عن المتعة، قال الفراء: التقشع والقشاع الكسل، وقد يكون معناه: أفسدت حال الناس بوقوع الخلاف بينهم، من القشاع وهو نبات يلتوي على الثمار.

ثم هذه اللفظة هكذا وقعت أيضًا في مسند ابن أبي داود وفي شهاب ابن أبي شيبة من رواية همام عن عبادة، وكذا في لفظ لمسلم وهو.

قوله: إن هذا الأمر قد تقشع الناس كما ذكرناه الآن، وأما الذي وقع في روايته:"تشغفت" فهو بالشين والغين المعجمتين وبعدها الفاء، وكذا وقع في رواية لابن أبي شيبة، قال القاضي: هذه الرواية إن لم تكن وهمًا وظنًّا فمعناه: علقت بقلوب

(1)"صحيح مسلم"(2/ 912 رقم 1244).

ص: 414

الناس وشغفوا بها، وقد قال المفسرون في قوله:{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} (1) أي علقها، وأما اللفظة الثانية في رواية مسلم أيضًا "أو تشعبت" فهي بالعين المهملة بعدها الباء الموحدة، قال القاضي: وكذا رويناه عن الأسدي والتميمي من شيوخنا، وعند غيرهما: أو تشغبت بالغين المعجمة، وقد ذكر أبو عُبيد هذا الحديث بهذا الحرف من غير شك، وذكر الخلاف بهذين الوجهين في العين والغين عن رواية وأخبار: هو بالعين المهملة، ومعنى هذا على رواية العين المهملة: فرقت الناس، أو فرقت مذاهب الناس، وبالمعجمة من التشغيب أي: خلطت عليهم أمرهم.

قوله: "وإن رغمتم" أي وإن كرهتم هذا الأمر، فإنه سُنة نبيكم عليه السلام، من رَغَم يَرْغَمُ من باب عَلِمَ يَعْلَمُ، ورَغَمَ يَرْغَمُ من باب فَتَحَ يَفْتَحُ رَغْمًا ورِغْمًا ورُغْمًا، وأرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وهو التراب، هذا هو الأصل، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شبابة بن سوار (ح).

وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد (ح).

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو داود: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، قال: سمعت طارق بن شهاب يحدث، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "قدمت على رسول الله عليه السلام وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: بما أهللت؟ قال: قلت: إهلال كإهلال النبي عليه السلام فقال رسول الله عليه السلام: أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحل، ففعلت فأتيت امرأة من قيس، فقلت رأسي، فكنت أفتي الناس بذلك حتى كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لي رجل: يا عبد الله بن قيس، رُوَيْد بعض فتياك؛ إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقلت: يا أيها الناس، من كنا أفتيناه فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم فيه فائتموا، فلما قدم عمر رضي الله عنه أتيته فذكرت له، فقال لي عمر رضي الله عنه: إن تأخذ بكتاب الله فإن

(1) سورة يوسف، آية:[30].

ص: 415

كتاب الله يأمر بالتمام، وإن تأخذ بسُنَّة رسول الله عليه السلام فإن رسول الله عليه السلام لم يحل حتى بلغ الهدي محله".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن شبابة بن سوار الفزاري المدائني الثقة الصدوق المرجئ، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم الجدلي العدواني الكوفي، عن طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الصحابي، عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن مثنى وابن بشار، قال ابن مثنى: نا محمد ابن جعفر، قال: أنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال:"قدمت على رسول الله عليه السلام وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: حججت؟ فقلت: نعم، فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيت بإهلال كإهلال النبي عليه السلام، قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل، قال: فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج، فكنت أفتي به الناس، حتى كان في خلافة عمر رضي الله عنه فقال له رجل: يا أبا موسى -أو يا عبد الله بن قيس- رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس، من كنا أفتيناه فتيا فليتئذ؛ فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتموا، قال: فقدم عمر رضي الله عنه فذكرت له ذلك، فقال: إن تأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام، وإن تأخذ بسُنَّة رسول الله عليه السلام فإن رسول الله عليه السلام لم يحل حتى بلغ الهدي محله".

الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن بن زياد الرصافي الثقفي، عن شعبة، عن قيس بن مسلم

إلى آخره.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 194 رقم 1221).

ص: 416

وأخرجه النسائي (1): أنا محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن، قال: نا سفيان، عن قيس -وهو ابن مسلم- عن طارق ابن شهاب، عن أبي موسى قال:"قدمت على رسول الله عليه السلام وهو بالبطحاء فقال: بما أهللت؟ قلت: بإهلال النبي عليه السلام، قال: هل سقت من هدي؟ قلت: لا، قال: فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلّ، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي، فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر رضي الله عنهما وإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك، قلت: يا أيها الناس، من كنا أفتيناه بشيء فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فائتموا به، فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟! قال: إن نأخذ بكتاب الله؛ فإن الله عز وجل قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (2)، وإن نأخذ بسُنة نبينا عليه السلام، فإن نبينا عليه السلام لم يحلّ حتى نحر الهدي".

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (3): ثنا محمد بن يوسف، نا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: "بعثني النبي عليه السلام إلى قومي باليمن، فجئت وهو بالبطحاء، فقال: بم أهللت؟ قلت: أهللت كإهلال النبي عليه السلام، قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأهللت، فأتيت امرأة من قومي، فمشطتني وغسلت رأسي، فقدم عمر رضي الله عنه فقال: إن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمر بالتمام؛ قال الله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (3)، وإن نأخذ بسُنَّه رسول الله عليه السلام فإنه لم يحل حتى نحر الهدي.

(1)"المجتبى"(5/ 154 رقم 2738).

(2)

سورة البقرة، آية:[196].

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 564 رقم 1484).

ص: 417

قوله: "قدمت على رسول الله عليه السلام" وكان قدومه من اليمن على ما صرَّح به في رواية البخاري، وكان النبي عليه السلام بعثه إلى قومه، فاتفق على قدومه والنبي عليه السلام منيخ بالبطحاء وهو المحصب، قال أبو عُبيد: هو في حدود خيف بني كنانة، وحدُّه من الحجون ذاهبًا إلى منى، وهو بطحاء مكة -شرفها الله تعالى.

قوله: "بما أهللت" قال ابن القياني: كذا وقع في الأمهات بالألف، وصوابه بغير الألف كأنه استفهام، قلت: معناه بأي شيء أحرمت.

قوله: "إهلال كإهلال النبي عليه السلام" أي إهلالي إهلال كإهلال النبي عليه السلام فيكون ارتفاع إهلال على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفي بعض النسخ:"إهلالًا كإهلال النبي عليه السلام" بالنصب على تقدير: أهللت إهلالًا كإهلال النبي عليه السلام، وبهذا استدل مالك على جواز الإِحرام المبهم، وهو أن يقول: أحرمت كإحرام زيد، وقال القاضي: أخذ الشافعي بظاهر هذا الحديث وجوَّز الإِهلال بالنية المبهمة، قال: ثم له بعد أن ينقلها لما شاء من حج أو عمرة، وله عنده أن ينتقل من نسك إلى غيره، وخالفه سائر العلماء والأئمة؛ لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1)، ولقوله:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2)؛ ولأن هذا كان لأبي موسى، وعلي أيضًا خصوصًا إذْ كان شرع الحج بعد ما فعله النبي عليه السلام لم يستقر ولم يكمل بعد، فلم يمكنها -أعني أبا موسى وعليًّا رضي الله عنهما الإِقدام على أمر بغير تحقيق.

فإن قيل: كيف أمر أبا موسى بالإِحلال ولم يأمر عليًّا رضي الله عنه، والحال أن كلًا منهما قال: إهلال كإهلال النبي عليه السلام؟

قلت: لأن أمره لأبي موسى بالإِحلال على معنى ما أمر به غيره بالفسخ بالعمرة لمن ليس معه هدي، وأمره لعلي أن يهدي ويمكث حرامًا؛ إما لأنه -والله أعلم- كان معه هدي، أو يكون قد اعتقد النبي عليه السلام أنه يهدي عنه، أو

(1) سورة البقرة، آية:[196].

(2)

سورة محمد، آية:[33].

ص: 418

يكون قد خصه بذلك، أو لما كان النبي عليه السلام أمره بسَوق هذه البدن من اليمن فكان كمن معه هدي، ولا يظن أن هذه البدن من السعاية والصدقة بوجه إذ لا تحل للنبي عليه السلام الصدقة ولا يهدي منها.

والأشبه أن عليًّا رضي الله عنه اشتراها باليمن كما اشترى النبي عليه السلام بقيتها، وجاء بها من المدينة على ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه وجاء في الحديث أيضًا أنه اشترى هديه بقديد، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"فساق الهدي معه من ذي الحليفة" وكان النبي عليه السلام قد أعلمه أنه سيعطيه هدايا منها، وفي حديث جابر أنه قدم ببدن النبي عليه السلام، وقد يحتمل أنه كان له فيها هدي لم يحتج إلى ذكره في الحديث، فلم يمكنه أن يحل، ويدل على هذا سؤال النبي عليه السلام لأبي موسى هل ساق معه هديًا؟ ولم يسأل عليًّا رضي الله عنه، فدل على علمه بأنه كان ممن أهدى أو ممن حكمه كحكم من أهدى. والله أعلم.

قوله: "ثم أحلّ" أمرٌ من الإِحلال، وفي بعض الرواية:"حلّ" بدون الهمزة، من حَلَّ يُحِلُّ والأولى من أَحَلَّ يحل، يقال: حلَّ المحرم يحل حلالاً، وأحل يحل إحلالاً، إذا حل لَه ما حرم عليه من محظورات الحج، ورجل حل من الإِحرام أي حلال، والحلال ضد الحرام، ورجل حلال أي غير محرم ولا متلبس بأسباب الحج.

قوله: "ففلت رأسي" بتخفيف اللام مِنْ فَلَى يُفْلي، يقال: فَلَيْت رأسه من القمل وتفالى هو، والفلي أخذ القمل من الشعر، وذكره في الدستور من باب فعَل يفعِل بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل كَضَرَبَ يَضْرِبُ، تقول: فَلَى يَفْلِي فَلْيًا، كرمى يَرْمِي رَمْيًا.

قوله: "فكنت أفتي الناس بذلك" أي بفسخ الحج في العمرة.

قوله: "رويد بعض فتياك" وفي بعض الرواية: "رويدك بعض فتياك" وكذا هو في رواية مسلم.

ص: 419

أعلم أن "رويد" اسم للفعل، ومعناه: أمهل، تقول: رُوَيدَ زيدًا أي أمهله، وتدخل فيه الكاف أيضًا فتقول: رُويدك زيدًا، ورويدكما زيدًا، ورويدكم زيدًا، وهو مبني إذا كان اسمًا للفعل، ومعرَّب إذا وقع صفة، نحو: ساروا سيرًا رويدًا، أو حالاً نحو: ساروا رويدًا أي مرودي، أو مضافًا نحو: رويد زيدٍ.

وفي الحديث مبني؛ لأنه اسم للفعل.

قوله: "فليتئد" أي فليتأن وليصبر، يقال: اتَّأَدَ في فعله إذا تأنى وثبت ولم يعجل، وأصله من تئد يتئد تُأَدًا، فنقل إلى باب الافتعال فصار: اتَّأَدَ يتئد، وأصل الياء فيه واو من الوأد.

قوله: "فبه فائتموا" أي بأمير المؤمنين ائتموا، أراد: اتبعوه فيما يفعل من النسك.

قوله: "وإن نأخذ بكتاب الله" بنون الجماعة، ظاهر هذا الكلام من أمير المؤمنين إتمام الحج، وإنكار فسخ الحج في العمرة، لاحتجاجه بالآية، وبفعل النبي عليه السلام.

قوله: "فإن رسول الله عليه السلام لم يحل حتى بلغ الهدي محله" وهو ذبح الهدي يوم النحر، وفيه حجة لأبي حنيفة وأحمد من أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، ومذهب الشافعي ومالك أنه إذا طاف وسعى وحلق حلَّ من عمرته، وحلَّ له كل شيء في الحال سواء كان ساق هديًا أم لا، والحديث حجة عليهما.

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل المديني، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: "دخلنا على جابر بن عبد الله، فسألته عن حجة رسول الله عليه السلام، فقال: إن رسول الله عليه السلام مكث تسع سنين لم يحج، ثم أَذَّن في الناس بالعاشرة: إن رسول الله عليه السلام حاجٌّ، فقدِم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله عليه السلام، فخرجنا حتى أتينا ذا الحليفة، فصلى رسول الله عليه السلام في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به على البيداء

ص: 420

ورسول الله عليه السلام بين أظهرن، عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، ما عمل من شيء عملنا به، فأهلَّ بالتوحيد، وأهل الناس بهذا الذي تهلون به، لم يرُد رسول الله عليه السلام عليهم شيئًا، ولزم رسول الله عليه السلام تلبيته -قال جابر: لسنا ننوي إلَّا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا كنا آخر طواف على المروة قال: إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان ليس معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة، فحل الناس وقصروا إلَّا النبي عليه السلام ومن كان معه الهدي، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: فشبك رسول الله عليه السلام أصابعه في الأخرى فقال: دخلت العمرة هكذا في الحج مرتين، فحل الناس كلهم وقصروا إلَّا النبي عليه السلام ومن كان معه هدي".

وقول سراقة هذا للنبي عليه السلام وجواب النبي عليه السلام إياه يحتمل أن يكون أراد به: عمرتنا هذه في أشهر الحج للأبد أو لعامنا هذا؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فيما مضى في أشهر الحج، ويعدون ذلك من أفجر الفجور، فأجابه رسول الله عليه السلام فقال: هي للأبد.

حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن ابن الهاد، عن جعفر بن محمد

فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر سؤال سراقة ولا جواب النبي عليه السلام إياه.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن جابر قال:"قدم رسول الله عليه السلام مكة لأربع خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، قال رسول الله عليه السلام: اجعلوها عمرة، فلما كان يوم التروية لبُّوا، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو ابن دينار عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال:"قدمنا مع رسول الله عليه السلام مكة صبيحة رابعة، فأمرنا أن نحل، فقلنا: أي حل يا رسول الله؟ قال: الحل كله، فلو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل الذي تصنعون".

ص: 421

حدثنا محمد بن حميد الرعيني، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن خصيف، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"لمَّا قدمنا مع رسول الله عليه السلام مكة [في] (1) حجة الوداع سأل الناس: بماذا أحرمتم؟ فقال أناس: أهللنا بالحج، وقال آخرون: قدمنا متمتعين، وقال آخرون: أهللنا بإهلالك يا رسول الله، فقال لهم رسول الله عليه السلام: من كان قدم ولم يسق هديًا فليحلل؛ فإني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي حتى أكون حلالاً، فقال سراقة بن مالك: يا رسول الله، عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد".

حدثنا فهد قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله أنه قال:"أهلَّ رسول الله عليه السلام وأهللنا معه بالحج خالصًا، حتى قدمنا مكة رابعة من ذي الحجة، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمر رسول الله عليه السلام من لم يكن ساق هديًا أن يحل، قال: ولم يعزم في أمر النساء، قال جابر: فقلنا: تَرَكَنَا حتى إذا لم يكن بيننا وبين عرفة إلَّا خمس ليالٍ أمرنا أن نحل فنأتي عرفات والمذي يقطر من مذاكيرنا ولم يحلل هو! وكان رسول الله عليه السلام قد ساق الهدي، فبلغ قولنا رسول الله عليه السلام فقام فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر الذي بلغه من قولهم، فقال: لقد علمتم أني أصدقكم وأتقاكم لله وأبركم، ولولا أني سقت الهدي لحللت، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، قال جابر: سمعنا وأطعنا، فحللنا".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مكي، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا وهو يخبر عن حجة النبي عليه السلام قال:"أمرنا بعد أن طفنا أن نحل، وقال رسول الله عليه السلام: إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا، فأهللنا من البطحاء".

حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء، أنه سمعه يحدث عن جابر بن عبد الله قال: "أهللنا مع رسول الله عليه السلام

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 422

بذي الحليفة بالحج خالصًا لا نخلطه بعمرة، فقدمنا مكة لأربع ليالٍ خلون من ذي الحجة، فلما طفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة أمرنا رسول الله عليه السلام أن نجعلها عمرة وأن نحل إلى النساء، فقلنا: ليس بيننا وبين عرفة إلَّا خمس ليال، فنخرج إليها وذكر أحدنا يقطر منيًّا! فقال رسول الله عليه السلام: إني لأبركم وأصدقكم، فلولا الهدي لحللت، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، متعتنا هذه لعامنا هذا [أم للأبد] (1)؟ فقال رسول الله عليه السلام: بل لأبد الأبد".

فكان سؤال سراقة لرسول الله عليه السلام المذكور في هذا الحديث إنما هو [على](1) المتعة أي أنا قد صارت حجتنا التي كنا دخلنا فيها أولاً عمرة، ثم قد أحرمنا بعد حلنا منها بحجة متمتعين بمتعتنا هذه لعامنا هذا خاصة فلا نفعل ذلك فيما بعد، أم للأبد فنتمتع بالعمرة إلى الحج كما تمتعنا في عامنا هذا؟ فقال رسول الله عليه السلام: بل للأبد، وليس ذلك على أن لهم فيما بعد أن يحلوا من حجة قبل عرفة لطوافهم بالبيت ولسعيهم بين الصفا والمروة، وسنذكر عن رسول الله عليه السلام فيما بعد هذا من الباب ما يدل على أن ذلك الإِحلال الذي كان منهم قبل عرفة خاصًّا لهم ليس لمن بعدهم، ونِصفه في موضعه إن شاء الله تعالى.

ش: هذه ثمان طرق صحاح:

الأول: أخرجه بعينه في باب ما كان النبي عليه السلام محرمًا في حجة الوداع بمتن مختصر.

وأخرجه مسلم (2) مطولًا سقناه بكماله هناك، وأخرجه أيضًا أبو داود (3) وابن ماجه (4) مطولاً، والنسائي (5) مختصرًا، وفسرنا هناك أكثر ألفاظه.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 886 رقم 1218).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 182 رقم 1905).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1022 رقم 3074).

(5)

"المجتبى"(5/ 274 رقم 3076).

ص: 423

قوله: "مكث تسع سنين" يعني في المدينة، وقد روي "أنه عليه السلام حج على الفور، وكان فرض الحج سنة تسع وقيل: خمس، والأول أصح.

وأول من أقام للمسلمين الحج عتاب بن أسيد سنة ثمان، ثم أبو بكر سنة تسع، وحج عليه السلام سنة عشر، وقد اختلفوا في حجة أبو بكر رضي الله عنه سنة تسع، هل كانت حجة الإِسلام بعد نزول فرضها وهو الأظهر؛ لوقوف جميع الناس بعرفة، ولإِنذار علي رضي الله عنه فيها بمرأة، وفيها ذكر النسيء وشرائع الحج، وقيل: بل كانت على غير الفرض وعلى ما كانت عليه قبل الإِسلام، والأول أظهر.

قوله: "كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله عليه السلام" دليل على أنهم كانوا كلهم حجاجًا؛ إذ كان عليه السلام أحرم بالحج لائتمامهم به، وبعيد أن يخالفوه فيما أحرم به.

قوله: "فأهل التوحيد" إشارة إلى قوله: "لا شريك لك"، ومخالفة لقول المشركين في تلبيتهم من الإِشراك.

قوله: "لسنا ننوي إلَّا الحج ولا نعرف العمرة" استدل به من كان يذهب إلى أنه عليه السلام كان مفردًا بالحج في حجة الوداع، وأن الإِفراد أفضل، قلنا: لا يستلزم هذا الكلام كون النبي عليه السلام مفردًا؛ وذلك لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج ويعدونها من أفجر الفجور، ففي الابتداء كان النبي عليه السلام محرمًا بحجة حين قدم مكة ثم فسخ ذلك بعمرة، ثم أقام عليها على أنها عمرة، وقد عزم على أن يحرم بعدها بحجة، فكان في ذلك متمتعًا، ثم لم يطف للعمرة حتى أحرم بالحجة، فصار قارنًا بذلك. فهذا هو الوجه في التوفيق بين الروايات التي جاءت بأنه عليه السلام كان مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا، فافهم فإنه مَدْرَك دَقِيق.

قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي" هذا القول منه عليه السلام كان تطييبًا لأنفسهم لما رأى من توقفهم عن الإِحلال إذ لم يحل هو، لما كانوا من التأسي به حتى لا يجدوا في أنفسهم أنه يأمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه،

ص: 424

وفيه دليل على جواز الأمرين، وأنه لولا ما سبق من سوقه عليه السلام الهدي لحل معهم إلَّا أن السُنة فيمن ساق الهدي لا يحل إلَّا بعد بلوغ الهدي محله وهو محرم يوم النحر، قال القاضي: فيه دليل على أنه عليه السلام كان مهلًّا بالحج، وقال ابن قدامة: فيه دليل على فضل التمتع.

قلت: قال الطبري: إن جملة الحال له أنه لم يكن متمتعًا؛ لأنه قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، ولا كان مفردًا؛ لأن الهدي كان معه واجبًا وذلك لا يكون إلَّا للقارن.

قوله: "وليجعلها عمرة" أي وليجعل الحجة عمرة، وهو فسخ الحج في العمرة، وقد قلنا: إنه كان مخصوصًا بهم، وأنه لا يجوز اليوم إلَّا عند ابن عباس، وبه قال أحمد وداود الظاهري.

قوله: "فقام سراقة

إلى آخره" قد بين الطحاوي معناه بقوله: "وقول سراقة هذا

إلى آخره".

واحتجت الظاهرية بقوله عليه السلام لسراقة: "بل لأبد" في رواية أخرى على جواز فسخ الحج في العمرة.

قلنا: يحتمل أن يريد بقوله: "لأبد" الاعتمار في أشهر الحج لا فسخ الحج في العمرة، واحتجوا على ذلك أيضًا بقوله:"دخلت العمرة في الحج" أي جازت في أشهر الحج؛ خلافًا لما كانت الجاهلية تعتقده من عدم جوازها في أشهر الحج، ويحتمل أن يكون دخولها في الحج في عمل القارن، ويقال: معنى دخول العمرة في الحج سقوط وجوبها بوجوب الحج. والله أعلم.

الثاني: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة ابن الهاد، عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه محمد الباقر، عن جابر.

ص: 425

وأخرجه النسائى (1): أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب أنا الليث، عن ابن الهاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال:"أقام رسول الله عليه السلام تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس بالحج، فلم يبق أحدٌ يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلًا إلَّا قدم، فتدارك الناس ليخرجوا، حتى جاء ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله عليه السلام فقال: اغتسلي واستثفري بثوب، ثم أهلِّي ففعلت" مختصر.

الثالث: عن محمد بن خزيمة أيضًا، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد المكي مولى نافع بن علقمة -من رجال مسلم- عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر قال:"قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، قال رسول الله عليه السلام: اجعلوها عمرة إلَّا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلُّوا بالحج، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة".

قوله: "اجعلوها عمرة" أي اجعلوا الحجة عمرة، وأراد به فسخ الحج في العمرة، وسيجيء الجواب عنه إن شاء الله تعالى.

الرابع: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي أبي إسحاق البصري شيخ أبي داود والبخاري في غير الصحيح، عن سفيان بن عيينة

إلى آخره.

(1)"المجتبى"(5/ 164 رقم 2761).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 155 رقم 1788).

ص: 426

وأخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) بأسانيد مختلفة وألفاظ متباينة بزيادة ونقصان.

قوله: "صبيحة رابعة" أي ليلة رابعة من ذي الحجة.

قوله: "فأمرنا أن نحل" أراد به فسخ الحج في العمرة.

قوله: "الحلَّ كله" بالنصب، أي حلوا الحل كله.

الخامس: عن محمد بن حميد الرعيني، عن علي بن معبد بن شداد، عن موسى بن أعين الحراني الجزري، روى له الجماعة سوى الترمذي، عن خصيف بن عبد الرحمن الجزري، وثقه يحيى وأبو زرعة والعجلي.

وأخرجه البخاري (5) ومسلم (6) وأبو داود (7) بزيادة ونقصان.

قوله: "فقال أناسٌ

إلى آخره" يدل على أن الصحابة الذين حجوا مع رسول الله عليه السلام كانوا على ثلاثة أحوال: صنف منهم كانوا مهلين بالحج، وصنف كانوا مهلين بالتمتع، وصنف كانوا مهلين كإهلال النبي عليه السلام وكان أهلالهم مبهمًا، فأمر النبي عليه السلام لمن لم يسق الهدي أن يفسخ الحج في العمرة ولهذا أمرهم بالإِحلال، وأما الذين ساقوا الهدي فلم يحلوا إلَّا يوم النحر.

وبهذا الحديث استدل من يرى جواز الإِحرام المبهم، وهو الذي يعلقه بإِحرام شخص، وقد ذكرناه.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 594 رقم 1568).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 183 رقم 1216).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 156 رقم 1789).

(4)

"المجتبى"(5/ 178 رقم 2805).

(5)

"صحيح البخاري"(2/ 632 رقم 1693).

(6)

"صحيح مسلم"(2/ 883 ر قم 1216).

(7)

"سنن أبي داود"(2/ 155 رقم 1787).

ص: 427

السادس: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث ابن سعد، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن حاتم، قال: نا يحيى بن سعيد القطان قال: أنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء، قال: سمعت جابر بن عبد الله في ناسٍ معي قالوا: "أهللنا أصحاب محمد عليه السلام بالحج خالصًا وحده -قال عطاء: قال جابر-: فقدم النبي عليه السلام صبيح رابعة مضت من ذي الحجة، فأمرنا أن نحل -قال عطاء: قال جابر-: حلوا وأصيبوا النساء -قال عطاء: ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم- فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلَّا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنيّ، قال: يقول جابر بيده كأني انظر إلى قوله بيده يحركها، قال: فقام النبي عليه السلام فينا فقال: قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا، فحللنا وسمعنا وأطعنا".

قوله: "رابعة" أي صبيح رابعة كما هو كذلك في رواية مسلم.

قوله: "ولم يعزم في أمر النساء" يعني لم يعزم في وطء النساء، وأما في الإِحلال فكأنه عزيمة، ومعنى لم يعزم: لم يؤكد.

قوله: "والمذي يقطر من مذاكيرنا" جملة حالية، و"المَذْي" بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء: البلل الذي يخرج من الذكر عند ملاعبة النساء، ولا يجب فيه الغسل، وهو نجس يجب غسله، وينقض الوضوء.

والمذاكير: جمع ذكر على خلاف القياس.

قوله: "ولم يَحْلِل" بكسر اللام لأنه من حَلَّ يَحِلُّ من باب ضَرَبَ يَضْرِب، وقد جاء بفك الإِدغام، وقد عرف أن هذا الباب يجوز فيه الإِدغام والفك، ويجوزَ في الإِدغام فتح اللام الأخيرة؛ لأنه أخف الحركات، وكسرها لأن الساكن إذا حُرِّكَ

(1)"صحيح مسلم"(2/ 883 رقم 1216).

ص: 428

حُرِّكَ بالكسر، وفي نحو باب لم يمُدْ تجوز فيه الأوجه الثلاثة مع الفك، والضم لاتباع الميم.

قوله: "وأتقاكم" أي أخشاكم.

قوله: "وأبركم" أي أكثركم خيرًا وبرًّا.

السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن مكي بن إبراهيم البلخي شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر.

وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن حاتم، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"أمرنا رسول الله عليه السلام لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح".

قوله: "أن نحل" بفتح أن أي بأن نحل أي أمرنا بالإِحلال بعد أن طفنا بالبيت وبالصفا والمروة.

قوله: "فأهللنا من البطحاء" أي فأحرمنا بالحج من بطحاء مكة.

الثامن: عن محمد بن عبد الله بن ميمون، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر.

وأخرجه أبو داود (2): نا العباس بن الوليد بن مزيد، قال: أخبرني أبي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني من سمع عطاء بن أبي رباح، قال: حدثني جابر بن عبد الله قال: "أهللنا مع رسول الله عليه السلام بالحج خالصًا لا يخالطه شيء، فقدمنا مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فطفنا وسعينا، فأمرنا رسول الله عليه السلام أن نحل، وقال: لولا الهدي لحللت، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، أرأيت متعتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله عليه السلام: بل هي للأبد، قال الأوزاعي: سمعت عطاء بن أبي رباح يحدث بهذا فلم أحفظه حتى لقيت ابن جريج فأثبته لي".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 882 رقم 1214).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 155 رقم 1787).

ص: 429

وأخرجه البخاري (1) ومسلم (2) والنسائي (3) وابن ماجه (4) أيضًا بأسانيد وألفاظ مختلفة.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا حميد، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أن النبي عليه السلام وأصحابه قدموا مكة ملبين بالحج، فقال رسول الله عليه السلام: من شاء أن يجعلها عمرة، إلَّا من كان معه الهدي".

ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(5): ثنا روح وعفان، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد -قال عفان: أنا حميد- عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر أنه قال:"قدم رسول الله عليه السلام وأصحابه مكة ملبين -وقال عفان: مهلين- بالحج، فقال رسول الله عليه السلام: فمن شاء أن يجعلها عمرة، إلَّا من كان معه الهدي".

قوله: "ملبين" حال من الضمير الذي في "قدموا".

قوله: "من شاء أن يجعلها عمرة" جوابه محذوف، والتقدير: من شاء منكم أن يجعل حجته عمرة فليجعل إلَّا من كان معه الهدي فليس له ذلك؛ لأنه لا يحل إلَّا يوم النحر.

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"خرجنا ولا نرى إلَّا أنه الحج، فلما قدم رسول الله عليه السلام مكة طاف ولم يحل، وكان معه الهدي، فطاف ومن معه من نسائه وأصحابه، فحل منهم من لم يكن معه الهدي".

(1)"صحيح البخاري"(6/ 2642 رقم 6803).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 883 رقم 1216).

(3)

"المجتبى"(5/ 178 رقم 2805).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 992 رقم 2980).

(5)

"مسند أحمد"(2/ 28 رقم 4822).

ص: 430

ش: إسناده صحيح، وأبو عوانة: الوضاح اليشكري.

وأخرجه البخاري (1) مطولاً: ثنا عثمان، نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام ولا نرى إلَّا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي عليه السلام من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن .. الحديث".

وأخرجه مسلم (2) بنحوه: عن زهير بن حرب، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم.

وأخرجه أبو داود (3): نا عثمان بن شيبة، قال: نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام ولا نرى إلَّا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر رسول الله عليه السلام من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي".

وأخرجه النسائي (4) أيضًا.

قوله: "ولا نرى" قال ابن التبين: ضبطه بعضهم بفتح النون وبعضهم بضمها، قال القرطبي: أي نظن، وكان هذا قبل أن يعلمن بأحكام الإِحرام وأنواعه، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك اعتقادها من قبل أن تُهل، ثم أهلت بعمرة، ويحتمل أن تريد بقولها:"لا نرى" حكاية عن فعل غيرها من الصحابة، وهم كانوا لا يعرفون إلَّا الحج، ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره، وزعم عياض أنها كانت أحرمت بالحج، ثم أحرمت بالعمرة ثم أحرمت بالحج، ويدل على أن المراد بقولها:"لا نرى" إلَّا الحج عن فعل غيرها.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 566 رقم 1486).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 877 رقم 1211).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 154 رقم 1783).

(4)

"المجتبى"(5/ 177 رقم 2803).

ص: 431

قولها: "فلما قدمنا تطوفنا بالبيت" تعني بذلك النبي عليه السلام والناس غيرها؛ لأنها لم تطف بالبيت ذلك الوقت لأجل حيضها.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:"خرجنا من المدينة نصرخ بالحج صراخًا، فلما قدمنا طفنا، فقال رسول الله عليه السلام: اجعلوها عمرة إلَّا من كان معه الهدى، فلما كان عشية عرفة أهللنا بالحج".

ش: إسناده صحيح، وداود هو ابن أبي هند، وأبو نضرة -بالنون والضاد المعجمة- اسمه المنذر بن مالك العبدي العوفي النضري.

وأخرجه مسلم (1): حدثني عبيد الله بن عمر القواريري، قال: ثنا عبد الأعلى ابن عبد الأعلى، قال: نا داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام نصرخ بالحج صراخًا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة، إلَّا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج".

قوله: "نصرخ بالحج" أي نلبي به برفع الصوت.

قوله: "فلما قدمنا" أي مكة.

قوله: "اجعلوها" أي اجعلوا الحجة عمرة، وهو فسخ الحج في العمرة.

ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن منصور ابن عبد الرحمن، عن أمه، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:"قدم رسول الله عليه السلام وأصحابه مهلين بالحج، وكان مع الزبير الهدي، فقال رسول الله عليه السلام لأصحابه: من لم يكن معه الهدي فليحلل، قالت: فلم يكن معي عامئذٍ هدى فأحللت".

ش: "الخصيب" بفتح الخاء المعجمة ابن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان، ووهيب هو ابن خالد البصري، روى له الجماعة، ومنصور بن

(1)"صحيح مسلم"(2/ 914 رقم 1247).

ص: 432

عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث الحجبي العبدري المكي روى له الجماعة إلَّا الترمذي، وأمه صفية بنت شيبة الحاجب الصحابية.

وأخرجه ابن ماجه (1): نا بكر بن خلف أبو بشر، ثنا أبو عاصم، أنا ابن جريج، أخبرني منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام محرمين، فقال النبي عليه السلام: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحلل، قالت: ولم يكن معي هدي فأحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل، فلبست ثيابي وجئت إلى الزبير فقال: قومي عني، فقلت: أتخشى أن أثب عليك".

وأخرجه مسلم (2) نحوه.

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، وبات بها حتى أصبح، فلما صلى الصبح ركب راحلته، فلما انبعثت به سبح وكبَّر، حتى إذا استوت به على البيداء جمع بينهما، فلما قدمنا مكة أمرهم رسول الله عليه السلام أن يحلوا، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج".

ش: أخرج طرفًا من هذا الحديث بغير هذا الإِسناد في باب: ما كان النبي عليه السلام محرمًا في حجة الوداع، وهو إسناد صحيح، وحَبان بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي.

وأخرجه أبو داود (3): نا موسى بن إسماعيل أبو سلمة، نا وهيب، قال: نا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس: "أن النبي عليه السلام بات بها -يعني بذي الحليفة-

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 993 رقم 2983).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 907 رقم 1236).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 157 رقم 1796).

ص: 433

حتى أصبح، ثم ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد وسبَّح وكبَّر، ثم أهلَّ بحج وعمرة، وأهل الناس بهما، فلما قدمنا، أمر الناس فحلوا، حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج ونحر رسول الله عليه السلام سبع بدنات بيده قيامًا".

وأخرجه النسائي (1) أيضًا.

قوله: "فلما انبعثت به" أي فلما أخذت في القيام، والانبعاث أخذها في القيام، والاستواء، كمال القيام، واستحب مالك وأكثر الفقهاء أن يهل الراكب إذا استوت به راحلته قائمة، واستحب أبو حنيفة أن يهل عقيب الصلاة إذا سلم منها، وقال الشافعي: يهل إذا أخذت ناقته في المشي.

قوله: "جمع بينهما" أي بين العمرة والحج، فهذا هو القران، فدل أنه عليه السلام كان قارنًا في حجة الوداع.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي مليح، عن معقل بن يسار قال:"حججنا مع النبي عليه السلام فوجد عائشة تنزع ثيابها، فقال لها: مالك؟ قالت: أنبئت أنك أحللت وأحللت أهلك، فقال: أحلَّ من ليس معه هدي، فأما نحن فلم نحلل لأن معنا هديًا حتى نبلغ عرفات".

ش: مكي بن إبراهيم شيخ البخاري، وعبيد الله بن أبي حميد الهذلي أبو الخطاب البصري، قال أبو حاتم: هو منكر الحديث، ضعيف الحديث، روى له أبو داود، وأبو مليح بن أسامة الهذلي مختلف في اسمه، فقيل: عامر، وقيل: زيد، روى له الجماعة، ومَعْقل -بفتح الميم وسكون العين المهملة، وكسر القاف- ابن يسار بن عبد الله، كان ممن بايع تحت الشجرة.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا عبد الله بن ناجية، نا محمد بن مرزوق، ثنا

(1)"المجتبى"(5/ 225 رقم 2931).

(2)

"المعجم الكبير"(20/ 226 رقم 526).

ص: 434

بكر بن إبراهيم، نا عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن معقل بن يسار، قال: "حججنا

إلى آخره" نحوه، غير أن في روايته: إن معنا بدنًا حتى نبلغ عرفات.

قوله: "أنبئت" على صيغة المجهول، أي أخبرت.

قوله: "حتى نبلغ" بنون الجماعة.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى هذه الآثار فقلدوها، وقالوا: من طاف بالبيت قبل وقوفه ولم يكن ساق هديًا فقد حلَّ.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: أحمد وداود وسائر الظاهرية؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار، وأرا بها الأحاديث التي رواها عن ابن عباس وأبي موسى وجابر بن عبد الله وعبد لله بن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري وأسماء بنت أبي بكر وأنس بن مالك ومعقل بن يسار رضي الله عنهم واحتجوا بها على جواز فسخ الحج في العمرة، وقالوا: من طاف من الحجاج بالبيت قبل وقوفه بعرفة ولم يكن ممن ساق الهدي فإنه يحل.

وقال ابن حزم: كل من أحرم بحج مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي حل بعمرة شاء أو أبى. وقال أيضًا: روي أمر رسول الله عليه السلام من لا هدي معه بأن يفسخ حجه بعمرة، ويحل بأوكد أمر: جابر بن عبد الله وعائشة وحفصة وفاطمة بنت رسول الله عليه السلام وعلي وأسماء بنت أبي بكر وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري وأنس وابن عباس وابن عمر وسبرة بن معبد والبراء بن عازب وسراقة بن مالك ومعقل بن يسار خمسة عشر من الصحابة، ورواه عن هؤلاء نيفٌ وعشرون من التابعين، ورواه عن هؤلاء من لا يحصيه إلَّا الله، فلم يسع أحد الخروج عن هذا (1).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس لأحد دخل حجة أن يخرج منها إلَّا بتمامها، ولا يحله منها شيء قبل يوم النحر من طواف ولا غيره.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماعة التابعين والفقهاء، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: لا يجوز

(1) انظر "المحلى"(7/ 103).

ص: 435

فسخ الحج في العمرة، ولا يجوز لأحد دخل في حجة أن يخرج منها إلَّا بأن يتمها، وتمامها بطواف الزيارة يوم النحر، ولا يحل منها لا بطواف ولا بغيره قبل يوم النحر لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} (1)، يعني لمن دخل فيه، وفسخه في عمرة يكون غير الإِتمام المأمور به.

ص: وقالوا: أما ما ذكرتموه من قول الله عز وجل {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) فهذا في البُدْن ليس في الحاج، ومعنى البيت العتيق ها هنا الحرم كله كما قال في الآية الأخرى:{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) فالحرم هو محل الهدي لأنه ينحر فيه، فأما بنو آدم فإنما محلهم في حجهم يوم النحر.

ش: أي قال هؤلاء الآخرون في الجواب عما استدل به القوم المذكورون، وكانوا قد استدلوا بقوله تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) وهو المذكور في حديث ابن عباس المذكور في أول الباب، وتقرير الجواب عن هذا: أن هذا في البدن ليس في الحاج، وأن المراد بالبيت العتيق ها هنا هو الحرم كله، فُسِّرت ذلك الآيةُ الأخرى، وهو قوله تعالى:{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) فالحرم هو محل الهدي لأنه ينحر فيه، فأما بنو آدم فإنما محلهم في حجهم يوم النحر.

وقال أبو بكر الجصاص: والمراد بالبيت ها هنا الحرم كله، فعبر عنه بذكر البيت إذْ كانت حرمة الحرم كله متعلقة بالبيت، وهو كقوله تعالى، في جزاء الصيد:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (3) ولا خلاف أن المراد الحرم كله، وقد روى أسامة بن زيد (4)، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام: "عرفة كلها موقف، ومنى كلها منحر" وكل فجاج مكة طريق ومنحر. وقال أيضًا: كان ابن عباس يحتج في

(1) سورة البقرة، آية:[196].

(2)

سورة الحج، آية:[33].

(3)

سورة المائدة، آية:[95].

(4)

أخرجه أبو داود في "سننه"(2/ 193 رقم 1937)، وابن ماجه في "سننه"(2/ 1013 رقم 3048).

ص: 436

فسخ الحج في العمرة بقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) فذهب إلى أنه يحل بالطواف، فعله قبل عرفة أو بعده، وكان يذهب إلى أن هذا الحكم باق لم ينسخ، وأن فسخ الحج قبل تمامه جائز بأن يطوف قبل الوقوف بعرفة، فتصير حجته عمرة، وقد ثبت بظاهر قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} (2) نسخه، وهذا معنى ما أراده عمر رضي الله عنه بقوله:"متعتان كانتا على عهد رسول الله عليه السلام وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج"(3) ويذهب فيه إلى ظاهر الآية، وإلى ما علمه من توقيف رسول الله عليه السلام إياهم على أن فسخ الحج كان لهم خاصة.

ص: وأما ما احتجوا به من الآثار التي ذكرناها عن رسول الله عليه السلام في أمره أصحابه بالحل من حجهم بطوافهم الذي طافوه قبل عرفة؛ فإن ذلك عندنا كان خاصًّا لهم في حجتهم تلك دون سائر الناس بعدهم.

ش: هذا عطف على قوله: "أما ما ذكرتموه من قول الله تعالى"، وهذا جواب عن الأحاديث المذكورة المروية عن الصحابة الذين سميناهم، وتقريره: إن يقال: إن فسخ الحج في العمرة الذي يفهم من هذه الأحاديث إنما كان خاصًّا في حق الصحابة الذين حجوا مع رسول الله عليه السلام، أمرهم النبي عليه السلام في حجتهم تلك، وليس ذلك بجائز في حق غيرهم.

وقال أبو عمر: فسخ الحج في العمرة لا يجوز عند أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم؛ لقوله تعالى،:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} (2) يعني لمن دخل فيه، وما أعلم من الصحابة من يجيز ذلك إلَّا ابن عباس، وتابعه أحمد وداود دون سائر الفقهاء، وكلهم على أن فسخ الحج في العمرة خُصَّ به أصحاب النبي عليه السلام.

(1) سورة الحج، آية:[33].

(2)

سورة البقرة، آية:[196].

(3)

تقدم.

ص: 437

ص: والدليل على ذلك: ما حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا سعيد بن منصور وإسحاق بن أبي إسرائيل، عن عبد العزيز بن محمد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن ابن بلال بن الحارث، عن أبيه قال:"قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ حجنا هذا، لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل لكم خاصة".

حدثنا ابن أبي داود وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا الدراوردي، قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يحدث، عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني، عن أبيه مثله.

ش: أي والدليل على أن ذلك كان خاصًّا للصحابة الذين حجوا مع النبي عليه السلام دون غيرهم: حديث بلال بن الحارث، فإنه لما قال:"أرأيت يا رسول الله فسخ حجنا هذا لنا خاصةً أم للناس عامّةً؟ قال: بل لكم خاصةً"، أي بل هو لأجلكم خصوصًا. فهذا دليل صريح على أنه كان مخصوصًا لهم دون غيرهم، وأخرج حديث بلال بن الحارث بن عصم المزني الصحابي من طريقين:

الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن إسحاق بن أبي إسرائيل -واسم أبي إسرائيل إبراهيم- المروزي شيخ البخاري في غير الصحيح وأبي يعلى وأبي داود، قال ابن معين: ثقة.

عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن -واسم أبي عبد الرحمن فروخ- القرشي التيمي المقرىء المعروف بربيعة الرأي شيخ مالك بن أنس، روى له الجماعة، عن الحارث بن بلال المزني المدني، ضعفه يحيى والنسائي، قال ابن عدي: لا أعرف له حديثًا مسندًا. وقال الذهبي: لم يرو عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويقال إن بلال شبه المجهول، وقال أحمد: حديث بلال لا يثبت، وحديث أبي ذر في ذلك صحيح.

ص: 438

وأخرجه أبو داود (1): ثنا النفيلي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، قال: أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال:"قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصّةً أم لمن بعدنا؟ قال: بل لكم خاصة".

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وصالح بن عبد الرحمن، كلاهما عن سعيد بن منصور، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي

إلى آخره.

وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا أبو مصعب، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي

إلى آخره.

ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا عيسى ابن يونس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن المرقع بن صيفي، عن أبي ذر قال:"إنما كان فسخ الحج للركب الذين كانوا مع النبي عليه السلام".

حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن المرقع الأسيدي، عن أبي ذر الغفاري أنه قال:"كان مما أمرنا به رسول الله عليه السلام حين دخلنا مكة أن نجعلها عمرةً ونحلّ من كل شيء، أن تلك كانت لنا خاصة رخصة من رسول الله عليه السلام دون الناس".

حدثنا فهدٌ، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا حفص -هو ابن غياث- عن يحيى بن سعيد، قال: حدثني المرقع الأسيدي، قال: قال أبو ذر: "لا والذي لا إله إلا غيره ما كان لأحد أن يهل بحجة ثم يفسخها بعمرة إلَّا الركب الذين كانوا مع رسول الله عليه السلام".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، قال: ثنا المرقع، عن أبي ذر قال:"ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه بعمرة".

(1)"سنن أبي داود"(2/ 161 رقم 1808).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 994 رقم 2984).

ص: 439

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الأكرم، عن إبراهيم التميمي، عن أبيه:"قال في متعة الحج: ليست لكم ولستم منها في شيء".

حدثنا فهد -هو ابن سليمان- قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم التميمي، عن أبيه، قال: قال أبو ذر: "إنما كانت المتعة لنا خاصة أصحاب رسول الله عليه السلام متعة الحج".

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سليمان بن مهران -وهو الأعمش- فذكر بإسناده مثله وزاد:"يعني الفسخ".

ش: هذه سبع طرق؛ ستة عن أبي ذر، وواحد عن يزيد التيمي على ما يبين إن شاء الله تعالى.

الأول: عن أحمد بن أبي عمران- الفقيه البغدادي، عن إسحاق بن إسرائيل -المذكور عن قريب- عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، روى له الجماعة- عن يحيى بن سعيد الأنصاري روى له الجماعة، عن المُرَقِّع -بضم الميم وفتح الراء وتشديد القاف المكسورة وفي آخره عين مهملة- ابن صيفي، ويقال: مرقع بن عبد الله بن صيفي بن رباح الحنظلي الكوفي وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري.

وأخرجه ابن حزم (1): من طريق المرقع نحوه، وقال: المرقع مجهول، وقد خالفه ابن عباس وأبو موسى فلم يريا ذلك خاصة، ولا يجوز أن يقال في سنة ثابتة أنها خاصة لقوم دون قوم إلَّا بنص قرآن أو سُنة صحيحة.

قلت: لا نسلم أن المرقع مجهول؛ وقد روى عنه مثل يحيى بن سعيد الأنصاري ويونس بن أبي إسحاق وموسى بن عقبة وعبد الله بن ذكوان، وذكره ابن حبان في الثقات من التابعين، واحتج به أبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن أحمد: حديث أبي ذر في أن فسخ الحج في العمرة خاصة للصحابة صحيح.

(1)"المحلى"(7/ 108).

ص: 440

وقوله: "قد خالفه ابن عباس" مردود ومعارض بأن سائر الصحابة وافقوه على قوله هذا.

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن المرقع بن صيفي الأُسَيْدي -بضم الهمزة وفتح السين وتشديد الياء آخره الحروف نسبة إلى أسَيّد بن عمرو بن تميم بن مرِّ بن أدّ، ويقال: قد تخفف الياء في النسبة.

قوله: " أن نجعلها" أي أن نجعل الحجة عمرة.

قوله: "إن تلك" أي إن تلك الفعلة وهي فسخ الحج في العمرة كانت لنا خاصةً.

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن حفص بن غياث، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن المرقع

إلى آخره.

الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي شيخ الشافعي، وثقه ابن حبان، عن يحيى ابن سعيد، عن المرقع.

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا الثقفي، عن يحيى بن سعيد، أخبرني المرقع ابن صيفي، عن أبي ذر أنه قال:"ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه بعمرة".

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم عن شعبة، عن عبد الكريم وثقه ابن حبان، عن إبراهيم التيمي -هو إبراهيم بن يزيد التيمي تيم الرتاب- أبو أسماء الكوفي، روى له الجماعة، عن أبيه يزيد بن شريك التيمي، روى له الجماعة.

وأخرجه ابن حبان في "كتاب الثقات"(1)، وقال: عبد الأكرم يروي عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال:"إنما كانت المتعة لأصحاب محمد عليه السلام-يعني متعة الحج".

(1)"الثقات"(7/ 140 رقم 9370).

ص: 441

السادس: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه يزيد شريك.

وأخرجه مسلم (1): نا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالوا: أنا معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال:"كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد عليه السلام خاصة".

قوله: "أصحاب رسول الله عليه السلام" بالنصب، على الاختصاص.

قوله: "متعة الحج" بالرفع بدل عن قوله: "كانت المتعة"، أو عطف بيان، أو هو خبر مبتدأ محذوف، أي هي متعة الحج، وأراد بهذا فسخ الحج في العمرة لا المتعة التي تفعل اليوم، فافهم.

السابع: عن أبي بشر الرقي عبد الملك بن مروان، عن شجاع بن الوليد السكوني، عن سليمان بن مهران -هو الأعمش- عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر:"كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد عليه السلام خاصة" وفي لفظ: "إنما كانت". وإنما أراد فسخهم الحج بالعمرة لينقض عليه السلام عادتهم في تحريم العمرة في أشهر الحج، وهذا لا يجوز اليوم.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن معاوية بن إسحاق، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال:"سئل عثمان بن عفان عن متعة الحج، فقال: كانت لنا، ليست لكم".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو عوانة وصالح ابن موسى الطلحي، عن معاوية بن إسحاق

فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"سئل عثمان أو سألته".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 897 رقم 1224).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 22 رقم 8666).

ص: 442

ش: هذان طريقان:

الأول: عن ابن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن معاوية بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، روى له البخاري والنسائي وابن ماجه، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه يزيد بن شريك

إلي آخره، وهذا صحيح على شرط البخاري، وأراد بمتعة الحج: فسخ الحج في العمرة.

الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، وصالح بن موسى بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله الطلحي الكوفي، كلاهما عن معاوية بن إسحاق عَمّ صالح المذكور، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه يزيد

إلى آخره.

وهذا أيضًا إسناد صحيح، وصالح بن موسى وإن كان فيه مقال، ولكن لا يضر؛ لأنه ذكر متابعة، وقد قال يحيى بن معين فيه: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وعن النسائي: متروك الحديث.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا داود، قال: ثنا أبو نضرة، أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول:"قام عمر رضي الله عنه خطيبًا حين استخلف، فقال: إن الله عز وجل كان رخص لنبيه عليه السلام ما شاء، ألا وإن نبي الله قد انطلق به فأحصنوا فروج هذه النساء وأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم".

حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن داود، عن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال:"قدمنا مع رسول الله عليه السلام فصرخ بالحج صراخًا، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فلما كان يوم النحر أحرمنا بالحج، فلما كان عمر رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل كان يرخص لنبيه عليه السلام فيما شاء، فأتموا الحج والعمرة".

ص: 443

ويدخل في هذا أيضًا حديث أبي موسى الذي ذكرناه في أول هذا الباب.

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن ابن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن يزيد بن زريع، عن داود ابن أبي هند البصري، عن أبي نضرة -بالنون والضاد المعجمة- المنذر بن مالك، عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عُبيدة بن حميد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال:"خطب عمر رضي الله عنه الناس، فقال: إن الله عز وجل رخص لنبيه ما شاء، وإن نبي الله عليه السلام قد مضى لسبيله، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله عز وجل وحصنوا فروج هذه النساء".

قوله: "قد انطلق به" أي بما رخص الله له، وهذا يدل على أن المتعتين قد انتسختا، إحداهما: متعة الحج وهو فسخ الحج في العمرة، والأخرى متعة النساء، فأشار إلى هذه بقوله:"فأحصنوا فروج هذه النساء"، وأشار إلى متعة الحج بقوله:"وأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم" وإتمام الحج أن لا يفسخه بعد الشروع فيه؛ فافهم.

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن أبي شهاب الحنَّاط -بالنون- الكوفي، وهو الأصغر واسمه عبد ربه بن نافع الكناني، روى له الجماعة سوى الترمذي، عن داود

إلى آخره.

قوله: "نصرخ بالحج" أي نلبي به برفع الصوت، وفيه حجة لرفع الصوت بالتلبية، وأنه مشروع وليس بواجب خلافًا لأهل الظاهر في وجوبه عندهم، وكذلك في مسجد منى والمسجد الحرام يرفع بهما الصوت، واختلف في غيرهما من المساجد، فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: الرفع كسائر المواضع، والأخرى: ألَّا يرفع، ويسمع نفسه ومن يليه؛ لئلا يشهر نفسه بين أهل المسجد بأنه حاج

(1)"مسند أحمد"(1/ 17 رقم 104).

ص: 444

ويخاف فتنته؛ وهذا مأمون في المسجدين؛ لأن جميع من فيه بتلك الصفة، والمرأة لا ترفع صوتها بالتلبية؛ لأن صوتها عورة.

قوله: "فلما كان يوم النحر أحرمنا بالحج" إشارة إلى أنهم كانوا فسخوا حجهم أولاً في عمرة، فطافوا بالبيت والصفا والمروة وأحلوا، ثم أحرموا بالحج أيضاً يوم النحر.

قوله: "فلما كان عمر رضي الله عنه" أراد أنه لما ولي الخلافة منع الناس، عن فسخ الحج في العمرة، وقال: هذا كان رخصة من النبي عليه السلام لأصحابه، والآن قد انطلق به رسول الله، عليه السلام، فأتموا الحج، يعني لا تفسخوه بعد الشروع فيه في عمرة، فإن هذا حكم كان، ثم انتسخ.

قوله: "ويدخل في هذا .... " إلى آخره، من كلام الطحاوي: رحمه الله أي يدخل فيما ذكر عن أبي [سعيد](1) الخدري من أن عمر رضي الله عنه أمرنا بإتمام الحج والعمر حديث أبي موسى الأشعري الذي مضى ذكره في أوائل هذا الباب، وهو ما رواه طارق بن شهاب عنه قال:"قدمت على رسول الله عليه السلام وهو منيخ بالبطحاء"، وفيه:"فكنت أفتي الناس بذلك، حتى كان زمن عمر بن الخطاب .. إلى آخره" وأراد أنه كان يفتي الناس بفسخ الحج في العمرة، فلما كان زمن عمر بن الخطاب منع الناس عن ذلك.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن عاصم، عن أبي نضرة، عن جابر رضي الله عنه قال:"متعتان فعلناهما على عهد رسول الله عليه السلام نهى عنهما عمر رضي الله عنه فلن نعود إليهما".

ش: إسناده صحيح. وابن أبي داود هو إبراهيم البرلسي، وسليمان بن حرب الواشجي شيخ البخاري وأبي داود، وحماد هو ابن سلمة، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وأبو نضرة المنذر بن مالك.

(1) في "الأصل، ك": "موسى"، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله.

ص: 445

وأخرجه مسلم (1): حدثني حامد بن عمر البكراوي، قال: ثنا عبد الواحد، عن عاصم، عن أبي نضرة قال:"كنت عند جابر بن عبد الله، فأتاه آت فقال: إن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله عليه السلام ثم نهانا عنهما عمر رضي الله عنه فلم نعدلهما".

قوله: "متعتان" مبتدأ، والمسوغ لوقوعه مبتدأ كونه موصوفًا بقوله:"فعلناهما"

وخبره قوله: "نهى عنهما عمر رضي الله عنه".

قوله: "على عهد رسول الله عليه السلام" أي في أيامه وزمانه.

وأراد بالمتعتين: متعة النساء، ومتعة فسخ الحج في العمرة، بدليل أن المتعة بالعمرة إلى الحج قد عمل بها الصحابة كثيرًا.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني كثير بن عبد الله -رجل من مزينة- عن بعض أجداده -أو أعمامه- أنه قال: "ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه بعمرة".

ش: عبد الوهاب هو ابن عبد المجيد، ذكر عن قريب.

وكثير بن عبد الله بن عمرو المزني المدني فيه كلام كثير، فعن يحيى: ليس بشيء. وعن أبي داود: كان أحد الكذابين. وعن أبي زرعة: واهي الحديث ليس بقوي. وعن النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وعن ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب، ولا الرواية عنه إلَاّ على جهة التعجب. ومع هذا صحح له الترمذي. قاله صاحب التكميل، وقال يحيى: كان لجده صحبة.

قلت: جده عمرو بن عوف بن زيد بن مليحة، ملحة بن عمرو بن بكر بن أفرك بن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طانجة ابن إليالس بن مضر أبو عبد الله المزني، كان قديم الإِسلام، يقال: إنه قدم مع النبي عليه السلام المدينة، ويقال: إن أول مشاهده الخندق، وكان أحد البكائيين في غزوة تبوك.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 914 رقم 1249).

ص: 446

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إسحاق بن محمد الفروي، قال: ثنا محمد ابن جعفر، عن كثير بن عبد الله، عن بكر بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن هلال صاحب النبي عليه السلام مثله.

ش: إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي فروة، أبو يعقوب الفروي المدني، شيخ البخاري وأبي داود، ووهَّاه أبو داود جدًّا.

ومحمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني روى له الجماعة.

وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، قد مرَّ ذكره الآن.

وبكر بن عبد الله المزني، ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين.

وعبد الله بن هلال المزني الصحابي عداده في أهل المدينة.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): نا يحيى بن أيوب العلاف، ثنا سعيد بن أبي مريم، نا محمد بن جعفر، نا كثير بن عبد الله، عن بكر بن عبد الرحمن المزني، عن عبد الله بن هلال المزني صاحب النبي عليه السلام قال:"ليس لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخ حجه بعمرة".

ص: فقد بين رسول الله عليه السلام فيما ذكرنا عنه في هذه الآثار أن ذلك الفسخ الذي كان أمر به أصحابه خاصًّا لهم، ليس لأحد من الناس بعدهم، وخلطنا بما روي عن النبي عليه السلام في ذلك ما رويناه عمن ذكرنا في هذا الفصل من أصحابه؛ لأن ذلك عندنا مما لا يجوز أن يكونوا قالوه بآرائهم، وإنما [قالوه](2) من جهة ما وقِّفوا عليه، فهم فيما قالوا من ذلك كمن أضاف إلى النبي عليه السلام، فقد ثبت بتصحيح هذه الآثار أن الخروج من الحج لا يكون بالطواف بالبيت.

(1) قال الهيثمي في "المجمع"(3/ 334): رواه الطبراني في "الكبير"، والبزار، إلا أنه قال: عبد الله ابن عبد المزني، وفيه كثير بن عبد الله المزني، وهو متروك.

وكذا ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد الله بن هلال المزني من "الإصابة"(4/ 257) وضعفه.

(2)

في "الأصل، ك": "قالوا"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 447

ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي رواها في هذا الباب، وأراد بقوله:"فقد بيَّن رسول عليه السلام" ما بينه في حديث بلال بن الحارث رضي الله عنه وأراد بقوله: "وخلطنا بما روى عن النبي عليه السلام في ذلك ما رويناه عمن ذكرنا في هذا الفصل" أي الفصل الثاني الذي ذهب إليه أهل المقالة الثانية ما رواه عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وهم: أبو ذر الغفاري، وعثمان بن عفان، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وبعض أجداد كثير بن عبد الله، وعبد الله بن هلال المزني رضي الله عنهم.

قوله: "من جهة ما وُقِّفُوا" عليه على صيغة المجهول، أراد أنهم قالوا ذلك من جهة التوقيف من النبي عليه السلام؛ لأن ذلك ليس مما يعلم بالرأي.

فإن قيل: وكيف يكون ذلك وقد قال عليه السلام لسراقة بن مالك: "بل لأبد الأبد" حين قال: "يا رسول الله هي لنا أو للأبد" وفي رواية "لعامنا هذا أم للأبد"؟

قلت: أراد به سراقة: عمرتنا هذه في أشهر الحج لنا في هذا العام أو للأبد -أو لعامنا هذا أم للأبد- فأجاب رسول الله عليه السلام فقال: هي للأبد، وذلك لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة إلا في غير أشهر الحج، فلما أمرهم النبي عليه السلام بأن يجعلوا حجتهم عمرة وكان ذلك في أشهر الحج اشتبه على سراقة أن هذا في هذه السنة أم للأبد، فأزال رسول الله عليه السلام ما شك فيه بقوله:"بل هي للأبد"، ألا ترى كيف صرَّح في رواية النسائي بقوله:"يا رسول الله أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا أو للأبد؟ قال: هي للأبد"، فثبت من هذا شيئان:

الأول: أن الفسخ كان لهم خاصة.

والثاني: أن إجازة العمرة في أشهر الحج كان لهم وللناس من بعدهم إلى يوم القيامة.

قوله: "لا يكون بالطواف بالبيت" أراد به الطواف قبل وقوفه بعرفة، وفي بعض النسخ:"لا يكون إلَاّ بالطواف بالبيت" فإن صح هذا فيكون المراد من الطواف هو طواف الزيارة يوم النحر؛ لأن المحرم لا يخرج منه إلَاّ يوم النحر، فافهم.

ص: 448

ص: وقد أنكر قوم فسخ الحج، وذكروا ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال:"خرجنا مع النبي عليه السلام حجَّاجًا، فما حللنا من شيء أحرمنا به حتى كان يوم النحر".

فمن الحجة على من احتج بهذا: أن بكر بن عبد الله قد روى عن ابن عمر: "أن رسول الله عليه السلام وأصحابه قدموا مكة ملبين بالحج، فقال: من شاء أن يجعلها عمرة فليفعل، إلَاّ من كان معه الهدي".

وقد ذكرنا ذلك بإسناده في هذا الباب.

ففي هذا أن رسول الله عليه السلام جعل لهم أن يحلوا إن شاءوا إلَاّ أنه عزم عليهم بذلك، فيجوز أن يكونوا لم يحلوا وقد كان لهم أن يحلوا، فقد عاد ذلك في فسخ الحج لمن شاء أن يفسخه إلى عمرة.

ش: أراد بالقوم هؤلاء طائفة من أهل الحديث؛ فإنهم أنكروا فسخ الحج في العمرة، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنه أخرجه عن أحمد ابن داود المكي شيخ الطبراني، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه، فيه مقال؛ فعن يحيى: ليس بشيء، وعنه: ليس بثقة. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال أبو زرعة: كان صدوقًا. وقال ابن حبان: ثقة.

عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": عن زهير، عن عبد الله بن مسلمة، عن عبيد الله، عن نافع نحوه.

وجه استدلالهم به أنه يدل على أنهم لم يحلوا بعد الطواف بالبيت ولم يفسخوا حجهم في عمرة، وأجاب عنه الطحاوي بقوله: "فمن الحجة على من احتج بهذا

" إلى آخره.

ص: 449

بيانه: أن بكر بن عبد الله المزني روى عن عبد الله ابن عمر: "أن رسول الله عليه السلام وأصحابه قدموا مكة ملبين .... الحديث".

أخرجه بإسناد صحيح في هذا الباب، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج، عن حماد، عن حميد، عن بكر بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وهذا يدل على أنه عليه السلام أباح لهم أن يحلوا إن شاءوا الإِحلال ولم يعزم عليهم ذلك، فيجوز أن يكونوا لم يحلوا مع كون الإِحلال جائزًا لهم، فيصير هذا فسخ الحج في العمرة لمن شاء أن يفسخه.

والحاصل أنه يُفهم من ذلك جواز فسخ الحج في العمرة لهم، وإن كانوا لم يفعلوا ذلك لأنه عليه السلام خيرهم فيه، فكان لهم أن يفعلوا وكان لهم أن يتركوا لأنه لم يعزم عليهم، فثبت بذلك الفسخ، على أن الظاهرية ادعوا أنه عليه السلام عزم به عليهم، حتى قالوا: إن الفسخ واجب إلى الآن ولم ينسخ حكمه.

ونحن نقول: الفسخ كان مباحًا لهم ولكنه انتسخ بما ذكرناه. والله أعلم.

قوله: "لا أنه عزم عليهم" أي لا أنه فرض عليهم الإِحلال بعد الطواف بالبيت.

ص: وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أيضاً في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة ومنا [من] (1) أهلّ بحج، وأهلّ رسول الله عليه السلام بالحج، فاما من أهلّ بعمرة فحل، وأما من أهلّ بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحل، حتى كان يوم النحر".

فقد يجوز أن يكون ذلك عندها كما كان عند ابن عمر على ما ذكرنا.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 450

ش: أي قد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ما ذكرنا من المعنى في حديث بكر بن عبد الله، عن ابن عمر، ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك بن أنس

إلى آخره.

وذكره بعين هذا الإِسناد في باب: ما كان النبي عليه السلام محرمًا في حجة الوداع، وقد ذكرنا هناك أن الجماعة غير الترمذي أخرجوه، فالبخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.

ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.

وأبو داود (3): عن القعنبي، عن مالك.

والنسائي (4): عن محمد بن مسلمة، عن مالك.

وابن ماجه (5): عن أبي مصعب، عن مالك.

قوله: "فقد يجوز أن يكون ذلك عندها" أي عند عائشة "كما كان عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما" يعني كما أن في حديث ابن عمر لم يحلوا إلَاّ يوم النحر، مع كون الإِحلال جائزًا لهم بتخيير النبي عليه السلام إياهم في ذلك، فكذلك يجوز أن يكون معنى حديث عائشة كذلك على معنى أنهم لم يحلوا إلَاّ يوم النحر مع كون الإِحلال جائزًا لهم، والله أعلم.

ص: فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار.

وأما وجه ذلك من طريق النظر فإنا قد وجدنا الأصل أن من أحرم بعمرة وطاف لها وسعى أنه قد فرغ منها، وله أن يحلق ويحل، هذا إذا لم يكن ساق هديًا، ورأيناه

(1)"صحيح البخاري"(2/ 567 رقم 1487).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 873 رقم 1211).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 152 رقم 1779).

(4)

"المجتبى"(5/ 246 رقم 2991).

(5)

"سنن ابن ماجه"(2/ 988 رقم 3000).

ص: 451

إذا كان قد ساق هديًا لمتعة، وطاف لعمرة وسعى لم يحل من عمرته حتى يوم النحر، فيحل منها ومن حجته إحلالًا واحدًا، وبذلك جاءت السُنة عن رسول الله عليه السلام جوابًا لحفصة رضي الله عنها لما قالت له:"ما بال الناس حلُّوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني لَبَّدت رأسي وقلدت بُدني، فلا أُحِل حتى أنحر".

فكان الهدي الذي ساق لمتعته التي لا يكون عليه فيها هدي إلَاّ بأن يحج [بعدها](1) يمنعه من أن يحل بالطواف حتى يوم النحر؛ لأن عقد إحرامه هكذا كان: أن يدخل في عمرة فيتمها فلا يحل منها حتى يحرم بحجة، ثم يحل منها ومن العمرة التي قدمها قبلها معًا، وكانت العمرة لو أحرم بها منفردة حل منها بفراغه منها إذا حلق ولم ينتظر به يوم النحر، وكان إذا ساق الهدي لحجة يحرم بها بعد فراغه من تلك العمرة بقي على إحرامه إلى يوم النحر، فلما كان الهدي الذي هو من سبب الحج يمنعه الإِحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله في الحج أحرى أن يمنعه من ذلك إلى يوم النحر، فهذا هو النظر أيضًا عندنا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي فهذا الذي ذكرناه وجه هذا الباب من طريق التوفيق بين الآراء وتصحيح معانيها.

وأما وجهه من طريق النظر والقياس فإنا قد وجدنا

إلى آخره. تلخيصه:

أن المعتمر يحل بمجرد الطواف والسعي ما لم يكن سائق هدي، فإن كان سائق هدي لأجل التمتع لا يحل إلَاّ يوم النحر، فيحل منها ومن حجته التي تمتع بها إلى العمرة بإِحلال واحد، فإذا كان سوق الهدي لأجل تمتعه بالحج إلى العمرة يمنعه من الإِحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله في الحج من الابتداء أحرى أن يمنعه من الإِحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 452

قوله: "وبذلك جاءت السُنَّة" أي بما ذكرنا من أن الذي يتمتع بحجته إلى عمرته لأجل سوقه الهدي لا يحل إلَاّ يوم النحر إحلالًا واحدًا جاءت السُنَّة عن النبي عليه السلام، وذلك في حديث حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال:"يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟! قال: إني لبَّدت رأسي وقلدت هديي، ولا أحل حتى أنحر".

رواه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة.

ورواه مسلم أيضًا (1): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.

وأخرجه الطحاوي في باب ما كان النبي عليه السلام محرمًا في حجة الوداع، عن موسى ابن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك.

وقد مرَّ الكلام فيه مستقصًى.

(1) تقدم.

ص: 453