المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: القارن كم عليه من الطواف لعمرته ولحجته - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٩

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: القارن كم عليه من الطواف لعمرته ولحجته

‌ص: باب: القارن كم عليه من الطواف لعمرته ولحجته

؟

ش: أي هذا باب في بيان أن القارن -وهو الذي جمع بين العمرة والحج عند الإِحرام- كم عليه أن يطوف لعمرته ولحجته.

ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ومحمد بن إدريس المكي، قالا: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام قال:"من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد، وسعيٌ واحد، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا".

ش: رجاله ثقات قد تكرر ذكرهم، وعبد العزيز هو الدراوردي، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب.

وأخرجه الترمذي (1): نا خلاد بن أسلم، قال: نا عبد العزيز بن محمد بن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما، حتى يحل منهما جميعًا".

وأخرجه النسائي (2)، ولفظه:"أن ابن عمر قرن الحج والعمرة فطاف واحدًا، وقال: هكذا رأيت رسول الله عليه السلام يفعله".

وأخرجه البخاري (3) ومسلم (4)، ولفظهما:"أن ابن عمر كان يقول: من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد، ولم يحل حتى يحل منهما جميعَّا".

وقد أخرجاه في حديث طويل.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 284 رقم 948).

(2)

"المجتبى"(5/ 225 رقم 2932).

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 641 رقم 1713).

(4)

"صحيح مسلم"(2/ 903 رقم 1230).

ص: 454

ص: فذهب قومٌ إلى هذا الحديث، فقالوا: على القارن بين الحج والعمرة طواف واحد لا يجب عليه من الطواف غيره.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وعطاء وطاوسًا وسعيد بن جبير ومجاهدًا وسالم بن عبد الله ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: القارن يجزئه طواف واحد وسعيٌ واحد، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور.

قال أبو عمر: وهو قول عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله.

ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: بل يطوف لكل واحد منهما طوافًا واحدًا ويسعى لها سعيًا.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي، والأسود والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وجابر بن زيد وشريحًا القاضي وابن شبرمة وحماد بن سلمة وزياد بن مالك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: بل القارن يطوف طوافين ويسعى سعين.

وروي هذا القول عن عمر وعلي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين وابن مسعود رضي الله عنهم.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الحديث خطأ، أخطأ فيه الدراودي فرفعه إلى النبي عليه السلام وإنما أصله عن ابن عمر عن نفسه، هكذا رواه الحفاظ، وهم مع هذا فلا يحتجون بالدراوردي عن عبيد الله أصلاً، فلِمَ يحتجون به في هذا؟!.

فأما ما رواه الحفاظ في ذلك عن عبيد الله فما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال:"ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يقول: إذا قرن طاف لهما طوافًا واحدًا، فإذا فرَّق طاف لكل منهما طوافًا وسعى سعيًا".

ص: 455

ش: أي وكان من الدليل للآخرين في الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الحديث المذكور: أنه خطأ، أخطأ فيه عبد العزيز الدراوردي حيث رفعه، وإنما أصله موقوف على عبد الله بن عمر، هكذا رواه الحفاظ موقوفًا، ولما ذكره الترمذي قال: وقد رواه غير واحد عن عبيد الله ولم يرفعوه وهو أصح.

وقال أبو عمر في "الاستذكار": لم يرفعه أحد عن عبيد الله غير الدراوردي، وكل من رواه عنه، غيره أوقفه على ابن عمر، وكذا رواه مالك، عن نافع موقوفًا، وإنما قال الطحاوي: أخطأ فيه الدراوردي؛ لأن أبا زرعة قال: الدراوردي سيء الحفظ.

ذكره عنه الذهبي في "الكاشف". وقال النسائي: ليس بالقوي، وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يغلط.

قوله: "فهم مع هذا فلا يحتجون بالدراوردي". أي وأهل المقالة الأولى مع كون هذا الحديث مرفوعاً، لا يحتجون بعبد العزيز الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر أصلاً؛ لأنهم يقولون: حديثه عن عبيد الله منكر كما قال النسائي، فكيف يحتجون به في هذا الموضع، ومع هذا فالحديث موقوف.

قوله: "فأما ما رواه الحفاظ من ذلك

إلى آخره". أشار به إلى أن الصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عمر، وأنه ليس كما رواه الدراوردي بصورة الإِطلاق أن من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد، بل الصحيح منه أنه بالتفصيل، وهو الذي رواه الحفاظ عن عبيد الله، منهم: هشيم بن بشير، رواه عنه، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يقول: "إذا قرن -يعني إذا جمع- بين العمرة والحج من ابتداء الأمر بنية واحدة طاف لهما طوافًا واحدًا، فإذا فرق بأن نوى أولاً للعمرة ثم بعد ذلك نوى للحج، طاف لكل واحد منهما طوافًا، وسعى لكل منهما سعيًا"، أخرج ذلك بإسناد صحيح عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه.

ص: 456

ص: فإن قال قائل: قد روى أيوب بن موسى وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام ما يعود معناه إلى معنى ما روى الدراوردي، وذكر في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا ابن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن نافع:"أن ابن عمر خرج من المدينة إلى مكة -شرفهما الله تعالى- مهلًّا بعمرة مخافة الحصر، ثم قال: ما شأنهما إلَاّ واحد، أشهدكم أني قد قرنت إلى عمرتي حجة، ثم قدم وطاف لهما طوافًا واحدًا، وقال: هكذا فعل رسول الله عليه السلام".

حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر

مثله.

فقد وافق هذا ما روى الدراوردي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام.

ش: تقرير السؤال: أن يقال: إنكم قد خطأتم الدراوردي في رفعه الحديث عن عبيد الله، بالإِطلاق المذكور في متنه بدون تفصيل، وقد روى أيوب بن موسى وموسى بن عقبة كلاهما، عن نافع، عن ابن عمر ما معناه مثل معنى ما رواه الدراوردي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر في رفع الحديث وإطلاقه بلا تفصيل، ثم ثنَّى ذلك بقوله:"وذكر في ذلك". أي: وذكر هذا القائل فيما ادعاه ما حدثنا

إلى آخره. وهذان طريقان:

الأول: في حديث أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أبي موسى المكي، وثقه يحيى وأبو زرعة والعجلي، وروى له الجماعة.

أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 457

وأخرجه الطحاوي بعينه سندًا ومتنًا في باب: ما كان النبي عليه السلام محرمًا في حجة الوداع.

الثاني: في حديث موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، روى له الجماعة. أخرجه أيضًا عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد المذكور، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما. وهذا أيضًا ذكره في الباب المذكور.

قوله: "قالوا". أي أهل المقالة الأولى، فقد وافق هذا أي الذي رواه أيوب بن موسى وموسى بن عقبة ما رواه الدراوردي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، فصح أن الحديث مرفوع مثل ما رفعه الدراوردي على الصورة المذكورة.

ص: قيل لهم: فكيف يجوز أن تقبلوا هذا عن ابن عمر، وقد حدثنا يزيد بن سنان، وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم، أن عبد الله بن عمر قال:"تمتع رسول الله عليه السلام في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله عليه السلام فأهلَّ بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله عليه السلام بالعمرة إلى الحج".

فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله عليه السلام أنه كان في حجة الوداع متمتعًا، وأنه بدأ بالعمرة، وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام وأصحابه قدموا ملبين بالحج، فقال رسول الله عليه السلام: من شاء أن يجعلها عمرة، إلَاّ من كان معه الهدي".

فأخبر ابن عمر رضي الله عنهما في حديث بكر هذا أن رسول الله عليه السلام قدم مكة وهو يلبي بالحج، وقد أخبر في حديث سالم أن رسول الله عليه السلام بدأ فأحرم بالعمرة فهذا معناه عندنا -والله أعلم- أنه كان أحرم أولاً بحجة على أنها حجة ثم فسخها فصيرها عمرة، فلبى بالعمرة ثم تمتع بها إلى الحج، حتى يصح حديث سالم وبكر هذين

ص: 458

ولا يتضادان، وفسخ رسول الله عليه السلام الحج الذي كان فعله وأمر به أصحابه هو بعد طوافهم بالبيت، قد ذكرنا ذلك في باب فسخ الحج، فأغنانا ذلك عن إعادته ها هنا، فاستحال بذلك أن يكون الطواف الذي كان رسول الله عليه السلام فعله للعمرة التي انقلبت إليها حجته مُجزيًّا عنه من طواف حجته التي أحرم به بعد ذلك، ولكن وجه ذلك عندنا -والله أعلم-: أنه لم يطف لحجته قبل يوم النحر؛ لأن الطواف الذي يفعل قبل يوم النحر في الحجة إنما يفعل للقدوم لا لأنه من صلب الحجة، فاكتفى ابن عمر بالطواف الذي كان فعله بعد القدوم في عمرته عن إعادته في حجته، وهذا مثل ما روي عن ابن عمر أيضًا من فعله.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا قدم مكة رَمَل بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة، وإذا لبَّى من مكة بها لم يرمل بالبيت، وأخَّر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر، وكان لا يرمل يوم النحر.

فدلَّ ما ذكرنا أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا أحرم بالحجة من مكة لم يطف لها إلى يوم النحر، فكدلك ما روي عن رسول الله عليه السلام من إحرامه بالحجة التي أحرم بها بعد فسخ حجته الأولى لم يكن طاف لها بك يوم النحر، فليس في حديث ابن عمر، عن النبي عليه السلام من حكم طواف القارن لعمرته وحجته شيء، وثبت بما ذكرنا أيضًا خطأ الدراوردي في حديث عبيد الله الذي وصفناه.

ش: بيان هذا الجواب يحتاج إلى تمهيد كلام قبله، وهو أن أخبار ابن عمر في هذا الباب مضطربة ظاهرها متضادٌ، ألا ترى أن سالمًا روى عنه أنه قال: "تمتع رسول الله عليه السلام في حجة الوداع

" الحديث.

أخرجه عن يزيد بن سنان القزاز، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم.

ص: 459

وذكره بعينه في باب: ما كان النبي عليه السلام محرمًا في حجة الوداع.

فهذا ابن عمر يخبر في حديثه هذا أنه عليه السلام كان في حجة الوداع متمتعًا، وأنه بدأ فأحرم بالعمرة أولاً، وروى عنه بكر بن عبد الله: "أن النبي عليه السلام وأصحابه قدموا ملبين بالحج

" الحديث.

أخرجه عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر.

وذكره أيضًا بعينه في باب: من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف بعرفة.

فهذا ابن عمر يخبر في حديثه هذا أنه عليه السلام قدم مكة وهو يلبِّي بالحج، فبين الخبرين تضاد لا يخفى.

وأشار إلى وجه التوفيق بينهما دفعًا للتضاد المذكور بقوله: "فهذا معناه عندنا، والله أعلم". بيانه أن يقال: إنه عليه السلام كان أحرم أولاً بحجة على أنها حجة، ثم فسخها فجعلها عمرة فلبَّى بالعمرة، ثم تمتع بهذه العمرة إلى الحج، ولكن كان فسخه الحج الذي كان فعله وأمر به أصحابه بعد طوافهم بالبيت على ما ذكره في باب فسخ الحج، فإذا كان كذلك استحال أن يكون الطواف الذي كان رسول الله عليه السلام فعله للعمرة التي انقلبت عنها حجته كافيًا عنه عن طواف حجته التي أحرم بها بعد ذلك، ولكن وجهه أنه لم يطف لحجته قبل يوم النحر؛ لأن الطواف الذي يفعل قبل يوم النحر يفعل للقدوم، وليس ذلك من صلب الحج، وهو معنى قوله:"لا لأنه من صلب الحج" أي لا يفعل ذلك لأجل أنه أن صلب الحج، ولكن ابن عمر رضي الله عنهما اكتفى بالطواف الذي كان فعله بعد القدوم في عمرته عن إعادته في حجته، وهذا مثل ما روي عنه من فعله:"أنه كان إذا قدم مكة رمل بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة، وإذا لبَّى من مكة لم يرمل بالبيت، وأخر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر، وكان لا يرمل يوم النحر".

أخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد ابن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عنه.

ص: 460

وأخرجه مالك في "موطأه"(1) عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، وكان لا يرمل إذا طاف حول البيت إذا أحرم من مكة" انتهى.

فإذا ثبت هذا فقد دلّ على أن ابن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف لها إلى يوم النحر، فكذلك ما روي عن النبي عليه السلام من إحرامه بالحجة التي أحرم بها بعد فسخه حجته الأولى لم يكن طاف لها إلى يوم النحر، فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن نقبل ما ذكروه عن ابن عمر في الاحتجاج فيما ذهبوا إليه؟! وليس في حديثه عن النبي عليه السلام ما يبين حكم طواف القارن لعمرته وحجته، فدل ذلك أيضًا على خطأ الدراوردي في رفعه الحديث عن عبيد الله بن عمر. والله أعلم.

ص: واحتج أهل المقالة الأولى بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك (ح).

وحدثنا يونس، قال: أخبرني ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام في حجة الوداع، فأهللنا بالعمرة، ثم قال رسول الله عليه السلام: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا، فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله عليه السلام، فقال: انقضى رأسك وامتشطي، وأهلِّي بالحج، ودعى العمرة، فلما قضيت الحج، أرسلني رسول الله عليه السلام مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك، قالت: فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجتهم، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحداً".

(1)"موطأ مالك"(1/ 365 رقم 814).

ص: 461

قالوا: فهذه عائشة قد قالت: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا" وهم كانوا مع رسول الله عليه السلام وبأمره كانوا يفعلون، ففي ذلك ما يدل على أن على القارن لحجته وعمرته طوافًا واحدًا، وليس عليه غير ذلك.

ش: احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه من أن القارن عليه طواف واحد وسعي واحد بحديث عائشة، قالوا: "فهذه عائشة قد قالت

" إلى آخره، وهو ظاهر.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر بن الحكم الزهراني البصري، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.

وأبو داود (2): عن مالك.

ومسلم (3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.

والنسائى (4): عن محمد بن مسلمة، ومسكين بن الحارث، عن ابن القاسم، عن مالك.

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك

إلى آخره.

وهؤلاء كلهم رجال الصحيح.

قوله: "ودعي العمرة" أي ارفضيها.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 590 رقم 1557).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 153 رقم 1781).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 873 رقم 1211).

(4)

"المجتبى"(5/ 165 رقم 2764).

ص: 462

قوله: "إلى التنعيم". بفتح التاء المثناة من فوق، وسكون النون، وكسر العين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره ميم، قال الجوهري: هو موضع بمكة.

قلت: هو منتهى حد الحرم من ناحية المدينة، بينه وبين مكة نحو من أربعة أميال، وفيه مسجد عائشة رضي الله عنها.

وفي "المطالع": التنعيم من الحل بين مكة وسرف على فرسخين من مكة وقيل: على أربعة ليال؛ وسميت بذلك لأن جبلًا عن يمينها يقال له: نعيم، وآخر عن شمالها يقال له: ناعم، والوادي نعمان.

ويستفاد منه:

جواز التمتع والإِفراد والقران، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.

وأن الحائض لا تطوف بالبيت.

قال أبو عمر: فيه أن الطواف لا يجوز عل غير طهارة، وذلك حجة على أبي حنيفة وأصحابه الذين يجيزون لغير الطاهر الطواف، ويرون على من طاف غير طاهر من جنابة أو حيض دمًا ويجزئه طوافه. وعند مالك والشافعي لا يجزئه ولا بد من إعادته.

وقال ابن الجوزي: فيه دليل عل أن طواف المحدث لا يجزىء، ولو كان ذلك لأجل المسجد لقال: لا يدخل المسجد.

وقد اختلفت الرواية عن أحمد في طواف المحدث والنجس، فروى عنه: لا يصح، وروى عنه: يصح ويلزمه دم.

وقال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن الحائض لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة؛ لأن السعي بينهما موصول بالطواف، والطواف موصول بالصلاة، ولا تجوز صلاة بغير طهارة.

ص: 463

وقال ابن التين: والسعي مرتب عليه وإن كان ليس من شرطه الطهارة، بدليل أنها لو حاضت بعد أن فرغت [من](1) الطواف وسعت أجزأها.

وفي "شرح المهذب": مذهب الجمهور أن السعي يصح من المحدث والجنب والحائض، وعن الحسن: إن كان قبل التحلل أعاد السعي، وإن كان بعده فلا شيء عليه، وعن أبي حنيفة: أن الطهارة من الحدث والنجس ليس بشرط للطواف، فلو طاف وعليه نجاسة أو محدثًا أو جنبًا صح طوافه، واختلف أصحابه في كون الطهارة واجبةٌ، مع اتفاقهم أنها ليست شرطًا، فمن أوجبها منهم قال: إن طاف محدثًا لزمه شاة، وإن كان جُنبًا لزمه بدنة، قالوا: ويعيده ما دام بمكة، واستدلوا بقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2).

وعن داود: الطهارة له واجبة، فإن كان محدثًا أجزأه إلَاّ الحائض.

قلت: الجواب عما قاله أبو عمر: إن الله تعالى أمر بالطواف بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) مطلقًا عن شرط الطهارة، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد.

غاية ما في الباب: تكون الطهارة من واجبات الطواف، فإذا طاف من غير طهارة فما دام بمكة تجب عليه الإِعادة؛ لأن الإِعادة جبران بجنسه، وجبر الشيء بجنسه أولى، ثم إن أعاد في أيام النحر فلا شيء عليه، وإن آخره عنها فعليه دم في قول أبي حنيفة، وإن لم يعد ورجع إلى أهله فعليه الدم، غير أنه إن كان محدثًا فعليه شاة، وإن كان جُنبًا فعليه بدنة.

وفيه إدخال الحج على العمرة، وهو شيء لا خلاف فيه بين العلماء ما لم يطف المعتمر أو يأخذ في الطواف.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

(2)

سورة الحج، آية:[29].

ص: 464

واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال أبو حنيفة وأصحابه: من أضاف عمرة إلى حج لزمته وصار قارنًا، وأساء فيما فعل.

وقال مالك: لا يضاف الحج إلى العمرة ولا العمرة إلى الحج، قال: فمن فعل ذلك فليست العمرة بشيء، ولا يلزمه لذلك شيء، وهو حاج مفرد، وكذلك من أهلَّ بحجة فأدخل عليها حجة أخرى، أو أهلَّ بحجتين لم يلزمه إلَاّ واحدة ولا شيء عليه، وهذا كله قول الشافعي والمشهور من مذهبه. وقال أبو حنيفة: من أهلَّ بحجتين أو عمرتين لزمتاه، وصار رافضًا لإِحديهما.

ص: وكان من حجتنا عليهم لمخالفتهم: أنا قد روينا عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، فيما تقدم من هذا الباب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع تمتع وتمتع الناس معه، والمتمتع قد علمنا أنه الذي يهل بحجة بعد طوافه للعمرة، ثم قالت عائشة رضي الله عنها في حديث مالك عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت:"خرجنا مع النبي عليه السلام في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، فأخبرت أنهم دخلوا في إحرامهم كما يدخل المتمتعون، قالت: ثم قال رسول الله عليه السلام: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما" ولم يبين في هذاالحديث الموضع الذي قال لهم فيه هذا القول، فقد يجوز أن يكون قاله لهم قبل دخول مكة، أو بعد دخول مكة قبل الطواف فيكونون قارنين بتلك الحجة للعمرة التى كانوا أحرموا بها قبلها، ويجوز أن يكون قال لهم ذلك بعد طوافهم للعمرة فيكونون متمتعين بتلك الحجة التي أمرهم بالإِحرام بها.

فنظرنا في ذلك فوجدنا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهم قد أخبرا في حديثيهما اللذين رويناهما عنهما في باب: فسخ الحج، أن رسول الله عليه السلام قال ذلك القول في آخر طواف العمرة على المروة، فعلمنا أن قول عائشة رضي الله عنها في حديث مالك: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة التي قد كانوا طافوا لها طوافًا واحدًا؛ لأن حجتهم تلك المضمومة مع العمرة كانت مكيَّة، والحجة المكية

ص: 465

لا يطاف لها قبل عرفة إنما يطاف لها بعد عرفة، على ما كان ابن عمر يفعل فيما رويناه [عنه](1)، فقد عاد معنى ما روينا عن عائشة في هذا الباب وما صححنا من ذلك لننفي التضاد عنه إلى معنى ما روينا عن ابن عمر وما صححنا من ذلك، فليس شيء من هذا يدل على حكم القارن حجة كوفية مع عمرة كوفية كيف طوافه لهما، هل هو طواف واحد أو طوافان؟

ش: هذا جواب عن احتجاج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة في أن القارن يكفيه طواف واحد، وحاصله يؤدي إلى أن حديث عائشة المذكور لا يدل على أن القارن بين الحجة والعمرة الكوفيتين كيف طوافه لهما؟ هل هو طواف واحد أم طوافان؟ بيان ذلك مبني عل تمهيد كلام قبله، وهو أن حديث عائشة رضي الله عنها يعارضه حديثها الآخر، وهو ما رواه عقيل بن خالد الأيلي، عن الزهري، عن عروة، عنها:"أنه عليه السلام في حجة الوداع تمتع وتمتع الناس معه" وقد مرَّ ذكره في باب: ما كان النبي عليه السلام محرمًا في حجة الوداع، فإذا وفق بين الحديثين واندفعت المعارضة علم ما ادعينا، وعلم أيضًا أن معنى حديثها يرجع إلى معنى حديث ابن عمر المذكور قبله الذي احتج به أهل المقالة الأولى من أن القارن يطوف طوافًا واحدًا، فنقول: من المعلوم أن المتمتع هو الذي يهل بحجة بعد طوافه للعمرة، وأخبرت عائشة في حديث مالك أنهم دخلوا في إحرامهم كما يدخل المتمتعون وقالت: "ثم قال رسول الله عليه السلام: من كان معه هدي

الحديث" ولكنها لم تبين في هذا الحديث الموضع الذي قال لهم عليه السلام هذا القول، ثم هو يحتمل أن يكون قال لهم ذلك قبل دخول مكة، ويحتمل أن يكون بعد دخول مكة قبل الطواف، فيكونون قارنين بتلك الحجة والعمرة التي كانوا أحرموا بها قبل تلك الحجة، ويحتمل أن يكون قال لهم ذلك بعد طوافهم للعمرة فيكونون متمتعين بتلك الحجة التي أمرهم بالإِحرام بها، فنظرنا في ذلك فوجدنا قد بين ذلك في حديث جابر وأبي سعيد؛ فإنهما أخبرا في

(1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 466

حديثيهما أن رسول الله عليه السلام قال ذلك القول في آخر طواف على المروة، وقد مرَّ هذا في باب من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف، وهو الباب الذي أراد بقوله: "رويناهما عنهما في باب: فسخ الحج.

فإذا كان الأمر كذلك، علم أن قول عائشة في حديث مالك:"وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة" أنهما أرادت بذلك جمع متعة لا جمع قران؛ لأن حديث جابر قد فسر أن قوله عليه السلام: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة" إنما كان في آخر طواف على المروة، ولا شك أن الذي يهل بالحج بعد الطواف للعمرة يكون جامعًا بين الحج والعمرة للمتعة لا للقران، فبهذا حصل التوفيق أيضًا بين حديثي عائشة اللذين بينهما تضاد ظاهرًا.

وعلم أيضًا أنه ليس في حديثهما ما يدل عل حكم القارن حجة كوفيَّة مع عمرة كوفية كيف طوافه لهما، هل هو طواف واحد أو طوافان؟ وذلك لأن حجتهم تلك المضمومة إلى عمرة كانت مكيَّة، والحجة المكية لا يطاف لها قبل عرفة، وإنما يطاف لها بعدها عل ما كان عبد الله بن عمر يفعل كذلك، وقد مرَّ هذا في حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر في هذا الباب عن قريب.

وقد شنع البيهقي في هذا الموضع في كتاب "المعرفة"(1) على الطحاوي وقال: وزعم بعض من يدعي تصحيح الأخبار على مذهبه أنهما أرادت بهذا الجمع جمع متعة لا جمع قران، قالت: فإنما طافوا طوافًا واحدًا في حجتهم؛ لأن حجتهم كانت مكية والحجة المكية لا يطاف لها قبل عرفة، وكيف استجاز لدينه أن يقول مثل هذا؟! وفي حديثها أنها أفردت من جمع بينهما جمع متعة أولاً بالذكر، فذكرت كيف طافوا في عمرتهم، ثم كيف طافوا في حجتهم، ثم لم يبق إلَاّ المفردون والقارنون فجمعت بينهم في الذكر، وأخبرت أنهم إنما طافوا طوافًا واحدًا، وإنما أرادت بين الصفا والمروة لما ذكرنا من الدلالة مع كونه معقولًا، ولو اقتصرت على اللفظة الأخيرة لم

(1)"معرفة السنن والآثار"(4/ 96).

ص: 467

يجز حملها أيضًا على ما ذكر؛ لأنها تقتضي اقتصارًا على طواف واحد لكل ما حصل به الجمع، والجمع إنما حصل بالعمرة والحج جميعًا، فيقتضي اقتصارًا على طواف واحد لهما جميعًا لا لأحدهما، والتمتع لا يقتصر على طواف واحد بالإِجماع؛ فدل أنها أرادت بهذا الجمع: جمع قران.

قلت: لم يفهم البيهقي كلام الطحاوي هذا فلذلك شنَّع عليه هذا التشنيع الباطل إظهارًا للتعصب المحض، ألا ترى كيف تأول قولها:"فإنما طافوا طوافًا واحدًا" أنها أرادت بهذا السعي بين الصفا والمروة؟! فما الضرورة إلى تأوبل الطواف بالسعي؟! بل المراد الطواف بالبيت، وقوله: يقتضي اقتصارًا على طواف واحد

إلى آخره. ليس كذلك؛ لأنه قال: إن حجتهم تلك صارت مكيَّة، والحجة المكية يطاف لها بعد عرفة، فإذا كان كذلك يقتصر المتمتع على طواف واحد، على أنَّا نقول أحاديث عائشة رضي الله عنها في هذا الباب مضطربة جدًّا لا يتم بها الاستدلال لأحد من الخصوم، وقد قالت في رواية:"أهللنا بعمرة" وفي أخرى: "فمنا من أهلَّ بعمرهّ ومنا من أهلَّ بحج -قالت-: فلم أهلّ إلَاّ بحج" وفي أخرى: "مهلين بالحج"، والكل صحيح، وفي رواية:"وكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي"، حتى قال مالك: ليس العمل على حديث عروة عنها قديمًا ولا حديثًا.

ص: واحتج الذين ذهبوا إلى أن القارن يجزئه لعمرته وحجته طواف واحد أيضًا بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح).

وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد قالا: ثنا ابن عُيينة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام قال لها:"إذا رجعت إلى مكة فإن طوافك يكفيك لحجك وعمرتك".

قالوا: فقد أخبر رسول الله عليه السلام أن الذي عليها لحجها وعمرتها طواف واحد.

ش: احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه من أن القارن يكفيه طواف واحد بحديث عطاء عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 468

وأخرجه من طريقين:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن سفيان بن عُيينة، عن عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، عن عطاء بن أبي رباح.

وأخرجه الشافعى في "مسنده"(1): أنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة، عن النبي عليه السلام أنه قال لعائشة:"طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك".

الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، عن سفيان بن عيينة

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2) وفي كتاب "المعرفة"(3): أنا أبو بكر وأبو زكرياء وأبو سعيد، قالوا: نا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا ابن عُيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة مثله.

وقال البيهقي: وربما قال سفيان: عن عطاء، عن عائشة، وربما قال: إن النبي عليه السلام قال لعائشة.

وقد رواه إبراهيم، عن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عائشة:"أنها حاضت بسرف وطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله عليه السلام: يجزىء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك" ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم في الصحيح (4).

قوله: "قالوا". أي الذين ذهبوا إلى أن القارن يجزئه لعمرته وحجته طواف واحد.

(1)"مسند الشافعي"(1/ 113).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 106 رقم 9203، 9204).

(3)

"معرفة السنن والآثار"(4/ 97).

(4)

"صحيح مسلم"(2/ 880 رقم 1211).

ص: 469

ص: قيل لهم: ليس هكذا لفظ هذا الحديث الذي رويتموه، إنما لفظه أنه قال:"طوافك لحجك يجزئك لحجك وعمرتك".

فأخبر أن الطواف المفعول للحج يجزىء عن الحج والعمرة، وأنتم لا تقولون هذا، إنما تقولون: إن طواف القارن طواف لقرانه لا لحجته دون عمرته ولا لعمرته دون حجته، مع أن غير ابن أبي نجيح من أصحاب عطاء قد روى هذا الحديث بعينه عن عطاء على معنًى غير هذا المعنى.

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حجاج، وأخبرني عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة أنها قالت:"قلت: يا رسول الله، أكل أهلك يرجع بحجة وعمرة غيري؟ قال: انفري فإنه يكفيك -قال حجاج في حديثه عن عطاء قال: لجَّت على رسول الله عليه السلام- فأمرها أن تخرج إلى التنعيم فتهل منه بعمرة، وبعث معها أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم فأهلت منه بعمرة، ثم قدمت منه فطافت وسعت وقصرت، وذبح عنها رسول الله عليه السلام، قال عبد الملك، عن عطاء: "ذبح عنها بقرة".

فأخبر عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة بقصتها بطولها، وأنها إنما أحرمت بالعمرة في وقت ما كان لها أن تنفر بعد فراغها من الحجة، وأن الذي ذُكِرَ أنه يكفيها: هو الحج من الحجة والعمرة، لا الطواف، فقد بطل أن يكون في حديث عطاء هذا حجة في حكم طواف القارن كيف هو؟

ش: هذا جواب عن الحديث المذكور، وتقريره عل وجهين:

الأول: أن لفظ الحديث ليس مثل ما رووه، وإنما هو أنه قال:"طوافك لحجك يجزئك لحجك وعمرتك"، فأخبر رسول الله عليه السلام أن الطواف الذي طافته عائشة رضي الله عنها كانت معتمرة لما أقبل رسول الله عليه السلام مع أصحابه مهلين بالحج، فلما كانت بسرف حاضت فمنعت من الطواف، فأمرها النبي عليه السلام أن تغتسل وتهل بالحج ففعلت ووقفت المواقف، فلما طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، فقال لها

ص: 470

رسول الله عليه السلام: "طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" يعني: طوافك المفعول للحج يجزيء عن الحج والعمرة، وأهل المقالة الأولى لا يقولون هذا، بل إنما يقولون: طواف القارن طواف لأجل قرانه، لا للحج دون العمرة، ولا للعمرة دون الحج.

الوجه الثاني: أن الحديث المذكور روي على معنى غير المعنى الذي رواه عبد الله ابن أبي نجيح، أشار إليه بقوله: "مع أن غير ابن أبي نجيح من أصحاب عطاء قد روى هذا الحديث

" إلى آخره، فإنه أخبر أن اعتمار عائشة كان في وقت ما كان لها أن تنفر بعد فراغها من الحجة، وأن الذي ذُكِرَ أنه يكفيها: هو الحج من الحجة والعمرة، وليس المراد الطواف، فإذا كان كذلك فقد بطل أن يكون في حديث عطاء المذكور حجة في حكم طواف القارن كيف هو.

ثم إنه أخرج الحديث المذكور عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير روى له الجماعة، عن حجاج ابن أرطأة فيه لين ولكن احتج به الأربعة، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة.

وروى حجاج أيضًا، عن عبد الملك بن سليمان العرزمي، عن عطاء، وهو معنى قوله:"وأخبرني عبد الملك عن عطاء"، وعبد الملك روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا ابن نمير، ثنا عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"قلت: يا رسول الله، أترجع نساؤك بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة؟ فأقام لها رسول الله بالبطحاء وأمرها فخرجت إلى التنعيم، وخرج معها عبد الرحمن بن أبي بكر، فأحرمت بعمرة، ثم أتت إلى البيت فطافت به وبين الصفا والمروة وقصرت، فذبح عنها بقرة".

(1)"مسند أحمد"(6/ 165 رقم 25355).

ص: 471

قوله: "لجَّت" بالجيم من لَجِجَ -بالكسر- يَلَجّ لجاجًا ولجاجة، فهو لجوج ولجوجه، بالهاء للمبالغة، ولَجَّ بالفتح لغة، وفي رواية "ألحت" بالحاء المهملة من الإِلحاح، وفي رواية:"ألظت" من أَلظَّ بالشيء يلظ إلظاظًا إذا لازمه وثابر عليه.

وجواب آخر: أن معنى قوله عليه السلام: "فإن طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" أي لعمرتك المرفوضة؛ لأنها لا طواف لها، ويحتمل أن يريد: ثواب هذا الطواف كثواب طواف الحج والعمرة؛ لأنها قصرت النسكين، وإنما تركت الواحد بغير اختيارها، عل أن المشهور الثابت: أن عائشة رضي الله عنها كانت مفردة بالحج، وأنه عليه السلام أمرها برفض العمرة، وقولها:"وأرجع بحجة واحدة" دليل واضح على ذلك، وقولها:"ترجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج" صريح في رفض العمرة؛ إذ لو أدخلت الحج على العمرة لكانت هي وغيرها سواء، ولَمَا احتاجت إلى عمرة أخرى بعد العمرة والحج اللذين فعلتهما.

وقوله عليه السلام عن عمرتها الأخيرة: "هذه مكان عمرتك" صريح في أنها خرجت من عمرتها الأولى ورفضتها، إذ لا تكون الثانية مكان الأولى إلَاّ والأولى مفقودة، وفي بعض الروايات:"هذه قضاء من عمرتك".

فإن قيل: قال البيهقي: معنى قوله: "ودعي العمرة" أمسكي عن أفعالها وأدخلي عليها الحج.

قلت: هذا خلاف حقيقة قوله: "دعي العمرة"، بل حقيقته أنه أمرها برفض العمرة بالحج، وقوله:"انقضي رأسك وامتشطي" يدل عل ذلك ويدفع تأويل البيهقي بالإِمساك عن أفعال العمرة؛ إذ المحرم ليس له أن يفعل ذلك.

فإن قيل: قال الشافعي: لا نعرف في الشرع رفض العمرة بالحيض.

قلت: قال القدوري في "التجريد": ما رفضتها بالحيض لكن تعذرت أفعالها، وكانت ترفضها بالوقوف، فأمرها بتعجيل الرفض.

ص: 472

ص: واحتج من ذهب أيضًا في القارن أنه يطوف لعمرته وحجته طوافًا واحدًا بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أن جابر بن عبد الله يقول:"دخل النبي عليه السلام على عائشة وهي تبكي، فقال: ما لَكِ تبكين؟ قالت: أبكي لأن الناس حلُّوا ولم أحلل، وطافوا بالبيت ولم أطف، وهذا الحج قد حضر كما ترى، فقال: هذا أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم، فاغتسلي وأهلِّي بالحج ثم حجي واقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي، قالت: ففعلت ذلك، فلما طهرت قال: طوفي بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم قد حللت من حجك وعمرتك، فقلت: يا رسول الله إني أجد في نفسي من عمرتي أني لم كن طفت حتى حججت، فأمر عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام مثله.

قالوا: فقد أمرها النبي عليه السلام وهي محرمة بالعمرة والحجة أن تطوف بالبيت وتسعى بين الصفا والمروة ثم تحل، فدل ذلك على أن حكم القارن في طوافه لحجته وعمرته هو كذلك، وأنه طواف واحد لا شيء عليه من الطواف غيره.

ش: احتج أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه أيضًا بحديث جابر، وهو ظاهر.

قوله: "وقالوا" أي هؤلاء المحتجون بحديث جابر.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن محمد بن خزيمة، عن عثمان بن الهيثم بن جهم البصري شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري.

ص: 473

وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن حاتم وعبد بن حميد -قال ابن حاتم: نا، وقال عبد: أنا- محمد بن بكر، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "دخل النبي عليه السلام على عائشة وهي تبكي

" الحديث.

الثانى: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن جابر.

وأخرجه مسلم (1) أيضًا: ثنا قتيبة قال: ثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال:"أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفردًا، وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله عليه السلام أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟! قال: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلَاّ أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله عليه السلام على عائشة رضي الله عنها فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حلَّ الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلِّي بالحج، ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت وطافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا، فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة".

وأخرجه أبو داود (2) والنسائي (3) أيضًا، كلاهما عن قتيبة، عن الليث نحوه.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 881 رقم 1213).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 154 رقم 1785).

(3)

"المجتبى"(5/ 164 رقم 2763).

ص: 474

قوله:" هذا أمر كتبه الله على بنات آدم". ظاهره العموم، وهو يرد قول من قال: أول ما أرسل الحيض عل بني إسرائيل. ويرد هذا أيضًا ما قيل في قوله تعالى في قصة إبراهيم وهو جد بني إسرائيل {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} (1) قال أهل التفسير: أي حاضت، وهو معروف في لغة العرب.

قوله: "غير أن لا تطوفي بالبيت" دليل عل منع الحائض -وإن انقطع دمها- من دخول المسجد. وفيه تنزيه المساجد عن الأقذار والحائض والجنُب.

قوله: "حتى إذا كنا بسرف" بفتح السين وكسر الراء المهملتين وفي آخره فاء، وهو موضع من مكة على عشرة أميال.

قوله: "عركت" بفتح العين والراء المهملتين، أي حاضت، والعارك الحائض.

ص: فكان من الحجة على أهل هذه المقالة الأخرى: أن حديث عائشة هذا قد روي على غير ما ذكرنا؛ حدثنا أبو بكرة ومحمد بن خزيمة، قالا: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة أنها قالت:"أمرنا النبي عليه السلام فقال: من شاء أن يهل بالحج، ومن شاء فليهل بالعمرة، قالت: فكنت ممن أهلّ بعمرة، فحضت، ودخل عليَّ النبي عليه السلام فأمرني أن أنقض رأسي وأمتشط وأدع العمرة".

حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا يوسف بن عدي قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن زيد بن الحسن، عن عكرمة، عن عائشة مثله.

حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا يوسف، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة مثله.

ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام أمرها حين حاضت أن تدع عمرتها، وذلك قبل طوافها لها، فكيف يكون طوافها في حجتها التي أحرمت بها بعد ذلك تجزيء عنها من حجتها تلك ومن عمرتها التي قد رفضتها؟! هذا محال.

(1) سورة هود، آية:[71].

ص: 475

ش: أراد بالحجة: الجواب عن ما احتج به أهل المقالة الأولى من حديث جابر الذي فيه قضية عائشة، في أن القارن ليس عليه إلَاّ طواف واحد، وتقريره أن يقال: إن قضية عائشة التي حدث بها جابر رضي الله عنه قد رواها عروة بن الزبير عنها على غير ذلك، وذلك أنه عليه السلام أمرها في حديث جابر وهي محرمة بالعمرة ثم بالحجة أن تطوف بالبيت وتسعى.

وأهل المقالة الأولى استدلوا به على أن القارن يطوف طوافًا واحدًا لا غير، وفي حديث عروة عن عائشة هذا أمرها رسول الله عليه السلام حين حاضت أن تدع عمرتها، وذلك قبل طوافها للعمرة، وكيف يكون طوافها في حجتها التي أحرمت بها بعد ذلك يجزيء عن حجتها هذه، وعن عمرتها التي قد رفضتها؟! هذا محال، وجه الإِحالة هو أن الطواف الواحد لا يمكن أن يكون لحجة هي متلبسة بها، ولعمرة مرفوضة لم توجد أصلاً.

فإن قيل: قد فسر الطحاوي حديث عطاء عن عائشة -المذكور عن قريب-: "إن طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" بأن معناه الطواف المفعول للحج يجزيء عن الحج والعمرة، وها هنا قال: هذا محال، وبين الكلمتين تناقض.

قلت: ذاك التفسير إنما كان ردَّا لما قاله أهل المقالة الأولى ولهذا قال: وأنتم لا تقولون هذا، إنما تقولون: طواف القارن طواف لقرانه لا لحجته دون عمرته، ولا لعمرته دون حجته، ألا ترى بعد ذلك كيف نفى هذا أيضًا حيث؟ قال: المراد من الذي ذكر أنه يكفيها: هو الحج من الحجة والعمرة لا الطواف.

ثم إنه أخرج الحديث المذكور من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، ومحمد بن خزيمة، كلاهما عن عثمان بن الهيثم شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 476

وأخرجه أحمد: "مسنده"(1): ثنا روح، قال: نا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام في حجة الوداع فنزلنا الشجرة، فقال: من شاء فليهل بحجة، قالت عائشة: فأهلّ منهم بعمرة وأهلّ منهم بحجة، قالت: فكنت أنا ممن أهلَّ بعمرة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فقال لي رسول الله عليه السلام: انقضي رأسك وامتشطي، وذري عمرتك، وأهلِّي بالحج، فلما كان ليلة الحصبة أمرني فاعتمرت مكان عمرتي التي تركت".

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يوسف بن عدي بن زريق -شيخ البخاري- عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عائشة رضي الله عنها.

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن يوسف بن عدي أيضًا، عن يحيى ابن أبي زائدة أيضًا، عن نافع بن عمر بن عبد الله الجمحي المكي وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة المكي الأحول القاضي، عن عائشة.

ص: وقد روى الأسود عنها: ذلك أيضًا ما حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:"خرجنا ولا نرى إلَاّ أنه الحج، فلما قدم مكة طاف ولم يحل وكان معه الهدي، فطاف من معه من نسائه وأصحابه، فحل منهم من لم يكن معه الهدي، قال: وحاضت هي قالت: فقضينا مناسكنا، فلما كانت ليلة الحصبة ليلة النفر قلت: يا رسول الله، أيرجع أصحابك بحجة وعمرة وأرجع أنا بحج؟ قال: أما كنت طفت بالبيت ليالي قدمنا؟ قالت: قلت: لا، قال: انطلقي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة، ثم موعدك مكان كذا وكذا".

(1)"مسند أحمد"(6/ 245 رقم 26128).

ص: 477

ففي هذا الحديث ما يدل أنها قد كانت خرجت من عمرتها التي صارت مكان حجتها بفسخ الحج بمضيها إلى عرفة قبل طوافها لها؛ لأن رسول الله عليه السلام قال لها: "أما كنت طفت ليالي قدموا" أي لو كنت طفت كانت قد تمت لك عمرتك مع حجتك التي قد فرغت منها، فلما أخبرته أنها لم تكن طافت ليالي قدموا، جعلها بما فعلت بعد ذلك لحجها من وقوفها بعرفة أو توجهها إليها خارجة من عمرتها، [فأمرها](1) أن تعتمر أخرى مكانها من التنعيم، فكيف يجوز لقائل أن يقول أن طوافها بالبيت لحجة هي فيها يكون لتلك الحجة ولعمرة أخرى قد خرجت منها قبل ذلك، هذا عندنا محال.

ش: أي قد روى الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، عن عائشة رضي الله عنها في أمر عائشة.

أخرجه بإسناد صحيح، عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (2): عن عثمان، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم

إلى آخره.

ومسلم (3): عن زهير بن حرب، عن جرير، عن منصور

إلى آخره.

وقد ذكرناه فيما مضى.

قوله: "ولا نرى" بفتح النون وضمها، قال القرطبي: أي ولا نظن.

قوله: "ليلة النفر" أي الرحيل، وهو بدل من قوله:"ليلة الحصبة"، وليس بموجود في بعض النسخ، وباقي الكلام ظاهر.

(1) في "الأصل، ك": "أمر لها"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 566 رقم 1486).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 877 رقم 1211).

ص: 478

ص: وقد روى القاسم بن محمد في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام ولا نذكر إلَاّ الحج، فلما جئنا بسرف طَمِثْتُ، فدخل عليَّ رسول الله عليه السلام وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: لوددت أني لم أحج العام أو لم أخرج العام، قال: لعلك نفست، قلت: نعم، قال: هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت، قالت: فلما جئنا مكة قال رسول الله عليه السلام لأصحابه: اجعلوها عمرة، فحل الناس إلَاّ من كان معه هدي، فكان الهدي معه ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وذوي اليسارة، ثم أهلوا بالحج، فلما كان يوم النحر طهرت، فأرسلني رسول الله عليه السلام فأفضت، فأتي بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر، حتى إذا كانت ليلة الحصبة قلت: يا رسول الله، يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فأردفني خلفه، فإني لأذكر أني كنت أنعس فيضرب وجهي مؤخرة الرحل، حتى جئنا التنعيم، فأهللت بعمرة جزاءً بعمرة الناس التي اعتمروا بها" فهذا مثل الحديث الذي قبله.

ش: أي قد روى القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في أمر عائشة ما حدثنا فهد بن سليمان، ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري

إلى آخره.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرج مسلم (1): حدثني سليمان بن عبيد الله أبو أيوب الغيلاني، قال: نا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، قال: نا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله عليه السلام

" إلى آخره نحوه.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 873 رقم 1211).

ص: 479

قوله: "فطمثت" أي حضت، يقال: طمثت المرأة تطمث طمثًا إذا حاضت فهي طامث، والطمث: الدم وهو من باب نَصَرَ يَنْصُرُ، ويجيء أيضًا من باب عَلِمَ يَعْلَمُ.

قوله: "لعلك نَفِست". بفتح النون وكسر الفاء، أي: حِضْتِ، قال ابن الأثير: يقال: نُفِسَت المرأة ونَفَسَت فهي منفوسة ونفساء، إذا ولدت، فأما الحيض فلا يقال فيه إلَاّ: نَفِست بالفتح.

وفي "المطالع": قوله: "لعلك نُفست" كذا ضبطه الأصيلي بضم النون، وفي الولادة فَنُفِسَت بعبد الله، ضبطناه بالضم أيضًا.

قال الهروي: يقال في الولادة بضم النون وفتحها، وإذا حاضت نَفَسَت بالفتح لا غير، ونحوه لابن الأنباري، والاسم من الولادة والحيض، والمصدر النفاسة والنفاس، والولد منفوس، والمرأة نفساء، ونِفْسَى مثل كِسْرى، ونَفْسَى بالفتح، والجمع نفاس مثل كرام ونُفسٌ بضم النون والفاء، ونُفَساوات بالضم والفتح.

قوله: "وذوي اليسارة". أي أصحاب الغنى، قال الجوهري: اليسار واليسارة الغنى.

قوله: "فإني لأذكر". اللام فيه للتأكيد؛ ولهذا جاءت مفتوحة.

قوله: "مُؤخِرة الرحل". بضم الميم وكسر الخاء المعجمة، وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب من كور البعير، وقد تقال بالهمزة: مؤخرة الرحل.

قوله: "جزاء بعمرة الناس". أي: قضاءً بسبب عمرة الناس، وانتصابه بفعل محذوف تقديره: جزيتها جزاءً بعمرة الناس، كما يقال: جزيته بما صنع.

قوله: "فهذا مثل الحديث الذي قبله". أي فهذا الحديث الذي رواه القاسم بن محمد مثل الحديث الذي رواه الأسود عن عائشة، فيما ذكرنا من المعنى".

ص: 480

ص: وقد رواه عروة عن عائشة أبين من ذلك:

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"خرجنا موافين للهلال، فقال رسو الله عليه السلام: من شاء أن يهل بالحج فليهل، ومن شاء أن يهل بالعمرة فليهل، فأما أنا فإني أهل بالحج؛ لأن معي الهدي، قالت عائشة رضي الله عنها: فمنا من أهلّ بالحج ومنا من أهلّ بالعمرة، وأما أنا فإني أهللت بالعمرة، فوافاني يوم عرفة وأنا حائض، فقال رسول الله عليه السلام: دعي عنك عمرتك وانقضي شعرك وامتشطي، ثم لبي بالحج، فلبيت بالحج، فلما كانت ليلة الحصبة وطهرت أمر رسول الله عليه السلام عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب بي إلى التنعيم فلبيت بالعمرة قضاءً لعمرتها".

فبينت عائشة رضي الله عنها أن حجتها كانت مفصولة من عمرتها، وأنها قد كانت فيما بينهما نقضت شعرها وامتشطت، فكيف يجوز أن يكون طوافها لحجتها التي بينها وبين عمرتها ما ذكرنا من الإِحلال يجزىء عنها لعمرتها وحجتها؟! هذا محال، وهو أولى من حديث أبي الزبير عن جابر؛ لأن ذلك إنما أخبر فيه جابر بقصة عائشة، وأنها لم تكن حلت بين عمرتها وحجتها، وأخبرت عائشة في هذا بأمر النبي عليه السلام إياها قبل دخولها في حجتها أن تدع عمرتها، وأن تفعل مما يفعل الحلال مما ذكرت في حديثها.

ودل ذلك أيضًا على أن حديث عطاء عن عائشة كما رواه عنه الحجاج وعبد الملك، لا كما رواه عنه ابن أبي نجيح.

ش: أي قد روى الحديث المذكور عروة بن الزبير عن عائشة أبين وأظهر مما رواه القاسم بن محمد وغيره.

وأخرجه بإسناد صحيح، وأخرجه الجماعة (1) غير الترمذي.

(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(2/ 632 رقم 1691)، ومسلم في "صحيحه"(2/ 870 رقم 1211)، والنسائي في "المجتبى"(1/ 132 رقم 242)، وأبو داود في "سننه"(2/ 152 رقم 1778)، وابن ماجه في "سننه"(2/ 998 رقم 3000).

ص: 481

وأخرجه مسلم (1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة، قالت: فقال رسول الله عليه السلام: من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة، قالت: فكان من القوم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بحج، قالت: فكنت أنا ممن أهل بعمرة، فخرجنا حتى قدمنا مكة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي، فشكوت ذلك إلى النبي عليه السلام، فقال: دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلِّي بالحج، قالت: ففعلت، فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا؛ أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر، فأردفني وخرج بي إلى التنعيم، فأهللت بعمرة، فقضى الله حجنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم".

قوله: "فبينت عائشة .. " إلى آخره. أشار به إلى أن طواف عائشة لحجتها لم يكن لأجل حجتها وعمرتها كما قاله الخَصْمُ. واستدل به على أن القارن يطوف طوافًا واحدًا؛ لأنها بينت في هذا الحديث أن حجتها كانت مفصولة من عمرتها؛ لأنها عملت بينهما من الأمور التي تفعل للإِحلال، كنقض الشعر والامتشاط، فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يكون طوافها لأجل حجتها التي هي فيها مجزئة عنها، وعن عمرتها؟! وهذا مستبعد محال.

قوله: "وهو أولى من حديث أبي الزبير عن جابر". أي: وهذا الحديث الذي رواه عروة من حديث أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر، في بيان الحكم وظهور الحال، وذلك أن حديث جابر يخبر بقضية عائشة وأنها لم تكن حلت بين عمرتها وحجتها.

وحديث عروة عنها يخبر بأنه عليه السلام أمرها قبل دخولها في حجتها أن تدع عمرتها وأن تفعل ما يفعله الحلال مما ذكرت في حديثها.

(1)"صحيح مسلم "(2/ 872 رقم 1211).

ص: 482

قوله: "ودل ذلك أيضًا". أي دل حديث عروة عن عائشة هذا، على أن حديث عطاء بن أبي رباح، عن عائشة كما رواه عن الحجاج بن أرطأة وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، لا كما رواه عبد الله بن أبي نجيح من قوله:"طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" فإن هذا على هذا الوجه غير صحيح كما ذكرناه فيما مضى.

ثم نتكلم في معاني الحديث:

فقوله: "وأما أنا فإني أهللت بالعمرة" دليل واضح على أنها لم تكن قارنة، فإذا لم تكن قارنة لا يصح الاستدلال بأحاديثها في كون الطواف على القارن واحدًا لا غير.

قوله: "فوافاني يوم عرفة". من الموافاة وهي المقاربة.

قوله: "دعي عنك عمرتك". أي: ارفضي، قال القاضي: قيل: ليس المراد ها هنا بترك العمرة: إسقاطها جملة، وإنما المراد: ترك فعلها مفردة وإرداف الحج عليها حتى تصير قارنة، ويؤيد هذا أن في بعض طرقه:"وأمسكي عن العمرة".

قلت: المراد تركها بالكلية، والدليل عليه ما جاء في رواية أخرى:"هذه قضاء من عمرتك".

قوله: "وانقضي شعرك وامتشطي". تأوله بعضهم أنها تحمل عل أنها كانت مضطرة لذلك لأذى برأسها، فأباح لها ذلك كما أباح لكعب بن عجرة الحلاق لأذى برأسه.

وقد قيل: إنها أعادت الشكوى بعد جمرة العقبة فأباح لها الامتشاط حينئذٍ.

قلت: كلا التأويلين بعيد من ظاهر لفظ الخبر.

وذكر الخطابي فيه تأويلًا آخر: وهو أنه كان من مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة كان له أن يستبيح ما يستبيحه المحرم إذا رمى جمرة العقبة.

ص: واحتج أيضًا الذين قالوا: يطوف القارن لحجته وعمرته طوافًا واحدًا بما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا محمد بن خازم، قال: ثنا

ص: 483

الحجاج بن أرطاة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله:"أن النبي عليه السلام قرن بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافًا واحدًا".

قيل لهم: ما أعجب هذا؟! إنكم تحتجون بمثل هذا، وقد رويتم عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر:"أن رسول الله عليه السلام أفرد الحج".

وعن ابن جريج والأوزاعي وعمرو بن دينار وقيس بن سعد، عن عطاء، عن جابر:"أنهم قدموا صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم رسول الله عليه السلام أن يجعلوها عمرة، وهو على الصفا في آخر طواف".

فكيف تقبلون مثل هلا وتدعون مثل هذا؟!.

ش: يعقوب بن حميد فيه مقال، فعن يحيى: ليس بشيء، وعنه: ليس بثقة.

والحجاج بن أرطاة، أيضًا فيه مقال، فقال الدارقطني: لا يحتج به، وقال النسائي: ليس بالقوي.

ومحمد بن خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- أبو معاوية الضرير، روى له الجماعة.

وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا أبو معاوية، عن حجاج، عن أبي الزبير، عن جابر "أن النبي عليه السلام طاف لهما طواًفا واحدًا".

قوله: "قيل لهم: ما أعجب هذا .. " إلى آخره، جواب عن هذا الحديث بطريق الإِنكار عليهم في احتجاجهم به؛ لأنهم متناقضون في كلامهم؛ لأنهم رووا من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، عن النبي عليه السلام:"أنه أفرد الحج" ثم يستدلون بما رووا عن جابر أيضًا: "أن رسول الله عليه السلام قرن بين الحج والعمرة" فهذا أمر عجيب، حيث يستدلون بحديثين متناقضين، ويجعلون كلًا منهما

(1)"مصنف اين أبي شيبة"(3/ 292 رقم 14319).

ص: 484

حجة، وأعجب من هذا أن الدارقطني (1) روى من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر:"أن النبي عليه السلام قرن العمرة والحج، وطاف لهما واحدًا" والحال أنه روى من هذا الطريق أيضًا: "أنه عليه السلام أفرد الحج".

قوله: "وعن ابن جريج". أي ورويتم أيضًا عن عبد الملك بن جريج وعبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي وعمرو بن دينار وقيس بن سعد المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن جابر بن عبد الله:"أنه عليه السلام أهل بالحج مفردًا"

ثم تروون عن جابر أيضًا أنه قرن" وهذا تناقض لا يخفى.

وجواب آخر: أن الحديث ضعيف كما ذكرنا، فانظر إلى أدب الطحاوي رحمه الله: ومتانة دينه كيف أجاب عن هذا الحديث بالطريق المذكور، ولم يتعرض إلى أحد من رجاله بشيء من القدح والطعن، ولو كان غيره وكان في معرض الاستدلال علينا لم يكن جوابه عن الحديث إلَاّ بالقدح والطعن في رجاله.

ص: فإن احتجوا بما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن جابر:"أن أصحاب رسول الله عليه السلام لم يزيدوا على طواف واحدٍ".

قيل لهم: إنما يعني جابر بهذا الطواف بين الصفا والمروة، وقد بين ذلك عنه أبو الزبير:

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، سمع جابرًا رضي الله عنه يقول:"لم يطف النبي عليه السلام ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلَاّ طوافًا واحدًا".

وإنما أراد جابر بهذا أن يخبرهم أن السعي بين الصفا والمروة لا يفعل في طواف يوم النحر، ولا في طواف الصدر كما يفعل في طواف القدوم، وليس في شيء من هذا دليل على أن ما على القارن من الطواف لعمرته وحجته طواف واحد أو طوافان.

(1)"سنن الدراقطني"(2/ 261 رقم 117).

ص: 485

ش: أي: فإن احتج أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بما روي عن جابر رضي الله عنه.

أخرجه عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن رباح -بالباء الموحدة- بن أبي معروف بن أبي سارة المكي، فيه مقال: فعن يحيى: ضعيف. وعن النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: صالح.

وروى له مسلم والنسائي، عن عطاء بن أبي رباح المكي.

قوله: "قيل لهم" أي: هؤلاء المحتجين بما أراد جابر بقوله: "لم يزيدوا على طواف واحد" الطواف بين الصفا والمروة، وقد بين ذلك عن جابر أبو الزبير محمد بن مسلم، حيث قال:"لم يطف النبي عليه السلام ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلَاّ طوافًا واحدًا".

أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير، عن عطاء.

وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن حاتم، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:"لم يطف النبي عليه السلام ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلَاّ طوافًا واحدًا".

قوله: "وإنما أراد جابر

" إلى آخره ظاهر.

ص: فإن قال قائل: فقد صح عن ابن عمر من قوله في القارن أنه يطوف لعمرته وحجته طوافًا واحدًا فإلى قول مَن تخالفون قوله في ذلك؟ قيل له: إلى قول علي وعبد الله رضي الله عنهما:

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم -أو مالك- بن الحارث، عن أبي نصر قال: "أهللت بالحج، فأدركت عليًّا رضي الله عنه فقلت له: إني أهللت بالحج فأستطيع أن أضف إليه عمرة؟ قال: لا، لو كنت أهللت بالعمرة ثم

(1)"صحيح مسلم"(2/ 883 رقم 1215).

ص: 486

أردت أن تضم إليها الحج ضممته، قال: قلت: كيف أصنع إذا أردت ذلك؟ قال: تصبَّ عليك إداوة من ماء، ثم تحرم بهما جميعًا، وتطوف لكل واحدة منهما طوافًا".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني منصور، عن مالك بن الحارث، عن أي نصر السلمي، عن علي مثله.

قال أبو داود: قال قيس: قال منصور، فذكرت ذلك لمجاهد، فقال:"ما كنا نفتي الناس إلَاّ بطواف واحد، فاما الآن فلا".

حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا يزيد، عن عطاء، عن الأعمش، عن إبراهيم ومالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن أذينة، قال: "سألت عليًّا رضي الله عنه

" فذكر مثله.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، فذكر بإسناده مثله.

حدثنا محمد بن [خزيمة](1)، قال ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن مالك، عن أبي نصر مثله.

قال منصور: فذكرت ذلك لمجاهد، فقال:"ما كنت أفتي الناس إلَاّ بطواف واحد فأما الآن فلا".

حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا شجاع بن مخلد (ح).

وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قالا: ثنا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن الحكم، عن زياد بن مالك، عن علي وعبد الله رضي الله عنهما قالا:"القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين".

فهذا علي وعبد الله قد ذهبا في طواف القارن إلى خلاف ما ذهب إليه ابن عمر رضي الله عنها.

(1) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 487

ش: تقرير السؤال أن يقال: قد صح عن عبد الله بن عمر من قوله في القارن أنه يطوف لعمرته وحجته طوافًا واحدًا. وقد أخرج البخاري (1) ومسلم (2) في حديث طويل أن ابن عمر كان يقول: "من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد".

قوله: "فإلى قول من تخالفون قوله في ذلك". أي تخالفون قول ابن عمر فيما قاله ذاهبين إلى قول مَنْ مِن الصحابة رضي الله عنهم؟.

فأجاب بقوله: "قيل له: إلى قول علي وعبد الله"، أي قيل لهذا القائل: نخالف قوله إلى قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود في قولهما أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، وكذلك وافق عليًّا في هذا ابناه الحسن والحسين، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قاله ابن عبد البر، وكذلك وافق عليًّا عمران بن حصين.

قال الدارقطني (3): ثنا أبو محمد بن صاعد إملاءً، ثنا محمد بن يحيى الأزدي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف، عن عمران بن حصين:"أن النبي عليه السلام طاف طوافين وسعى سعيين".

قوله: "حدثنا يونس

إلى آخره" بيان لما ذهب إليه علي وعبد الله رضي الله عنها.

وأخرجه من سبع طرق:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن سفيان بن عيينة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي أو عن مالك بن الحارث السلمي الكوفي، وثقه يحيى وابن حبان، وروى له البخاري في الأدب، ومسلم وأبو داود والنسائي.

عن أبي نصر السلمي وهو بالنون والصاد المهملة، وقال ابن ماكولا: الأشهر فيه بالضاد المعجمة، وفي "التكميل": أبو نصر هذا غير معروف، وقال الدارقطني والبيهقي: مجهول.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 591 رقم 1559).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 904 ر قم 1230).

(3)

"سنن الدارقطني"(2/ 264 رقم 133).

ص: 488

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): ثنا أبو محمد بن صاعد، ثنا محمد بن زنبور، ثنا فضيل بن عياض -عن منصور، عن إبراهيم، عن مالك بن الحارث- أو منصور، عن مالك بن الحارث- عن أبي نصر قال:"لقيت عليًّا رضي الله عنه وقد أهللت بالحج، وأهل هو بالحج والعمرة، فقلت: هل أستطيع أن أفعل كما فعلت؟ قال: ذلك لو كنت بدأت بالعمرة. فقلت: كيف أفعل إذا أردت ذلك؟ قال: تأخذ إداوة من ماء فتفيضها عليك ثم تهل بهما جميعًا، ثم تطوف لهما طوافين وتسعى لهما سعيين، ولا يحل لك حرام دون يوم النحر، قال منصور: [فذكرت]، (2) ذلك لمجاهد، [قال] (3): ما كنا نفتي إلَاّ بطواف واحد، فأما الآن فلا نفعل".

الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحارث السلمي، عن أبي نصر السلمي، عن علي رضي الله عنه مثله.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(4): من طريق الدارقطني نحو ما ذكره.

الثالث: عن محمد بن حجاج بن سليمان الحضرمي، عن الخصيب بن ناصح البصري نزيل مصر، عن يزيد بن عطاء بن يزيد الكندي السلمي الواسطي البزار مولى أبي عوانة من فوق، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بشئ، وعنه: ضعيف. وقال ابن حبان: ساء حفظه حتى كان يقلب الأسانيد، ويروي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات، فلا يجوز الاحتجاج به. روى له البخاري في "أفعال العباد"، وأبو داود.

عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي ومالك بن الحارث كلاهما عن عبد الرحمن بن أذينة بن سلمة العبدي الكوفي قاضي البصرة، وثقه أبو داود وابن حبان، وروى له ابن ماجه حديثًا واحدًا قال: "سألت عليًّا رضي الله عنه

".

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 265 رقم 135).

(2)

في "الأصل، ك": "قد ذكرت"، والمثبت من "سنن الدارقطني".

(3)

كذا في "الأصل، ك" وفي "سنن الدارقطني": "فقال".

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 108 رقم 9210).

ص: 489

وأخرجه أبو عمر في "التمهيد"(1) نحوه.

الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم ومالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن أذينة، عن علي نحوه.

الخامس: عن محمد بن خزيمة أيضًا، عن حجاج بن منهال، عن أبي عوانة الوضاح، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن مالك بن الحارث، عن أبي نصر السلمي، عن علي نحوه.

السادس: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن شجاع بن مخلد الفلاس البغوي شيخ مسلم وأبي داود وابن ماجه، عن هشيم بن بشير، عن منصور ابن زاذان، عن الحكم بن عتيبة، عن زياد بن مالك، وثقه ابن حبان وقال: يروي عن ابن مسعود: "القارن يطوف طوافين" ولم يسمعه منه، وفي "الميزان": زياد بن مالك عن أبي مسعود ليس بحجة، وقال البخاري: لا نعرف له سماع من عبد الله ولا سماع الحكم منه.

وأخرج ابن أبي شبية في "مصنفه"(2): نا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن الحكم، عن زياد بن مالك:"أن عليًّا وابن مسعود قالا في القارن: يطوف طوافين".

السابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم

إلى آخره.

وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(3) وقال: وروينا من طريق منصور بن زاذان، عن زياد بن مالك، ومن طريق سفيان، عن أبي إسحاق السبيعي، كلاهما عن ابن مسعود قال:"على القارن طوافان وسعيان".

(1)"التمهيد"(8/ 233).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 291 رقم 14313).

(3)

"المحلى"(7/ 175).

ص: 490

وقال أيضًا: وروينا من طريق منصور بن زاذان، عن الحكم بن عتيبة، ومن طريق ابن سمعان، عن ابن شبرمة، كلاهما عن علي نحوه.

فإن قيل: كيف تستدلون بهذا الأثر وفي سنده أبو نصر ويزيد بن عطاء، وقد ذكرنا ما قيل فيهما؟!. وزياد بن مالك وان كان وثقه ابن حبان فقد قالوا فيه ما ذكرناه.

قلت: الطريق الرابع إسناده صحيح ورجاله ثقات كما ذكرنا؛ لأن حجاجًا وأبا عوانة والأعمش وإبراهيم من رجال الجماعة، ومالك بن الحارث من رجال مسلم، وابن أذينة وثقه أبو داود وابن حبان، وابن خزيمة وثقه ابن يونس وغيره.

وكذلك الطريق السادس والسابع رجالهما ثقات، ودعوى عدم سماع زياد بن مالك [من](1) ابن مسعود مجرد دعوى لا برهان عليها، وبقية الطرق تُشد وتُعَضَّد بهذه الطرق الثلاثة.

ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا الرجل إذا أحرم بحجة وجبت عليه بما فيها من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ووجب عليه في انتهاك ما قد حرم عليه بإحرامه بها من الكفارات ما يجب عليه في ذلك، وكذلك إذا أحرم بعمرة، وجبت عليه أيضًا بما فيها من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ووجب عليه في انتهاك ما حرم عليه بإحرامه بها من الكفارات ما يجب عليه في ذلك. وكان إذا جمعهما فكلٌّ قد أجمع أنه في حرمتين: حرمة حج، وحرمة عمرة، فكان يجيء في النظر أن يجب عليه لكل واحدة منهما من الطواف والسعي وغير ذلك من الكفارات في انتهاك الحرم التي قد حرمت عليه بها ما كان يجب عليه لها لو أفردها.

ش: أي: وأما وجه حكم طواف القارن من طريق النظر والقياس، ملخصه: المحرم بالحجة تجب عليه أفعالها المعهودة، فإذا جنى تجب عليه الكفارة بقدر

(1) في "الأصل، ك": "عن".

ص: 491

جنايته، وكذلك المحرم بالعمرة، وهذا لا خلاف فيه، والقارن يجمع بين الحرمتين: حرمة حج وحرمة عمرة، فإذا وجب لحرمة واحدة طواف واحد وسعي واحد، فالقياس عليه أن يكون على من يجمع حرمتين: طوافان وسعيان، وكذلك في الجناية كفارتان.

قوله: "وكلٌّ قد أجمع". أي كل الخصوم قد أجمعوا أنه أي أن الذي يجمع بين الحج والعمرة، وهو القارن.

قوله: "في انتهاك الحُرَم". بضم الحاء وفتح الراء، جمع حرمة.

ص: فأدخِل على هذا القول، فقيل: قد رأينا الحلال يصيب الصيد في الحرم فيجب عليه الجزاء لحرمة الحرم، ورأينا المحرم يصيب صيدًا في الحل فيجب عليه الجزاء لحرمة الإِحرام، ورأينا المحرم إذا أصاب صيدًا في الحرم وجب عليه جزاء واحد لحرمة الإِحرام ودخل [فيه](1) حرمة الجزاء لحرمة الحرم، وهو في وقت ما أصاب ذلك الصيد في حرمتين: في حرمة إحرام، وحرمة حرم، فلم يجب عليه لكل واحدة من الحرمتين ما كان يجب عليه لها لو أفردها، قالوا: فكذلك القارن فيما كان يجب عليه لكل واحدة من عمرته وحجته لو أفردها لا يجب عليه في ذلك لما جمعهما إلَاّ مثل ما يجب عليه في إحداهما ويدخل ما كان يجب للأخرى لو كانت مفردة في ذلك.

قيل لهم: إنكم لِمَ تقولون أن ما يجب على المحرم في قتله الصيد في الحرم جزاء واحد وقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله: إن القياس كان عندهم في ذلك أنه يجب عليه جزاءان: جزاء لحرمة الإِحرام، وجزاء لحرمة الحرم، وأنهم إنما خالفوا ذلك استحسانًا ولكنا لا نقول في ذلك كما قالوا، بل القياس عندنا في ذلك ما ذكروا أنهم استحسنوه، وذلك أنا رأينا الأصل المجتمع عليه: أنه يجوز للرجل أن يجمع بين حجة وعمرة ولا يجمع بين حجتين ولا بين عمرتين، فكان له

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 492

أن يجمع بإحرام واحد بين شكلين مختلفين، فيدخل بذلك فيهما ولا يجمع بين شيئين من صنف واحد، فلما كان ما ذكرنا كذلك؛ كان له أن يجمع أيضًا بأدائه جزاء واحدًا ما يجب عليه بحرمتين مختلفتين وهما: حرمة الحرم التي لا يجزىء فيها الصوم، وحرمة الإِحرام التي يجزىء فيها الصوم، ويكون بذلك الجزاء الواحد مؤديًا عما يجب عليه فيهما، فلم يكن له أن يجمع بأدائه جزاء واحدًا عما يجب عليه في انتهاك حرمتين مؤتلفتين من شكل واحد وهما: حرمة العمرة وحرمة الحج، كما لم يكن له أن يدخل بإحرام واحد في حرمة شيئين مؤتلفين.

ولما كان ما ذكرنا أيضًا كذلك وكان الطواف للحجة والطواف للعمرة من شكل واحد لم يكن بطواف واحد داخلًا فيهما، ولم يكن ذلك الطواف مجزئًا عنهما، واحتاج أن يدخل في كل واحد منهما دخولًا على حدة، قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا مما يجمعه بإحرام واحد من الحجة والعمرة المختلفتين، ومما ذكرنا مما لا يجمعه من الحجتين المؤتلفتين ومن العمرتين المؤتلفتين.

ش: أراد به: [اعتراض](1) على ما ذكر من وجه النظر والقياس من جهة الخصم، تقرير الاعتراض أن يقال: لا يلزم من دخول القارن في حرمتين أن يجب عليه طوافان قياسًا على وجوب الكفارتين إذا جنى لأجل الحرمتين؛ لأنا رأينا المحرم إذا أصاب صيدًا فإنه يجب عليه جزاء واحد، مع أن فيه حرمتين: حرمة الإِحرام وحرمة الحرم.

وتقرير الجواب أن يقال: إنكم قلتم بوجوب جزاء واحد على المحرم المذكور استحسانًا لا قياسًا؛ لأن القَياس عندكم يقتضي جزاءين لتعدد الجناية على الإِحرام والحرم، فلا يلزم من ترك القياس ها هنا عدم صحة القياس عليه، على أنّا نقول: القياس عندنا في مسألة المحرم المذكور هو ما قالوا أنه استحسان، وبَيَّنَ ذلك بقوله: "وذلك أنا رأينا الأصل

إلى آخره"، وهو ظاهر لا يحتاج إلى كثرة كلام.

(1) في "الأصل، ك": "اعترض".

ص: 493

ص: فإن قال قائل: فقد رأيناه يحل من حجته وعمرته بحلق واحد ولا يكون عليه غير ذلك، فكذلك أيضًا يطوف لهما طوافًا واحدًا ويسعى لهما سعيًا واحدًا ليس عليه غير ذلك.

قيل له: قد رأيناه يحل بحلق واحد من إحرامين مختلفين لا يجزئه فيهما إلَاّ طوافان مختلفان، وذلك أن رجلاً لو أحرم بعمرة فطاف لها وسعى وساق الهدي ثم حج من عامه فصار بذلك متمتعًا أن حكمه في يوم النحر أن يحلق حلقًا واحدًا فيحل بذلك الحلق منهما جميعًا، وكان يحل بحلق واحد من أحرامين مختلفين قد كان دخل فيهما دخولاً متفرقًا، ولم يكن ما وجب من ذلك من حكم الحلق موجبًا أن حكم الطواف لهما كان كذلك، وأن طوافه واحد، بل هو طوافان، فكذلك ما ذكرنا من حلق القارن لعمرته وحجته حلقًا واحدًا لا يجب به أن يكون كذلك حكم طوافه لهما طوافًا واحدًا، ولما كان قد يحل في الإِحرامين اللذين قد دخل فيهما دخولًا متفرقًا بحلق واحد، كان في الإِحرمين اللذين قد دخل فيهما دخولًا واحدًا أحرى أن يحل منهما كذلك.

ش: تقرير السؤال أن يقال: لمَّا كان القارن يحل من حجته وعمرته جميعًا إذا حلق رأسه، ولا يجب عليه شيء غير ذلك، فبالحلق الواحد يحصل الإِحلال، فكذلك ينبغي أن يكتفي بطواف واحد، وسعي واحد، ولا يحتاج إلى طوافين وسعيين.

وملخص الجواب أن يقال: لا يلزم من حصول الإِحلال من الحجة والعمرة بحلق واحد أن يكون الطواف واحدًا والسعي واحدًا، ألا ترى أن من أحرم بعمرة ثم طاف لها وسعى وكان سائق الهدي، ثم أحرم بحج من عامه ذلك كان متمتعًا، ثم إنه يحل عن الإِحرامين جميعًا بحلق واحد يوم النحر، ومع هذا لا بد له من طوافين بلا خلاف، ولم يكن ذلك موجبًا أن يكون الطواف كذلك واحدًا، فكذلك حلال القارن بحلق واحد لا يستلزم أن يكون طوافه كذلك، فإذا كان الإِحلال عن الإِحرامين اللذين كان فيهما الدخول متفرقًا يحصل بحلق واحد، فبالطريق الأولى أن يحصل عن الإِحرامين اللذين كان فيهما الدخول واحدًا.

ص: 494

ص: فهذا هو النظر في هذا الباب على ما روي عن علي وعبد الله رضي الله عنهما من وجوب الطواف لكل واحدة من العمرة والحجة، وعك ما ذكرنا من النظر على ذلك في وجوب الجزاء لكل واحدة منهما في انتهاك حرمتهما.

وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي هذا الذي ذكرنا من الطوافين والسعيان على القارن هو النظر والقياس، على ما روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود من وجوب الطواف على القارن لأجل كل واحدة من عمرته وحجته على ما مرّ بيانه فيما مضى، وعلى ما ذكرنا من القياس على تعدد الجزاء في جناية القارن، والله أعلم.

***

ص: 495