المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: ما كان النبي عليه السلام محرما في حجة الوداع - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٩

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: ما كان النبي عليه السلام محرما في حجة الوداع

‌ص: باب: ما كان النبي عليه السلام محرمًا في حجة الوداع

ش: أي هذا باب في بيان صفة إحرام النبي عليه السلام في حجة الوداع؛ هل كان فيه مفردًا أو قارنًا أو متمتعًا؟ وهذا باب عظيم، وفيه أحاديث كثيرة، وللعلماء فيه أقاويل.

وكانت حجة الوداع سنة عشرٍ، ويقال لها: حجة البلاغ، وحجة الإِسلام.

وإنما سميت حجة الإِسلام؛ لأنه عليه السلام لم يحج من المدينة غيرها، ولكنه حج قبل الهجرة مرات قبل النبوة وبعدها، وقد قيل: إن فريضة الحج نزلت عامئذ، وقيل: سنة تسع، وقيل: قبل الهجرة، وهو غريب.

وإنما سميت حجة الوداع؛ لأنه عليه السلام ودع الناس فيها ولم يحج بعدها.

وسميت حجة البلاغ؛ لأنه عليه السلام بلغ الناس شرع الله في الحج قولًا وفعلًا ولم يكن بقي من دعائم الإِسلام وقواعده إلَاّ وقد بيَّنه عليه السلام.

وكان عليه السلام حج حجة واحدة واعتمر أربع عُمَر.

روي قتادة قال: "سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله عليه السلام؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات: عمرته في زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته". رواه الشيخان (1) وأبو داود (2) والترمذي (3) وأحمد (4).

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام أفرد الحج".

(1) البخاري (2/ 631 رقم 1688)، ومسلم (2/ 916 رقم 1253).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 206 رقم 1994).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 179 رقم 815).

(4)

"مسند أحمد"(3/ 256 رقم 13712).

ص: 154

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد -هو ابن موسى- قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:"خرجنا ولا نرى إلَاّ أنه الحج".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله عليه السلام عام حجة الوداع، منا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله عليه السلام بالحج، فأما من أهل بالعمرة فحل، وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحل حتى يوم النحر.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، قال: حدثنا علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام أمر الناس عام حجة الوداع فقال من أَحَبَّ أن يبدأ بالعمرة قبل الحج فليفعل، وإن رسول الله عليه السلام أفرد الحج".

ش: هذه أربع طرق صحاح.

الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه مسلم (1): عن إسماعيل بن أبي أويس، حدثني خالي مالك بن أنس، وعن يحيى بن يحيى، عن مالك

إلى آخره نحوه.

وأبو داود (2): عن القعنبي، عن مالك.

والترمذي (3): عن أبي مصعب، عن مالك.

والنسائي (4): عن عبيد الله بن سعيد وإسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن، عن مالك.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 875 رقم 1211).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 152 رقم 1777).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 183 رقم 820).

(4)

"المجتبى"(5/ 145 رقم 2715).

ص: 155

وابن ماجه (1): عن هشام بن عمار وأبي مصعب، كلاهما عن مالك.

الثاني: عن ربيع بن سليمان، عن أسد السنة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور بن زاذان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (2): بأتم منه، ثنا عثمان بن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"خرجنا مع النبي عليه السلام ولا نرى إلَاّ أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي عليه السلام من لم يكن ساق الهدي، [أن] (3) يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن، قالت عائشة: فحضت فلم أطف، فلما كانت ليلة الحصبة، قلت: يا رسول الله رجع الناس بعمرة وحج وأرجع أنا بحجة؟! قال: وما طفت ليالي قدمنا مكة؟ قلت: لا، قال: فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك كذا وكذا. وقالت صفية: ما أراني إلَاّ حابستهم، قال: عَقْرَى حَلْقَى، أَوَ مَا طفت يوم النحر؟ قالت: قلت: بلى، قال: لا بأس انفري. قالت عائشة: فلقيني النبي عليه السلام وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها، أو [أنا مصعدة و] (3) وهو منهبط منها".

قوله: "ولا نرى إلَاّ أنه الحج" قال ابن التين ضبطه بعضهم بفتح النون وبعضهم بضمها.

قال القرطبي: أي لا نظن، وكان هذا قبل أن يعلمن بأحكام الإِحرام وأنواعه، وقيل: يحتمل أن ذلك كان اعتقادها من قبل أن تهل، ثم أهلت بعمرة، ويحتمل أن تريد بقولها:"لا نرى" حكاية عن فعل غيرها من الصحابة، وهم كانوا لا يعرفون إلَاّ الحج، ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره.

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 988 رقم 2964).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 566 رقم 1486).

(3)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".

ص: 156

وزعم القاضي عياض أنها كانت أحرمت بالحج، ثم أحرمت بالعمرة، ثم أحرمت بالحج.

ويدل على أن المراد بقولها: "لا نرى إلَاّ الحج" عن فعل غيرها.

قولها: "فلما قدمنا تطوفنا بالبيت" تعني بذلك النبي عليه السلام والناس غيرها، لأنها لم تطف بالبيت ذلك؛ الوقت لأجل حيضها.

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: "خرجنا مع رسول الله عليه السلام عام حجة الوداع

" إلى آخره نحوه.

وأخرجه البخاري (2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.

والنسائي (3) وابن ماجه (4): كذلك نحوه.

وهذا الحديث مشتمل على أحكام:

الأول: فيه أن أقسام الحج ثلاثة: الإِفراد والتمتع والقران، أما الإِفراد في قولها ومنا من أهل بحج، وأما التمتع والقران فإن قولها ومنا من أهل بحج وعمرة وهو بعمومه يتناول التمتع والقران.

الثاني: استدلت به طائفة على أن الإِفراد بالحج هو الأفضل؛ لقولها: وأهل رسول الله عليه السلام بالحج.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 873 رقم 1211).

(2)

"صحيح البخاري"(4/ 567 رقم 1487).

(3)

"المجتبى"(5/ 246 رقم 2991).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 998 رقم 3000).

ص: 157

الثالث: فيه بيان أن من جمع بين الحج والعمرة الذي هو القارن، أو المتمتع الذي ساق هديه، لا يحل إلَاّ يوم النحر بعد الحلق وطواف الزيارة.

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد من الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- واسمه عبد الله بن ذكوان، عن علقمة بن أبي علقمة بلال المدني مولى عائشة أم المؤمنين روى له الجماعة، عن أمه مرجانة، وثقها ابن حبان وروى لها أبو داود والترمذي والنسائي.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن علقمة، عن أمه، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام أمر الناس عام حجة الوداع فقال: من أحب أن يبدأ منكم بعمرة قبل الحج فليفعل، فأفرد رسول الله عليه السلام بالحج ولم يعتمر".

ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن أسماء قالت:"قدم رسول الله عليه السلام وأصحابه مهلين بالحج".

ش: رجاله ثقات تكرر ذكرهم، والخصيب هو ابن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، ووهيب بن خالد البصري، وأم منصور هي صفية بنت شيبة بن الحاجب الصحابية، وقال الدارقطني: لا تصح لها رواية، وقال ابن الأثير: اختلف في صحبتها، وأسماء هي بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا يونس، نا عمران بن يزيد، عن منصور، عن أمه، عن أسماء قالت:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام مهلين بالحج، فقالت: فقال لنا: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحل".

(1)"مسند أحمد"(6/ 92 رقم 24659).

(2)

"مسند أحمد"(6/ 350 رقم 37006).

ص: 158

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله في حديثه الطويل: فقال: "وأهل رسول الله عليه السلام بالتوحيد ولم يرد رسول الله عليه السلام على الناس شيئًا، ولسنا ننوي إلَاّ الحج، ولا نعرف العمرة".

ش: إسناده صحيح، وحاتم بن إسماعيل المدني روى له الجماعة، وجعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أبو عبد الله المدني الصادق، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. وأبوه محمد بن علي الباقر روى له الجماعة.

وأخرجه مسلم (1) بطوله: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم، جميعًا عن حاتم -قال أبو بكر حاتم بن إسماعيل المدني- عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: " (دخلت)(2) على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إليّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثدييّ وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبًا بك يا ابن أخي، سل عما شئت، فسألته -وهو أعمى- وحضر وقت الصلاة، فقام في ساجة ملتحفًا بها، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله عليه السلام فقال بيده، فعقد تسعًا، فقال: إن رسول الله عليه السلام مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: إن رسول الله عليه السلام حاج، فقدم المدينة بَشَرٌ كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله عليه السلام ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فَأَرْسَلَتْ إلى رسول الله عليه السلام كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، فصلى رسول الله عليه السلام في المسجد

(1)"صحيح مسلم"(2/ 886 رقم 1218).

(2)

كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح مسلم":"دخلنا".

ص: 159

ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله عليه السلام بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهلّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، [لبيك](1) لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله عليه السلام شيئاً منه، ولزم رسول الله عليه السلام تلبيته، قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلَاّ الحج، ولا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (2) فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول -ولا أعمله ذكره إلَاّ عن النبي عليه السلام- كان يقرأ في الركعتين:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (4) ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (5) أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلَاّ الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى [إذا](6) انصبت قدماه في بطن الوادي [سعي](6) حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة، فمن كان

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

(2)

سورة البقرة، آية:[125].

(3)

سورة الإِخلاص.

(4)

سورة الكافرون.

(5)

سورة البقرة، آية:[158].

(6)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

ص: 160

منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله، أَلِعَامِنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله عليه السلام أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج -مرتين- لا بل لأبد أبد. وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببُدن النبي عليه السلام، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، فكان علي رضي الله عنه يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله محرشًا على فاطمة للذي صنعت، مستفتيًا لرسول الله عليه السلام فيما ذَكَرَت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقت صدقت، ماذا قلت: حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك عليه السلام، قال: فإن معي الهدي، فلا تحل، قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي رضي الله عنه من اليمن والذي أتى به النبي عليه السلام مائة، قال: فحل الناس كلهم وقصدوا إلَاّ النبي عليه السلام ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله عليه السلام فصلى بها [الظهر والعصر، والمغرب](1) والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله عليه السلام ولا تشك قريش إلَاّ أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله عليه السلام حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحِّلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلَاّ كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فَقَتَلَتْهُ هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا اللهَ في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن

(1) في "الأصل، ك": " الظهر والعصر، والظهر والمغرب" وزيادة "الظهر" الثانية ليست في "صحيح مسلم".

ص: 161

بكلمة الله، ولكم عليهن ألَّا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تُسْأَلون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد -ثلاث مرات- ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلي بينهما شيئًا، ثم ركب رسول الله عليه السلام حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله عليه السلام وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة، وكلما أتى جبلًا من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع رسول الله عليه السلام حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس -وكان رجلاً حسن المنظر أبيض وسيما- فلما دفع رسول الله عليه السلام مرت به ظعنٌ يجرين وطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله عليه السلام يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله عليه السلام يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن مُحَسِّرٍ فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها حصى الحذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة وأعطى عليًّا رضي الله عنه فنحر ما غير وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبحت، وأكلا من لحمها

ص: 162

وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله عليه السلام فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوًا فشرب منه.

وأخرجه أبو داود (1) وابن ماجه (2) بنحوه مطولاً، وأخرجه النسائي (3) مختصرًا.

قال القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما في هذا الحديث من الفقه وكثروا، وقد ألف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخَرَّجَ فيه من الفقه مائة نوع ونيفا وخمسين، ولو تُقُصِّيَ لزاد على هذا العدد قريب منه.

قوله: "فسأل عن القوم حتى انتهى إلي" وذلك لأن جابرًا رضي الله عنه كان قد عمي حينئذ ففيه الاهتبال بالداخلين على الرجل والسؤال عنهم لينزل كل واحد منزله ويعرف لأهل الحق حقه.

قوله: "فنزع زري الأعلى" فيه إكرام الزائر بنزع رداءه وخلع خفيه.

وقوله: "وأنا يومئذ غلام شاب" فيه تنبيه على أن جابرًا إما فعل ذلك به تأنيسًا له لصغره ورقة عليه؛ إذْ لا يفعل هذا بالرجال الكبار، من إدخال اليد في جيوبهم إكبارًا لهم، وفيه أن مس الغلمان الأجانب على وجه الرقة ولغير التلذذ جائز، وإنما يحرم من لمس الغلمان والنظر إليهم ما كان من ذلك على وجه التلذذ.

وقوله: "فقام في ساجة" بسين مهملة وجيم، وهي ثوب كالطيلسان ونحوه، وهكذا هو في رواية الجمهور، وفي رواية نِساجة بالنون المكسورة والسين المهملة المفتوحة وبعد الألف جيم بعدها هاء، وكذا وقع في رواية أبي داود، وهي ضرب من الملاحف المنسوجة لأنها سميت بالمصدر، يقال: نسجت نسجًا ونساجة.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 182 رقم 1905).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1022 رقم 3074).

(3)

"المجتبى"(1/ 154 رقم 291) و (1/ 208 رقم 429) و (5/ 155 رقم 2740) وغيرها.

ص: 163

قوله: "على المشجب" بكسر الميم وسكون الشين المعجمة والجيم، وهي أعواد توضع عليها الثياب.

قوله: "مكث رسول الله عليه السلام تسع سنين لم يحج" يعني في المدينة، وقد روي أنه عليه السلام حج بمكة حجتين.

قوله: "استثفري" أي اجعلي لنفسك كثفر الدابة ليمتنع ذلك الموضع من سيلان شيء من الدم، تنزيهًا للعبادة عن إظهار هذه النجاسة على صاحبها إذا لم تقدر على أكثر من ذلك.

قوله: "ثم ركب القصواء" بفتح القاف ممدود، ووقع عند العذري بضم القاف والقصر، وهو خطأ في هذا الموضع، والصواب الفتح ها هنا والمد، قال ابن قتيبة: كانت للنبي عليه السلام نوق أصابها منها: القصواء والجدعاء والعضباء. قال أبو عُبيد: العضباء اسم ناقة للنبي عليه السلام ولم تسم لشيء.

قال القاضي: جاء ها هنا أنه ركب القصواء وفي آخر الحديث أنه خطب على القصواء، وفي غير "مسلم" أنه خطب على ناقته الجدعاء وفي حديث آخر على ناقة خرماء وفي آخر مخضرمة وفي حديث:"أنه كانت له ناقة لا تسبق تسمى القصواء" وفي حديث آخر تسمى العضباء، فدليل هذا كله أنها ناقة واحدة خلاف ما قال ابن قتيبة، وأن ذلك كان اسمها ووصفها لهذا الذي بها، خلاف ما قال أبو عُبيد، ولكن يأتي في كتاب النذور ما يدل على أن العضباء غير القصواء.

وقال الحربي: العضب والجدع والخرم والقصو والخضرمة مثله في الأذن.

قال ابن الأعرابي: القصواء التي قطع طرف أذنها، والجدع أكثر منه، وقال الأصمعي: في القصواء مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع فإن جاوز الربع فهي عضباء والمخضرم المقطوع الأذنين، فإذا اصطلمتا فهي صلماء، وقال أبو عُبيدة: القصواء المقطوعة الأذنين عرضًا، والمخضرمة المستأصلة، والعضباء النصف فما فوقه، قال الحربي: فالحديث يدل على أنه اسمها، وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها.

ص: 164

وقال الخليل: الخضرمة قطع الواحدة، والعضباء المشقوقة الأذن.

قوله: "فأهل بالتوحيد" إشارة إلى قوله: "لا شريك لك" ومخالفة لقول المشركين في تلبيتهم.

وقوله: "فرقي عليه" بكسر القاف وهي اللغة الغالبة.

قوله: "محرشًا" من التحريش، وهو الإِغراء بين القوم والبهائم وتهييج بعضهم على بعض، وهو ها هنا ذكر لما يوجب عتابه لها.

قوله: "فضربت بِنَمِرة" بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء المهملة وتاء التأنيث موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم يمينك إذا خرجت من عرفة تريد الموقف.

قوله: "فأجاز رسول الله عليه السلام" أجاز لغة في جاز فجاز وأجاز بمعنىً، وقيل: جاز الموضع سلكه وسار فيه، وأجازه خلَّفه وقطعه. قال الأصمعي: جاز: مشى فيه، وأجازه: قطعه.

قوله: "وينكتها" بالتاء المثناة من فوق هكذا الرواية وفيه بعد، ويروي "ينكبها" بالباء الموحدة وهو الصواب. أي يميلها.

قوله: "وجعل حبل المشاة" بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة بعدها لام، معناه: صفهم ومجتمعهم في مشيهم، وقيل: طريقهم الذي يسلكونه في الرمل.

قوله: "مورك رحله" المورك والموركة بكسر الراء هي المرفقة التي تكون عند قادمة الرحل يضع الراكب رجله عليها ليستريح من وضع رجله في الركاب وهي شبه الحلقة الصغيرة.

قوله: "كلما أتى جبلًا من الجبال" الجبل المستطيل من الرمال وقيل: الضخم منه.

قوله: "وسيما" أي حسن الوجه، من الوسامة وهي الحسن.

قوله: "مرت ظعن" بضم الظاء، والمعنى جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج.

قوله: "فنحر ما غبر" أي ما بقي.

ص: 165

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث وابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر-رضي الله عنه قال:"أقبلنا مع رسول الله عليه السلام مهلين بالحج مفردًا".

ش: هذا طريق أخر بإسناد صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا عبد الله بن لهيعة، فهو وإن كان فيه مقال ولكنه ذكر متابعة، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي.

وأخرجه أبو داود (1) مطولاً: ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال:"أقبلنا مهلين مع رسول الله عليه السلام بالحج مفردًا، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله عليه السلام أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلَاّ أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله عليه السلام على عائشة فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟! قالت: شأني أني حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن، قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج، ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا، قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة".

وأخرجه مسلم (2) والنسائي (3).

وقوله: (عَرَكَت) بعين وراء مهملتين مفتوحتين أي حاضت، والعارك: الحائض.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب إلى هذا قوم، فقالوا: الإِفراد أفضل من التمتع والقران، وقالوا: به كان إحرام رسول الله عليه السلام في حجة الوداع.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 154 رقم 1785).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 881 رقم 1213).

(3)

"المجتبى"(5/ 164 رقم 2763).

ص: 166

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد العزيز بن أبي سلمة وعبيد الله بن الحسن ومجاهدًا وإبراهيم النخعي والشعبي والأوزاعي ومالكًا والشافعي -في رواية- فإنهم قالوا: الإِفراد أفضل من التمتع والقران، وقالوا: به أي بالإِفراد كان إحرام رسول الله عليه السلام في حجة الوداع.

قال أبو عمر: روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وجابر وعائشة رضي الله عنهم

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل من الإِفراد والقران، وقالوا: هو الذي كان رسول الله عليه السلام فعله في حجة الوداع.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد وسالمًا والقاسم بن محمد وعكرمة وأحمد والشافعي -في قول- فإنهم قالوا: التمتع أفضل من القران والإِفراد، وإليه ذهب أهل الظاهر، قال أبو عمر: وهو مذهب عبد اللهَ بن عمر وعبد اللهَ بن عباس وابن الزبير وعائشة أيضًا رضي الله عنهم وبه قال أحمد بن حنبل، وهو أحد أقوال الشافعي، وقال ابن قدامة: ذهب أحمد بن حنبل إلى اختيار التمتع، وبه قالت جماعة من الصحابة رضي الله عنهم

ص: وذكروا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن المسيب، قال:"اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان وعثمان ينهى عن المتعة، فقال له علي رضي الله عنه: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله عليه السلام تنهى عنه؟ فقال: دعنا منك. فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، ثم أهل علي بن طالب بهما جميعًا".

ش: أي ذكر هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن التمتع أفضل ما رواه سعيد بن المسيب، وأخرجه بإسناد صحيح.

وأخرجه البخاري (1): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا حجاج بن محمد الأعور، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: "اختلف علي وعثمان وهما

(1)"صحيح البخاري"(3/ 569 رقم 2495).

ص: 167

بعسفان في المتعة، فقال علي رضي الله عنه: ما تريد إلَاّ أن تنهى عن أمر فعله رسول الله عليه السلام، فلما رأى ذلك علي منه أهل بهما جميعًا".

قوله: "بعُسْفان" أي في عسفان، والباء للظرفية و"عسفان" بضم العين وسكون السين المهملتين: قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلًا من مكة شرفها الله وقد مر الكلام فيه في كتاب الصوم.

قوله: "ثم أهل علي بهما جميعًا" أي ثم أحرم علي بالعمرة والحج جميعًا، وهذا هو عين القران، وذلك لأن من وجوه التمتع أن يتمتع الرجل بالعمرة إلى الحج، وهو أن يجمع بينهما فيهل بهما في أشهر الحج أو غيرها، يقول: لبيك بعمرة وحجة معًا وهذا هو القران، وإنما جعل القران من باب التمتع لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة وإلى الحج أخرى ويتمتع بجمعهما ولم يحرم لكل واحدة من مكانه، وضم الحج إلى العمرة يدخل تحت قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين أهل العلم في جوازه، وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلَاّ بسياق الهدي وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها، ومما يدل على أن القران تمتع: قول عمر رضي الله عنه: "إنما جعل القران لأهل الآفاق، وتلا قول الله عز وجل: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) " فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع.

وقال أبو عمر: التمتع بالعمرة إلى الحج على أربعة أوجه، منها وجه واحد مجتمع عليه، والأوجه الثلاثة مختلف فيها.

فأما الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج وهي شوال وذي القعدة وعشر من ذي الحجة وقيل: ذو الحجة كله. فإذا أحرم أحد

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 168

بعمرة في أشهر الحج وكان مسكنه من وراء الميقات من أهل الآفاق، ولم يكن من حاضري المسجد الحرام ثم أقام حلالًا بمكة إلى أن الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته فهو متمتع بالعمرة إلى الحج، وعليه ما أوجب الله على من تمتع بالعمرة إلى الحج، وذلك ما استيسر من الهدي، وقد قيل: إن هذا الوجه هو الذي روي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود كراهيته، أو قال أحدهما: يأتي أحدكم منى وذكره يقطر منيًّا؟!.

وقد أجمع المسلمون على جواز هذا، وقد قال جماعة من العلماء: إنما كرهه عمر لأنه أحب أن يزار البيت في العام مرتين: مرة للحج، ومرة للعمرة، ورأى الإِفراد أفضل، فكان يأمر به ويميل إليه وينهى عن غيره استحبابًا، ولذلك قال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم.

وأما الوجه الثاني: فهو القران، وهو الذي ذكرناه آنفا، وذلك لأن القارن يتمتع بسقوط سفره الثاني، فالقران والتمتع يتفقان في هذا المعنى ويتفقان عند أكثر العلماء في الهدي، والصيام لمن لم يجد.

وأما الوجه الثالث: فهو فسخ الحج في عمرة، وجمهور العلماء يكرهونه وسيأتي الكلام فيه.

وأما الوجه الرابع: فهو ما قاله ابن الزبير وهو يخطب: أيها الناس، إنه والله ليس المتمتع بالحج إلى العمرة ما تصنعون، ولكن المتمتع بالعمرة إلى الحج أن يخرج الرجل حاجًّا فيحبسه عدوٌّ أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى ويحل ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي.

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال:"حج عثمان رضي الله عنه فقال له علي رضي الله عنه: ألم تسمع رسول الله عليه السلام تمتع؟ فقال: بلى".

ش: إسناده صحيح.

ص: 169

وأخرجه النسائي (1) بأتم منه: أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عبد الرحمن بن حرملة، قال: سمعت سعيد بن المسيب قال: "حج علي وعثمان رضي الله عنهما فلما، كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع، فقال: إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا، فَلَبَّى علي وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان، فقال علي: ألم أُخْبَر أنك تنهى عن التمتع؟ قال: بلى، قال له علي رضي الله عنه: ألم تسمع رسول الله عليه السلام: تمتع؟ قال: بلى".

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد اللهَ بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، أنه حدثه:"أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حجة معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلَاّ من جهل أمر الله تعالى، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها رسول الله عليه السلام فصنعاها معه".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك

فذكره بإسناد مثله.

ش: هذا طريقان رجالهما رجال الصحيح كلهم ما خلا ابن مرزوق.

وأخرجه النسائي (2) والترمذي (3): كلاهما عن قتيبة عن مالك نحوه.

قوله: "لا يصنع ذلك" أي التمتع إلَاّ من لم يدر أمر اللهَ تعالى.

قوله: "فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك" أي عن التمتع، زعم جماعة من العلماء أن المتعة التي نهى عنها عمر رضي الله عنه وضرب عليها هي فسخ الحج إلى العمرة، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا.

(1)"المجتبى"(5/ 152 رقم 2733).

(2)

"المجتبى"(5/ 153 رقم 2734).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 185 رقم 823).

ص: 170

وزعم آخرون أنه إنما نهى عمر عنها لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام، وقال آخرون: إنما نهى عنها لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته، فخشى أن يضيع الإِفراد والقران، وهما سُنتان للنبي عليه السلام، وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها، فقيل له: إنك لتخالف أباك، فقال ابن عمر: لم يقل الذي تقولون، إنما قال: أفردوا الحج والعمرة، فإنه أتم للعمرة. أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلَاّ بهدي، وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج، فجعلتموها أنتم حرامًا وعاقبتم الناس عليها، وقد أحلها الله، وعمل بها رسول الله عليه السلام، فإذا أكثروا عليه [قال:] (1) كتاب الله بيني وبينكم، كتاب الله أحق أن يتبع أم عمر رضي الله عنه؟!

قوله: "قد صنعها رسول الله عليه السلام" أي قد صنع رسول الله المتعة بالعمرة إلى الحج، واستدلت به أهل المقالة الثانية على أن التمتع أفضل من الإِفراد والقران، وقال أبو عمر: أما قول سعد: "قد صنعها رسول الله عليه السلام فصنعناها معه" فليس فيه دليل على أن رسول الله عليه السلام تمتع، لأن رسول الله عليه السلام أفرد الحج، ويحتمل أن يكون قوله:(صنعناها مع)(2) رسول الله عليه السلام يعني أذن بها وأباحها وإذا أمر الرئيس بالشيء جاز أن يضاف ذلك إليه، كما يقال: رجم رسول الله عليه السلام في الزنا، وقطع في السرقة ونحو هذا، ومن هذا المعنى قوله:{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} (3) أي أمر فنودي فافهم.

وفي "شرح الموطأ" لأبي حسن الأشبيلي: ولا يصح عندي أن يكون عليه السلام متمتعًا إلَاّ تمتع قران، لأنه لا خلاف أنه عليه السلام لم يحل من عمرته حتى أمر أصحابه أن يحلوا ويفسخوا حجهم في عمرة، وأنه قد أقام محرمًا من أجل هديه إلى يوم النحر، وهذا حكم القارن لا المتمتع، ثم إن فسخ الحج في العمرة خُصَّ به أصحاب رسول اللهَ عليه السلام فلا يجوز اليوم أن يُفعل ذلك عند أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم، لقوله

(1) في "الأصل، ك": "فقال"، والمثبت من "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 210).

(2)

كذا في "الأصل، ك"، وفي "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 360):"صنعها".

(3)

سورة الزخرف، آية:[51].

ص: 171

تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} (1) يعني لمن دخل فيه، وما أعلم من الصحابة من يجيز ذلك إلَاّ ابن عباس وتابعه أحمد وداود دون سائر الفقهاء ولكنهم على أن فسخ الحج في العمرة خص به أصحاب رسول الله عليه السلام.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا ابن المبارك، عن سليمان التيميّ، عن غنيم بن قيس قال:"سألت سعد بن مالك عن متعة الحج، فقال: فعلناها وهو يومئذ مشرك بالعُرش -يعني معاوية يعني عروش بيوت مكة".

ش: إسناده صحيح، وابن المبارك هو عبد الله بن المبارك الزاهد المشهور، وسليمان التيمي هو ابن طرخان، وغنيم بن قيس المازني الكعبي البصري أدرك النبي عليه السلام، ولم يره، روى له الجماعة سوى البخاري.

وسعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة.

وأخرجه مسلم (2): ثنا سعيد بن منصور وابن أبي عمر جميعًا، عن الفزاري -قال سعيد: نا مروان بن معاوية- قال: أنا سليمان التيمي، عن غنيم بن قيس قال:"سألت سعد بن مالك [أبي] (3) وقاص عن المتعة، فقال: قد فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعُرُش يعني بيوت مكة".

وله في رواية: "يعني معاوية" وفي أخرى: "المتعة في الحج".

قوله: "وهو يومئذ" أي معاوية بن أبي سفيان.

"يومئذ مشرك" أراد أنه لم يسلم بعد.

قوله: "بالعُرش" بضم العين والراء جمع عريش وأراد عُرُش مكة وهي بيوتها، وقال أبو عبيد: وسميت بيوت مكة عُرشًا لأنها عيدان تنصب وتظل عليها، ويقال

(1) سورة البقرة، آية:[196].

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 898 رقم 1225).

(3)

ليست في "الأصل، ك"، وفي "صحيح مسلم":"سعد بن أبي وقاص". واسم أبي وقاص: مالك.

ص: 172

لها عروش، فمن قال: عروش فواحدها عرش، ومن قال: عُرش فواحدها عريش، مثل قليب وقلب، وقال بعضهم:"كافر بالعَرش" بفتح العين وسكون الراء وتأوله، وهو تصحيف، ثم إنه أراد بهذا الكلام أنهم تمتعوا قبل إسلام معاوية، وقيل: أراد بقوله كافرٌ الاختفاء والتغطي، يعني أنه كان مختفيًا في بيوت مكة، والأول أشهر لأنه صرح في الرواية الأخرى:"وهو يومئذ مشرك" وقد قالوا: إن المراد بقوله: فعلنا متعة الحج وهو يومئذ مشرك هو إحدى العمرتين المتقدمتين: إما الحديبية، وإما عمرة القضاء، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية معه وقد أسلم لأنها كانت بعد الفتح، وحجة الوداع بعد ذلك سنة عشر، وهذا ظاهر، وقال القاضي: المراد بالمتعة المذكورة: الاعتمار في أشهر الحج والإِشارة بذلك إلى عمرة القضاء لأنها كانت في ذي القعدة، وقد قيل: إن في هذا الوقت كان إسلام معاوية، والأظهر أنه من مسلمة الفتح. وأما غير هذه من عمرة الجعرانة وإن كانت أيضًا في ذي القعدة، فمعاوية كان أسلم ولم يكن مقيمًا بمكة، وكان في عسكر النبي عليه السلام إلى هوازن في جملة أهل مكة، وكذلك في حجة الوداع لم يكن معاوية ممن تخلف عن الحج مع النبي عليه السلام ولا تخلف عنه غيره، إلَاّ أن يكون أراد فسخ الحج في العمرة التي صنعها من قدم مع النبي عليه السلام، فمعاوية أيضاً لا يثبت أنه كان مقيمًا بمكة حينئذٍ، وكيف وقد استكتبه النبي عليه السلام وكان معه بالمدينة، فلم يكن حينئذٍ مقيمًا بمكة.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن مسلم -وهو القُرِّي- قال: سمعت ابن عباس يقول: "أهلّ أصحاب رسول الله عليه السلام بالحج، وأهل هو بالعمرة، فمن كان معه هدي فلم يحل، ومن لم يكن معه هدي حلّ، وكان رسول الله عليه السلام وطلحة ممن معهما هدي فلم يحلا".

ش: إسناده صحيح، وأبو داود سليمان الطيالسي، ومسلم هو ابن المخراق العبدي القُرشي مولى بني قرّة حي من عبد القيس، روى له مسلم وأبو داود والنسائي.

ص: 173

وأخرجه مسلم (1): نا عبيد الله بن معاذ، قال: نا أبي، قال: نا شعبة، قال: نا مسلم القرِّي، سمع ابن عباس يقول:"أهل النبي عليه السلام بعمرة، وأهل أصحابه بحج، فلم يحل النبي عليه السلام ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم، فكان طلحة بن عبيد اللهَ فيمن ساق الهدى فلم يحل".

ص: حدثنا أحمد بن عبد المؤمن المروزي، قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: ثنا أبو حمزة، عن ليث -هو ابن أبي سُليم- وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"تمتع رسول الله عليه السلام حتى مات، وأبو بكر رضي الله عنه حتى مات، وعمر رضي الله عنه حتى مات، وعثمان رضي الله عنه حتى مات، وقال سليمان في حديثه وأول من تخلى عنها معاوية".

ش: هذان طريقان حسنان

الأول: عن أحمد بن عبد المؤمن الخرساني المروزي، عن علي بن الحسن بن شقيق ابن دينار المروزي شيخ البخاري وأحمد، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة- محمد بن ميمون السكري المروزي، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس اليماني، عن عبد الله ابن عباس.

وأخرجه الترمذي (2): ثنا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"تمتع رسول الله عليه السلام وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وأول من نهى عنها معاوية" وقال حديث حسن.

وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: هذا حديث منكر، والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا لا يريان التمتع ولا القران.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 909 رقم 1239).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 184 رقم 822).

ص: 174

وقال أبو عمر في "التمهيد" حديث ليث هذا منكر، وهو ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع، وإن كان جماعة من أهل العلم قد زعموا أن المتعة التي نهى عنها عمر وضرب عليها: فسخ الحج في العمرة، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا.

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروزي، عن سفيان الثوري، عن ليث

إلى آخره.

وأخرجه الكجي في "سننه": من حديث ليث بن أبي سليم، عن طاوس، عن ابن عباس. نحوه.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك بن عبد الله، عن عبد الله ابن شريك، قال:"تمتعت، فسألت ابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم فقالوا: هديت لسنة نبيك تقدم فتطوف ثم تحل".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا شريك

فذكر بإسناده نحوه غير أنه قال أبو غسان أظنه قال: لسنة نبيك افعل كذا ثم أحرم يوم التروية وافعل كذا وافعل كذا.

ش: هذان طريقان كلاهما عن فهد بن سليمان.

الأول: عنه، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني وثقه يحيى، عن شريك بن عبد الله النخعي عن عبد الله بن شريك العامري الكوفي وثقه ابن حبان. وقال الجوزجاني: كان مختاريًّا كذابًا.

وفي "التكميل": قال الإِمام أحمد وابن معين وأبو زرعة: ثقة. وقال النسائي: ليس بقوي، وقال النسائي مرة: ليس به بأس.

الثاني: عنه، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله

إلى آخره.

ص: 175

قوله: "افعل كذا" أراد بهذا بيان صورة التمتع، وهي أنه إذا قدم مكة وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة حل، ثم أحرم بالحج يوم التروية وفعل ما يفعله المفرد بالحج، ثم يذبح دم التمتع والله أعلم.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، ثنا شعبة، عن أبي جمرة قال: "تمتعت فنهاني ناس عنها، فسألت ابن عباس فأمرني بها، فتمتعت فنمت فأتاتي آتٍ في المنام فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور، فأتيت ابن عباس فأخبرته، فقال: الله أكبر سُنَّه أبي القاسم أو سُنَّة رسول الله عليه السلام.

ش: إسناده صحيح، وأبو جمرة -بالجيم والراء المهملة- اسمه نصر بن عمران ابن عاصم الضبعي.

وأخرجه البخاري (1): ثنا آدم، نا شعبة، نا أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي قال:"تمتعت فنهاني ناس، فسألت ابن عباس فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلاً يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس، فقال: سنة النبي عليه السلام، فقال لي: أقم عندي وأجعل لك سهمًا من مالي. قال: شعبة فقلت: لِمَ؟ فقال: للرؤيا التي رأيت".

وأخرجه مسلم (2): نا محمد بن مثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، قال: سمعت أبا جمرة الضبعي قال: "تمتعت فنهاني ناس عن ذلك، فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك، فأمرني بها، قال: ثم انطلقت إلى البيت فنمت، فأتاني آتٍ في منامي، فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور، قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت، فقال: الله أكبر، الله أكبر، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم".

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي -هو أحمد بن خالد- قال: ثنا ابن إسحاق، عن الزهري، عن سالم قال: "إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: حسنٌ

(1)"صحيح البخاري"(2/ 568 رقم 1492).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 911 رقم 1242).

ص: 176

جميل، فقال: إن أباك كان ينهى عن ذلك، فقال: ويلك، فإن كان أبي قد نهى عن ذلك وقد فعله رسول الله عليه السلام أمر به، فبقول أبي تأخذ أم بقول رسول الله عليه السلام؟! قال: بأمر رسول الله عليه السلام قال: (قم)(1) عني".

ش: إسناده صحيح، وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني والزهري هو محمد بن مسلم المدني.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن أحمد بن شعيب، نا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم قال: "كنت عند ابن عمر، فجاءه رجل فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال: حسن لا بأس، فقال: إن أباك كان ينهى عنها، فغضب ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: بأمر رسول الله عليه السلام نأخذ.

قوله: "حسنٌ" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي التمتع، أي فعلُه حسنٌ جميلٌ.

ص: حدثنا يزيد بن سنان وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا عُقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال:"تمتع رسول الله عليه السلام في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله عليه السلام فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله عليه السلام بالعمرة إلى الحج".

ش: إسناده صحيح، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وعُقَيل -بضم العين- بن خالد الأيلي روى له الجماعة.

وأخرجه البخاري (2): ثنا يحيى بن بكير، قال: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن ابن عمر قال: "تمتع رسول الله عليه السلام في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ

(1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار":"فقم".

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 607 رقم 1606).

ص: 177

رسول الله عليه السلام فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع رسول الله عليه السلام بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي عليه السلام مكة، قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء [حرم](1) منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فطاف رسول الله عليه السلام حين قدم مكة، واستلم الركن أول شيء، ثم خبَّ ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حلَّ من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله عليه السلام .. ".

وأخرجه مسلم (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) أيضًا.

وهذا الحديث مشتمل على بيان لصفة المتمتع الذي ساق الهدي فإنه لا يحل إذا فرغ من أفعال العمرة، وهذا حجة لأبي حنيفة حيث قال: المتمتع الذي قد ساق هديه لا يحل إلَاّ يوم النحر. وقال الشافعي: يحل، وسوق الهدي لا يمنع التحلل، وهذا حجة عليه، وأما المتمتع الذي لا يسوق الهدي فإنه يحل إذا فرغ من أفعال العمرة بلا خلاف.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني عروة:"أن عائشة أخبرته عن رسول الله عليه السلام في تمتعه بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه مثل الذي أخبرني به سالم، عن عبد الله، عن رسول الله عليه السلام".

(1) في "الأصل، ك": "أحرم منه"، والمثبت من "صحيح البخاري".

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 907 رقم 1227).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 160 رقم 1805).

(4)

"المجتبى"(5/ 1515 رقم 2732).

ص: 178

ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيحين ما خلا ابن أبي داود.

وأخرجه مسلم (1): حدثني عبد الملك بن شعيب، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير:"أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي عليه السلام أخبرته عن رسول الله عليه السلام في تمتعه بالعمرة وتمتع الناس معه مثل الذي أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله، عن رسول الله عليه السلام".

وأخرجه البخاري (2) نحوه.

وأخرجه البيهقي في "سننه الكبرى"(3): أيضًا من حديث الليث، عن عقيل

إلى آخره نحوه.

ثم قال: وقد روينا عن عائشة وابن عمر ما يعارض هذا، وهو الإِفراد حيث لم يتحلل من إحرامه إلى آخر شيء؛ دلالة على أنه لم يكن متمتعًا.

قلت: هذا لا يرد على فقهاء الكوفة؛ فعندهم المتمتع إذا أهدى لا يتحلل حتى يفرغ من حجه، وهذا الحديث أيضًا ينفي كونه مفردًا؛ لأن الهدي لا يمنع المفرد من الإِحلال، فهو حجة على البيهقي وفي "الاستذكار": لا يصح عندنا أن يكون متمتعًا إلَاّ تمتع قران؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أنه عليه السلام لم يحل في عمرته وأقام محرمًا من أجل هديه إلى يوم النحر، وهذا حكم القارن لا المتمتع والله أعلم.

ص: فإن قال قائل: فقد رويتم عن عائشة رضي الله عنها في أول هذا الباب خلاف هذا، فرويتم عن القاسم، عن عائشة: أن رسول الله عليه السلام أفرد الحج، ورويتم عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة قالت:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله عليه السلام بالحج" ورويتم عن أم علقمة، عن عائشة: "أن

(1)"صحيح مسلم"(2/ 902 رقم 1228).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 607 رقم 1606).

(3)

"السنن الكبرى"(5/ 17 رقم 8641).

ص: 179

رسول الله عليه السلام عام حجة الوداع أفرد بالحج ولم يعتمر" قيل له: يجوز أن يكون هذا على معنى لا يخالف معنى ما روى الزهري، عن عروة، عن عائشة، وذلك أنه قد يجوز أن يكون الإِفراد الذي ذكره القاسم عن عائشة إنما أرادت به إفراد الحج في وقت ما أحرم به، وإن كان قد أحرم بعد خروجه منه بعمرة، فأرادت أنه لم يخلطه في وقت إحرامه به بإحرام بعمرة كما فعل غيره ممن كان معه، وأما حديث محمد بن عبد الرحمن، عن عروة، عن عائشة فإنها أخبرت أن منهم من أهل بعمرة لا حجة معها، ومنهم من أهل بحجة وعمرة تعني مقرونين، ومنهم من أهل بالحج ولم تذكر في ذلك التمتع، فقد يجوز أن يكون الذين قد كانوا أحرموا بالعمرة أحرموا بعدها بحجة، ليس حديثها هذا ينفي من ذلك شيئًا، وأنها قالت: وأهل رسول الله عليه السلام بالحج مفردًا فقد يجوز أن يكون ذلك الحج المفرد بعد عمرة قد كانت تقدمت منه مفردة، فيكون أحرم بعمرة مفردة على ما في حديث القاسم ومحمد بن عبد الرحمن عن عروة، ثم أحرم بعد ذلك بحجة على ما في حديث الزهري عن عروة، حتى تتفق هذه الآثار ولا تتضاد، فأما معنى ما روت أم علقمة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام أفرد الحج ولم يعتمر، فقد يجوز أن تكون تريد بذلك أنه لم يعتمر في وقت إحرامه بالحج كما فعل من كان معه، ولكنه اعتمر بعد ذلك.

ش: لما كانت أحاديث عائشة -رضى الله عنها- في هذا الباب متعارضة ظاهرًا، وجه ذلك ظاهر فيما ذكره يتأتى فيها سؤال من كل واحد من أهل المقالتين على الآخر، فلذلك ذكره بصورة السؤال والجواب وهما ظاهران، وقال أبو عمر: الاضطراب عن عائشة في حديثها هذا في الحج عظيم، وقد أكثر العلماء في توجيه الروايات فيه، ودفع بعضهم بعضها ببعض ولم يستطيعوا الجمع بينها، ورام قوم الجمع في بعض معانيها، روى محمد بن عُبيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة قال: ألا تعجب من اختلاف عروة والقاسم؟ قال القاسم: أهلت عائشة بالحج وقال عروة: أهلت بالعمرة. وذكر الحارث بن مسلمة، عن يوسف بن عمرو، عن ابن وهب، عن مالك أنه قال في حديث عروة عن عائشة في الحج: ليس عليه العمل

ص: 180

قديمًا ولا حديثًا، قال أبو عمرو: يريد مالك أنه ليس عليه العمل في رفض العمرة لأن العمل عليه عنده في أسباب كثيرة منها: أنه جائز للإنسان أن يهل بعمرة، ومنها أن القارن يطوف طوافًا واحدًا، وغير ذلك.

وقال ابن حزم في "المحلى"(1): حديث عروة عن عائشة منكر وخطأ عند أهل العلم بالحديث.

حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، نا عبد الله بن الحسين بن عقال، نا عبيد الله بن محمد السقطي، نا أحمد بن جعفر بن مسلم الختلي، نا عمر بن محمد بن عيسى الجوهري السداني، نا أحمد بن محمد الأثرم، نا أحمد بن حنبل

فذكر حديث مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام عام حجة الوداع .. " الحديث، فقال أحمد: أيش في هذا الحديث من العجب؟ هذا خطأ، قال الأثرم: فقلت له: الزهري، عن عروة، عن عائشة بخلافه. قال أحمد: نعم، وهشام بن عروة. انتهى.

وفي "التمهيد": دفع الأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن عُلَيّة حديث عروة هذا، وقالوا: هو غلط لم يتابع عروة على ذلك أحد من أصحاب عائشة، وقال إسماعيل ابن إسحاق: قد أجمع هؤلاء يعني القاسم والأسود وعروة على أن أم المؤمنين كانت محرمة بحجة لا بعمرة، فعلمنا بذلك أن الرواية التي رويت عن عروة غلط، وقال عياض اختلفت الروايات عن عائشة فيما أحرمت به اختلافًا كثيرًا، ففي رواية: أحللنا بعمرة، وفي أخرى: فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج ولم أهل إلَاّ بعمرة، وفي أخرى: خرجنا لا نريد إلَاّ الحج، وفي أخرج: لبينا بالحج، وفي أخرى: مهلين بالحج، والكل صحيح، وفي رواية: وكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي وقال بعضهم: نرجح أنها كانت محرمة بحج، لأنها رواية عمرة والأسود والقاسم، وعلّلوا رواية عروة في العمرة، ورجحوا رواية غيره على روايته، لأن عروة قال في

(1)"المحلى"(7/ 104).

ص: 181

رواية حماد بن سلمة، عن هشام عنه: حدثني غير واحد: "أن النبي عليه السلام قال لها: دعي عمرتك" فدل أنه لم يسمع الحديث منها.

ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، أن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما حدثه:"أنه سمع أسماء لما مرت بالحجون تقول: صلى الله على رسول الله عليه السلام لقد نزلنا معه هَا هنا ونحن خفاف الحقائب، قليل ظهورنا، قليلة أزوادنا، فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا، ثم أهللنا من العشي بالحج".

فهذه أسماء تخبر أن من كان حينئذ ابتدأ بعمرة فقد أحرم بعمرة فصار بها متمتعًا.

ش: هذا الإِسناد عن عبد الله بن لهيعة وفيه مقال، ولكن الحديث صحيح أخرجه الشيخان، وأبو الأسود اسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني.

فقال البخاري (1): ثنا أحمد بن عيسى، نا ابن وهب، نا عمرو، عن أبي الأسود، أن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر حدثه:"أنه كان يسمع أسماء تقول كلما مرت بالحجون: صلى الله على محمد، لقد نزلنا من هَا هنا ونحن يومئذ خفاف، قليل ظهرنا .. " إلى آخره سواء.

وقال مسلم (2): حدثني هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى، قالا: نا ابن وهب .. إلي آخره نحو رواية البخاري.

قوله: "بالحَجُون" على وزن فَعُول بفتح الفاء، وهو موضع بمكة عند المحصب وهو الجبل المشرف بحذاء المسجد الذي يلي شعب الجزارين إلي ما بين الحوضين اللذين في حائط عوف، وهو مقبرة أهل مكة، وذكر بعضهم الحجون مكان في البيت على ميل ونصف. وقال الجوهري الحجون بفتح الحاء جبل بمكة وهي مقبرة.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 637 رقم 1702).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 908 رقم 1237).

ص: 182

قوله: "خفاف الحقائب" جمع حقيبة وهو كل ما حمل في مؤخر الرحل والقتب ومنه احتقب فلان كذا.

قوله: "فلما مسحنا البيت" أي فلما طفنا بالبيت، لأن الطائف يمسح الركن فعبر عن الطواف ببعض ما يفعل فيه، ومنه قول ابن أبي ربيعة:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومَسَّح بالأركان من هو ما مسح

فكني بالمسح عن الطواف، قال عياض: وليس هذا اللفظ على عمومه، والمراد به ما عدا عائشة رضي الله عنها لأنها كانت حاضت فلم تتمسح بالبيت ولم تطف ولا تحللت، بذلك من عمرتها، وإنما قصدت هنا الإِخبار عن حجهم مع النبي عليه السلام على الصفة التي ذكرت ولم تتعرض لخبر عائشة وعذرها وخصوصها من بينهم، وقيل: لعل أسماء أشارت إلى عمرة عائشة التي فعلت بعد الحج مع أخيها عبد الرحمن، وأما قول من قال: لعلها أرادت في غير حجتهم مع النبي عليه السلام فخطأ لأن في الحديث النص أن ذلك كان في حجهم مع النبي عليه السلام، فإن قيل: لم تذكر أسماء في حديثها هذا السعي بين الصفا والمروة فدل أن ذلك ليس بواجب.

قلت: قال القاضي عياض: لا حجة في ذلك لمن لم يوجب السعي؛ لأن هذا الحديث إنما هو إخبار عما فعلوا مع النبي عليه السلام في حجة الوداع، والذي جاء فيه مفسرًا أنهم طافوا معه وسعوا، فيحمل ما أُجمل وأشكل على ما فُسِّر وبُيِّن، فافهم.

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران رضي الله عنه قال: "تمتعنا مع رسول الله عليه السلام ونزل فيها القرآن فلم ينهنا رسول الله عليه السلام ولم ينسخها شيء، ثم قال رجل برأيه ما شاء.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال:"تمتعنا على عهد رسول الله عليه السلام متعة الحج، فلم ينهنا عنها ولم ينزل الله فيها نهيًا".

ش: هذان طريقان صحيحان:

ص: 183

الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن حصين.

وأخرجه البخاري (1): ثنا موسى بن إسماعيل، نا همام، نا قتادة، قال: حدثني مطرف، عن عمران قال:"تمتعنا على عهد النبي عليه السلام ونزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء".

وأخرجه مسلم (2) أيضًا: حدثنا محمد مثنى، قال: حدثني عبد الصمد، قال: نا همام، قال: ثنا قتادة، عن مطرف، عن عمران بن حصين قال:"تمتعنا مع رسول الله عليه السلام ولم ينزل فيه القرآن، قال رجل فيها برأيه ما شاء". وفي رواية له (2): عن أبي رجاء قال: قال عمران بن حصين: "نزلت آية المتعة في كتاب الله عز وجل يعني متعة الحج -وأمرنا بها رسول الله عليه السلام ثم لم تنزل آية تنسخ متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله عليه السلام حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء".

وأخرجه النسائي (3) أيضًا.

قوله: "رجل" يريد به عمر رضي الله عنه لأنه كان ينهى عنها ويأمر بالإِفراد، قاله عياض، وقال ابن الجوزي: كأنه يريد به عثمان، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون أراد أبا بكر أو عمر أو عثمان، وقال النووي والقرطبي: يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن البصري، عن عمران بن حصين.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 569 رقم 1496).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 900 رقم 1226).

(3)

"المجتبى"(5/ 149 رقم 2728).

ص: 184

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا عفان، نا حماد، أنا حميد، عن الحسن، عن عمران بن الحصين قال:"تمتعنا على عهد رسول الله عليه السلام فلم ينهنا عنها، ولم ينزل فيها نهى".

ص: حدثنا سليمان، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "تمتعنا مع رسول الله عليه السلام فلما ولى عمر رضي الله عنه خطب الناس، فقال: إن القرآن هو القرآن وإن الرسول هو الرسول وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله عليه السلام: متعة الحج فافصلوا بين حجكم وعمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم، والأخرى متعة النساء، فأنهى عنها وأعاقب عليها.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن عاصم، عن أبي نضرة، عن جابر قال:"متعتان فعلناهما على عهد رسول الله عليه السلام نهانا عنهما عمر رضي الله عنه فلم نعد إليهما".

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن سليمان بن شعيب، عن الخصيب بن ناصح، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي نضرة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي ثم العوقي البصري، والعوقة بطن من قيس.

وأخرجه مسلم (2): نا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن مثنى: نا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة قال: "كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهي عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله، فقال:[على يدي دار الحديث](3) تمتعنا مع رسول الله عليه السلام، فلما قام

(1)"مسند أحمد"(3/ 363 رقم 14959).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 885 رقم 1217).

(3)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

ص: 185

عمر رضي الله عنه قال: إن الله تعالى كان يحل لرسوله ما شاء [بما شاء](2) وأن القرآن قد نزل منَازِله فأتموا الحج والعمرةٍ [الله](2) كما أمركم الله وأبتوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلَاّ رجمته بالحجارة".

وحدثنيه زهير بن حرب، قال: ثنا عفان، قال: نا همام عن قتادة

بهذا الإِسناد وقال في الحديث: "فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم". انتهى.

قوله: "وإنهما كانتا متمتعان" أبي أن المتعتين المعهودتين إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء.

ولا يقال: إنه إضمار قبل الذكر؛ لأن ذلك كان معهودًا بينهم فصار كالملفوظ.

وقوله: "كانتا" بمعنى وجدتا أو وقعتا فكان هنا تامة فلذلك لم تحتج إلى خبر.

قوله: "متعتان" مرفوع لأنه خبر إنَّ في قوله: "إنهما"، والمعنى إنهما متعتان كانتا على زمن النبي عليه السلام.

قوله: "متعة الحج" خبر مبتدأ محذوف أي إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء وهي التي يكون العقد فيها إلى أجل معين نحو عشر أيام أو شهر، وسيجيء تحقيق ذلك في بابه إن شاء الله.

قوله: "فافصلوا بين حجكم وعمرتكم" إشارة إلى معنى التمتع؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يكن يرى بذلك كما ذكرناه، وقال الإِمام: اختلف في المتعة التي نهى عنها عمر في الحج فقيل: هي فسخ الحج في العمرة وقيل: بل هي العمرة في أشهر الحج والحج بعدها ويكون نهيه عن ذلك على جهة الترغيب فيما هو الأفضل الذي هو الإِفراد وليكثر تردد الناس إلى البيت.

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة عن عاصم بن سليمان الأحول عن أبي نضرة المنذر بن مالك.

ص: 186

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الصمد، نا حماد، عن عاصم، عن أبي نضرة، عن جابر قال:"متعتان كانتا على عهد النبي عليه السلام فنهانا عنهما عمر رضي الله عنه فانتهينا".

ص: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ما يدل على أنه كان كذلك أيضًا.

حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه عن نافع عن ابن عمر عن حفصة:"أنها قالت لرسول الله عليه السلام: ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر".

فدل هذا الحدث أنه كان متمتعًا. لأن الهدي المقلد لا يمنع من الإِحلال إلَاّ في المتعة خاصة هذا إن كان ذلك القول من بعد طوافه للعمرة وقد يحتمل أيضًا أن يكون هذا القول كان منه قبل أن يحرم بالحج وقبل أن يطوف للعمرة، فكان ذلك حكمه - لولا سياقه الهدي- يحل كما يحل الناس بعد أن يطوف، فلم يطف حتى أحرم بالحج فصار قارنًا، فليس يخلو حديث حفصة الذي ذكرنا من أحد هذين التأويلين وعلى أيهما كان في الحقيقة فإنه قد نفى قول من قال: إنه مفردًا بحجة لم يتقدمها عمرة ولم يكن معها عمرة.

ش: أي روي عن النبي عليه السلام أيضًا ما يدل على أنه كان جمع بين الحج والعمرة في عام حجة الوداع ولم يكن مفردًا وهو حديث حفصة، وهو حديث صحيح أخرجه الجماعة غير الترمذي.

فالبخاري (2): عن إسماعيل، عن مالك.

ومسلم (3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.

(1)"مسند أحمد"(3/ 325 رقم 14159).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 568 رقم 1491).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 902 رقم 1229).

ص: 187

وأبو داود (1): عن القعنبي، عن مالك.

والنسائي (2): عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك.

وابن ماجه (3): عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر:"أن حفصة زوج النبي عليه السلام قالت: يا رسول الله ما شأن الناس .. " إلى آخره نحوه.

قوله: "ما شأن الناس" أي ما لهم وما حالهم.

قوله: "إني لبدت رأسي" من التلبيد وهو أن يضفره ويجعل فيه شيئًا من صمغ وشبهه ليجتمع ويتلبد فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا يحصل منه قمل، وإنما يُلبد من يطول مكثه في الإِحرام. ونص الشافعي وأصحابه على استحبابه للرفق.

وقال أبو عمر: زعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث عن نافع: "ولم تحل أنت من عمرتك" إلَاّ مالك وحده قال: وهذه اللفظة قد قالها عن نافع جماعة منهم: عبيد الله بن عمر وأيوب بن أبي تميمة وهما ومالك حفاظ أصحاب نافع. انتهى. وقال السفاقسي في قولها: "ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك": يحتمل أن تريد من حجك؛ لأن معناهما متقارب، يقال: حجَّ الرجل البيت إذا قصده واعتمره إذا قصده، فعبرت بأحدهما عن الآخر وإن كان يقع كل واحد منهما على نوع مخصوص من القصد والنسك.

وقيل: إنها لما سمعته يأمر الناس بسرف بفسخ الحج في العمرة ظنت أنه فسخ الحج فيها وقيل: اعتقدت أنه كان معتمرًا.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 161 رقم 1806).

(2)

"المجتبى"(5/ 172 رقم 2781).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1012 رقم 3046).

ص: 188

وقال القرطبي: معنى قولها وقول ابن عباس: "من عمرتك" أي بعمرتك كما قال تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (1) أي بأمر الله، عبر بالإِحرام بالعمرة عن القران لأنها السابقة في إحرام القارن قولاً ونية ولا سيما على ما ظهر من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان مضروًا، وقال القاضي عياض: وفي تسميتها إياه عمرة يحتج به من قال: أن النبي عليه السلام كان قارنًا بحج وعمرة، قوله (فدل هذا الحديث) أبي حديث حفصة، أن النبي عليه السلام كان متمتعا؛ لأن الهدي المقلَّد -بتشديد اللام المفتوحة- لا يمنع من إحلال المحرم إلَاّ في المتعة خاصة وباقي الكلام ظاهر.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل القران في ذلك بين العمرة والحجة أفضل من إفراد الحج ومن التمتع بالعمرة إلى الحج وقالوا: كللك فعل رسول الله عليه السلام في حجة الوداع.

ش: أي خالف الفريقين الأولين جماعة آخرون وأراد بهم: شقيق بن سلمة والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق والمزني من أصحاب الشافعي فإنهم قالوا: القران أفضل من الإِفراد والتمتع وإليه ذهب ابن المنذر وأبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي وعن أحمد: يخير بين القران والإِفراد والتمتع، وعنه: إن ساق الهدي فالقران أفضل وإلا فالتمتع.

قلت: قول أبي حنيفة في هذا هو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قوله: "وقالوا" أي قال هؤلاء الآخرون.

"كللك فعل رسول الله عليه السلام" أرادوا أنه عليه السلام كان قارنًا في حجة الوداع.

وفي "المجرد": وأما حجة النبي عليه السلام فاختلف فيها بحسب المذاهب والأظهر قول أحمد: لا أشك أنه كان قارنًا والمتعة أحب إليّ.

ص: وذكروا في ذلك ما حدثنا يونس قال: ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي، قال: حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: حدثني شقيق بن سلمة قال: حدثني رجل من

(1) سورة الرعد، آية:[11].

ص: 189

تغلب يقال: له أبي معبد قال: "أهللت بالحج والعمرة جميعًا فلما قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكرت له إهلالي فقال: هديت لسنة [نبيكم] (1) أو لسنة النبي عليه السلام".

حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد قال: ثنا شريك عن منصور والأعمش عن أبي وائل مثله.

حدثنا يزيد بن سنان قال: ثنا أبو داود قال: ثنا شعبة قال: ثنا منصور قال: سمعت أبا وائل يحدث أن الصبي

فذكر مثله.

حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد قال: ثنا سلمة بن كهيل عن أبي وائل

مثله.

حدثنا ابن خزيمة قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل

مثله.

حدثنا ابن خزيمة قال: ثنا عبد الله بن رجاء قال: ثنا شعبة عن الحكم، قال: سمعت أبا وائل

فذكر مثله.

حدثنا فهد قال: ثنا الحسن بن ربيع قال: ثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال الصُّبي بن معبد

فذكر مثله.

ش: أبي ذكر هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أفضلية القران [إلى](2) حديث صُبَي -بضم الصاد- بن معبد التغلبي الكوفي وثقه ابن حبان وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه وأخرج حديثه من سبع طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا عن بشر بن بكر التنيسي أحد مشايخ الشافعي روى له البخاري [و](3) الأربعة غير الترمذي، عن عبد الرحمن

(1) كذا في "الأصل، ك": نبيكم، وفي "شرح معاني الآثار": نبيك.

(2)

ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها.

(3)

في "الأصل، ك": "ومن".

ص: 190

ابن عمرو الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة الأسدي أبي القاسم البزار الكوفي نزيل دمشق روى له الجماعة، عن شقيق بن سلمة الأسدي روى له الجماعة، عن صُبَي ابن معبد.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن عيينة، عن عبدة بن أبي لبابة، عن شقيق بن سلمة، عن الصبي بن معبد عن عمر

مثله.

قال البيهقي: فيه دليل على جواز القران.

قلت: فيه دليل على الجواز وعلى أنه أفضل من غيره؛ لقول عمر رضي الله عنه "هديت لسُنّه نبيكم عليه السلام".

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله، عن منصور بن زاذان وسليمان الأعمش كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن الصبي بن معبد.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، حدثني الصبي بن معبد -وكان رجلاً من بني تغلب- قال:"كنت نصرانيًّا فأسلمت واجتهدت فلم آل، فأهللت بحجة وعمرة، فمررت بالعذيب على سلمان بن ربيعة ويزيد بن صوحان، فقال أحدهما: أبهما جميعًا؟ فقال له صاحبه: دعه؛ فإنه أضل من بعيره، فكأنما بعيري على عنقي، فأتيت عمر رضي الله عنه فذكرت ذلك له، فقال لي عمر: إنهما لم يقولا شيئًا؛ هديت لسنة نبيك عليه السلام".

الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي

إلى آخره.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(3).

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 289 رقم 14290).

(2)

"مسند أحمد"(1/ 37 رقم 254).

(3)

"مسند الطيالسي"(1/ 12 رقم 58).

ص: 191

الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة .. إلى آخره.

الخامس: مثله غير أن موضع سلمة بن كهيل: عاصم بن بهدلة وهو عاصم بن أبي النجود المدني.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل، قال:"خرجنا حجاجًا ومعنا الصبي بن معبد، قال: فأحرم بالحج والعمرة، قال: فقدمنا على عمر رضي الله عنه فذكر ذلك له، فقال: هديت لسُنَّة نبيك عليه السلام".

السادس: عن محمد بن خزيمة أيضًا، عن عبد الله بن رجاء الغداني البصري شيخ البخاري عن شعبة بن الحجاج عن الحكم بن عتيبة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن الصبي بن معبد.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا عفان، نا شعبة، عن الحكم، عن أبي وائل، عن صُبَي بن معبد:"أنه كان نصرانيًّا تغلبيًّا فأسلم، فسأل أيَّ العمل أفضل؟ فقيل له: الجهاد في سبيل الله، فأراد أن يجاهد، فقيل له: أحججت؟ قال: لا، فقيل: حج واعتمر ثم جاهد، فأهلَّ بهما جميعًا، فوافق زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة، فقالا: هو أضل من ناقته -أو ما هو بأهدى من جمله- فانطلق إلى عمر رضي الله عنه فأخبره بقولهما، فقال: هديت لسُنَّة نبيك أو لسُنَّة رسول الله عليه السلام".

السابع: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن ربيع القسري شيخ الجماعة غير الترمذي، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي الكوفي، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن الصبي بن معبد.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 289 رقم (14289).

(2)

"مسند أحمد"(1/ 53 رقم 379).

ص: 192

ص: فقال الذين أنكروا القران: إنما قول عمر رضي الله عنه "هديت لسنة نبيك" على الدعاء منه له لا على تصويبه إياه في فعله وكان من الحجة عليهم في ذلك مما يدل على أن ذلك لم يكن من عمر رضي الله عنه على جهة الدعاء: أن فهدًا حدثنا قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث قال: حدثني أبي قال: ثنا الأعمش قال: حدثنا شقيق قال: ثنا الصبي بن معبد قال: "كنت حديث عهد بنصرانية فلما أسلمت لم ألُ أن أجتهد فأهللت بعمرة وحجة جميعًا فمررت بالعذيب بسلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان فسمعاني وأنا أهلُّ بهما جميعًا فقال أحدهما لصاحبه: أبهما جميعًا؟ وقال الآخر: دعه فإنه أضل من بعيره؛ قال: فانطلقت وكأن بعيري على عنقي فقدمت المدينة فلقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقصصت عليه فقال: إنهما لم يقولا شيئًا، هديت لسنة نبيك عليه السلام".

حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: ثنا وكيع قال: ثنا الأعمش عن شقيق عن الصُبَي بن معبد قال: "أهللت بهما جميعًا فمررت بسلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان فعابا ذلك علي فلما قدمت [على](1) عمر رضي الله عنه ذكرت ذلك له فقال: لم يقولا شيئًا هديت لسنة نبيك عليه السلام.

فدل قوله: "هديت لسنة نبيك" بعد قوله: "إنهما لم يقولا شيئًا" أن ذلك كان منه على التصويب منه لا على الدعاء.

ش: الذين أنكروا القران هم الطائفة الذين ذكروا في الفريقين الأولين، فإنهم قالوا: لما استدلت أهل المقالة الثالثة بما رُوي عن صبي بن معبد على أفضلية القران: لا دلالة لذلك على القرآن ولا على أفضليته لأن قول عمر رضي الله عنه "هديت لسُنَّة نبيك" دعاء منه له على أن يهديه [الله](2) لسُنَّة نبيه عليه السلام حيث ترك السنة في فعله ذلك ولم يدل ذلك على أنه صوّب فعله ذلك، أعني جمعه العمرة والحج

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

ليست في "الأصل، ك".

ص: 193

في إهلاله فأجاب عن ذلك بقوله: فكان من الحجة عليهم في ذلك، على الذين أنكروا القران بيانه: أن قول عمر رضي الله عنه: "هديت لسنة نبيك" بعد قوله: "إنهما لم يقولا شيئًا" يدل على أنه رأى ذلك من الصبي صوابًا وأن ذلك هو سنة النبي عليه السلام، وليس ذلك منه دعاء له إذ لو كان ذلك على وجه الدعاء لما قال:"إنهما لم يقولا شيئًا" فإنكاره عليهما قولهما دل على أن المراد من قوله: "هديت لسنة نبيك" هو الإِخبار على معنى أنك أتيت بما هو سنة نبيك عليه السلام وليس المراد منه هو الدعاء الذي هو الإِنشاء.

ثم إنه أخرج الحديث الذي يدل على ذلك من طريقين صحيحين:

الأول: عن فهد بن سليمان .. إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): عن يحيى عن الأعمش

بمثله، وقد ذكرناه عن قريب.

الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن إسحاق بن إبراهيم هو إسحاق بن راهويه شيخ الجماعة غير ابن ماجة.

وأخرجه في "مسنده".

وأخرجه أبو داود (2) أيضًا: ثنا محمد بن قدامة بن أعين وعثمان بن أبي شيبة -المعنى- قالا: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن أبي وائل، قال: قال الصبي بن معبد: "كنت رجلاً أعرابيًّا نصرانيًّا فأسلمت، فأتيت رجلاً من عشيرتي يقال له: هذيم بن ثرملة، فقلت له: يا هنا، إني حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ فكيف لي بأن أجمعهما؟ فقال: اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، فأهللت بهما معًا جميعًا، فلما أتيت العذيب لقيت سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أُهِلُّ بهما معًا، فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيره، قال: فكأنما ألقي علي جبل، حتى أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه،

(1) سبق تخريجه.

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 158 رقم 1799).

ص: 194

فقلت له: يا أمير المؤمنين إني كنت رجلاً أعرابيًّا نصرانيًّا، وإني أسلمت، وأنا حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ، فأتيت رجلاً من قومي فقال لي: اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، وإني أهللت بهما معًا، فقال عمر رضي الله عنه:"ذهبت لسنة نبيك عليه السلام".

وأخرجه النسائي (1) وابن ماجه (2) أيضًا.

قوله: "لم آل أن أجتهد" أبي لم أقصر في الاجتهاد و"أن" مصدرية قال الجوهري: "ألا يألو" أبي قصر وفلان لا يألوك نصحا فهو آلٍ والمرأة: آلية وجمعها: أو الٍ.

قوله: "بالعذيب" بضم العين المهملة وفتح الذال المعجمة: ماء لبني تيم إذا خرجت عن القادسية تريد مكة والعذيب أول البادية قاله ياقوت في المشترك.

قوله: "سلمان بن ربيعة" وهو الذي يقال له: سلمان الخيل سمي به لأنه كان يلي الخيول في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالكوفة، يقال: إن له صحبة وذكره ابن حبان في الثقات التابعين، وكان رجلاً يأتي الحج كل سنة، وهو أول قاض استقضي بالكوفة، مكث أربعين يومًا لا يأتيه خصم وكان قد استقضاه عمر بن الخطاب يومئذ، قتل [ببلنجر] (3) سنة خمس وعشرين وقيل: تسع وعشرين وقيل: ثلاثين وقيل: إحدى وثلاثين.

وزيد بن صوحان -بضم الصاد المهملة وسكون الواو وبالحاء المهملة- صحابي قال أبو عمر: لا أعلم له صحبة ولكنه ممن أدرك النبي عليه السلام مسلمًا قتل يوم الجمل سنة ستة وثلاثين وكانت معه راية عبد القيس يومئذ.

و"هذيم" بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون الياء آخر الحروف.

(1)"المجتبى"(5/ 146 رقم 2719).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 989 رقم 2970).

(3)

قال البكري في "معجم ما استعجم"(1/ 276) بَلَنْجَر -بفتح أوله وثانيه، وإسكان ثالثه، بعده جيم مفتوحة، وراء مهملة-: مدينة ببلاد الروم، شهد فتحها عدد من الصحابة. وانظر "معجم البلدان"(1/ 489).

ص: 195

ص: وقد رُوي عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم ما يدل على ذلك أيضًا، حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون قال: ثنا الوليد بن مسلم قال: ثنا الأوزاعي قال: ثنا يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي سفيان عن عمر قال: سمعت النبي عليه السلام وهو بالعقيق يقول: "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة".

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا هارون بن إسماعيل قال: ثنا علي بن المبارك قال: ثنا يحيى بن أبي كثير

فذكر بإسناده مثله.

فأخبر عمر رضي الله عنه في هذا الحديث عن رسول الله عليه السلام أنه آتاه أتٍ من ربه فقال له: قل: عمرة في حجة فلما كان رسول الله عليه السلام قد كان أمر أن يجعل عمرة في حجة استحال أن يكون ما فعل خلافًا لما أمر به.

ش: قد روي عن عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب ما يدل على وجود القران وعلى أفضليته وعلى أن النبي عليه السلام كان قارنًا في حجة الوداع وهذا ظاهر لأنه عليه السلام أُمر أن يقول: عمرة في حجة فيكون مأمورًا بأن يجمع بينهما في الميقات وهذا هو عين القران فإذا كان مأمورًا به استحال أن يكون حجه بخلاف ما أمر به، فإن قيل: لا نسلم ذلك ولا يدل ذلك على أفضلية القران ولا على كون النبي عليه السلام قارنًا؛ لأنه جاء في رواية أخرى: "قل عمرة وحجة" ففصل بينهما فحينئذ يحتمل أن يريد أن يحرم بعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله فكأنه قال: إذا حججت فقل: لبيك بعمرة وتكون في حجتك التي حججت أو يكون محمولًا على معنى تحصيلهما معًا.

قلت: رواية البخاري وغيره: "قل عمرة في حجة" وهذه هي الصحيحة وهي تدل على أنه عليه السلام أمر أن يجعل العمرة في الحجة وهي صفة القران وكذلك الرواية التي فيها واو العطف تدل على ما ذكرنا؛ لأن الواو لمطلق الجمع والجمع بين الحج والعمرة هو القران وما ذكروه من الاحتمال بعيد وصرف اللفظ إلى غير مدلوله فافهم.

ص: 196

ثم إنه أخرج الحديث من طريقين صحيحين:

الأول: عن محمد بن عبد الله بن ميمون السكري الإِسكندراني شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (1): ثنا الحميدي، نا الوليد وبشر بن بكر التنيسي، قالا: ثنا الأوزاعي: ثنا يحيى، قال: حدثني عكرمة، أنه سمع ابن عباس يقول: إنه سمع عمر بن الخطاب يقول: "سمعت النبي عليه السلام بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقيل: عمرة في حجة".

وأخرجه أبو داود (2) وابن ماجه (3) أيضًا.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري، عن علي بن المبارك الهنائي البصري، عن يحيى بن أبي كثير .. إلى آخره.

وأخرجه الييهقي في "سننه"(4): من حديث أبي زيد الهروي، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى، حدثني عكرمة، حدثني ابن عباس، عن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "آتاني جبريل وأنا بالعقيق فقال صَلِّ في هذا الوادي المبارك ركعتين وقيل: عمرة في حجة فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".

ثم قال البيهقي: كذا قال علي بن المبارك: عن يحيى، وخالفه الأوزاعي في أكثر الروايات عنه، فقال: وقال عمرة في حجة.

ثم أخرجه كذلك (5): من حديث الوليد بن مسلم وبشر بن بكر، عن الأوزاعي، ثم قال: وكذا قال شعيب بن إسحاق ومسكين بن بكير، عن الأوزاعي، فيكون ذلك إذنا في إدخال العمرة على الحج؛ لا أنه أمر النبي عليه السلام بذلك في نفسه.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 556 رقم 1461).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 159 رقم 1800).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 991 رقم 2976).

(4)

"السنن الكبرى"(5/ 13 رقم 8629).

(5)

"السنن الكبرى"(5/ 14 رقم 8631).

ص: 197

قلت: أخرجه البخاري (1): في الحج من حديث بشر بن بكر والوليد بن مسلم.

وفي كتاب الملاعنة (2): من حديث شعيب بن إسحاق كلهم عن الأوزاعي ولفظه: "وقل عمرة في حجة".

وأخرجه أبو داود (3): كذلك من حديث مسكين بن بكير.

وابن ماجه (4): كذلك من حديث محمد بن مصعب والوليد بن مسلم كلهم عن الأوزاعي.

وهذا أولى من رواية من قال: "وقال: عمرة في حجة" لأن الملك لا يلبي وإنما يعلم التلبية، ولو صحت تلك الرواية نوفق بينهما ونقول: المراد: "قال: قل" فاختصره الراوي.

قوله: "آتاني الليلة آتٍ" أعم من جبريل وغيره، ولكن في رواية البيهقي:"آتاني جبريل وأنا بالعقيق".

وقوله: "الليلة" نصب على الظرف "آتٍ" اسم فاعل كقاضٍ، فاعل لقوله "آتاني".

ص: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن ينقل هذا عن عمر رضي الله عنه وقد نهى عن المتعة؟ وقد ذكرتم ذلك عنه في حديث مالك عن الزهري عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل وذكر في ذلك أيضًا ما حدثنا يزيد بن سنان قال: ثنا مكي بن إبراهيم قال: ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر رضي الله عنه: "متعتان كانتا على عهد رسول الله عليه السلام أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج".

حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا يزيد بن هارون قال: ثنا داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهي عن متعة النساء ومتعة

(1)"صحيح البخاري"(2/ 556 رقم 1461).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 823 رقم 2212).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 159 رقم 1800).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 991 رقم 2976).

ص: 198

الحج". قالوا: فكيف يجوز أن يعاقب أحدًا على أمر قد علم أن الله عز وجل قد أمر به رسوله عليه السلام؟ قيل: ليست هذه المتعة التي في هذا الحديث هي المتعة التيم استحبها أهل المقالة التيم ذكرناها في الفصل الذي قبل هذا، ولكن هذه المتعة عندنا -واللهَ أعلم- هي الإِحرام الذي كان أصحاب رسول الله عليه السلام أحرموه بحجة ثم طافوا لها وسعوا قبل عرفة وحلقوا وحلوا فتلك متعة قد كانت تفعل على عهد رسول الله عليه السلام ثم نسخت وسنذكرها وما روي فيها وفي نسخها في غير هذا الموضع في كتابنا هذا إن شاء الله.

فهذه المتعة التي نهى عنها عمر رضي الله عنه وتواعد من فعلها بالعقوبة، فأما متعة قد ذكرها الله عز وجل في كتابه بقوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) وفعلها رسول الله عليه السلام وأصحابه فمحال أن ينهى عنها عمر رضي الله عنه بل قد روينا عن عمر أنه استحبها وحض عليها.

حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد قال: ثنا شعبة عن سلمة بن كهيل قال: سمعت طاوسًا يحدث عن ابن عباس قال: "يقولون: أن عمر نهى عن المتعة قال عمر رضي الله عنه: لو اعتمرت في عام مرتين ثم حججت لجعلتها مع حجتي".

حدثنا حسين بن نصر قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا سفيان عن سلمة عن طاوس عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه

فذكر مثله.

فهذا ابن عباس قد أنكر أن يكون عمر نهى عن التمتع وذكر عنه أنه استحب القران فدل ذلك أن المتعة التي تواعد عمر من فعلها بالعقوبة هي المتعة الأخرى.

ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف يجوز أن يروى الحديث المذكور الذي رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم عن النبي عليه السلام أن قيل له: "قل عمرة في حجة" والحال أن عمر رضي الله عنه قد نهى عن المتعة فكيف ينهي عن شيء ثم ينقل ذلك عن النبي عليه السلام.

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 199

قوله: "قد ذكرتم ذلك عنه" أي قد ذكرتم نهى عن المتعة، عن عمر رضي الله عنه من حديث مالك عن محمد بن مسلم الزهري وقد مضى ذكره في هذا الباب.

قوله: "وذكر في ذلك أيضًا" أي وذكر هذا القائل أيضًا ما حدثنا يزيد بن سنان

إلى آخره.

وإسناده صحيح ورجاله ثقات.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1).

وقوله: "حدثنا علي بن شيبة" طريق آخر وهو أيضًا صحيح وسيأتي الكلام فيه.

قوله: "قالوا فكيف يجوز" أي قال القوم الذين ينكرون القران: كيف يجوز أن يعاقب عمر أحدًا على إتيان أمر قد علم عمر أن الله عز وجل قد أمر به رسول الله عليه السلام وهذا محال في حقه؟ ".

وتقرير الجواب هو ما أشار إليه بقوله: "قيل له" أي لهذا القائل: ليست هذه المتعة التي في هذا الحديث الذي فيه النهي والوعيد بالعقاب هي المتعة التي ذكرها أهل المقالة الثانية وهي التي يفعلها المسلمون الآن والباقي ظاهر.

وقال ابن حزم أما نهي عمر فإنه عن متعة النساء بلا شك لأنه عند الرجوع إلى القول بها في الحج وقال أبو عمر إنما نهى عمر عند أكثر العلماء عن فسخ الحج في العمرة هذه هي التي نهى عنها.

قوله: "فمحال" مرفوع على أنه خبر مقدم والمبتدأ هو: "قوله أن ينهي عنها عمر" و"أن" مصدرية، والتقدير: نهى عمر عنها محال.

قوله: "أن استحبها" أي المتعة "وحض عليها" أي رغّب الناس فيها وبين ذلك بقوله حدثنا سليمان إلى آخره.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

(1)"موطأ مالك"(1/ 344).

ص: 200

الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي عن شعبة عن سلمة بن كهيل

إلى آخره.

وأخرجه ابن حزم (1): من طريق شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: "لو اعتمرت في سنتي مرتين ثم حججت لجعلت مع حجتي عمرة".

الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل.

وأخرجه ابن حزم (2) أيضاً: من طريق سفيان عن سلمة

إلى آخره.

قوله: "هي المتعة الأخرى" يعني المتعة المنسوخة.

ص: فإن قال قائل: فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بإفراد الحج وذكر في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى قال: سمعت سويدًا يقول: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: "أفردوا بالحج".

قيل له: ليس ذلك عندنا على كراهته لما سوى الإِفراد من التمتع والقران ولكنه لإِرادته معنى سوى ذلك قد بيَّنه عبد الله بن عمر حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا بشر بن عمر قال: ثنا مالك.

وحدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب أن مالك أخبره عن نافع عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج".

حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: قلت لسالم: "لِمَ نهى عمر عن المتعة وقد فعل ذلك رسول الله عليه السلام وفعلها الناس معه؟ فقال: أخبرني عبد الله بن عمر أن عمر رضي الله عنه

(1)"المحلى"(7/ 107).

(2)

"المحلى"(7/ 108).

ص: 201

قال: إن أتم العمرة أن تفردوها من أشهر الحج، والحج أشهر معلومات فأخلصوا فيهن الحج واعتمروا فيما سواهن من الشهور".

قال: فأراد عمر بذلك تمام العمرة، لقول الله عز وجل {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) وذلك أن العمرة التي يتمتع فيها بالحج لا تتم إلَاّ بأن يهدي صاحبها هديًّا أو يصوم إن لم يجد هديًّا ومن العمرة في غير أشهر الحج تتم بغير هدي ولا صيام، فأراد عمر رضي الله عنه أن يزار البيت في كل عام مرتين وكره أن يتمتع الناس بالعمرة إلى الحج فيلزم الناس ذلك فلا يأتموا البيت إلَاّ مرة واحدة في السنة فأخبر ابن عمر عن عمر في هذا الحديث أنه إنما أمر بإفراد العمرة من الحج لئلَّا يلزم الناس ذلك فلا يأتون البيت إلَاّ مرة واحدة في السنة لا لكراهية التمتع؛ لأنه ليس من السنة، فأما قوله:"إنه أتم لعمرة أحدكم وحجته أن يفرد كل واحدة من صاحبتها" فإن ما روينا عن ابن عباس عنه يدل على خلاف ذلك.

ش: السؤال ظاهر وتقدير الجواب أن يقال: لا نسلم أن قول عمر "أفردوا بالحج" يدل على أنه يكره التمتع والقران لعدم استلزام كلامه ذلك وإنما أراد بهذا الكلام معنى بينه ابنه عبد الله بن عمر فيما روى عن عمر أنه قال: "افصلوا بين حجكم وعمرتكم" فإنه أراد بذلك: أن نفرد أشهر الحج للإِحرام بالحج ونحرم للعمرة في سائر الشهور؛ لتقع زيارة البيت مرتين كل عام.

وقال أبو عمر: هذا الكلام من عمر رضي الله عنه إفراط في استحسان الإِفراد بالحج ولا أعلم أحدًا من أهل العلم كره العمرة في أشهر الحج غير عمر رضي الله عنه، وقد ثبت عن النبي عليه السلام لم تكن عمرته إلَاّ في شوال وقيل: في ذي القعدة وهما جميعًا من أشهر الحج، وقال أيضًا: ولا خلاف بين العلماء أن للمحرم بالعمرة إدخال الحج عليها ما لم يبتدئ بالطواف بالبيت لعمرته هذا إذا كان ذلك في أشهر الحج على أن جماعة منهم وهم أكثر أهل الحجاز يستحبون أنه لا يدخل المحرم الحج على العمرة حتى يفرغ

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 202

من عملها ويفصل بينه وبين العمرة ولهذا استحبوا العمرة في غير أشهر الحج، ولهذا قال عمر رضي الله عنه:"افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإن ذلك أتم [لحج أحدكم] (1) وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج".

قوله: "فأما قوله إن أتم لعمرة .. " إلي آخره. أشار بهذا إلى أن قول عمر هذا يعارضه ما رواه عنه ابن عباس من قوله: "سمعت رسول الله عليه السلام وهو بالعقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي، فقال صَلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة" فإن هذا الحديث يخالف ما رواه عنه عبد الله بن عمر وهو ظاهر.

ثم إنه أخرج حديث السائل: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الكوفي، روى له الجماعة، عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي وثقه أحمد وروى له مسلم والأربعة، عن سويد بن غفلة الجعفي الكوفي أدرك الجاهلية ورُوي عنه أنه قال: أنا لِدة رسول الله عليه السلام ولدت عام الفيل، قدم المدينة حين نُفضت الأيدي من دفن رسول الله عليه السلام، روى له الجماعة.

وحديث عبد الله بن عمر أخرجه من [ثلاث](2) طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن بشر بن عمر الزهراني البصري، عن مالك، عن نافع

إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطإه"(3).

الثاني: عن موسى بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك.

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر.

(1) في "الأصل، ك": "لحجكم".

(2)

ليست في "الأصل، ك".

(3)

"موطأ مالك"(1/ 347 رقم 769).

ص: 203

وأخرجه البيهقي (1): بأتم منه من حديث عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله عليه السلام:"في تمتعه بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه مثل الذي أخبرني سالم عن أبيه عن رسول الله، فقلت لسالم: فلم تنه عن التمتع وقد فعل ذلك رسول الله عليه السلام والناس معه؟ قال أخبرني ابن عمر رضي الله عنه قال إن أتم العمرة أن تفردوها في أشهر الحج {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (2) شوال وذو القعدة وذو الحجة، فأخلصوا فيهن الحج واعتمروا فيما سواهن من الشهور".

قوله: "إن أتم العمرة أن تفردوها في أشهر الحج" أراد أن إتمام العمرة أن يؤتى بها وحدها في غير أشهر الحج، وذلك لأنها في غير أشهر الحج تتم بغير هدي ولا صيام بخلاف ما إذا كانت في أشهر الحج، فإن الرجل إذا أراد أن يتمتع فيها بالحج لا يتم إلَاّ بأن يهدي هديًا فإن لم يجد هديًا يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.

قوله: "والحج أشهر معلومات" فيه حذف، أي وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، ويقال: تقديره: الحج في أشهر معلومات، وقال الفراء في كتاب معاني القرآن، في قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} معناه وقت الحج هذه الأشهر فهي وإن كانت تصلح كلمة "في" فيها فلا يقال إلَاّ بالرفع، وكذلك كلام العرب، يقولون: البرد شهران والحر شهران لا ينصبون لأنه مقدار الحج ولو كانت الأشهر والشهر معرفة على هذا المعنى لصلح فيه النصب ووجه الكلام الرفع، وقال الزمخشري والأشهر المعلومات شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وعند أبي حنيفة وعند الشافعي تسع ذي الحجة وليلة يوم النحر، وعند مالك ذو الحجة كله.

(1)"السنن الكبرى"(5/ 20 رقم 8656).

(2)

سورة البقرة، آية:[197].

ص: 204

فإن قلت: ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر؟ قلت: فائدته أن شيئًا من أفعال الحج لا يصلح إلَاّ فيها والإِحرام بالحج لا ينعقد عند الشافعي في غيرها وينعقد عند أبي حنيفة إلَاّ أنه يكره فإن قلت: كيف كان الشهران وبعض الثالث أشهرًا؟ قلت: اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، بدليل قوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (1) فلا سؤال فيه إذن وإنما يكون موضع السؤال لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات وقيل: نُزِّل بعض الشهر منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا أو على عهد فلان ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر وإنما رآه في ساعة فيها.

قوله: "فأخلصوا فيهن الحج" أي في أشهر الحج وأراد بإخلاص الحج فيها: ألَّا يخلطه بالعمرة والدليل عليه قوله: "اعتمروا فيما سواهن من الشهور".

ص: وقد روينا عن ابن عمر من رأيه خلافًا لذلك أيضًا.

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: ثنا شعبة قال: ثنا صدقة بن يسار وأبو يعفور سمعا ابن عمر يقول: "لأن أعتمر في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي".

حدثنا يونس قال: ثنا سفيان قال: ثنا صدقة بن يسار سمع ابن عمر يقول: "عمرة في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي. فحدثت به نافعًا فقال: نعم عمرة فيها هدي أو صيام أحب إليه من عمرة ليس فيها هدي ولا صيام".

حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد عن عطاء بن السائب عن كثير بن جمهان قال: "حججنا وفينا رجل أعجمي فلبى بالعمرة والحج فعبنا ذلك عليه فسألنا ابن عمر، فقلنا: إن رجلاً منا لبى بالعمرة والحج فما كفارته؟ قال: يرجع بأجرين وترجعون أنتم بأجر واحد".

(1) سورة التحريم، آية:[4].

ص: 205

حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب أن مالكًا حدثه عن صدقة بن يسار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: "والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إليَّ من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة".

فهذا عبد الله بن عمر أيضًا فضل العمرة التي في أشهر الحج على العمرة التي في غير أشهر الحج فدل ذلك على صحة ما روى ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم لأن ابن عمر لو كان سمع ذلك من عمر كما في حديث عقيل عن الزهري إذًا لما قال بخلاف ذلك؛ لأنه قد سمع أباه قاله بحضرة أصحاب النبي عليه السلام لا ينكره عليه منكر ولا يدفعه عنه دافع وهو أيضًا فلا يدفعه عنه ولا يقول له أن رسول الله عليه السلام قد كان فعل هذا ولكن المحكي في ذلك عن عمر رضي الله عنه هو إرادة عمر أن يُزار البيت وباقي الكلام بعد ذلك، فكلام سالم خلطه الزهري بروايته فلم يتميزا.

ش: أي قد روينا عن عبد الله بن عمر من رأي نفسه واجتهاده خلافًا لما رُوي عن عمر، من كون إتمام العمرة في غير أشهر الحج، فإن ابن عمر قال:"لأن أعتمر في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي" لأنه يكون بذلك متمتعًا ويكون فيه هدي أو صيام إن لم يوجد الهدي والدليل عليه قول نافع: عمرة فيها هدي أو صيام أحب إليه -أي إلى ابن عمر- من عمرة ليس فيها هدي ولا صيام، ولأنه جمع بين نسكين وفيه أجران والدليل عليه قول ابن عمر لما سئل عن رجل لبى بالعمرة والحج:"يرجع بأجرين وترجعون أنتم بأجر واحد" فهذا عبد الله بن عمر فضل العمرة التي تكون في أشهر الحج على العمرة التي تكون في غيرها فدل ذلك على صحة ما روى عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب:"سمعت النبي عليه السلام وهو بالعقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة"(1) وذلك لأن ابن عمر لو كان سمع ذلك من أبيه عمر بن الخطاب كما في حديث عقيل بن خالد عن محمد بن مسلم

(1) تقدم تخريجه.

ص: 206

الزهري قال: قلت لسالم: لِمَ نهى عمر عن المتعة وقد فعل ذلك رسول الله عليه السلام وفعلها الناس معه؟ فقال: أخبرني عبد الله بن عمر، أن عمر قال: إن أتم العمرة أن تفردوها في أشهر الحج

" الحديث.

لما قال ابن عمر بخلاف ذلك لأنه على هذا التقدير قد يكون سمع أباه قال ذلك بحضرة أصحاب النبي عليه السلام من غير إنكار منكر عليه ولا رد راد وعبد الله أيضًا لم يكن له أن يدفعه ولكن المحكي في هذا عن عمر بن الخطاب هو إرادته أن يزار البيت مرتين في سنة واحدة، وباقي الكلام من كلام سالم بن عبد الله قد خلطه الزهري بروايته بحيث لم يتميز كلام عمر عن كلام سالم وهو معنى قوله:"فلم يتميزا" بضمير التثنية.

ثم إنه أخرج ما رُوي عن ابن عمر من رأيه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد البصري، روى له الجماعة، عن شعبة، عن صدقة بن يسار الجزري وثقه يحيى وأبو داود وروى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن أبي يعفور العبدي الكوفي واسمه وقدان وهو أبو يعفور الكبير روى له الجماعة فكلاهما سمعا عبد الله بن عمر.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن صدقة بن يسار، قال: سمعت ابن عمر يقول: "العمرة في العشر أحب إليَّ من العمرة بعد الحج".

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن صدقة بن يسار

إلى آخره.

الثالث: عن محمد بن خزيمة عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي روى له البخاري متابعة

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 160 رقم 13024).

ص: 207

حديثًا واحدًا والأربعة، عن كثير بن جُمهان السُلمي أبي جعفر الكوفي وثقه ابن حبان وروى له الأربعة حديثًا واحدًا في المشي بين الصفا والمروة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثثا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن كثير بن جمهان، قال:"خرجنا حجاجًا ومعنا رجل من أهل الجبل لم يحج قط، فأهل بحجة وعمرة، فعاب ذلك عليه أصحابنا، قال: فنزلنا قريبًا من ابن عمر، قال: فقلنا له: إن معنا رجلاً من أهل الجبل لم يحج قط، فأهلَّ بحجة وعمرة، فعاب ذلك عليه أصحابنا فما كفارته؟ قال: كفارته أن يرجع بأجرين وترجعون بواحد".

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك

إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطإه"(2) والبيهقي في "سننه"(3): من حديث مالك

إلى آخره.

وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: قوله: "قبل الحج " يريد أشهر الحج ويُهدي، لأنه يكون متمتعًا فرأى أن النقض يدخل على الحج والعمرة بفعل العمرة في أشهر الحج، فرأى فعلها قبل الحج أفضل، لأنه يخبر بذلك الخبر أن المشروع فيه بالهدي لا يخبره إذا فعلها بعد الحج، وهذا يقتضي أن جميع ذي الحجة عنده من أشهر الحج، فقلت: لا نسلم أنه يقتضي ذلك لأنه كان يفضل العمرة التي في أشهر الحج على العمرة التي في غير أشهر الحج والعمرة إذا كانت بعد الحج تكون في غير أيام الحج؛ لأن الحج يفرغ منه يوم النحر وهو العاشر من ذي الحجة، فبخروج العاشر من ذي الحجة تخرج أيام الحج والله أعلم.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 290 رقم 14299).

(2)

"موطأ مالك"(1/ 344 رقم 764).

(3)

"السنن الكبرى"(4/ 345 رقم 8519).

ص: 208

ص: فأما قوله: "إن العمرة في أشهر الحج لا تتم إلَاّ بالهدي لمن يجد الهدي أو بالصيام لمن لم يجد الهدي" فثبت بذلك تمام العمرة في غير أشهر الحج إذا كان ذلك غير واجب فيها وأوجب النقصان في العمرة التي في أشهر الحج إذا كان واجبًا فيها وهذا كله إذا كان الحج يتلوها، فإن الحجة على من ذهب إلى ذلك عندنا -والله أعلم-: أنا رأينا الهدي الذي يجب في المتعة والقران يؤكل منه باتفاق المتقدمين جميعًا، ورأينا الهدي الذي يجب لنقصان في العمرة أو في الحجة لا يؤكل منه باتفاقهم جميعًا، فلما كان الهدي الواجب في المتعة والقران يؤكل منه، ثبت أنه غير واجب لنقصان في العمرة أو في الحجة التي بعدها؛ لأنه لو كان لنقصان لكان من أشكال الدماء الواجبة للنقصان ولكان لا يؤكل منه كما لا يؤكل منها ولكنه دم فضل وإصابة خير.

ش: أي وأما قول سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه ذكر فيما روى عنه الزهري أن العمرة في أشهر الحج لا تتم إلَاّ بالهدي أو بالصوم عند عدمه، فدل ذلك على نقصانها في أشهر الحج لوجوب الدم أو بدله، وفي غير أشهر الحج تتم بغير هدي ولا صوم فدل ذلك على تمامها في غير أشهر الحج فلذلك ذهبت طائفة إلى هذا وقالوا: من أراد تمام العمرة فليعتمر في غير أشهر الحج فأجاب عن ذلك بقوله: فإن الحجة على من ذهب إلى ذلك عندنا والله أعلم إلى آخره.

بيانه أن يقال: إن الهدي الذي يجب في المتعة والقران يؤكل منه بالاتفاق والهدي الذي يجب لنقصان في العمرة أو الحج لا يؤكل منه باتفاق فجواز أكل الهدي في المتعة والقران، يدل على أنه غير واجب لأجل نقصان في العمرة أو الحج بعدها لأنه لو كان كذلك لكان من أشكال الدماء أي من أمثال الدماء ونظائرها التي تجب لأجل النقصان ولكان لا يؤكل منه كما لا يؤكل منها فدل على أنه غير دم لجبر النقصان بل هو دم فضل وإصابة فضل وخير والله أعلم.

قوله: "يتلوها" من تلا الشيء إذا تبعه.

ص: 209

ص: وقد حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا يعقوب بن حميد قال: حدثنا وكيع (ح).

وحدثنا فهد قال: ثنا الخضر بن محمد الحراني قال: ثنا عيسى بن يونس وأبو أسامة قالوا جميعًا: عن الأعمش عن مسلم البطين عن علي بن حسين عن مروان بن الحكم قال: "كنا نسير مع عثمان بن عفان رضي الله عنه فإذا رجل يلبي بالحج والعمرة فقال عثمان: من هذا؟ فقالوا: علي رضي الله عنه، فأتاه عثمان فقال: ألم تعلم أني نهيت عن هذا؟ فقال: بلى ولكني لم أكن لأدع قول النبي عليه السلام لقولك".

حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا خلاد بن يحيى قال: ثنا سفيان الثوري عن بكير بن عطاء قال: ثنا حريث بن سليم العذري عن علي رضي الله عنه: "أنه لبى بهما جميعًا فنهاه عثمان رضي الله عنه فقال: أما إنك قد رأيت؟! فقال علي: أما إنك قد رأيت".

فهذا علي رضي الله عنه قد أخبر عن رسول الله عليه السلام بخلاف النهي عن قران العمرة والحج، وفعل في ذلك خلاف ما أمر به عثمان وأنكر على عثمان ما أمر به في ذلك فدل هذا من علي أنه قد كان عنده تفضيل للقران على الإِفراد عن النبي عليه السلام ولولا ذلك لما أنكر على عثمان ما رأى ولا فضل رأيه على رأي عثمان في ذلك إذ كانا كلاهما أنما أمرا [بما أمرا](1) به من ذلك عن شيء واحد وهو الرأي ولكن خلافُه عُثمانَ في ذلك دليل عندنا على أنه قد علم فضل القران على ما سواه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ش: هذه ثلاث طرق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخبر فيها عن النبي عليه السلام أنه قد كان قارنًا في حجته وأن القران هو الأفضل، لفعله عليه السلام ولاختيار عليٍّ إياه وإنكاره على عثمان في نهيه عنه ولعلمه فضيلة ذلك عن النبي عليه السلام.

الأول: عن أحمد بن داود المكي عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة شيخ ابن ماجه والبخاري في "أفعال العباد" عن وكيع عن سليمان الأعمش عن مسلم بن عمران البطين الكوفي عن علي بن حسين بن علي بن

(1) ليس في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 210

أبي طالب رضي الله عنه[أبي](1) المدني زيد العابدين عن مروان بن الحكم

إلى آخره. وهذا إسناد حسن.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع بن الجراح عن الأعمش عن مسلم البطين عن علي بن حسين بن علي عن مروان بن الحكم قال: "كنا نسير مع عثمان، فسمع رجلاً يلبي بهما جميعًا، فقال عثمان: من هذا الرجل؟ فقالوا: عليَّ، قال: فأتاه عثمان فقال: ألم تعلم أني نهيت عن هذا، قال: بلى ولكن لم أدع فعل رسول الله عليه السلام لقولك".

الثاني: عن فهد بن سليمان عن الخضر بن محمد بن شجاع الجزري الحراني الثقة عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أحد أصحاب أبي حنيفة وعن أبي أسامة حماد بن أسامة كلاهما عن سليمان الأعمش

إلى آخره.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه النسائي (3): أخبرني عمران بن يزيد قال: ثنا عيسى -وهو ابن يونس- قال: ثنا الأعمش عن مسلم البطين عن علي بن حسين عن مروان ابن الحكم قال: "كنت جالسًا عند عثمان فسمع عليًّا يلبي بعمرة وحجة فقال: ألم نكن ننهي عن هذا؟ قال: بلى ولكني سمعت رسول الله عليه السلام يلبي بهما جميعًا فلم أدع قول رسول الله عليه السلام لقولك".

الثالث: عن علي بن شيبة عن خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي الكوفي شيخ البخاري عن سفيان الثوري عن بكير بن عطاء الليثي الكوفي وثقه يحيى والنسائي وروى له الأربعة عن حريث بن سليم العذري من بني عذرة وفي "التكميل": حريث رجل من بني عذرة يقال: ابن سليم ويقال: ابن سليمان

(1) في "الأصل، ك": عن وهو تحريف.

(2)

"مصنف بن أبي شيبة"(3/ 289 رقم 14288).

(3)

"المجتبى"(5/ 148 رقم 2722).

ص: 211

ويقال: ابن عمار. روى له أبو داود وابن ماجه وذكر ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه.

وأخرجه ابن أبي شيية في "مصنفه"(1): نا ابن مهدي عن سفيان عن بكير بن عطاء عن حريث بن سليم قال: "سمعت عليًّا رضي الله عنه لبى بالحج والعمرة فبدأ بالعمرة، فقال عثمان: إنك ممن ينظر إليه. فقال علي: وأنت ممن ينظر إليه".

ص: وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام كان قرن في حجة الوداع.

حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا يحيى بن يحيى قال: ثنا داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: "اعتمر رسول الله عليه السلام أربع عُمَر: عمرة الحديبية وعمرته من العام القابل وعمرته في الجعرانة وعمرته مع حجته وحج حجة واحدة".

ش: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيحين ما خلا ابن شيبة ويحيى بن يحيى شيخ الشيخين.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا النفيلي وقتيبة قالا: ثنا داود بن عبد الرحمن العطار عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: "اعتمر رسول الله عليه السلام أربع عُمَر: عمرة الحديبية والثانية حين تواطؤا على عمرة قابل-قال قتيبة: هي عمرة القضاء في ذي القعدة- والثالثة من الجعرانة والرابعة التي قرن مع حجته".

والترمذي (3): ثنا قتيبة ثنا داود

إلى آخره "عمرة الحديبية والعمرة الثانية من قابل، وعمرة القضاء في ذي القعدة، والعمرة الثالثة في الجعرانة، والعمرة الرابعة التي مع حجته". قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن غريب.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 438 رقم 15769).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 205 رقم 1993).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 180 رقم 816).

ص: 212

وابن ماجه (1): ثنا أبو إسحاق الشافعي إبراهيم بن محمد نا داود بن عبد الرحمن

إلى آخره، نحو رواية الطحاوي.

وذكر الترمذي أنه روي مرسلاً، فقال: ثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال: ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن النبي عليه السلام فذكر نحوه ولم يذكر فيه عن ابن عباس.

قوله: "أربع عمر" بضم الميم وفتح الميم جمع عمرة.

قوله: "عمرة الحديبية" أي إحداها عمرة الحديبية وهي بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف وفي آخره هاء وهي موضع بعضه في الحل وبعضه الآخر في الحرم وهو أبعد أطراف الحرم عن البيت وهو الموضع الذي صدّ فيه المشركون رسول الله عليه السلام عن زيارة البيت، وفي "المطالع":"الحديبية" بتخفيف الياء ضبطاها على المتقنين، وعامة الفقهاء والمحدثين يشددونها وهي قرية ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة وبين الحديبية وبين المدينة تسع مراحل ومرحلة إلى مكة، وقد جاء في الحديث وهي بئر قال مالك: وهي من الحرم. وقال ابن القصار: بعضها من الحل، وكانت غزوة الحديبية سنة ست بلا خلاف.

قوله "وعمرته في العام القابل" أي الثانية عمرته عليه السلام في السنة القابلة وهي سنة سبع من الهجرة وهي التي تسمى عمرة القضاء ويقال: [لها](2) القصاص ورجحه السهيلي، ويقال: عمرة القضية، وقال ابن إسحاق: لما رجع رسول الله عليه السلام من حنين إلى المدينة أقام شهر ربيع وجمادين ورجب وشعبان ورمضان وشوال يبعث فيما بين ذلك سراياه، ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صَدَّه فيه المشركون معتمرًا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها وأنزل الله في ذلك:

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 999 رقم 3003).

(2)

في "الأصل، ك": "له".

ص: 213

{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} (1). وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام ساق في عمرة القضاء ستين بدنة.

وقوله: "وعمرته في الجعرانة" وكانت في سَنة ثمان من الهجرة بعد فراغه من قسمة غنائم هوازن، والجعرانة بكسر الجيم وسكون العين قد مرّ تفسيرها مستوفى.

قوله: "وعمرته مع حجته" أي العمرة الرابعة عمرته عليه السلام مع حجة الوداع وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قارنًا في حجة الوداع، ويدل على أن القران أفضل من الإِفراد والتمتع ثم إن عُمره عليه السلام كان جميعها في أشهر الحج إلَاّ ما جاء من رواية ابن عمر أن واحدة منها كانت في رجب، وأنكرت ذلك عليه عائشة -رضى الله عنها- فسكت ولم يراجعها، وذلك دليل على إثبات قول عائشة وصحة روايتها، إذ لو كان ابن عمر على بصيرة مما قال لراجعها في ذلك.

وعن قتادة قال: "سألت أنس بن مالك، قلت: كم حج رسول الله عليه السلام؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرته في زمن الحديبية وعمرته في ذي القعدة من المدينة وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنيمة حنين وعمرته مع حجته".

رواه البخاري (2)، ومسلم (3)، وأبو داود (4)، والترمذي (5).

فإن قيل: ما تقول فيما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "اعتمر رسول الله عليه السلام ثلاث عمر وكل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر".

رواه الإِمام أحمد (6)؟

(1) سورة البقرة، آية:[194].

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 631 رقم 1688).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 916 رقم 1253).

(4)

"سنن أبي داود"(2/ 206 رقم 1994).

(5)

"جامع الترمذي"(3/ 179 رقم 815).

(6)

"مسند أحمد"(2/ 180 رقم 6686).

ص: 214

قلت: قالوا: هذا غريب، وهذه الثلاث العُمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع حجته، وإن أراد ابتداء الإِحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية؛ لأنه عليه السلام صُدَّ عنها ولم يفعلها، وكان نافع ومولاه ابن عمر ينكران كون رسول الله عليه السلام اعتمر من الجعرانة بالكلية وذلك فيما رواه البخاري (1) ومسلم قال نافع:"ولم يعتمر رسول الله عليه السلام من الجعرانة ولو اعتمر لم يخف على عبد الله".

وروى مسلم (2) عن نافع: "ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله عليه السلام من الجعرانة فقال: لم يعتمر منها" وهذا غريب جدًّا عن ابن عمر ومولاه نافع إنكارهما عمرة الجعرانة، وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، وذكر ذلك أصحاب المغازي والسير كلهم، وهذا أيضًا كما ثبت في "الصحيحين" (3): عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله: إن رسول الله عليه السلام اعتمر في رجب، فقالت:"يغفر الله لأبي عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله عليه السلام إلَاّ وهو شاهد وما اعتمر في رجب قط".

ص: فإن قال قائل: فكيف تقبلون هذا عن ابن عباس وقد رويتم عنه في الفصل الأول أن رسول الله عليه السلام تمتع؟ قيل له: قد يجوز أن يكون رسول الله عليه السلام أحرم في بدء أمره بعمرة فمضى فيها متمتعًا بها؟ ثم أحرم بحجة قبل طوافه فكان في بدء أمره متمتعًا وفي آخره قارنًا، فأخبر ابن عباس في الحديث الأول بتمتع رسول الله عليه السلام لينفي قول من كره المتعة، وأخبر في هذا الحديث الثاني بقرانه على ما كان صار إليه أمره بعد إحرامه بالحجة، فثبت بذلك أن رسول الله عليه السلام قد كان في حجة الوداع متمتعًا بعد إحرامه بالعمرة إلى أن أحرم بالحجة فصار بذلك قارنًا.

(1)"صحيح البخاري"(3/ 1146 رقم 2975).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 1278 رقم 1656).

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 630 رقم 1685)، و"صحيح مسلم"(2/ 917 رقم 1255).

ص: 215

ش: تقرير السؤال أن يكون: كيف تقبلون هذا الحديث وهو قوله: "اعتمر رسول الله

" إلى آخره. والحال أنكم قد رويتم عنه أي عن ابن عباس في الفصل الأول أنه عليه السلام تمتع وبين الروايتين منافاة؟ والجواب ظاهر وفهم من كلامه، أن من أحرم بعمرة لأجل التمتع إذا أحرم قبل طوافه للعمرة وأن ذلك يجوز، وإذا أحرم بحجة بعد طوافه للعمرة لا يكون قارنًا بل يكون متمتعًا وظهر من هذا أيضًا أن من ذهب إلى أن النبي عليه السلام كان متمتعًا في حجته كان معناه بالنظر إلى بداية أمره ومن ذهب إلى أنه كان قارنًا كان معناه بالنظر إلى نهاية أمره؛ لأنه عليه السلام لما أحرم بالحجة بعد إحرامه للعمرة قبل الطواف صار قارنًا لما قلنا، والاعتبار لخاتمة الأعمال، فلذلك ذهب الكوفيون أنه عليه السلام كان قارنًا في حجته حتى قال أحمد بن حنبل: لا شك أنه عليه السلام كان قارنًا والمتعة أحب إليَّ، فقال ابن جرير الطبري: إن جملة الحال له أنه لم يكن متمتعًا؛ لأنه قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، ولا كان مفردًا لأن الهدي كان معه واجبًا كما قال وذلك لا يكون إلَاّ للقارن، ولأن الروايات الصحيحة تواترت بأنه قرنهما جميعًا، فكان من زاد أولى، ووجه الاختلاف: أن النبي عليه السلام لما كان عند الإِحرام جعل يلبي تارة بالحج وتارة بالعمرة وتارة بهما جميعًا ثم إن الذين رووا الإِفراد اختلف عنهم ومن روى القران لم يختلف عليه فالأخذ بقول من لم يختلف عليه أولى، ولأن معه زيادة وهي مقبولة من الثقة والله أعلم.

ص: وقد حدثنا فهد قال: ثنا النفيلي قال: ثنا زهير بن معاوية قال: ثنا أبو إسحاق عن مجاهد قال: "سئل ابن عمر رضي الله عنهما: كم اعتمر رسول الله عليه السلام؟ فقال: مرتين، فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله عليه السلام قد اعتمر ثلاثًا سوى عمرته التي قرنها بحجته".

ش: إسناده صحيح والنفيلي هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل أبو جعفر الحراني شيخ البخاري وأبي داود وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي وذكره لدلالته أن رسول الله عليه السلام كان قارنًا في حجته وذلك لأن قول عائشة: "سوى عمرته التي قرنها بحجته" نص صريح على أنه عليه السلام كان قارنًا.

ص: 216

وأخرجه أبو داود (1): ثنا النفيلي قال: ثنا زهير

إلى آخره نحوه سواء.

وأخرجه النسائي (2): أيضًا نحوه، وأخرجه ابن ماجه مختصرًا (3)، وقال يحيى بن سعيد القطان: لم يسمع مجاهد من عائشة وكان شعبة ينكر أن يكون مجاهد سمع من عائشة وقال يحيى بن معين: لم يسمع مجاهد من عائشة وقال أبو حاتم الرازي: مجاهد عن عائشة مرسل.

قلت: أخرج البخاري (4) ومسلم (5) في "صحيحيهما" حديث مجاهد عن عائشة رضي الله عنها.

ص: فإن قال قائل: فكيف تقبلون مثل هذا عن عائشة وقد رويتم عنها في أول هذا الباب ما قد رويتم من إفراد رسول الله عليه السلام وعلى ما ذكرتم؟ قيل له: ذلك عندنا والله أعلم، على نظير ما صححنا عليه حديث ابن عباس فيكون ما قد علمت عائشة من أمر رسول الله عليه السلام أنه ابتدأ فأحرم بعمرة لم يقرنها حينئذ بحجة فمضى فيها على أن يحج وقت الحج فكان في ذلك متمتعًا بها، ثم أحرم بحجة منفردة في إحرامه بها لم يبتد معها إحرامًا بعمرة فصار بذلك قارنًا لها إلى عمرته المتقدمة فقد كان في إحرامه على أشياء مختلفة، كان في أوله متمتعًا وصار محرمًا بحجة أفردها في إحرامه فلزمته مع العمرة التي قد كان قدمها، فصار في معنى القارن والمتمتع وأرادت -يعني- عائشة بذكرها الإِفراد خلافًا للدين يروون أن النبي عليه السلام أهلَّ بهما جميعًا.

ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف تقبلون هذا الحديث عن عائشة وتحتجون به فيما ذهبتم إليه والحال أنكم قد رويتم عنها في أول الباب من طريق عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام أفرد بالحج " ومن

(1)"سنن أبي داود"(2/ 205 رقم 1992).

(2)

"السنن الكبرى"(2/ 470 رقم 4218).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 999 رقم 3003).

(4)

"صحيح البخاري"(2/ 630 رقم 1685).

(5)

"صحيح مسلم"(2/ 916 رقم 1255).

ص: 217

طريق إبراهيم، عن عائشة قالت:"خرجنا ولا نرى إلَاّ أنه الحج"، وأراد بقوله:"وتمتعه" ما في حديثها الذي رواه محمد بن عبد الرحن بن نوفل عن عروة عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله عليه السلام عام حجة الوداع". الحديث.

وتقرير الجواب: أن يقال: إنها أخبرت أولاً بَأنه عليه السلام أفرد الحج وذلك لأنها شاهدت أولاً أنه أحرم بعمرة منفردة فمضى فيها على أن يحج وقت الحج فصار بذلك متمتعًا ثم أحرم بحجة منفردة فصار بذلك قارنًا فقد كان عليه السلام في إحرامه ذلك على أشياء مختلفة لأنه كان في أوله متمتعًا وصار محرمًا بحجة أفردها في إحرامه فلزمته مع عمرته المتقدمة فصار بذلك في معنى القارن والمتمتع وهذا نظير ما ذكره في حديثي ابن عباس ثم إن عائشة رضي الله عنها أرادت بقولها: إن رسول الله عليه السلام أفرد الحج إنكارًا على الذين رووا أن النبي أهلَّ بالحج والعمرة معًا في زمن واحد ولم ترد أنه عليه السلام كان عامئذ مفردًا بالحج، فافهم وقال أبو عمر: الاضطراب عن عائشة في حديثيها في الحج عظيم وقد أكثر العلماء في توجيه الروايات فيه ودفع بعضهم بعضها ببعض ولم يستطيعوا الجمع بينها.

وقال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث وعلماؤنا وغيرهم فمن مجيد منصف ومن مقصر متكلف ومن مطيل مكثر ومن مقتصد مختصر وأوسعهم نفسًا في ذلك أبو جعفر الطحاوي المصري فإنه تكلم في ذلك على ألف ورقة وتكلم في ذلك أيضًا معه أبو جعفر الطبري، وبعدهم أبو عبد الله بن أبي صفرة وأخوه المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن ابن القصار البغدادي والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم وأولى ما يقال في هذا على ما محصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم ما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث: أن النبي عليه السلام أتاح للناس فعل هذه الثلاثة الأشياء ليدل على جواز جميعها إذ لو أمر بواحد لكان غيره لا يجرئ وإذ كان عليه السلام لم يحج سوى هذه الحجة فأضيف الكل إليه وأخبر كل واحد بما أمره به وأباحه له ونسبه إلى النبي عليه السلام، إما لأمره بذلك أو لتأويله عليه، وقد قال بعض علمائنا: إنه عليه السلام أحرم منتظرا ما يؤمر

ص: 218

به من إفراد أو تمتع أو قران؛ إذ كان أمر بالآذان بالحج مطلقًا فنقل ذلك عنه من سمعه حينئذ ثم زاد في تلبيته ذكر العمرة، ولعل ذلك لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) فنقل ذلك عنه من سمع القران ثم جاءه الوحي بالعقيق على ما جاء في الحديث الصحيح بقوله: "صلِّ في هذا الوادي المبارك وقيل: عمرة في حجة" فنقل التمتع عنه من نقله ولعل من نقل القران نقله من هذا اللفظ.

ص: وقد حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا يعقوب بن حميد قال: ثنا ابن عيينة عن أيوب بن موسى عن نافع: "أن ابن عمر خرج من المدينة إلى مكة مهلًّا بالعمرة مخافة الحصر ثم قال: ما شأنهما إلَّا واحدًا أشهدكم أني أوجبت إلى عمرتي هذه حجة ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وحدثنا أحمد -هو ابن داود بن موسى- قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال: ثنا عبد العزيز بن محمد عن موسى بن عقبة عن نافع: "أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير رضي الله عنهما فأحرم بعمرة فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف من نُصَد عن البيت فقال: قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرتي فانطلق يهل بهما جميعًا حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يزد على ذلك ولم ينحر ولم يحلق ولم يحل من شيء حرم عليه حتى يوم النحر، فحلق ورأى أنه قد قضى طواف الحج بطوافه ذلك الأول ثم قال: هكذا صنع رسول الله عليه السلام".

حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا شعيب بن الليث قال: ثنا الليث عن نافع: "أن عبد الله بن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير، فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف أن يصدوك فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذًا أصنع كما صنع رسول الله عليه السلام، إني أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرة ثم خرج حتى إذا كان بظهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلَّا واحدًا،

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 219

أشهدكم أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي وأهدى هديا اشتره بقديد، فانطلق يُهل بهما جميعًا، حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يزد على ذلك، ولم ينحر ولم يحلق ولم يقصر ولم يحل من شيء حرم عليه، حتى كان يوم النحر فنحر وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول وكذا فعله رسول الله عليه السلام".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح فيها دلالة على تفضيل القران وعلى أنه عليه السلام كان قارنًا وذلك لأن ابن عمر رضي الله عنهما أضاف إلى عمرته حجة قبل أن يطوف لها، فهذا هو القران، ثم قال:"هكذا فعل رسول الله عليه السلام، أراد أنه عليه السلام كان قد قرن إلى عمرته حجًّا".

الأول: عن أحمد بن داود المكي عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن عمرو بن سعيد الأموي المكي روى له الجماعة، عن نافع

إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1) بأطول منه: ثنا إسماعيل، نا أيوب، عن نافع:"أن ابن عمر دخل عليه ابنه عبد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فنصد عن البيت فلو أقمت، فقال: خرج رسول الله عليه السلام فحال قريش بينه وبين البيت، فإن يحل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله عليه السلام، فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، قال: إني قد أوجبت عمرة، ثم سار حتى إذا كان بالبيداء، قال: ما أرى أمرهما إلَّا واحدًا، أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجًّا ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا".

وأخرجه البخاري (2) نحوه.

(1)"مسند أحمد"(2/ 4 رقم 4480).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 590 رقم 558) من طريق ابن علية عن أيوب به.

ص: 220

قوله: "مهلًّا" نصب على الحال من الضمير الذي في "خرج" و"مخافة الحصر" نصب على التعليل.

الثاني: عن أحمد بن داود أيضًا

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن مثنى، قال: ثنا يحيى -وهو القطان- عن عبيد الله، قال: حدثني نافع: "أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كَلَّما عبد الله حين نزل الحجَّاج لقتال ابن الزبير وقالا: لا يضرك ألَّا تحج العام، فإنا نخشى أن يكون بين الناس قتال يحال بينك وبين البيت، قال: إن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله عليه السلام وأنا معه، حين حالت كفار قريش بينه وبين البيت، أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، فانطلق حتى أتى ذا الحليفة فلبى بالعمرة ثم قال: إن خُلي سبيلي قضيت عمرتي وإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله عليه السلام وأنا معه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2) ثم سار حتى إذا كان بظهر البيداء قال: ما أمرهما إلَّا واحدٌ إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج، أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة، فانطلق حتى ابتاع بقديد هديًا، ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر".

قوله "أن تصد" على صيغة المجهول أي تمنع.

قوله: "أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرتي" إنما لم يكتف بالنية على ما تقدم؛ ليعرف من كان معه ويقتدي بمن أعلمه أنه يعتمر ذلك وفيه جواز إرداف الحج على العمرة وهو قول جمهور العلماء، وفيه أنه قرن وأخبر أنه فعل النبي عليه السلام.

الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد

إلى آخره.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 903 رقم 1230).

(2)

سورة الأحزاب، آية:[21].

ص: 221

وأخرجه البخاري (1) والنسائي (2): كلاهما عن قتيبة، عن ليث، عن نافع: "أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف أن يصدوك

" إلى آخره نحوه.

قوله: "بظهر البيداء" قد ذكرنا أن البيداء صحراء مقحلة بذي الحليفة.

قوله: "بقديد" أي في قديد بضم القاف وفتح الدال وهو موضع قريب.

قوله: "فانطلق يهل بهما معًا" أبي بالعمرة والحج، أراد أنه يرفع صوته بالتلبية محرمًا بها.

قوله: "ولم ينحر ولم يحلق ولم يقصر" وذلك لأنه قرن والقارن لا يفعل شيئاً من ذلك إلَّا يوم النحر.

ص: فإن قال قائل: فكيف تقبلون مثل هذا عن ابن عمر وقد رويتم فيما تقدم أن النبي عليه السلام تمتع؟ فجوابنا له في ذلك مثل جوابنا له في حديث ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم.

ش: السؤال ظاهر وهو أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما روى عنه سالم أنه قال: حسن، حين سأله رجل من أهل الشام عن التمتع. الحديث، وقد ذكر فيما مضى من هذا الباب.

وتقرير الجواب أن يقال: إن رسول الله قد كان أحرم في أول أمره بعمرة فمضى فيها متمتعًا ثم أحرم قبل طوافه فصار بهذا قارنًا كما قد ذكرنا قبل هذا في حديثي ابن عباس وحديثي عائشة.

ص: وقد حدثنا فهد قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد السلام بن حرب عن سعيد عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عمران بن الحصين: "أنه سمع النبى عليه السلام يلبي بعمرة وحجة".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 591 رقم 1559). وهو عند مسلم أيضًا من طريق قتيبة (2/ 904 رقم 1230).

(2)

"المجتبى"(5/ 158 رقم 2746).

ص: 222

ش: إسناده صحيح والحماني وهو يحيى بن عبد الحميد أبو زكريا الكوفي قال ابن معين صدوق ثقة (1)، وسعيد هو ابن أبي عروبة.

وأخرجه مسلم (2): ثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنا عيسى بن يونس قال: نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن حصين، قال:"أعلم أن رسول الله عليه السلام جمع بين حج وعمرة".

ص: وقد حدثنا نصر بن مرزوق قال: ثنا علي بن معبد قال ثنا: إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس رضي الله عنه عن النبي عليه السلام: "أنه لبى بعمرة وحجة، [وقال: لبيك بعمرة وحجة] (3)، فذكر بكر بن عبد الله المزني لابن عمر قول أنس قال: وهل أنس إنما أهل رسول الله عليه السلام بالحج وأهللنا به معه فلما قدمنا مكة قال: من لم يكن معه هدي فليحل، قال بكر: فرجعت إلى أنس فأخبرته بقول ابن عمر، فلم يزل يذكر ذلك حتى مات".

حدثنا حسين بن نصر قال: ثنا أحمد بن يونس قال: ثنا زهير بن معاوية قال: ثنا حميد قال: وحدثني بكر بن عبد الله عن أنس مثله.

قال بكر: "فذكرت ذلك لابن عمر فقال: وهل أنس إنما أهل رسول الله عليه السلام بالحج وأهللنا به".

حدثنا حسين -هو ابن نصر- قال: سمعت يزيد بن هارون قال: ثنا حميد

فذكر مثله بإسناده وزاد: "فلما قدم رسول الله عليه السلام قال: من لم يكن معه هدي فليحل، وكان مع رسول الله عليه السلام هدي فلم يحل".

(1) وقال أحمد: كان يكذب جهارًا. وقال النسائي: ضعيف. وقال البخاري: كان أحمد وعلي يتكلمان فيه. وراجع ترجمته في "الميزان".

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 889 رقم 1226).

(3)

ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 223

حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد عن حميد عن بكر قال: "أخبرت بن عمر بقول أنس فقال: نسي أنس فلما رجع قال: بكر لأنس: إن ابن عمر يقول: نسي فقال: إن تعدونا إلَّا صبيانًا، بل سمعت رسول الله عليه السلام يقول: لييك بعمرة وحجة معًا".

أفلا ترى أن ابن عمر إنما أنكر على أنس قوله: إن رسول الله عليه السلام أهل بهما جميعًا، وإنما كان الأمر عند ابن عمر أن رسول الله عليه السلام أهل بحجة ثم صيرها عمرة بعد ذلك وأضاف إليها حجة فصار حينئذ قارنًا، فأما في بدء إحرامه فإنه كان عنده مفردًا.

ش: هذه أربع طرق صحاح: عن أنس رضي الله عنه يخبر فيها أن رسول الله عليه السلام كان قارنًا، ذكرها ها هنا ليبين أن إنكار عبد الله بن عمر على أنس فيه إنما كان على قوله: إنه عليه السلام أهل بالعمرة والحج جميعًا، لا على أنه أنكر عليه القران، فإن الحكم عند ابن عمر أنه عليه السلام أهل بحجة وحدها ثم صيرها عمرة ثم أضاف إليها حجة فصار في ذلك الوقت قارنًا لا من أول الأمر؛ لأنه كان في أول الأمر عنده مفردًا وبهذا يحصل التوفيق بين كلامي أنس وابن عمر رضي الله عنهم.

والتحقيق فيه أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يكن وقف على حقيقة أمر الرسول عليه السلام في بدء الأمر فلذلك أنكر على أنس، وأنس رضي الله عنه فممن وقف على حقيقة الأمر حيث قال بالتصريح: سمعت رسول الله عليه السلام أهل بهما جميعًا"، فإن قيل: قد قال البيهقي: يحتمل أن يكون سمع النبي عليه السلام يعلم غيره كيف يهل بالقران لا أن يهل بهما عن نفسه، قلت: ذكر ابن حزم في "حجة الوداع" أن ستة عشر من الثقات اتفقوا على أنس، على أن لفظ النبي عليه السلام كان إهلالًا بحجة وعمرة معًا وصرحوا عن أنس أنه سمع ذلك منه عليه السلام والقول بأنه يحتمل .... إلى آخره. رد للحديث الصريح بمجرد احتمال بعيد يمكن أن يقال في رواية من روى أنه عليه السلام أفرد أو تمتع وكيف يصلح ذلك مع قوله: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: لبيك بعمرة وحجة معًا؟! فإن قيل: إنما رد ابن عمر على أنس قوله: أهلَّ رسول الله عليه السلام بحج وعمرة لأجل صغر

ص: 224

أنس حينئذ وقلة ضبطه ألا ترى إلى ما روى الييهقي (1): من حديث سعيد بن عبد العزيز عن زيد بن أسلم وغيره: "أن رجلَّا أتى ابن عمر فقال بم أهل رسول الله عليه السلام؟ قال: بالحج فانصرف، ثم أتاه في العام القابل فقال: بم أهل رسول الله عليه السلام؟ قال: ألم تأتني عام أول؟! قال: بلى ولكن أنس يزعم أنه قرن، قال: إن أنسًا كان يدخل على النساء وهن مكشفات الرءوس، وإني كنت تحت ناقة رسول الله عليه السلام يمسني لعابها اسمعه يلبي بالحج".

وأخرجه الطرطوشي في كتاب "الحج" ولفظه: "كان أنس صغيرًا يتولج على النساء وهن مكشفات لا يستترن منه لصغره، وأنا آخذ بزمام ناقة النبي عليه السلام يمسني لعابها -وفي لفظ يسل عليّ لعابها- سمعته يهل بالحج مفردًا وأهللنا مع النبي عليه السلام بالحج خالصًا لا يشوبه شيء" فقلت: هذا فيه نظر؛ لأن حجة الوداع كانت وسن أنس رضي الله عنه نحو العشرين فكيف يدخل على النساء وقد جاء في الصحيح أنه منع من الدخول عليهن حين بلغ خمس عشرة سنة، وذلك قبل الحجة بنحو خمس سنين؟! وأيضًا مكان سنه نحو سن ابن عمر ولعله لا يكون بينهما إلَّا نحو من سنة أو دونها، ولئن سلمنا ذلك فيجاب بما ذكره الطحاوي، وبما ذكرنا يُرَدُّ كلام ابن بطال أيضًا حيث يقول: وما يدل على قلة ضبط أنس: قوله في الحديث: "فلما قدمنا، أمر النبي عليه السلام فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج" وهذا لا معنى له ولا يفهم إن النبي عليه السلام قارنًا كان كما قال والأئمة متفقة على أن القارن لا يجوز له الإِحلال حتى يفرغ من عمل الحج كله؛ فلذلك أنكر عليه ابن عمر وإنما حلَّ من كان أفرد الحج وفسخه في عمرة ثم تمتع.

الطريق الأول: عن نصر بن مرزوق عن علي بن معبد بن شداد العبدي الكوفي الرقي نزيل مصر، وثقه أبو حاتم، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، روى له الجماعة، عن حميد الطويل عن أنس رضي الله عنه.

(1)"السنن الكبرى"(5/ 9 رقم 8612).

ص: 225

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1): أخبرنا الحسين بن سفيان الشيباني قال: نا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: ثنا أبو ضمرة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: "سمعت رسول الله عليه السلام يقول: لبيك بعمرة وحجة، قال حدثني بكر بن عبد الله المزني أنه ذكر حديث أنس بن مالك لابن عمر فقال: وهل أنس، أفرد رسول الله عليه السلام الحج، قال: فذكرت قول ابن عمر لأنس بن مالك فقال ما يحسب ابن عمر إلَّا أنا صبيان".

قوله: "وَهِلُ" بفتح الواو وكسر الهاء يقال: "وهل في الشيء وعن الشيء يُوهِلُ وَهَلًا إذا غلط فيه وسهى وأما "وَهَلَ إليه" بالفتح فمعناه ذهب وعمد إليه وهو يريد غيره.

الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود عن زهير بن معاوية عن حميد الطويل.

وعن بكر بن عبد الله المزني عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وأخرج البخاري (2) نحوه.

الثالث: عن حسين أيضًا

إلى آخره.

الرابع: عن محمد بن خزيمة عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (3): نا شريح بن يونس قال: ثنا هشيم قال: ثنا حميد عن بكر عن أنس قال: "سمعت النبي يلبي بالحج والعمرة جميعًا، قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنسًا فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس: ما تعدوننا إلَّا صبيانًا سمعت رسول الله عليه السلام يقول لبيك بعمرة وحجًا".

(1)"صحيح ابن حبان"(9/ 242 رقم 3933).

(2)

"صحيح البخاري"(4/ 1582 رقم 4096).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 905 رقم 1232).

ص: 226

ص: ثم قد تواترت الروايات بعد ذلك عن أنس رضي الله عنه بدخول النبي عليه السلام فيهما جميعًا.

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا حبان قال: ثنا وهيب قال: ثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس: "أن النبي عليه السلام لما استوت راحلته على البيداء جمع بينهما".

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عبد الله بن بكر، عن حميد، عن أنس (ح).

وحدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عبد الصمد قال: ثنا شعبة عن أبي قزعة عن أنس قال: "سمعت النبي عليه السلام يقول: لبيك بعمرة وحجة".

حدثنا فهد قال: ثنا أحمد بن يونس قال: ثنا أبو شهاب عن ابن أبي ليلى عن ثابت البناني عن أنس عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد عن حميد عن أنس عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عمرو بن خالد قال: ثنا عبيد الله بن عمرو -وهو الرقي- عن أيوب عن أبي قلابة وحميد بن هلال عن أنس بن مالك قال: "كنت ردف أبي طلحة وركبتي تمس ركبة النبي عليه السلام، فلم يزالوا يصرخون بهما جميعًا بالحج والعمرة".

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصم عن سفيان عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسًا يقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "لبيك بعمرة وحجة معًا".

حدثنا أبو أُميَّة قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابي (ح).

وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب.

قالا: ثنا همام عن قتادة عن أنس قال: "اعتمر رسول الله عليه السلام عمرة من الحديبية، وعمرة من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة وعمرة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته، وحج حجة واحدة".

ص: 227

حدثنا أبو أمية قال: ثنا الحسن بن موسى وابن نفيل قالا: ثنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق عن أبي أسماء عن أنس قال: "خرجنا نصرخ بالحج فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله عليه السلام أن نجعلها عمرة وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكني سقت الهدي وقرنت الحج بالعمرة".

ففي هذا الحديث من قول رسول الله عليه السلام أنه قرن الحج بالعمرة؛ فقد دل ذلك على صحة قول من أخبر من فعله بما يوافق ذلك.

ش: أي قد تكاثرت الروايات وتظاهرت عن أنس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام كان قارنًا، وهو معنى قوله:"بدخول النبي عليه السلام فيهما جميعًا" أي في العمرة والحج وهو عين القران، وقد ذكرنا عن ابن حزم أنه قال ستة عشر من الثقات اتفقوا على أنس رضي الله عنه على أن لفظ النبي عليه السلام كان إهلالًا بحجة وعمرة معًا، وصرحوا عن أنس أنه سمع ذلك منه عليه السلام وهم: بكر بن عبد الله المزني وأبو قلابة وحميد الطويل، وأبو قزعة، وثابت البناني، وحميد بن هلال، ويحيى بن أبي إسحاق وقتادة، وأبو أسماء، والحسن البصري، ومصعب بن سليم، ومصعب بن عبد الله بن الزبرقان، وسالم بن أبي الجعد، وأبو قدامة، وزيد بن أسلم، وعلي بن زيد.

وقد أخرج الطحاوي رحمه الله: عن تسعة منهم أولهم بكر بن عبد الله وآخرهم أبو أسماء على الترتيب الذي ذكرناه.

أما حديث بكر بن عبد الله المزني فقد مضى ذكره.

وأما حديث أبي قلابة فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق عن حبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال عن وهيب بن خالد البصري عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام عن أنس.

وأخرجه البخاري (1) مطولاً: ثنا موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ثنا أيوب عن

(1)"صحيح البخاري"(2/ 562 رقم 1476).

ص: 228

أبي قلابة عن أنس قال: "صلى رسول الله عليه السلام ونحن معه بالمدينة الظهر أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة وأهلَّ الناس بهما، فلما قدمنا أمر الناس فحلوا، حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج قال: ونحر النبي عليه السلام بدنات بيده قيامًا وذبح رسول الله عليه السلام بالمدينة كبشين أملحين.

وأما حديث حميد الطويل فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن عبد الله بن بكر بن حبيب السلمي البصري عن حميد الطويل عن أنس.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن علية عن حميد عن أنس: "أن النبي عليه السلام قال: "لبيك بعمرة وحجة معًا".

الثاني: عن محمد بن خزيمة عن حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس.

وأخرجه "الترمذي"(2): ثنا قتيبة قال: نا حماد بن زيد عن حميد عن أنس قال: سمعت النبي عليه السلام يقول: "لبيك بعمرة وحجة".

قال أبو عيسى: حديث أنس حديث صحيح.

وأما حديث أبي قزعة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة عن أبي قزعة سويد بن حجير الباهلي البصري روى له الجماعة سوى البخاري.

وأخرجه ابن حزم (3) نحوه.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 390 رقم 14298).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 184 رقم 821).

(3)

"حجة الوداع"(1/ 416 رقم 497).

ص: 229

وأما حديث ثابت البناني فأخرجه عن فهد بن سليمان عن أحمد بن يونس شيخ البخاري عن أبي شهاب الأصغر الحناط -بالنون- الكوفي واسمه عبد ربه بن نافع روى له الجماعة سوى الترمذي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه قاضي الكوفة، فيه لين عن ثابت البناني عن أنس.

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع ثنا ابن أبي ليلى عن ثابت عن أنس عن النبي عليه السلام أنه قال: "لبيك بحج وعمرة معًا".

وأما حديث حميد بن هلال فأخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي عن عمرو بن خالد الحراني شيخ مسلم عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وعن حميد بن هلال بن ضمرة العدوي روى له الجماعة كلاهما عن أنس بن مالك.

وأخرجه "البزار" في "مسنده"(1): ثنا سلمة بن شبيب ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة وحميد بن هلال عن أنس قال: "كنت ردف أبي طلحة وإن ركبته لتمس ركبة رسول الله عليه السلام وهو يلبي بالحج والعمرة".

فإن قيل: قال البزار: هذا الحديث يدل على أن أبا طلحة كان يلبي بالحج والعمرة والنبي عليه السلام يسمع ذلك فلا ينكره؛ لأن أنسًا لم يقل في هذا الحديث: فسمعت النبي يلبي وإنما قال: سمعته يعني أبا طلحة.

قلت: روى العدني هذا الحديث في "مسنده": ثنا بشر بن السري ثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: "كنت رديف أبي طلحة وهو يساير النبي عليه السلام وإن رجلي لتمس عرز النبي عليه السلام فسمعته يلبي بالحج والعمرة معًا" انتهى.

(1) ورواه الطبراني أيضًا في "المعجم الأوسط"(6/ 269 رقم 6384) من طريق عبد الله بن عمرو الرقي عن أيوب عن أبي قلابة وحميد بن هلال عن أنس بنحوه وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أيوب عن حميد بن هلال إلا عبد الله بن عمرو ورواه حماد بن زيد وغيره عن أبي قلابة وحده.

ص: 230

فها هنا صرح بقوله: سمعته أي النبي عليه السلام لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورين فافهم.

فإن قيل: قال البيهقي: قال الفسوي: سمعت سليمان يقول: سمع أبو قلابة هذا من أنس وهو فقيه وروى حميد ويحيى بن أبي إسحاق عن أنس سمع النبي يلبي بعمرة وحج ثم قال: ولم يحفظا وإنما الصحيح ما قال أبو قلابة: إن النبي عليه السلام أفرد الحج وقد جمع بعض الصحابة بين الحج والعمرة فإنما سمع أنس أولئك الذين جمعوا بينهما.

قلت: قول أنس رضي الله عنه: يصرخون بها يندرج فيه النبي عليه السلام وأصحابه كما صرح به في الرواية الأخرى حيث قال: "أهلَّ الناس بهما" وفي هذا جمع بين الروايتين وقول سليمان بن حرب: "لم يحفظا" قول لا دليل عليه، بل حفظا وتابعهما على ذلك جماعة وهم الذين ذكرناهم فإن كلهم اتفقوا على أنس على أن لفظ النبي عليه السلام كان إهلالًا بحجة وعمرة معًا وعلى تقدير التنافي بين الروايتين فرواية هؤلاء الجماعة أولى، ولم يَرْو أبو قلابة الإِفراد أصلاً فيما علمنا فضلاً عن أن يكون ذلك هو الصحيح كما زعم سليمان بل الذي في الصحيح أنه روى القران وقد صرح هؤلاء الجماعة عن أنس أنه سمع ذلك منه عليه السلام فانتهى قول سليمان إنما سمعه من بعض أصحابه.

وأما حديث يحيى بن أبي إسحاق فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري عن سفيان الثوري عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي البصري روى له الجماعة، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس أنه سمع النبي عليه السلام يقول: "لبيك بعمرة وحجة".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 289 رقم 14296).

ص: 231

وأخرجه أبو داود (1) والنسائي (2) وابن ماجه (3) نحوه.

وأما حديث قتادة فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي عن عمرو بن عاصم بن عبيد الله الكلابي أبي عثمان البصري شيخ البخاري عن همام بن يحيى عن قتادة، عن أنس.

وأخرجه البخاري (4): عن حسان عن همام عن قتادة عن أنس

إلى آخره نحوه.

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني عن الخصيب بن ناصح البصري عن همام عن قتادة عن أنس.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(5): ثنا بهزُ وعبد الصمد -المعنى- قالا: ثنا همام بن يحيى نا قتادة قال: "سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله عليه السلام؟ قال: حجة واحدة واعتمر أربع مرات: عمرته في الحديبية وعمرته في ذي القعدة من المدينة وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنيمة حنين وعمرته مع حجته".

وأما حديث أبي أسماء فأخرجه عن أبي أمية أيضًا عن الحسن بن موسى الأشيب شيخ أحمد روى له الجماعة.

وعن عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي الحراني شيخ البخاري وأبي داود كلاهما عن أبي خيثمة زهير بن معاوية أحد أصحاب أبي حنيفة روى له الجماعة، عن

(1)"سنن أبي داود"(2/ 157 رقم 1795).

(2)

"المجتبى"(5/ 150 رقم 2729).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 989 رقم 2968).

(4)

"صحيح البخاري"(2/ 630 رقم 1687).

(5)

"مسند أحمد"(3/ 134 رقم 12395).

ص: 232

أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن أبي أسماء الصيقل، سئل أبو زرعة عنه فقال: لا أعرف اسمه، روى له أحمد والنسائي.

والحديث أخرجه النسائي (1): نا هناد بن السري عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي أسماء عن أنس قال: "سمعت رسول الله عليه السلام يلبي بهما".

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا أسود بن عامر أو حسن بن موسى نا زهير، عن أبي إسحاق عن أبي أسماء الصيقل عن أنس بن مالك قال:"خرجنا نصرخ بالحج فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله عليه السلام .... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

قوله: "نصرخ بالحج" أي نرفع صوتنا به.

قوله: "أن نجعلها عمرة" فيه حجة لمن يرى بفسخ الحج في عمرة وهو مذهب أحمد وأهل الظاهر، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي ومالك وأجابوا عن ذلك بأن فسخ الحج في العمرة قد كان خص به أصحاب رسول الله عليه السلام.

قوله: "قرنت الحج والعمرة" أي قرنت بينهما فهذا صريح على أنه عليه السلام قد كان قارنًا في حجته فقوله هذا قد دل على صحة قول من أخبر من فعله أيضًا أنه جمع بين الحج والعمرة فثبت قران النبي عليه السلام في حجته بقوله وفعله فلم يبق بعد هذا شيء وليس ما وراء عناد أيّ قربة.

وأما حديث الحسن البصري فأخرجه البزار في "مسنده": نا الحسن بن قزعة نا سفيان بن حبيب نا أشعث عن الحسن عن أنس: "أن النبي عليه السلام أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة

" الحديث.

وأما حديث مصعب بن سليم فأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع عن مصعب ابن سليم أنه سمع أنس بن مالك يقول: "أهلَّ رسول الله عليه السلام بحجة وعمرة".

(1)"المجتبى"(5/ 150 رقم 2730).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 148 رقم 12524).

ص: 233

وأما حديث مصعب بن عبد الله بن الزبرقان. فأخرجه العدني أيضًا: ثنا سفيان نا حميد الكوفي ومصعب بن عبد الله بن الزبرقان قال: عن أنس، قال: سمعت النبي عليه السلام يقول: "لبيك بحجة وعمرة -أو بعمرة وحجة- معًا".

وأما حديث سالم بن أبي الجعد فأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يحيى بن آدم نا شريك عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أنس يرفعه إلى النبي عليه السلام: "أنه جمع بين العمرة والحج فقال: لبيك بحجة وعمرة".

وأما حديث أبي قدامة فأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده"(2): ثنا روح بن عبادة، ثنا شعبة، عن يونس بن عُبيد، عن أبي قدامة الحنفي، قال:"قلت لأنس: بأي شيء كان رسول الله عليه السلام يهل، فقال سمعته سبع مرار: بعمرة وحجة، بعمرة وحجة".

وأما حديث زيد بن أسلم فأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن عبد العزيز ومحمد بن مسكين قالا: نا بشر بن بكر عن سعيد بن عبد العزيز عن زيد بن أسلم عن أنس: "أن النبي عليه السلام أهلَّ بحج وعمرة".

وأما حديث علي بن زيد فكذلك أخرجه البزار: ثنا إبراهيم بن سعيد نا علي بن حكيم عن شريك عن علي بن زيد عن أنس: "أن النبي عليه السلام لبى بهما جميعًا".

ص: وقد حدثنا يونس قال: ثنا عبد الله بن يوسف (ح).

وحدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا شعيب قالا: ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران أنه قال: "حججت مع موالي فدخلت على أم سلمة رضي الله عنها فسمعتها تقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: أهلوا يا آل محمد بعمرة في حجة" وهذا أيضًا مثل ذلك.

ش: أخرج حديث أم سلمة رضي الله عنها من طريقين صحيحين؛ لوجود الأمر من النبي عليه السلام فيه بالقران كما في حديث أبي أسماء عن أنس وإليه أشار بقوله:

(1)"مسند أحمد"(3/ 280 رقم 14013).

(2)

"مسند أحمد"(2/ 142 رقم 12471).

ص: 234

"وهذا مثل ذلك" وهذا أيضًا يدل على صحة قول من أخبر من فعله عليه السلام بما يوافق ذلك الطريق.

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري عن عبد الله بن يوسف التنيسي المصري شيخ البخاري، عن شعيب بن الليث عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري عن أسلم أبي عمران التجيبي مولى تجيب وأسلم هذا هو ابن عمران ويكنى بأبي عمران أيضًا، ذكره ابن حبان في الثقات التابعين.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1) بأتم منه: ثنا حجاج ثنا الليث بن سعد المصري، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي عمران أسلم قال:"حججت مع موالي، فدخلت على أم سلمة زوج النبي عليه السلام فقلت: أعتمر قبل أن أحج؟ قالت: إن شئت فاعتمر قبل أن تحج وإن شئت فبعد أن تحج، قال: فقلت: إنهم يقولون: من كان فلا يصلح أن يعتمر قبل أن يحج، قال: فسألت: أمهات المؤمنين فقلن مثل ما قالت فرجعت إليها فأخبرتها بقولهن، قال: فقالت: نعم وأشفيك؟ سمعت رسول الله عليه السلام يقول: أهلوا يا آل محمد بعمرة في الحج".

الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي عن شعيب بن الليث عن الليث بن سعد

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا مطلب بن شعيب الأزدي نا أبو صالح عبد الله بن صالح حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال:"حججت مع مولاي فدخلت على أم سلمة فقالت: "سمعت رسول الله عليه السلام، يقول: أهلوا يا أمة محمد بحجة وعمرة".

قوله: "حججت مع مواليَّ" بتشديد الياء وهو جمع (مولى) وفي رواية الطبراني: "مع مولاي" بالإِفراد.

(1)"مسند أحمد"(6/ 297 رقم 26590).

(2)

"المعجم الكبير"(23/ 341 رقم 792).

ص: 235

ص: وقد حدثنا فهد قال: ثنا الحماني قال: ثنا أبو خالد وأبو معاوية (ح).

وحدثنا فهد قال: ثنا عمر بن حفص قال: ثنا أبي قالوا جميعًا: عن الحجاج عن الحسن بن سعد عن ابن عباس عن أبي طلحة: "أن النبي عليه السلام قرن بين الحج والعمرة".

ش: هذان طريقان صحيحان من جملة الحجج في أن النبي عليه السلام كان قارنًا في حجته؛ لأن أبا طلحة أخبر في حديثه أن قربه بين الحج والعمرة:

الأول: عن مهدي بن سليمان عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان وأبي معاوية الضرير محمد بن خازم كلاهما عن الحجاج بن أرطاة قاضي الكوفة عن الحسن بن سعد القرشي الهاشمي مولى علي بن أبي طالب عن عبد الله بن عباس عن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه.

وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا علي بن محمد ثنا أبو معاوية ثنا حجاج عن الحسن بن سعد عن ابن عباس قال: أخبرني أبو طلحة: "أن رسول الله عليه السلام قرن بين الحج والعمرة".

الثاني: عن فهد أيضًا عن عمر بن حفص عن أبيه حفص بن غياث عن الحجاج بن أرطاة

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا معاوية بن المثنى نا مسدد نا أبو معاوية عن حجاج بن أرطاة عن الحسن بن سعد عن ابن عباس أخبرني أبو طلحة: "أن رسول الله عليه السلام قرن بين الحج والعمرة".

ص: حدثنا أبو بكرة وعلي بن معبد قالا: ثنا مكي بن إبراهيم قال: ثنا داود بن يزيد الأودي قال: سمعت عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: سمعت النزال بن سبرة

(1)"سنن ابن ماجه"(3/ 990 رقم 2971).

(2)

"المعجم الكبير"(5/ 94 رقم 4693).

ص: 236

يقول: سمعت سراقة بن مالك يقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قال: وقرن رسول الله عليه السلام في حجة الوداع".

ش: هذا أيضًا من جملة الحج في تفضيل القران وأن رسول الله عليه السلام كان قارنًا في حجة الوداع؛ لأن سراقة بن مالك قد صرح في حديثه بأنه عليه السلام قرن في حجة الوداع، أخرجه عن أبي بكرة بكَّار القاضي وعلي بن معبد بن نوح المصري كلاهما عن مكي بن إبراهيم بن بشير البلخي شيخ البخاري عن داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الزعافري الكوفي الأعرج فيه مقال فعن أحمد وابن معين: ضعيف وعنه: ليس حديثه بشيء، وعن النسائي ليس بثقة، روى له أبو داود وابن ماجه وهو يروي عن عبد الملك ميسرة الهلالي الزراد -وهو الذي يعمل الزرد- أبو سعد عن النزال بن سبرة الهلالي الكوفي قال العجلي: كوفي تابعي ثقة من كبار التابعين وفي "التهذيب": مختلف في صحبته، عن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، من مشاهير الصحابة، وهو الذي لحق النبي عليه السلام وأبا بكر رضي الله عنه حين خرجا مهاجرين إلى المدينة فدعا النبي عليه السلام فارتطمت فرسه إلى بطنها ثم دعا له فنجاه الله، وقصته مشهورة.

فإن قيل: هذا الحديث ضعيف لأن فيه داود بن يزيد ولا يصلح الاستدلال به، قلت: قال ابن عدي: لم أر له حديثًا منكرًا جاوز الحد إذا روى عنه ثقة وأن كان ليس بقوي في الحديث، فإنه يكتب حديثه ويقبل.

فهذا كما ترى قد روى عنه مكي بن إبراهيم وهو ثقة بالاتفاق فيقبل حديثه حينئذ.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): نا محمد بن عبد الله الحضرمي نا سعيد بن عمرو الأشعثي نا يونس بن بكير نا داود بن يزيد الأودي عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن سراقة بن مالك بن جعشم قال: "أهل رسول الله عليه السلام بحجة وعمرة وسمعته يقول: دخلت العمرة في الحج إلى اليوم القيامة".

(1)"المعجم الكبير"(7/ 131 رقم 6597).

ص: 237

قوله: "دخلت العمرة في الحج" معناه دخل وقت العمرة في وقت الحج؛ لأن سبب ذلك أنهم كانوا يعدون العمرة في وقت الحج من أفجر الفجور، ثم رخص لهم النبي عليه السلام، فقال:"دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" أي دخل وقت العمرة في وقت الحج -وهو أشهر الحج، وقد استدل الشافعي بهذا على أن القارن يطوف للعمرة والحج طوافًا واحدًا ويسعى سعيًا واحدًا لأن معناه عنده دخل إحرام العمرة في إحرام الحج، قلنا: معنى الحديث يحتمل ما ذكرناه ويحتمل ما ذكره فلا يكون حجة على دعواه مع الاحتمال.

وروى عبد الرزاق (1): عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه: "أنه سئل عن قول رسول الله عليه السلام دخلت العمرة في الحج، فقال هو الرجل يفرد الحج ويذبح، فقد دخلت له عمرة في الحج فوجبتا له جميعًا والله أعلم.

واستدل به بعض أصحابنا على أن العمرة ليست فريضة؛ لأن معناه: دخل فرض العمرة في فرض الحج على معنى أن فرضها قد سقط بالحج ثم اعلم أن الطحاوي كما ترى قد أخرج في تفضيل القران وأن النبي عليه السلام كان قارنًا أحاديث عن عشرة أنفس من الصحابة رضي الله عنهم وهم عمر بن الخطاب وعبد الله ابن عمر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعمران بن حصين وأنس بن مالك -بعدة طرق- وأبو طلحة وسراقة بن مالك وعائشة وأم سلمة زوجا النبي عليه السلام.

وفي الباب أيضًا عن أبي قتادة وجابر ومعاوية والهرماس بن زياد وأبي هريرة.

أما حديث أبي قتادة فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا حفص، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه يقول: "إنما قرن رسول الله عليه السلام لأنه أُخْبِرَ أنه ليس بحاج بعدها".

(1) أخرجه ابن حزم في "المحلى"(7/ 103).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 290 رقم 14297).

ص: 238

وأخرجه الحاكم (1) وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.

وأما حديث جابر فأخرجه الترمذي (2) محسنًا عنه: "أن رسول الله عليه السلام قرن الحج والعمرة".

قال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر بهذا الإِسناد.

وأما حديث معاوية فأخرجه أبو داود (3): من حديث أبي شيخ خيوان: "أن معاوية قال للصحابة: هل تعلمون أن النبي عليه السلام نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ فقالوا: لا".

وأما حديث الهرماس بن زياد فأخرجه الكجي في "سننه"(4): ثنا سليمان بن داود، نا يحيى بن ضريس، عن عكرمة بن عمار، عن الهرماس بن زياد، قال:"سمعت النبي عليه السلام على ناقته قال: لبيك حجة وعمرة معًا".

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه "مسلم"(5) عنه عن النبي عليه السلام: "والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجًّا أو معتمرًا أو ليثنيهما".

فهؤلاء خمسة عشر صحابيًّا رووا القران عن النبي عليه السلام.

وقال الخطابي: جواز القران بين الحج والعمرة إجماع من الأئمة، ولا يجوز أن يتفقوا على جواز شيء نهي عنه، والله أعلم.

ص: فقد اختلفوا عن النبي عليه السلام في إحرامه في حجة الوداع ما كان؟ فقالوا: ما روينا وتنازعوا في ذلك على ما قد ذكرنا وقد أحاط علمنا أنه لم يكن إلا على أحد

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 645 رقم 1737).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 283 رقم 947).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 157 رقم 1794).

(4)

ورواه عبد الله بن أحمد في زوائده على "المسند"(3/ 485 رقم 16014)، وعنه الطبراني في "الكبير"(22/ 203 رقم 534)، و"الأوسط"(4/ 322 رقم 4327)، وأعله أحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي كما في "علل ابن أبي حاتم"(1/ 292).

(5)

"صحيح مسلم"(2/ 915 رقم 1252).

ص: 239

تلك المنازل الثلاثة إما متمتع وإما مفرد وإما قارن، فأولى بنا أن ننظر إلى معاني هذه الآثار ونكشفها لنعلم من أين جاء اختلافهم فيها ونقف من ذلك على إحرامه صلى الله عليه وسلم ما كان؟ فاعتبرنا ذلك فوجدنا اللين يقولون: إنه أفرد يقولون: كان إحرامه بالحج مفردًا لم يكن من قبل ذلك إحرام بغيره، وقال آخرون: بل قد كان قبل إحرمه بتلك الحجة أحرم بعمرة ثم أضاف إليها هذه الحجة، هكذا يقول الذين قالوا: قرن، وقد أخبر جابر رضي الله عنه في حديثه وهو أحد الذين قالوا: إن النبي عليه السلام أن رسول الله عليه السلام أحرم بالحجة حين استوت به ناقته على البيداء وقال ابن عمر رضي الله عنهما: من عند المسجد وهو أيضًا ممن قال: إن رسول الله عليه السلام أفرد الحج في أول إحرامه، وكان بدء إحرمه عليه السلام عند ابن عمر وجابر بعد خروجه من المسجد، وقد ثبتنا عنه فيما تقدم من كتابنا هذا أنه قد كان أحرم في دبر الصلاة في المسجد فيحتمل أن يكون الذين قالوا: قرن سمعوا تلبيته في المسجد بالعمرة ثم سمعوا بعد ذلك تلبيته الأخرى خارجًا من المسجد بالحج خاصة فعلموا أنه قرن وسمعه الذين قالوا: إنه أفرد وقد لبى بالحج خاصة ولم يكونوا سمعوا تلبيته قبل ذلك بالعمرة فقالوا: أفرد وسمعه قوم أيضًا، وقد لبى في المسجد بالعمرة ولم يسمعوا تلبيته بعد خروجه منه بالحج، ثم رأوه بعد ذلك يفعل ما يفعل الحاج في الوقوف بعرفة وما أشبه ذلك وكان ذلك عندهم بعد خروجه من العمرة فقالوا: تمتع، فروى كل قوم ما علموا وقد دخل جميع ما علمه الذين قالوا أفرد وما علمه الذين قالوا: إنه تمتع فيما علم الذين قالوا: إنه قرن، لأنهم أخبروا عن تلبيته بالعمرة ثم بالحجة بعقب ذلك وصار ما ذهبوا إليه من ذلك وما رووا أولى مما ذهب إليه من خالفهم وما رووا ثم قد وجدنا بعد ذلك أفعال رسول الله عليه السلام تدل على أنه قد كان قارنًا وذلك أنه عليه السلام لا يختلف عنه أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلَّا من كان ساق منهم هديَّا، وثبت هو على إحرامه فلم يحل منه إلَّا في وقت ما يحل الحاج من حجه وقال:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة" هكذا حكاه عنه جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو ممن يقول:

ص: 240

إنه أفرد، وسنذكر ذلك وما روي فيه في باب فسخ الحج -إن شاء الله تعالى- فلو كان إحرمه ذلك كان بحجة لكان هديه الذي ساق تطوعًا فالهدي التطوع لا يمنع من الإِحلال الذي يحله الرجل إذا لم يكن معه هدي ولكان حكمه عليه السلام-وإن كان قد ساق هديًا- كحكم من لم يسق هديًا؛ لأنه لم يخرج على أن يتمتع فيكون ذلك الهدي للمتعة فيمنعه من الإِحلال الذي كان يحله لو لم يسق هديًا، ألَّا ترى أن رجلاً لو خرج يريد التمتع فأحرم بعمرة أنه إذا طاف وسعى وحلق حل منها ولو كان ساق هديًا لمتعته لم يحل حتى يوم النحر ولو كان ساق هديًا تطوعًا حل قبل يوم النحر بعد فراغه من العمرة فثبت بذلك أن هدي النبي عليه السلام لما كان قد منعه من الإِحلال وأوجب ثبوته على الإِحرام إلى يوم النحر أن حكمه غير حكم هدي التطوع، فانتفى بذلك قول من قال: إنه كان مفردًا وقد ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب عن حفصة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله عليه السلام: ما شأن الناس، حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني قد قلدت هديي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أنحر فدل ذلك على ما ذكرنا، وعلى أن ذلك الهدي كان هديًا بسبب عمرة يراد بها قران أو متعة فنظرنا في ذلك فإذا حفصة قد دل حديثها هذا على أن ذلك القول من رسول الله عليه السلام كان بمكة لأنه كان منه بعد ما حل الناس وقد يجوز أن يكون النبي عليه السلام قد طاف قبل ذلك أو لم يطف فإن كان قد طاف قبل ذلك ثم أحرم بالحجة من بعد فإنما كان متمتعًا ولم يكن قارنًا؛ لأنه إنما أحرم بالحجة بعد فراغه من طواف العمرة وإن لم يكن طاف قبل ذلك حتى أحرم بالحجة فقد كان قارنًا؛ لأنه إنما أحرم بالحجة بعد فراغه من طواف العمرة وإن لم يكن طاف قبل ذلك حتى أحرم بالحجة فقد كان قارنًا؛ لأنه قد لزمته الحجة قبل طوافه للعمرة، فلما احتمل ذلك ما ذكرنا كان أولى الأشياء بنا أن نحمل هذه الآثار على ما فيه اتفاقها لا على ما فيه تضادها، وكان علي بن أبي طالب وابن عباس وعمران بن حصين وعائشة رضي الله عنهم قد روينا عنهم أن رسول الله عليه السلام تمتع، ورينا عنهم أنه قرن وقد ثبت من قوله ما يدل على أنه قدم مكة ولم يكن أحرم بالحج قبل ذلك، فإن جعلنا إحرامه بالحجة قبل الطواف للعمرة ثبت

ص: 241

الحديثان جميعًا، فكان رسول الله عليه السلام قد كان متمتعًا إلى أن أحرم بالحجة فصار قارنًا، وإن جعلنا إحرامه بالحجة كان بعد طوافه للعمرة جعلناه متمتعًا ونفينا أن يكون قارنًا فجعلناه متمتعًا في حال، قارنًا في حال فثبت بذلك أن طوافه للعمرة كان بعد إحرامه بالحجة وثبت بذلك أن رسول الله عليه السلام كان في حجة الوداع قارنًا.

ش: أي فقد اختلف العلماء والفقهاء من أصحاب المذاهب عن النبي عليه السلام في صفة إحرامه في حجة الوداع ما كان مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا؟ فذكروا في ذلك ما روي في هذا الباب من الأحاديث وتنازعوا في ذلك ولا شك أنه كان على واحد من هذه الثلاثة، فالطريقة في معرفة ذلك النظر إلى معاني هذه الآثار والكشف التام حتى نعلم من أين جاء هذا الاختلاف، ثم يوقف على إحرامه عليه السلام بأيهما كان، فالذين قالوا: إنه كان مفردًا يدعون أن إحرامه بالحج كان مفردًا لم يكن منه أحرام آخر قبل ذلك والذين قالوا: إنه كان قارنًا أو متمتعًا يدعون أنه كان قد أحرم بعمرة قبل إحرامه بالحج ومنشأ الاختلاف من وقت وجود إحرامه عليه السلام وقد كان جابر أخبر في حديثه أنه أحرم حين استوت به ناقته على البيداء وابن عمر أخبر أنه أحرم من عند المسجد، والحال أن كلاًّ منهما ممن روى أنه أفرد، وجاء عن ابن عمر أنه أحرم في دبر الصلاة في المسجد، فالذين قالوا: إنه قرن يحتمل أن يكونوا سمعوا تلبية النبي عليه السلام بالعمرة في المسجد ثم سمعوا بعده تلبيته بالحج خارج المسجد فحكموا بذلك أنه قرن والذين قالوا: إنه أفرد يحتمل أن يكونوا سمعوا تلبيته بالحج وحدها ولم يسمعوا تلبيته بالعمرة قبل ذلك فحكموا به أنه أفرد والذين قالوا: إنه تمتع يحتمل أن يكونوا سمعوا تلبيته بالعمرة في المسجد فقط ولم يسمعوا تلبيته بالحج بعد ذلك، ثم زاد النبي عليه السلام بعد ذلك فعل ما يفعله الحاج الفرد من الوقوف بعرفة ومزدلفة ونحو ذلك وكان ذلك عندهم بعد أن علموا خروجه عليه السلام من العمرة فحكموا بذلك أن تمتع فهذا هو أصل الاختلاف ومنشأه ثم حُكم من حكم بالقران أولى والأخذ به أحق وأفضل؛ لأن ما حكم به الفريقان الآخران داخل فيما حكم به من حكم بالقران؛ لأنهم أخبروا عن تلبيته بالعمرة ثم عن تلبيته بالحجة عقبها وهذا

ص: 242

هو عين القران، ثم شد ذلك وقواه ما وجد من أفعاله عليه السلام بعد ذلك الدالة على أنه قد كان قارنًا، وذلك لأنه لم يختلف أحد أنه لما دخل مكة أمر أصحابه بالإِحلال إلَّا من كان سائق الهدي وثبت هو عليه السلام على إحرامه ولم يحل إلَّا يوم النحر، فلو كان إحرامه هذا بحجة فقط لكان هديه الذي ساقه تطوعًا والهدي التطوع لا يمنع من الإِحلال فلما لم يمنعه وأوجب استمراره على إحرامه إلى يوم النحر، علمنا أنه لم يكن مفردًا، فانتفى بذلك قول من ادعى أنه كان مفردًا وبقي الكلام بين كونه متمتعًا أو قارنًا فإن كان إحرامه بالحجة بعد طوافه للعمرة كان بذلك متمتعًا وإن كان قبل ذلك كان قارنًا فصار متمتعًا في حال وقارنًا في حال ولكن حديث حفصة رضي الله عنها قد دل على أن طوافه للعمرة كان بعد إحرامه بالحجة فتعين بذلك أن يكون قارنًا في حجة الوداع. والله أعلم.

ص: فقال قائل ممن كره القران والتمتع لمن استحبهما: اعتللتم علينا بقول الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) في إباحة المتعة وليس ذلك كذلك، وإنما تأويل هذه الآية: ما رُوي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه[فذكر ما](2) حدثنا محمد بن الحجاج ونصر بن مرزوق قالا: ثنا الخصيب بن ناصح قال: ثنا وهيب بن خالد عن إسحاق بن سويد قال: "سمعت عبد الله بن الزبير وهو يخطب يقول: يا أيها الناس ألا إنه والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ولكن التمتع بالعمرة إلى الحج: أن يخرج الرجل حاجًّا فيحبسه عدو أو مرض أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف به سبعًا ويسعى بين الصفا والمروة ويتمتع بحله إلى العام المقبل فيحج ويهدر".

حدثنا ابن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد قال: ثنا إسحاق بن سويد

فذكره نحوه. قالوا: فهذا تأويل هذه الآية.

(1) سورة البقرة، آية:[196].

(2)

في "الأصل، ك": "في تأويلها قد" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 243

قيل لهم: لئن وجب بأن يكون تأويلها كذلك لقول ابن الزبير، فإن تأويلها أحرى ألَّا يكون كذلك كما رويناه عن رسول الله عليه السلام وعن أصحابه من بعده مثل عمر وعلي ومن ذكرنا معهم فيما تقدم من هذا الباب.

وقد حدثنا يونس قال: ثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم -أو مالك بن الحارث- عن أبي نصر قال: "أهللت بالحج فأدركت عليًّا رضي الله عنه فقلت: إني أهللت بالحج أفأستطيع أن أضم إليه عمرة؟ فقال: لا، لو كنت أهللت بالعمرة ثم أردت أن تضيف إليها الحج فعلت".

حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن علي بن حسين عن مروان بن الحكم، قال:"كنا مع عثمان بن عفان رضي الله عنه فسمعنا رجلاً يهتف بالحج والعمرة فقال عثمان: من هذا؟ قالوا: عليّ، فسكت".

حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا الخصيب قال: ثنا همام عن قتادة عن جري بن كليب وعبد الله بن شقيق: "أن عثمان رضي الله عنه خطب، فنهى عن المتعة فقام علي رضي الله عنه فلبى بهما، فأنكر عثمان ذلك، فقال علي: إن أفضلنا في هذا الأمر أشدنا اتباعًا له".

حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا هشيم قال: ثنا أبو بشر عن سليمان اليشكري عن جابر بن عبد الله قال: "لو أهللت بالحج والعمرة طفت لهما طوافًا واحدًا ولكنت مُهْدِيًّا".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا من ذكرنا من أصحاب رسول الله عليه السلام قد صرف تأويل قول الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) إلى خلاف ما صرفه إليه عبد الله بن الزبير، وهو أصح التأويلين عندنا والله أعلم، لأن في الآية ما يدل على فساد تأويل ابن الزبير؛ لأن الله عز وجل قال {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (1) والصيام في الحج لا يكون بعد فوت الحج ولكنه قبل فوته ثم قال: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 244

عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) فكأن الله عز وجل إنما جعل المتعة وأوجب فيها ما أوجب على من فعلها إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقد أجمعت الأمة أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام أو غير حاضري المسجد الحرام ففاته الحج أن حكمه في ذلك وحكم غيره سواء وأن حاله بحضور أهله المسجد الحرام لا يخالف حاله ببعدهم عن المسجد الحرام فثبت بذلك أن المتعة التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية هي التي يفترق فيها من كان أهله بحضرة المسجد الحرام ومن كان أهله بغير حضرة المسجد الحرام، وذلك في التمتع بالعمرة إلى الحج التي كرهها مخالفنا.

ش: لما كان قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) من جملة الحجج التي [احتج](2) بها من استحب القران والتمتع على من

كرههما واستحب الإِفراد ومن جملة ما اعتلوا به عليهم في إباحة المتعة قامت طائفة منهم واعترضوا، فقالوا: استدلالكم بالآية المذكورة واحتجاجكم بها علينا فيما تدعون به غير صحيح؛ لأن تأويل الآية غير ما ذهبتم إليه وإنما تأويله ما بينه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في خطبته، وهو الذي أخرجه في طريقين:

الأول: عن محمد بن الحجاج ونصر بن مرزوق، كلاهما عن الخصيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح الحارثي عن وهيب بن خالد البصري روى له الجماعة عن إسحاق بن سويد بن هبيرة البصري ثقة روى له الشيخان عن عبد الله بن الزبير.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا معتمر بن سليمان، عن إسحاق بن سويد، قال: سمعت ابن الزبير، قال:"إنما التمتع بالعمرة إلى الحج: أن يهل الرجل بالحج فيحصره إما مرض أو عدو أو أمر يحبسه".

(1) سورة البقرة، آية:[196].

(2)

في "الأصل، ك": "احتجت".

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 213 رقم 13557).

ص: 245

الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن سويد

إلى آخره.

وأخرجه أبو عمر في "التمهيد"(1) نحوه.

قوله: "قالوا" أي الذين كرهوا التمتع والقران وقد ذكرنا أن التمتع على أربعة أنواع.

أحدها: التمتع المعروف وهو الذي قاله ابن عمر: أن يعتمر في أشهر الحج قبل الحج ثم يقيم بمكة حتى يدركه الحج ويحج من عامه، ولا خلاف أن هذا التمتع هو المراد بقوله تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (2).

والثاني: القران عند جماعة من العلماء؛ لأن القارن متمتع بسقوط سفره الثاني، فالقران والتمتع يتفقان في هذا المعنى، ويتفقان عند أكثر العلماء في الهدي والصيام لمن لم يجد.

والثالث: فسخ الحج في العمرة، وجمهور العلماء يكرهونه.

والرابع: ما قاله ابن الزبير.

قوله: "قيل لهم" إلى آخره جواب عما قاله أولئك القوم، بيانه أن يقال: إن عبد الله بن الزبير أول تأويلًا في الآية يخالفه ما أوله غيره من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخرج عنه في ذلك من ثلاث طرق:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي -أو مالك بن الحارث السلمي الرقي- وهؤلاء كلهم رجال الصحيح، عن أبي نصر بنون مفتوحة وصاد مهملة ساكنة، وقال ابن ماكولا بضاد معجمة وهو أبو نضر السلمي، قال الدارقطني والبيهقي أبو نصر هذا مجهول.

(1)"التمهيد"(8/ 359).

(2)

سورة البقرة، آية:[196].

ص: 246

قوله: "أفأستطيع" الهمزة فيه للاستفهام.

قوله: "لو كنت أهللت بالعمرة" إلى آخره وهذا يدل على أن عليًّا رضي الله عنه، لا يرى إضافة العمرة إلى الحج، وهذا الباب فيه اختلاف بين العلماء، فقال أبو عمر: العلماء مجمعون على أنه إذا دخل الحج على العمرة في أشهر الحج قبل الطواف بالبيت أنه جائز له ذلك ويكون قارنًا بذلك، ويلزمه ما يلزم الذي أنشأ العمرة والحج معًا.

وقالت طائفة من أصحاب مالك: له أن يدخل الحج على العمرة وإن كان قد طاف ما لم يركع ركعتي الطواف، وقال بعضهم: له ذلك بعد الطواف ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة، وهذا كله شذوذ عند أهل العلم، وقال أشهب: متى طاف لعمرته ولو شوطًا واحدًا لم يكن له إدخال الحج عليها، وهذا هو الصواب إن شاء الله فإن فعل وأدخل الحج على العمرة بعد ذلك فقد اختلفوا فيما يلزم في ذلك، فقال مالك: من أدخل الحج على العمرة بعد أن يفتتح الطواف لزمه ذلك وصار قارنًا، وروي مثل ذلك عن أبي حنيفة، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلَّا قبل الأخذ في الطواف.

وقال الشافعي لا يكون قارنًا، وذكر أن ذلك قول عطاء وبه قال أبو ثور وغيره.

واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال مالك: يضاف الحج إلى العمرة ولا تضاف العمرة إلى الحج، فإن أهلَّ أحد بالحج ثم أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشيء، ولا يلزمه شيء، وهو أحد قولي الشافعي وهو المشهور عنه بمصر.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: من أهلَّ بحجة ثم أضاف إلى الحج عمرة، فهو قارن، ويكون عليه ما على القارن، قالوا: ولو طاف لحجته شوطًا واحدًا ثم أهل بعمرة لم يكن قارنًا ولم يلزمه، لأنه قد عمل في الحج.

وقال الأوزاعي: لا بأس أن يضيف العمرة إلى الحج بعد ما يهل بالحج.

وقال أبو ثور: إذا أحرم بحجة فليس له أن يضيف إليها عمرة ولا يُدخل إحرامًا على إحرام كما لا يُدخل صلاة على صلاة.

ص: 247

قال أبو عمر: هذا قول شاذ، وفعل ابن عمر في خبر إدخاله الحج على العمرة، ومعه على ذلك جمهور العلماء خير من قول أبي ثور الذي لا أصل له إلَّا القياس الفاسد في هذا الموضع.

وفي هذا الباب: اختلافهم فيمن أهل بحجتين أو بعمرتين أو أدخل حجة على حجة أو عمرة على عمرة، فقال مالك: الإِحرام بحجتين أو عمرتين لا يجوز ولا يلزمه إلَّا واحدة، وبذلك قال الشافعي ومحمد بن الحسن.

قال الشافعي: وكذلك لو أحرم بحج ثم أدخل عليه حجًّا آخر قبل أن يكمل فهو مهل بحج واحد ولا شيء عليه في الثاني من فدية ولا قضاء ولا غيره، وقال أبو حنيفة: تلزمه الحجتان ويصير رافضًا لإِحداهما حين يتوجه إلى مكة، وقال أبو يوسف: تلزمه الحجتان ويصير رافضًا ساعتئذٍ.

وذكر الجوزجاني عن محمد قال: قال أبو حنيفة وأبو يوسف: من أهل بحجتين معًا أو أكثر فإن توجه إلى مكة وأخذ في العمل، فهو رافض لها كلها إلَّا واحدة، وعليه لكل حجة رفضها دم وحجة وعمرة.

الطريق الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن أبي عوانة الوضاح الشكري، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي الكوفي فيه مقال فعن يحيى: لا يحتج بحديثه، وعنه: ليس بالقوي، وعنه: ضعيف الحديث، وقال العجلي: جائز الحديث، وقال أبو زرعة: لين يكتب حديثه ولا يحتج به، روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتج به الأربعة.

عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين روى له الجماعة، عن مروان بن الحكم

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (1): ثنا محمد بن بشار، نا غندر، نا شعبة، عن الحكم، عن علي بن الحسين، عن مروان بن الحكم: "شهدت عثمان وعليًّا رضي الله عنهما وعثمان ينهى

(1)"صحيح البخاري"(2/ 567 رقم 1488).

ص: 248

عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى عليٌّ ذلك؛ أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة رسول الله عليه السلام لقول أحد".

قوله: "يهتف بالحج والعمرة" أي يرفع صوته ملبيًا بهما.

الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن جري بن كليب -بالتصغير فيهما- السدوسي البصري، قال أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه، روى له الأربعة حديثا واحدًا، عن عليّ في الأضحية، عن شقيق بن عبد الله بن شقيق العقيلي البصري روى له الجماعة، البخاري في الأدب، كلاهما عن عثمان رضي الله عنه.

ومئهم: جابر بن عبد الله، أخرج حديثه عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن سليمان ابن قيس اليشكري البصري، وهذا إسناد صحيح.

قوله: "وهو أصح التأويلين عندنا" أبي الذي أوله من ذكره من الصحابة هو أصح التأويلين، وقد بين وجه ذلك بقوله: "لأنه في الآية ما يدل على فساد

" إلى آخره وهو ظاهر.

ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في حاضري المسجد الحرام من هم؟ فذهب طاوس ومجاهدًا إلى أنهم أهل الحرم، وبه قال داود، وقالت طائفة: أهل مكة بعينها، روي ذلك عن نافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وهو قول مالك، قال: هم أهل مكة وذي طوى وشبهها، وأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل قديد ومر الظهران وعسفان فعليهم دم، وذهب أبو حنيفة إلى أنهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة، وهو قول عطاء ومكحول، وهو قول الشافعي بالعراق، وقال الشافعي أيضًا وأحمد: من كان من الحرم على مسافة لا تقصر في مثلها الصلاة فهو من حاضري المسجد الحرام، واختلفوا أيضًا في التمتع لأهل مكة، فقال الشافعي ومالك وأحمد وداود: إن المكي لا يكره له التمتع ولا القران، وإن تمتع لم يلزمه دم، وقال أبو حنيفة: يكره له التمتع

ص: 249

والقران، وإن تمتع أو قرن فعليه دم جبرًا، وهما في حق الأفاقي مستحبان ويلزمه الدم شكرًا، وقال أبو عمر والحسن وطاوس: ليس لأهل مكة متعة، ذكره ابن المنذر، والله أعلم.

ص: وقد روى ابن عباس في ذلك عن النبي عليه السلام ما قد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور، وكانوا يسمون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفى الأثر، وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فقدم رسول الله عليه السلام وأصحابه صبيحة رابعة وهم ملبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، قالوا: يا رسول الله، أي حل نحل؟ قال: الحل كله".

فهذا ابن عباس رضي الله عنهما قد أخبر أن رسول الله عليه السلام إنما فسخ الحج إلى العمرة، ليُعَلِّمَ الناس خلاف ما كانوا يكرهون في الجاهلية، وليعلموا أن العمرة في أشهر الحج مباحة كهي في غير أشهر الحج.

ش: أي قد رُوي عن عبد الله بن عباس في إباحة التمتع بالعمرة إلى الحج الذي كرهه مخالفنا فإن ابن عباس رضي الله عنهما أخبر في حديثه أن رسول الله عليه السلام فسخ الحج إلى العمرة ليعلم الناس خلاف ما كانوا يكرهونه في الجاهلية، وفي هذا الباب خلاف قد ذكرناه.

وفيه أيضًا إباحة العمرة في أشهر الحج كما هي في غيرها، وهو معنى قوله:"كهي في غير أشهر الحج" أي كالعمرة في غير أشهر الحج، أي كما أنها مباحة في غير أشهر الحج، وإسناد الحديث صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، نا ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا، ويقولون: برأ الدبر، وعفى الأثر، وانسلخ

(1)"صحيح البخاري"(2/ 567 رقم 1489).

ص: 250

صفر؛ حلت العمرة لمن اعتمر، قدم النبي عليه السلام وأصحابه صبيحة رابعة مُهلِّين بالحج، وأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: الحل كله".

وأخرجه مسلم (1) أيضًا: حدثني محمد بن حاتم، قال: ثنا بهز، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض .. " إلي آخره نحو رواية البخاري.

وأخرجه أبو داود (2) والنسائي (3) أيضًا.

قوله: "كانوا" يعني الجاهلية، وذلك من تحكماتهم المبتدعة.

قوله: "أفجر الفجور" أي أعظم الذنوب، وفي رواية مسلم:"من الفجور"(4) وهو من فَجَرَ يَفْجُر فُجورًا، من باب نَصَر: ينصُرُ، والفاجر المنبعث في المعاصي والمحارم.

قوله: "وكانوا يسمون المحرم صفرًا" إخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه كانوا يسمون المحرم صفرًا ويحلونه وينسئون المحرّم أي يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرّمة فتضيق عليهم أمورهم في الإِغارة وغيرها فضللهم الله بذلك، فقال:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (5) الآية.

وقال القرطبي: يُحِلُّون من الأشهر الحرم ما احتاجوا إليه، ويحرمون مكان ذلك غيره.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 909 رقم 1240).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 204 رقم 1987).

(3)

"المجتبى"(5/ 180 رقم 2813).

(4)

لعله يقصد مسلم بن إبراهيم الفراهيدي شيخ البخاري، فهو الذي روى هذه اللفظة كما في "صحيح البخاري"(3/ 1393 رقم 36209).

(5)

سورة التوبة، آية:[37].

ص: 251

ثم اعلم أن قوله: "صفرا" قد وقع في رواية الطحاوي بلا ألف وكذا وقع في صحيح مسلم، ووقع في رواية البخاري "صفرًا" بالألف قيل هو الصحيح، وهو مصروف بلا خلاف.

قلت: وذكر في "المحكم": كان أبو عُبيدة لا يصرفه، فقيل له: لم لا تصرفه فإن النحويين قد أجمعوا على صرفه؟ وقالوا: لا يمنع الحرف من الصرف إلَّا علتان، فأَخَبَرْنَا بالعلتين فيه. فقال: نعم، العلتان: المعرفة والساعة، قال أبو عمر المطرزي: يرى أن الأزمنة كلها ساعات، والساعات مؤنثة.

وهذا الشهر الذي بعد المحرم، سمي صفرًا لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع، قاله في "المحكم".

وقيل: سمي بذلك لإِصفار مكة من أهلها إذا سافروا، ورُوي عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرًا؛ لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل، فيتركون من لقوا صِفْرًا من المتاع، وذلك أن صفرًا بعد المحرم فقالوا صَفِرَ الناس.

فإذا جمعوه مع المحرم قالوا: صفران، والجمع: أصفار.

وقال القزاز: ربما سموا الشهر صفرًا لأنهم كانوا يخلون البيوت فيه لخروجهم إلى بلاد يقال لها الصفرية.

وقيل: لأنهم كانوا يخرجون إلى الغارة فتبقى بيوتهم صفرًا، وفي العلم الشهور لا في الخطاب: العرب تقول: صفر وصفران. وصفارين وصفارير وأصفار. قال: وقيل أن العرب كانوا يجعلون في كل أربع سنين شهرًا يسمونه صفر الثاني، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا؛ كي يستقيم لهم الأزمان على موافقة أسمائها مع الشهور، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"السنة اثني عشر شهرًا" وكانوا يتطيرون به ويقولون: إن الأمور فيه متعلقة والآفات واقعة.

قوله "إذا برأ الدَّبر": الدَّبر بفتح الدال المهملة والباء الموحدة بعدها راء: يعني الجرح الذي يكون في ظهر الدابة، قال ابن سيدة: والجمع دَبُر وأدبار

ص: 252

ودُبِرَ دَبِرًا فهو دَبِر ودَابر والأتن دَبِرَةٌ ودَبْراء، وإبل دَبْراء وقد أَدْبَرَهَا الحمل، يريدون: أن الإِبل كانت تدبر بالسير عليها إلى الحج، قلت: بابه من باب عَلِمَ يَعْلَمُ، قال عياض هو أن تقرح خف البعير.

قوله: "وعفى الأثر" أي درس أثر الحاج في الطريق وانمحى بعد رجوعهم بوقوع الأمطار وغيرها بطول مرور الأيام، قال الخطابي: وعفى الأثر أي أثر الدبر المذكور، وفي رواية لأبي داود (1):"وعفى الوبر" يعني أثر وبر الإِبل الذي حلقه رحال الحاج، وعفى من الأضداد ويكون معناه بمعنى كثر قال: تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} (2): أي كثروا، وقال الخطابي في عفى الدبر: أي طَرَّ وكثر.

قوله: "صبيحة رابعة" أي ليلة رابعة.

قوله: "وهم ملبون بالحج" جملة حالية، وفيه دليل على أنهم كانوا مفردين بالحج، ومن فوائد هذا الحديث: استحباب الدخول في مكة نهارًا وكان ابن عمر يستحب دخولها نهارًا لذلك، وإليه ذهب عطاء والنخعي وابن راهويه وابن مندة والشافعي في أصح الوجهين.

وفي الوجه الآخر: دخولها ليلاً ونهارًا سواء، لا أفضلية لأحدهما على الآخر، وهو قول طاوس والثوري.

وعن عائشة رضي الله عنها: دخولها ليلاً أفضل من النهار، وإليه ذهب سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز.

ص: فإن قال قائل: فقد ثبت بهذا عن ابن عباس: أن إحرام رسول الله عليه السلام إنما كان بحجة مفردة، فقد خالف هذا ما رويتم عنه من تمتع رسول الله عليه السلام وقرانه.

قيل له: ما في هذا خلاف لذلك؛ لأنه قد يجوز أن يكون إحرامه أولاً كان بحجة حتى قدم مكة ففسخ ذلك بعمرة، ثم فلم تتضاد على أنها عمرة وقد عزم أن يحرم

(1)"سنن أبي داود"(2/ 204 رقم 1987).

(2)

سورة الأعراف، آية:[95].

ص: 253

بعدها بحجة فكان في ذلك متمتعًا، ثم لم يطف للعمرة حتى أحرم بالحجة فصار بذلك قارنًا، فهذه وجوه أحاديث ابن عباس قد صحت والتأمت على القران الذي كان قبله التمتع والإِفراد فلم تتضاد إلَّا أن في قوله:"لولا أني سقت الهدي لحللت كما حل أصحابي" دليلًا على أن سياقة الهدي قد كانت في وقت أحرم فيه بعمرة يريد بها التمتع إلى الحجة؛ لأنه لو لم يكن فعل ذلك لكان هديه تطوعًا، والتطوع في الهدي غير مانع من الإِحلال الذي يكون لو لم يكن الهدي، فدل ذلك على أن إحرام رسول الله عليه السلام كان أولاً بعمرة، ثم أتبعها حجة على السبيل الذي ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن حديث ابن عباس هذا يدل على أن النبي عليه السلام كان محرمًا مفردًا بالحج، وحديثه الآخر الذي مضى ذكره في هذا الباب يدل على أنه كان متمتعًا، وهو ما رواه ليث عن طاوس عنه قال: "تمتع رسول الله عليه السلام

" الحديث.

وحديثه الآخر الذي مضى أيضًا في هذا الباب يدل على أنه كان قارنًا، وهو ما رواه عكرمة عنه عن عمر قال:"سمعت النبي عليه السلام وهو بالعقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة" فهذه الآثار كما ترى متضادة يخالف بعضها بعضًا، وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم ذلك؛ لأن حالات الحاج ثلاث وهي: الإِفراد والتمتع والقران، وكان النبي عليه السلام متلبسًا بهذه الحالات كلها لأنه كان أولاً محرمًا بحجة فكان على ذلك حتى قدم مكة ففسخ ذلك بعمرة، ثم أقام على أنها عمرة وقد نوى أن يحرم بعدها بحجة، فكان في ذلك متمتعًا، ثم قبل أن يطوف للعمرة أحرم بالحجة فصار بذلك قارنًا، فصارت أحاديث ابن عباس صُرِفَ كل واحد منها إلى حالة من تلك الحالات التي تناسب ذلك، وكذلك الجواب في رواية كل من اضطربت الروايات عنه في صفه حج النبي عليه السلام فبذلك يرتفع التضاد، والله أعلم.

ص: 254

قوله: "إلَّا" أي في قوله "لولا أني سقت الهدي" استثناء من قوله: "قد يجوز أن يكون إحرامه أولا بحجة" بيانه أنه لو كان إحرامه بحجة لكان هديه الذي ساقه تطوعًا، فالهدي التطوع لا يمنع من الإِحلال الذي يحله الرجل، فقوله:"لولا أني سقت الهدي .. " إلى آخره. دليل على أن سوقه الهدي كان حين اعتمر بعمرة يريد بها التمتع إلى الحج، فلذلك لم يحل حين حل أصحابه، فثبت بذلك أن هديه لما كان منعه من الإِحلال وأوجب ثبوته على الإِحرام، إلى يوم النحر كان غير هدي التطوع، وأن إحرامه كان أولاً بعمرة ثم اتبعها حجة، فكان بذلك متمتعًا، ثم أحرم بحجة مفردة فصار بذلك قارنًا لها إلى عمرته المتقدمة كما ذكره هكذا فيما مضى عند حديث عائشة وعمران بن حصين رضي الله عنهما.

ص: ولما ثبت بما وصفنا إباحة العمرة في أشهر الحج، أردنا أن ننظر هل الهدي الواجب في القران لنقصان دخل العمرة أو الحجة إذا قرنتا أم لا؟ فرأينا ذلك الهدي يؤكل منه، وكذلك رسول الله عليه السلام فعله.

حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله في الحديث الطويل قال: "وكان علي رضي الله عنه قدم من اليمن يهدي رسول الله عليه السلام وكان جماعة الهدي الذي قدم به رسول الله عليه السلام وعلي من اليمن مائة بدنة فنحر رسول الله عليه السلام منها ثلاثاً وستين بيده ونحر علي رضي الله عنه سبعًا وثلاثين، فأشرك عليًّا في هديه، ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلت في قدر وطبخت، فأكل رسول الله عليه السلام وعلي رضي الله عنه من لحمها، وشربا من مرقها، فلما كان رسول الله عليه السلام قد ثبت عنه بما قد ذكرنا قبل هذا الفصل أنه قرن، وأنه كان عليه لذلك هدي، ثم أهدي هذه البدن التي ذكرنا، فكل من كل بدنة ما وصفنا، ثبت بذلك إباحة الأكل من هدي المتعة والقران، فلما كان ذلك الهدي مما يؤكل منه، اعتبرنا حكم الدماء الواجبة للنقصان هل هي كذلك أم لا، فرأينا الدم الواجب في قص الأظفار وحلق الشعر والجماع

ص: 255

وكل دم يجب لترك شيء من الحجة لا يؤكل [شيء من](1) ذلك فكان كل دم وجب لإِساءة أو نقصان لا يؤكل منه، وكان دم المتعة والقران يؤكل منهما، فثبت أنهما وجبا لمعنى خلاف الإِساءة والنقصان، فهذه حجة قاطعة على من كره القران والتمتع بالعمرة إلى الحج.

ش: أراد بقوله: "بما وصفنا" ما ذكره في حديث ابن عباس المذكور عن قريب الذي فيه إباحة العمرة في أشهر الحج، ثم بين أن دم المتعة والقران دم شكر لا دم نقصان؛ لأنا رأينا الدماء الواجبة عن الجنايات لا يؤكل منها شيء، ورأينا دم المتعة والقران يؤكل منه شيء، والدليل عليه حديث جابر رضي الله عنه فإنه يخبر أن رسول الله عليه السلام أكل من الذي ذبحه في قرانه، فدل أنه أنما وجب شكرًا ولم يجب جبرًا لنقصان أو لأجل إساءة، وفي هذا الباب خلاف بين السلف، فرُوي عن نافع عن ابن عمر قال: يؤكل من كل شيء إلَّا من جزاء الصيد أو النذر، وقاله علي، قال: ولا مما جعل للمساكين.

وقال الحسن: يؤكل من كل شيء إلَّا في جزاء الصيد.

وقال الأوزاعي: يؤكل من الهدي خمسة أنواع: النذر والمتعة والتطوع والوصية والمحصر، إلَّا الكفارات كلها.

وقال أبو حنيفة: لا يؤكل من شيء من الهدي إلَّا المتعة والقران والتطوع إذا بلغ محله، وقيل: يؤكل من كل ذلك إلَّا التطوع وجزء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين.

وعند الشافعي: لا يؤكل من دم المتعة والقران، وقد بينا ذلك في الفروع.

قوله: "وكذلك رسول الله عليه السلام فعله" أي فعل الأكل من دم المتعة والقران، ثم بين ذلك بقوله: حدثنا محمد بن خزيمة

إلى آخره وإسناده صحيح وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني روى له الجماعة،

(1) في "الأصل، ك": "من شيء"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 256

وجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أبو عبد الله المدني الصادق، وأبوه محمد بن علي الباقر، وهذا الحديث طويل وقد سقناه كله في أول الباب من رواية مسلم، والطحاوي أخرج بعضه أيضًا هناك عن ربيع، عن أسد، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر.

قوله: "ثلاثًا وستين بيده" وفي بعض الروايات "ثلاثاً وستين بدنة" وكل ذلك صواب، لكن المروي هو نحر النبي عليه السلام بيده وهو أصوب ها هنا -إن شاء الله- لقوله "ونحر علي سبعًا وثلاثين".

فإن قيل: ما الحكمة في أنه عليه السلام نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده واقتصر على هذا العدد؟

قلت: فكأنه عليه السلام أشار بذلك إلى منتهي عمره؛ لأنه عُمِّر ثلاثًا وستن سنة فيكون قد نحر عن كل سنة من عمره بدنة.

قوله "بضعة" بفتح الباء أي قطعة من لحمها قال القاضي: لما كان الأكل من جميع لحمها فيه كلفة، جمعه في قدر واحد فيكون تناوله من المرق كالأكل من الجميع، وقال ويحتج بهذا لقولنا: إنه من حلف ألَّا يأكل لحمًا فشرب مرقة، فإنه حانث؛ لحصول اللحم فيه، إلَّا أن يكون له مقصد ونيَّة.

قلت: الأيمان تبني على العرف، فلا يقال في العرف لمن شرب مرقة لحم: إنه أكل لحمًا، فحينئذ لا يحنث [من حلف](1) لا يأكل من هذا اللحم فشرب من مرقه والله أعلم.

ص: ثم الكلام بعد ذلك بين الذين جوزوا التمتع والقران في تفضيل بعضهم القران على التمتع وفي تفضيل الآخرين التمتع على القران، فنظرنا في ذلك فكان في القران تعجيل الإِحرام بالحج وفي التمتع تأخيره، وكان ما عجل من الإِحرام بالحج

(1) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها.

ص: 257

فهو أفضل وأتم لذلك الإِحرام، وقد روي عن علي رضي الله عنه في قول الله عز وجل:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) قال: "تمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك".

حدثنا بذلك ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمة، عن علي رضي الله عنه بذلك، فلما كان في القران يقدم الإِحرام بالحج على الوقت الذي يحرم به في التمتع كان القران أفضل من التمتع، وكل، ما ثبتنا وصححنا في هذا الباب قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي ثم الكلام بعد أن بينا أن دم المتعة والقران دم شكر لما وفق للجمع بين النسكين في سفر واحد بين الفريق الذين جوزوا التمتع والقران، وهم جمهور الفقهاء من التابعين ومن بعدهم منهم الأئمة الأربعة في تفضيل بعضهم القران على التمتع وهم الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وإسحاق والمزني من أصحاب الشافعي، وفي تفضيل الفريق الآخرين التمتع على القران وهم الحسن البصري وعطاء وسالم والقاسم وأحمد بن حنبل والشافعي في قول، فنظرنا في ذلك أي في وجه تفضيل هذه الأشياء بعضها على بعض، فكان في القران أي وجد تعجيل الإِحرام بالحج؛ لأن القارن يجمع بين العمرة والحج من الميقات في أول شروعه، وفي التمتع تأخيره أي تأخير الإِحرام بالحج؛ لأن المتمتع إنما يحرم بالحج يوم التروية من الحرم، وكان ما عجل من الإِحرام بالحج فهو أفضل، وأتم لذلك الإِحرام، والدليل عليه ما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1): "تمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك".

وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة -بكسر اللام- المرادي الكوفي من فقهاء الكوفة بعد الصحابة، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال أبو بكر الرازي في تفسير هذه الآية: ورُوي عن علي وعمر وسعيد بن جبير وطاوس أنهم قالوا: "إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك".

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 258

وقال الكاساني: وكذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

قوله: "فلما كان

" إلى آخره بيان نتيجة الكلام الذي قبله، وهو ظاهر قوله: "وكل ما ثتبنا" من التثبيت، ويجوز: "وكل ما بينا من التبين" والأول أكثر في النُّسَخِ والله أعلم.

***

ص: 259