الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: ما يستلم من الأركان في الطواف
ش: أي هذا باب في بيان ما ينبغي استلامه من الأركان في حالة الطواف. قال ابن سيده: استلم الحجر واستلأمه بالهمزة أي قبله واعتنقه، وليس أصله الهمزة، وعن الأزهري: الاستلام افتعال من السلام وهو التحية، وعن ابن قتيبة: هو افتعال من السِّلام -بكسر السين- وهي الحجارة، تقول: استلمت الحجر إذا لمسته، كما تقول: اكتحلت من الكحل، وقال القزاز: قيل: هو استفعل من اللأمة، وهي الدرع والسلاح وإنما تلبس اللأمة ليمتنع بها من الأعداء، فكأن هذا إذا لمس الحجر فقد تحصن من العذاب.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه قال:"كنا نستلم الأركان".
حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر مثله.
ش: هذان طريقان:
الأول: إسناده صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد اللَّه ابن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تَدرس المكي، عن جابر رضي الله عنه.
الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن وكيع
…
إلى آخره.
ويعارض هذا ما رواه ابن أبي شيبة (1): نا ابن نمير، عن حجاج، عن عطاء قال: "أدركت مشيختنا ابن عباس وجابرًا وأبا هريرة وعُبيد بن عمير لا يستلمون إلَّا الحجر الأسود والركن، لا يستلمون غيرهما من الأركان.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 366 رقم 14989).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن من طاف بالبيت فينبغي له أن يستلم أركانه كلها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: سويد بن غفلة وجابر بن زيد وعروة بن الزبير؛ فإنهم قالوا: السُنة أن يستلم الأركان كلها، واحتجوا في ذلك بالأثر المذكور، وقال أبو عمر: روي ذلك عن جابر بن عبد اللَّه ومعاوية بن أبي سفيان وأنس بن مالك وعبد اللَّه بن الزبير والحسن والحسين رضي الله عنهم، وهم كانوا يستلمون الأركان كلها.
وأخرج البيهقي (1): من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي الطفيل قال:"حج معاوية رضي الله عنه فجعل لا يأتي على ركن من أركان البيت إلَّا استلمه، فقال ابن عباس: إنما كان رسول اللَّه عليه السلام يستلم اليماني والحجر، فقال معاوية: ليس من أركانه مهجورًا"، ورواه أبو الشعثاء عن ابن عباس ومعاوية فزاد:"وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن"(2).
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا ينبغي أن يستلم من الأركان في الطواف غير الركنين اليمانيين.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا وعطاء والحسن والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي ومالكًا وأحمد؛ فإنهم قالوا: السُنة استلام الركنين اليمانيين لا غير، روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعمير بن عبيد وعمر بن الخطاب وابنه عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهم.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر:"من رسول اللَّه عليه السلام لم يكن يمر بهذين الركنين الأسود واليماني إلَّا استلهما في كل طواف ولا يستلم هذين الآخرين".
حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم
…
فذكر بإسناده مثله.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 76 رقم 9023).
(2)
وذكره البخاري تعليقًا (2/ 582).
حدثنا يزيد وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو الوليد الطيالسي (ح).
وحدثنا يزيد، قال: ثنا أبو صالح، قالا: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال:"لم أر رسول اللَّه عليه السلام مسح من البيت إلَّا الركنين اليمانيين".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال:"لم يكن رسول اللَّه عليه السلام يستلم من أركان البيت إلَّا الركن الأسود والذي يليه من نحو دار الجمحيين".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، عن الليث، عن ابن شهاب
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عُبيد بن جريج، أنه قال لعبد اللَّه بن عمر:"رأيتك لا تمس من الأركان إلَّا اليمانيين، فقال: رأيت رسول اللَّه عليه السلام لا يمس إلَّا اليمانيين".
ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد اللَّه بن عمر، وأخرجه من سبع طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن أبي رواد واسمه ميمون المكي وثقه يحيى القطان ويحيى بن معين، وعن أحمد: رجل صالح وكان مرضيًّا. استشهد به البخاري وروى له الأربعة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا الفضل بن دكين، نا ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول اللَّه عليه السلام كان يستلم الركنين اليماني والأسود كل [طوفة] (2) ولا يستلم الركنين الآخرين اللذين يليان الحجر".
(1)"مسند أحمد"(2/ 115 رقم 5965).
(2)
في "الأصل، ك": "طوافه"، والمثبت من "المسند".
وأخرجه أبو داود (1): نا مسدد، قال: نا يحيى، عن عبد العزيز بن أبي روَّاد، عن نافع، عن ابن عمر قال:"كان رسول اللَّه عليه السلام لا يدع الركن اليماني والحجر في كل طوفة، قال: وكان عبد اللَّه بن عمر يفعله".
الثاني: عن يزيد بن سنان، عن أبي عاصم الضحاك
…
إلى آخره نحوه.
الثالث: عن يزيد بن سنان وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن الليث بن سعد، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وأخرجه البخاري (2): نا أبو الوليد، نا ليث، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه قال:"لم أر النبي عليه السلام يستلم من البيت إلَّا الركنين اليمانيين".
وأخرجه أبو داود (3): أيضًا عن أبي الوليد الطيالسي نحوه.
وأخرجه مسلم (4) نحوه: عن يحيى بن يحيى، عن الليث بن سعد .. إلى آخره.
الرابع: عن يزيد بن سنان، عن أبي صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (5): عن قتيبة، عن الليث .. إلى آخره نحوه.
الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد اللَّه بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب
…
إلى آخره.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 176 رقم 1876).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 583 رقم 1531).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 175 رقم 1874).
(4)
"صحيح مسلم"(2/ 924 رقم 1267).
(5)
"المجتبى"(5/ 232 رقم 2949).
وأخرجه مسلم (1): حدثني أبو الطاهر وحرملة، قال أبو الطاهر: أنا عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال:"لم يكن رسول اللَّه عليه السلام يستلم من أركان البيت إلَّا الركن الأسود والذي يليه من نحو دور الجمحيين".
السادس: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن عبد اللَّه بن وهب، عن الليث، عن ابن شهاب الزهري
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا أحمد بن عمرو بن السرح المصري، عن عبد اللَّه بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه، قال:"لم يكن رسول اللَّه عليه السلام يستلم من أركان البيت إلَّا الركن الأسود والذي يليه من نحو دور الجمحيين".
وأخرجه النسائي (3) أيضًا نحوه.
السابع: عن يونس بن عبد الأعلى
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (4) مطولاً: ثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك
…
إلى آخره؛ ذكرناه في باب الإِهلال من أين ينبغي أن يكون، وفي كتاب الجنازة، في باب المشي على القبور بالنعال.
قوله: "لا يمس" أي لا يمسح إلَّا الركنين اليمانيين: الركن الأسود، والركن اليماني.
فإن قيل: قد اختلفت ألفاظ ابن عمر كما ترى، حيث قال في لفظ:"لم أر رسول اللَّه عليه السلام يمسح إلَّا الركنين، وفي لفظ: "إلَّا الحجر والركن اليماني"، وفي لفظ: "الركن الأسود والذي يليه".
(1)"صحيح مسلم"(2/ 924 رقم 1267).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 982 رقم 2946).
(3)
"المجتبى"(5/ 232 رقم 2951).
(4)
"صحيح مسلم"(2/ 844 رقم 1187).
قلت: كل هذا متفق عليه، لأن اليمانيين على أسّ البيت، والآخران ليسا بركنين صحيحين؛ لأن الحِجْر وراءهما، ألا ترى أن عبد اللَّه بن الزبير كان يستلم الأركان كلها؛ لأنه كان بني البيت على قواعده الأربع، فكانت أركانها كلها، ولو بنى الآن على ما بناه ابن الزبير لاستلمت كلها كما فعل ابن الزبير رضي الله عنهما.
ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا زهير بن عبَّاد، قال: ثنا عتَّاب بن بشير الجزري، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس:"أن معاوية بن أبي سفيان طاف بالبيت الحرام، فجعل يستلم الأركان كلها، فقال ابن عباس: لِمَ يستلم هذين الركنين ولم يكن رسول اللَّه يستلمهما؟! فقال معاوية: ليس من البيت شيء مهجور، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول اللَّه عليه السلام أسوة حسنة قال: صدقت".
فهذه الآثار كلها تخبر عن رسول اللَّه عليه السلام أنه لم يكن يستلم في طوافه غير الركنين اليمانيين، ومع هذه الآثار من التواتر ما ليس مع الأثر الأول.
ش: زهير بن عبَّاد الرؤاسي قال الدارقطني: مجهول. وليس كذلك؛ لأنه ابن عم وكيع بن الجراح كوفي نزل مصر، ووثقه أبو حاتم، وروى عنه، وعتاب بن بشير الجزري أبو سهل الحراني شيخ ابن راهويه، عن أحمد: أرجو ألَّا يكون به بأس، وعنه: أحاديث عتَّاب عن خصيف منكرة. وعن يحيى بن معين: ثقة. روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
وخصيف بن عبد الرحمن الجزري أبو عون الحراني مولى عثمان بن عفان فيه مقال؛ فعن أحمد: ليس بحجة ولا قوي في الحديث، وعنه: ضعيف الحديث، وعنه: ليس بذاك. وعن ابن معين: صالح. وعن أبي زرعة والعجلي: ثقة، روى له الأربعة.
وأخرجه البخاري (1): ثنا (2) محمد بن بكر، أنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن
(1)"صحيح البخاري"(2/ 582) باب من لم يستلم إلَّا الركنين اليمانيين.
(2)
كذا في "الأصل، ك"، والذي في "صحيح البخاري":"وقال" وهو معلق وليس مسندًا.
دينار، عن أبي الشعثاء أنه قال:"ومن يتقي شيئًا من البيت؟ فكان معاوية يستلم الأركان، فقال له ابن عباس: إنه لا يستلم (هذين الركنين) (1)، فقال: ليس شيء من البيت مهجورًا وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن".
وأخرج الشافعي في "مسنده"(2): ثنا سعيد، أنا موسى الربذي، عن محمد بن كعب:"أن ابن عباس كان يمسح على الركن اليماني والحجر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول: لا ينبغي لبيت اللَّه أن يكون شيءٌ منه مهجورًا، وكان ابن عباس يقول: لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة".
قوله: "ومع هذه الآثار" أراد بها أحاديث عبد اللَّه بن عمر وابن عباس.
"من التواتر" أي التكاثر والتظاهر، ولم يرد به التواتر المصطلح عليه.
وأراد "بالأثر الأول" حديث جابر بن عبد اللَّه الذي احتجت به أهل المقالة الأولى.
ص: فكان من الحجة عندنا -والله أعلم- لمن ذهب إلى هذه الآثار أيضًا، على من ذهب إلى ما خالفها: أن الركنين اليمانيين مبنيان على منتهى البيت مما [يليهما](3) والآخران ليسا كذلك؛ لأن الحِجْر وراءهما و [هو](4) من البيت، وقد أجمعوا أن ما بين الركنين اليمانيين لا يستلم؛ لأنه ليس بركن للبيت، فكان يجيء في النظر أن يكون كذلك الركنان الآخران لا يستلمان؛ لأنهما ليسا بركنين للبيت.
ش: أراد بالحجة الدليل من حيث النظر والقياس، لأهل المقالة الثانية، بيانه: أن ركن البيت إنما يستلم لكونه من منتهى البيت، وليس من أركان البيت على منتهى البيت إلَّا الركنان اليمانيان: الركن اليماني والركن الأسود، وأما الركنان الآخران فليسا كذلك؛ لأن الحِجْر وراءهما، وهما في نفس البيت وليسا على منتهى البيت، وقد أجمعوا على أن ما بين الركنين اليمانيين لا يستلم لكونه ليس بركن للبيت،
(1) هكذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح البخاري":"هذان الركنان".
(2)
"مسند الشافعي"(1/ 127).
(3)
في "الأصل، ك": "يليها"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(4)
في "الأصل، ك": "وهما"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
فالنظر والقياس على ذلك ألَّا يستلم الركنان الآخران؛ لأنهما ليسا بركنين للبيت، فلذلك استلم ابن الزبير جميع الأركان لأنه لما بناه على قواعد إبراهيم صارت الأركان كلها على منتهى البيت، ولو فرضنا أنه لو بني اليوم على ما بناه ابن الزبير كان ينبغي أن تستلم الأركان كلها، فأفهم.
قوله: "لأن الحِجْر" بكسر الحاء وسكون الجيم هو اسم للحائط المستدير إلى جنب الكعبة الغربي، ويسمي حجر إسماعيل عليه السلام، والحطيم أيضًا، وهو من البيت، ولهذا لا يجوز الطواف إلَّا من ظاهره، حتى إذا طاف من باطنه لا يعتد من الطواف، على ما يجيء الآن.
ص: وقد روي عن رسول اللَّه عليه السلام في الحِجْر أنه من البيت ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية، عن الأشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"سألت رسول اللَّه عليه السلام عن الحِجْر، فقال: هو من البيت، فقلت: ما منعهم أن يدخلوه فيه؟ قال: عجزت بهم النفقة".
حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو الأحوص، عن الأشعث، عن الأسود بن يزيد، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: "سألت رسول اللَّه عليه السلام عن الحِجْر: أمِنَ البيت هو؟ قال: نعم. قالت: ما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، فقلت: ما شأن بابه مرتفع؟ قال: فعل قومك ليدخلوا من شاءوا [ويمنعوا من شاءوا] (1)، ولولا أن قومك [حديثو] (2) عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم ذلك، لنظرت أن أُدْخلِ الحِجْر في البيت، وأن ألزق بابه بالأرض".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا سليم بن حيَّان، قال: ثنا سعيد ابن مينا، قال: ثنا عبد اللَّه بن الزبير، قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه عليه السلام
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
في "الأصل، ك": "حديث"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
قال: "لولا أن قومك [حديثو] (1) عهد بالجاهلية؛ لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين: بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وَلَزِدْتُ ستة أذرع من الحجر في البيت، إن قريشًا استقصرته لما بَنَت البيت".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد اللَّه بن أبي بكر السهمي، قال: ثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن أبي قزعة أن عبد الملك بن مروان [بينما هو يطوف بالبيت إذ قال قائل: عبد اللَّه بن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين] (2) يقول: سمعتها وهي تقول: "إن رسول اللَّه عليه السلام قال: يا عائشة، لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحِجْر. فقال الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة: لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تقوله، قال: وددت أني قد كنت سمعت هذا منك قبل أن أهدمه فتركته".
ش: ذكر حديث عائشة هذا دليلًا على كون الحِجْر من البيت.
وأخرجه من أربع طرق صحاح:
الأول: عن ربيع المؤذن
…
إلى أخره.
وأخرجه مسلم (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبيد اللَّه -يعني ابن موسى- قال: ثنا شيبان، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة رضي الله عنها[قالت] (4): "سألت رسول اللَّه عليه السلام
…
" إلى آخره.
قوله: "هو من البيت" أي الحِجْر من البيت، وإنما لم يُدْخِلُوه في البيت؛ لأنهم عجزوا عن النفقة، ولم يقدروا على إدخاله في البيت، وروي عن ابن الزبير أنه
(1) في "الأصل": "حديث" والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 973 رقم 1333).
(4)
في "الأصل، ك": "قال"، وهو خطأ.
قال (1): أخبرتني عائشة أن رسول اللَّه عليه السلام قال: "لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة؛ فإنهم تركوا منها سبعة أذرع في الحِجْر ضاقت بهم النفقة والخشب".
قوله: "ما منعهم" أي ما منع قريشًا أن يُدْخِلُوا الحِجْر في البيت حين بنوه، وكان بين بناء قرش البيت وبين ما أنزل على النبي عليه السلام الوحي خمس سنين، فيكون بنيانهم وعمر النبي عليه السلام خمسة وثلاثون سنة.
وروى عبد الرزاق (2)، عن ابن جريج، عن مجاهد قال:"كان -يعني البيت- عرشًا يقتحمه العَنْزُ، حتى إذا كان قبل مبعث النبي عليه السلام بَنَتْه قريش".
وذكر عبد الرزاق أيضًا (3): عن ابن جريج، عن عطاء وابن المسيب وغيرهما "أن اللَّه تعالى أوحى إلى آدم: إذا هبطت إلى الأرض أن ابْنِ لي بيتًا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء. قال عطاء: فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، ومن طور سيناء، ومن لبنان، ومن الجودي ومن طور زيتا وكان ربضه من حراء، فهذا بناء آدم، ثم بناه إبراهيم عليه السلام".
وروى (4) عبد المنعم بن إدريس، عن وهب بن منبه قال:"أول من بنى الكعبة من الطين والحجارة شيث عليه السلام وكانت هناك صخرة لآدم عليه السلام وضعها اللَّه عز وجل له من الجنة"، وعن عبد اللَّه بن عمرو قال (5): "لما أهبط اللَّه تعالى آدم من الجنة قال: إني مهبط معك -أو منزل معك- بيتًا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي، فلما كان زمن الطوفان رفع، فكانت الأنبياء عليهم السلام يحجونه ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه اللَّه لإبراهيم وأعلمه
(1)"صحيح ابن خزيمة"(4/ 337 رقم 3022).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(5/ 98 رقم 9103).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(5/ 92 رقم 9092).
(4)
انظر "تفسير ابن كثير"(1/ 231)، سورة البقرة، آية:[125].
(5)
عزاه المنذري في "الترغيب والترهيب"(2/ 180 رقم 1702) للطبراني في "الكبير" موقوفاً، وقال: رجال إسناده رجال الصحيح.
مكانه، فبناه من خمسة أجبل: حراء، وثبير، ولبنان، والطور، وجبل الخَمَر" قال أبو جعفر: هو جبل بالشام، وعن أبان:"أن البيت أهبط ياقوته أو درة واحدة"، وقال عطاء:"أنزل اللَّه ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلما كان الطوفان رفع اللَّه تلك الياقوتة حتى بعث اللَّه إبراهيم عليه السلام لبنائه"، وقال مجاهد:"كان موضع البيت على الماء قبل خلق السماوات والأرض مثل الزبدة البيضاء ومن تحته دُحِيَتْ الأرض". وقال أيضًا: "خلق اللَّه موضع البيت قبل أن يخلق شيئًا في الأرض بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة".
وقال كعب الأحبار: "كان البيت غثاء على الماء قبل أن تخلق الأرض بأربعين سنة" وفي كتاب الأزرقي: جعل إبراهيم عليه السلام طول بناء الكعبة في السماء تسعة أذرع وطولها في الأرض ثلاثين ذراعًا وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعًا، وكانت بغير سقف، ولما بنتها قريش جعلوا طولها ثماني عشرة ذراعًا في السماء، ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وشبرًا تركوها في الحجر، ولما بناها ابن الزبير رضي الله عنه جعل طولها في السماء سبعًا وعشرين ذراعًا، ولم يغير الحَجَّاج طولها حين هدمها وهو إلى الآن.
وفي "شرح المهذب": بَنَته الملائكة قبل آدم، وحجَّه آدم، وفي "الروض" أول من بناه شيث عليه السلام وكان قبل أن يبنيه خيمة من ياقوتة حمراء، وطوف بها آدم وتأنس بها؛ لأنها أنزلت من الجنة.
وقيل: إنه بُني في أيام جرهم مرةً أو مرتين؛ لأن السيل كان قد صدع حائطه.
وقيل: لم يكن بنيانًا إنما كان إصلاحًا لما وهن منه، وبنى عامر بن الجادر جدارًا بينه وبين السيل.
الطريق الثاني: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن الربيع بن سليمان الكوفي شيخ الجماعة غير الترمذي، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن الأشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد.
وأخرجه البخاري (1): ثنا مسدد، نا أبو الأحوص، نا الأشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: "سألت النبي عليه السلام عن الجدار، أَمِنَ البيت
…
" إلى آخره نحوه.
وأخرجه مسلم (2): عن سعيد بن منصور، عن أبي الأحوص، عن الأشعث
…
إلى آخره نحوه.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الحِجْر من البيت؛ ولهذا أجمع العلماء على أن الطواف من ورائه، وإنما اختلفوا فيمن صلى فيه هل يجوز أم لا؟
ومنها ترك بعض الأمور التي يستصوب عملها إذا خيف تولد ما هو أضرّ من تركه واستئلاف الناس على الإِيمان وتسهيل الأمور عليهم.
الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن سَليم -بفتح السين وكسر اللام- ابن حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- الهذلي البصري، عن سعيد بن مينا -بكسر الميم وبالمد والقصر- المكي، عن عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما.
وأخرجه مسلم (3): حدثني محمد بن حاتم، قال: حدثني ابن مهدي، قال: ثنا سليم بن حيَّان، عن سعيد -يعني ابن مينا- قال: سمعت عبد اللَّه بن الزبير يقول: حدثتني خالتي -يعني عائشة رضي الله عنها قالت: "قال النبي عليه السلام: يا عائشة، لولا أن قومك [حديثو] (4) عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابا شرقيًّا وبابا غربيًّا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة".
(1)"صحيج البخاري"(2/ 573 رقم 1507).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 973 رقم 1333).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 969 رقم 1333).
(4)
في "الأصل، ك": "حديث"، والمثبت من "صحيح مسلم".
الرابع: عن أبي بكرة أيضًا، عن عبد اللَّه بن بكر السهمي شيخ أحمد، روى له الجماعة، عن حاتم بن أبي صغيرة هو حاتم بن مسلم بن يونس القشيري، وأبو صغيرة أبو أمه وقيل: زوج أمه، روى له الجماعة، عن أبي قزعة سويد بن حجير الباهلي، روى له الجماعة سوى البخاري.
وأخرجه مسلم (1): حدثني [محمد بن](2) حاتم، قال: نا عبد اللَّه بن بكر السهمي، قال: نا حاتم بن أبي صغيرة، عن أبي قزعة
…
إلى آخره نحوه.
والحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة -واسمه عمرو- بن المغيرة المخزومي القرشي المكي المعروف بالقباع، وكان استعمله عبد اللَّه بن الزبير على البصرة، روى له مسلم، والنسائي ولم يسمه، وأبو داود في "المراسيل".
قوله: "قاتل اللَّه" أي قتله، وقيل: لعنه، وقيل: عاداه، وقد ترد هذه اللفظة ولا يراد بها وقوع الأمر، ومنه حديث عمر رضي الله عنه:"قاتل اللَّه سَمُرة"(3). والظاهر أن قول عبد اللَّه بن مروان من هذا القبيل.
قوله: "لولا حدثان قومك" حِدْثان الشيء -بكسر الحاء وسكون الدال- أوله، وهو مصدر حَدَثَ يَحْدُثُ حدوثًا وحِدْثانًا، والمراد به قرب عهدهم بالكفر والخروج منه والدخول في الإِسلام، وأنه لم يتمكن الدين في قلوبهم، فلو هدمت الكعبة وغيرتها ربما نفروا من ذلك.
ص: فلما ثبت أن الحِجْر من البيت، وأن الركنين اللذين يليانه ليسا بركنين للبيت؛ ثبت أنهما كما بين الركنين اليمانيين لا يستلم، فكذلك هذان أيضًا -في النظر- لا يستلمان.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 972 رقم 1333).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".
(3)
أخرجه مسلم في "صحيحه"(3/ 1207 رقم 1582)، وهو عند البخاري في "صحيحه" (3/ 1275 رقم 3273) بلفظ:"قاتل اللَّه فلانًا".
ش: أي فلما ثبت أن الحِجْر -بكسر الحاء وسكون الجيم- من نفس البيت بالأحاديث المذكورة، وثبت أن الركنين اللذين يليان الحِجْر ليسا بركنين؛ لأنهما في وسط البيت وليسا بمنتهاه، وثبت [أنهما](1) "يستلمان كما لا يستلم ما بين الركنين، على ما يقتضيه النظر والقياس.
ص: وقد استدل عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما بما استدللنا به من هذا في ترك رسول اللَّه عليه السلام استلام ذينك الركنين.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه أن عبد اللَّه بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أخبر عبد اللَّه بن عمر، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام قال: "ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، أفلا تردها على قواعد إبراهيم عليه السلام؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر.
قال: فقال عبد اللَّه بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت ذلك من رسول اللَّه عليه السلام ما أرى رسول اللَّه عليه السلام ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلَّا أن البيت لم يتمَّم على قواعد إبراهيم عليه السلام".
فثبت بهذه الآثار ما ذكرنا، وأنه لا ينبغي أن يستلم من أركان البيت إلَّا الركنين اليمانيين، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: ذكر هذا شاهدًا لاستدلاله لترك استلام الركنين اللذين يليان الحِجْر وتأييدًا له؛ وذلك لأن ابن عمر أخبر في حديثه أنه عليه السلام إنما ترك استلام هذين الركنين لكون البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم، كما قلنا إنهم لما قصرت بهم النفقة اقتصروا على ما هو عليه الآن، وبقي الحجر الذي هو من نفس البيت خارج البيت، حتى لو بني البيت على قواعد إبراهيم عليه السلام لكان ينبغي أن تستلم الأركان كلها؛ لأن كلها حينئذٍ تصير على منتهى البيت .. ثم رجال الحديث المذكور كلهم رجال الصحيح.
(1) في "الأصل، ك": "أن".
وأخرجه البخاري (1): عن عبد اللَّه بن مسلمة، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
والنسائي (3): عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك نحوه.
قوله: "ألم تري [أن] (4) قومك" أراد بهم قريشًا؛ لبنيانهم الكعبة، قال اللَّه تعالى:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} (5) قال المفسرون: يعني قريشًا.
قوله: "على قواعد إبراهيم عليه السلام" جمع قاعدة، وهي الأساس.
قوله: "لئن سمعت عائشة بذلك" ليس على طريق التضعيف والتشكيك في روايتها، فقد كانت من الحفظ والضبط بحيث لا تستراب فيما تنقله، لكن كثيرًا ما يأتي في كلام العرب صور التقرير والتشكيك، والمراد به اليقين كقوله تعالى:{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (6)، وقوله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي
…
} (7) الآية.
…
(1)"صحيح البخاري"(2/ 573 رقم 1506).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 969 رقم 1333).
(3)
"المجتبى"(5/ 214 رقم 2900).
(4)
ليست في "الأصل، ك"، وهي مثبتة في متن الحديث.
(5)
سورة الأنعام، آية:[66].
(6)
سورة الأنبياء، آية:[111].
(7)
سورة سبأ، آية:[50].