المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: حكم الوقوف بمزدلفة - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٩

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: حكم الوقوف بمزدلفة

‌ص: باب: حكم الوقوف بمزدلفة

ش: أي هذا باب في بيان حكم الوقوف بمزدلفة، هل هو واجب أم سُنَّة؟

والمزدلفة على وزن منفْتَعِلَة بكسر اللام من الازدلاف وهو الاجتماع، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها، وقيل: لاقتراب الناس فيها من منى، والازدلاف: الاقتراب، وقيل: للنزول بها بالليل في زلفة منه، وقال الكلبي: سميت بذلك لأن الناس يدفعون منها زلفة جميعًا، يزدلفون منها إلى موضع آخر، وحدّ المزدلفة ما بين مأزمي عرفة وقرن محسر يمينًا وشمالًا من الشعاب والجبال، وقال أبو علي: آخر مزدلفة محسر، وأول منى بطن محسر.

قلت: المأزم: المضيق من الجبال حيث يلتقي بعضها ببعض، ويتسع ما ورآءه، والميم زائدة وكأنه من الأزم وهو القوة والشدة.

والمزدلفة لها اسمان آخران: جمع، والمشعر الحرام، وعن ابن عمر رضي الله عنهما:"المشعر الحرام هو المزدلفة كلها"(1)؛ وسمي جمعًا لأن آدم وحواء صلوات الله عليهما وسلامه اجتمعا بها.

والمشعر الحرام بفتح الميم، وقيل: إن أكثر العرب تقول: بكسر الميم، وقال القتبي: لم يقرأ به أحد، وذكر الهذلي أن أبا السمال أقرأه بالكسر، قال الأزهري: سمي مشعرًا لأنه معلم للعبادة، وقال الكرماني: الأصح أن المشعر الحرام هي المزدلفة لا غير المزدلفة.

قلت: كلامه يشعر أن ثمة من يقول أن المشعر الحرام غير المزدلفة.

وفي "المطالع": مزدلفة هي المشعر الحرام وتفتح ميم المشعر وتكسر أيضًا في اللغة لا في الرواية. انتهى.

(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 343 رقم 14758) نحوه.

ص: 496

وعن قطرب: قالوا: مَشْعَر بفتح الميم والعين، ومِشْعَر بكسر الميم وفتح العين، ومَشعِر بالعكس ثلاث لغات.

وأما مُحَسّر فهو بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملة، وهو وادي بجمع، وهو بين يدي موقف المزدلفة مما يلي منى وهو مسيل قدر رمية بحجر من المزدلفة ومنى. ذكره أبو عُبيد.

وقال الطبري: مُحسّر اسم فاعل من حَسَّر بتشديد السين سمي بذلك؛ لأن قيل أصحاب الفيل حُسِّر فيه أي أعيى وذل عن السير.

قلت: هذا لا يصح؛ لأن الفيل لم يدخل الحرم؛ وقيل: لأنه يحسّر سالكيه ويتعبهم؛ ويسمى وادي النار لأن رجلاً اصطاد فيه فنزلت نارٌ فأحرقته، واستحب الإِسراع فيه لأنه كان موقفًا للنصارى، فاستحب رسول الله عليه السلام الإِسراع فيه.

قلت: أبو السمال بفتح السين المهملة وتشديد الميم وفي آخره لام- العدوي واسمه قعنب، روى عنه أبو زيد النحوي حروفًا في القراءات.

ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس، قال:"أتيت النبي عليه السلام بجمع، فقلت: يا رسول الله، هل لي من حج وقد أنضيت راحلتي؟ فقال: من صلى معنا هذه الصلاة وقد وقف معنا قبل ذلك [و] (1) أفاض من عرفة ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي السفر وإسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي وزكرياء، عن الشعبي وداود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا حامد بن يحيى قال: ثنا سفيان، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، وابن أبي هند، عن الشعبي، وزكرياء عن

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 497

الشعبي، قال: سمعت عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي يقول: "أتيت رسول الله عليه السلام بمزدلفة، فقلت: يا رسول الله جئت من جبلي طيء، ووالله ما جئت حتى أتعبت نفسي وأنضيت راحلتي، وما تركت حبلًا رملًا من هذه الحبال إلَاّ وقد وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله عليه السلام: مَنْ شهد معنا هذه الصلاة صلاة الفجر بالمزدلفة وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه".

قال سفيان، وزاد زكرياء فيه -وكان أحفظ الثلاثة لهذا الحديث- قال:"قلت: يا رسول الله، أتيت هذه الساعة من جبلي طيء، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي فهل لي من حج؟ فقال: مَن شهد معنا هذه الصلاة، ووقف معنا حتى نفيض، وقد كان وقف قبل ذلك بعرفة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه".

قال سفيان: وزاد داود بن أبي هند: "قال: أتيت رسول الله عليه السلام حين برق الفجر

" ثم ذكر الحديث.

ش: هله ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي أيضًا، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، روى له الجماعة.

عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز أو سعد البجلي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة.

عن عامر الشعبي روى له الجماعة.

عن عروة بن مُضرِّس -بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة وفي آخره سين مهملة- بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي الصحابي، شهد مع النبي عليه السلام حجة الوداع، قال ابن المديني: لم يرو عنه غير الشعبي.

وأخرجه الأئمة الأربعة على ما نذكره.

ص: 498

وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس الطائي:"أنه حج على عهد النبي عليه السلام فلم يدرك الناس إلَاّ وهم بجمع، قال: فأتيت النبي عليه السلام، فقلت: يا رسول الله، أتعبت نفسي وأنضيت راحلتي، والله ما نزلت حبلاً من الحبال إلَاّ وقد وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله عليه السلام: من صلى معنا هذه الصلاة وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلاً أو نهارًا، فقد قضى تفثه وتم حجه".

الثاني: عن ابن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي السفر -بفتح السين المهملة وفتح الفاء- واسمه سعيد بن محمد الثوري الكوفي، روى له الجماعة، وعن إسماعيل بن أبي خالد، كلاهما عن عامر الشعبي، عن عروة بن مضرس، وعن زكرياء بن أبي زائدة ميمون الكوفي -أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن الشعبي، وعن داود بن أبي هند عن الشعبي.

والحاصل أن شعبة روى هذا الحديث عن هؤلاء الأربعة: عبد الله بن أبي السفر، وإسماعيل بن أبي خالد، وزكرياء بن أبي زائدة، وداود بن أبي هند، وهؤلاء الأربعة قد رووه عن الشعبي، عن عروة بن مضرس.

أما رواية عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي فقد أخرجها النسائي (2): أنا إسماعيل ابن مسعود، نا خالد، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، قال: سمعت الشعبي يقول: حدثني عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأم قال: "أتيت النبي عليه السلام بجمع؛ فقلت: هل لي من حج؟ فقال: من صل هذه الصلاة معنا، ووقف هذا الموقف حتى نفيض، وأفاض قبل ذلك من عرفات ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجه وقضى تفثه".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 226 رقم 13682).

(2)

"المجتبى"(5/ 264 رقم 3042).

ص: 499

وأما رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي فقد أخرجها الطحاوي كما ذكر، وابن أبي شيبة (1) أيضًا.

وأما رواية زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي فقد أخرجها الترمذي (2): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند وإسماعيل بن أبي خالد وزكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس ابن أوس بن حارثة بن لأم الطائي قال:"أتيت رسول الله عليه السلام بالمزدلفة، حتى خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله، ما تركت من حبل إلَاّ وقفت عليه، هل لي من حج؟ فقال رسول الله عليه السلام: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجة وقضي تفثه".

وأما رواية داود بن أبي هند عن الشعبي فقد أخرجها الطبراني في "الكبير"(3): نا زكرياء بن يحيى الساجي، ثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس قال:" [رأيت] (4) رسول الله عليه السلام واقفًا بالمزدلفة، فقال: من صلى صلاتنا هذه، ثم أفاض معنا، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجه".

الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن حامد بن يحيى بن هانىء البلخي نزيل طرسوس وشيخ أبي داود عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر الشعبي.

ورواه سفيان بن عيينة أيضًا عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، وعن زكرياء بن أبي زائدة عن الشعبي.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 226 رقم 13682).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 238 رقم 891).

(3)

"المعجم الكبير"(17/ 151 رقم 382).

(4)

في "الأصل، ك": "أتيت"، والمثبت من "المعجم الكبير" للطبراني.

ص: 500

والحاصل أن ابن عيينة روى هذا الحديث عن هؤلاء الثلاثة، وهؤلاء الثلاثة عن الشعبي.

وأخرجه الترمذي (1) نحوه، وقد ذكرنا آنفًا.

قوله: "وابن أبي هندٍ" بالرفع عطف على قوله: "إسماعيل بن أبي خالد"، وكذلك قوله:"وزكرياء" بالرفع عطف عليه.

والحديث أخرجه أبو داود (2) أيضًا: عن مسدد، قال: نا يحيى، عن إسماعيل، قال: نا عامر، قال: أنا عروة بن مضرس الطائي، قال:"أتيت النبي عليه السلام بالموقف -يعني بجمع- فقلت: يا رسول الله، جئت من جبلي طيّ، أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلَاّ وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله عليه السلام: من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه".

وأخرجه ابن ماجه (3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن إسماعيل، عن عامر الشعبي

إلى آخره نحوه.

ولما أخرجه الترمذي (4) قال: هذا حديث حسن صحيح.

ويقال: إن الشيخين لم يخرجاه؛ لأنه ليس على شرطهما؛ لأن عروة بن مضرس لم يرو عنه غير الشعبي كما قاله ابن المديني.

قلت: فيه نظر، فقد قال ابن الأثير: روى عنه ابنه أبو بكر والشعبي.

وقد قال الحكم (5): وقد أمسك عن إخراجه الشيخان محمد بن إسماعيل ومسلم

(1)"جامع الترمذي"(3/ 238 رقم 891).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 196 رقم 1950).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1004 رقم 3016).

(4)

"جامع الترمذي"(3/ 238 رقم 891).

(5)

"مستدرك الحاكم"(1/ 364 رقم 1701).

ص: 501

ابن الحجاج عل أصلهما أن عروة بن مضرس لم يحدث عنه غير عامر الشعبي، وقد وجدنا عروة بن الزبير بن العوام، حدث عنه، حدثنا عبد الصمد بن علي بن مكرم البزار ببغداد، ثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن أحمد بن حسان التستري بتستر، ثنا عبد الوهاب بن فليح المكي، ثنا يوسف بن خالد السمتي البصري، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عروة بن مضرس الطائي قال:"جئت رسول الله عليه السلام وهو بالموقف، فقلت: يا رسول الله، أتيت من جبل طيء، أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما بقي حبل من تلك الحبال إلَاّ وقفت عليه، فقال: من أدرك معنا هذه الصلاة -يعني: صلاة الغداة- وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه".

قوله: "بجمع". في محل النصب على الحال، والباء فيه ظرفية، أي أتيت النبي عليه السلام والحال أنه في جمع أي في المزدلفة.

قوله: "أنضيت راحلتي". أي أهزلتها، يقال: أنضى بعيره وينضيها إنضاء إذا أهزلها وجعلها نضوًا، والنضو: الدابة التي أهزلتها الأسفار وأذهبت لحمها، ومادة هذه الكلمة نون وضاد معجمة وواو، ويجوز فيه: أنضبت من النضب وهو التعب، ولكن لا أدري هل هي رواية أم لا؟

قوله: "أكللت راحلتلي" أي أتعبتها وأعييتها، من الإِكلال، من كَلَّ يَكِلُّ كلالاً، يقال: كل السيف فهو كلل إذا لم يقطع.

قوله: "حبلًا". بالحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وهو المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه، وجمعه: حبال، وقيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل.

قوله: "رملًا". بالنصب تصير لقوله: "حبلًا".

قوله: "من جبلي طيء". وهما أجأ وسلمى.

قوله: "حين برق الفجر". أي: أضاء وانتشر نوره.

ص: 502

قوله: "من صلى معنا هذه الصلاة". أراد بها صلاة الغداة بالمزدلفة.

قوله: "وقد وقف معنا". جملة حالية، أي: والحال أنه قد وقف معنا بعرفات قبل ذلك.

قوله: "أفاض قبل ذلك". جملة حالية أيضًا بتقدير "قد" كما في قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (1) أي قد حصرت، والتقدير: قد أفاض قبل وقوفه بالمزدلفة من عرفة ليلاً أو نهارًا.

قوله: "وقضى تفثه". قال الترمذي: يعني نسكه، والتفث بالتاء المثناة من فوق والفاء المفتوحتين، والثاء المثلثة ما يفعله المحرم بالحج إذا حل كقص الشارب والأظفار ونتف الإِبط وحلق العانة، وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن والوسخ مطلقًا. ويستفاد منه أحكام:

فرضية الوقوف بعرفة؛ لأنه علق تمام الحج [بالوقوف](2) بها وجواز الوقوف بها ليلاً ونهارًا؛ لأن وقته من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر.

ووجوب الوقوف بالمزدلفة على ما يأتي بيان الخلاف فيه إن شاء الله تعالى.

واستدلت به الظاهرية على أن صلاة الغداة بالمزدلفة مع الإِمام من فروض الحج كالوقوف بعرفة.

وقال ابن حزم في "المحلى": ومن لم يدرك مع الإِمام بمزدلفة صلاة الغداة فقد بطل حجه إن كان رجلاً، ثم استدل عل ذلك بحديث عروة بن مضرس هذا.

قلنا: ظاهر الحديث متروك بالإِجماع، ألا ترى أنهم أجمعوا على أن من وقف بالمزدلفة ليلاً إذا دفع منها قبل الصبح أن حجه تام؟ فلو كان حضور الصلاة مع الإِمام فرضًا من فرائض الحج ما أجزأه، فلم يبق إلَاّ أنه من سنن الحج.

(1) سورة النساء، آية:[90].

(2)

"في الأصل، ك": "بالوقف".

ص: 503

وأجمعوا أيضًا أن قوله: "نهارًا" أن الوقوف بالنهار لا يضره إن فاته؛ لأن السائل يعلم أنه إذا وقف بالنهار فقد أدرك الوقوف بالليل، فأعلمه عليه السلام أنه إذا وقف بالليل وقد فاته الوقوف بالنهار أن ذلك لا يضره، لا أنه أراد بهذا القول أن يقف بالنهار دون الليل، وقال أبو الفتح: معناه: ليلاً، أو نهارًا وليلاً، فسكت عن أن يقول: وليلًا لعلمه بما قدم من فعله، فكأنه أراد بذكر النهار إيصال الليل، قال: ويحتمل أن تكون "أو" بمعنى "الواو"، فكأنه قال: ليلاً ونهارًا.

قلت: فيه نظر؛ لأن "أو" لو كان بمعنى "الواو" لكان الوقوف واجبًا ليلاً ونهارًا لم يغن أحدهما عن صاحبه وهذا لا يقوله أحد، وجماعة العلماء يقولون: من وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا بعد الزوال من يوم عرفة أجزأه إلَاّ مالك بن أنس فإنه انفرد بقوله: لا بد من الوقوف بجزء من الليل مع النهار، حتى قال مالك: مَن دفع من عرفة قبل الغروب فعليه الحج قابلا [إلا](1) أن يعود إليها قبل الفجر، فإن عاد فلا دم عليه.

وقال سائر العلماء: من وقف بعرفة بعد الزوال فحجه تام وإن دفع قبل الغروب.

وقال الشافعي: فإن عاد حتى يدفع بعد مغيب الشمس فلا شيء عليه وإن لم يرجع حتى طلع الفجر أجزأه وأهراق دمًا.

وقاله أحمد وإسحاق والطبريّ وداود وعامة العلماء إلَاّ الحسن البصري وابن جريج قالا: لا يجزئه إلَاّ بدنة، وقال الثوري وأبو حنيفة: إذا أفاض من عرفة قبل الغروب أجزأه وعليه دم، وإن رجع بعد الغروب لم يسقط عنه الدم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الوقوف بالمزدلفة فرض لا يجوز الحج إلَاّ بإصابته، واحتجوا في ذلك بقوله الله عز وجل:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (2) وبهذا الحديث الذي رويناه، وقالوا:

(1) في "الأصل، ك": "إلى"، وهو خطأ.

(2)

سورة البقرة، آية:[198].

ص: 504

ذكر الله عز وجل في كتابه المشعر الحرام كما ذكر عرفات وذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، فحكمهما واحد، لا يجزىء الحج إلَاّ بإصابتهما.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: علقمة والشعبي والنخعي والحسن البصري والأوزاعي وحماد بن أبي سليمان؛ فإنهم قالوا: الوقوف بالمزدلفة فرض كالوقوف بعرفة، وإليه ذهب ابن بنت الشافعي وابن خزيمة الشافعي، وأبو عُبيد القاسم بن سلام، وهو مذهب الظاهرية أيضًا.

قوله: "واحتجوا في ذلك". أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه من فرضية الوقوف بمزدلفة بالكتاب والسُنَّة، أما الكتاب فقوله تعالى:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (1)، وقالوا: ذكر الله عز وجل المشعر الحرام كما ذكر عرفات، فيصير الوقوف به فرضًا كالوقوف بعرفة.

وأما السُنَّة فهي حديث عروة بن مضرس المذكور.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما الوقوف بعرفة فهو من صلب الحج الذي لا يجزي الحج إلَاّ بإصابته، وأما الوقوف بمزدلفة فليس كذلك.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الزهري وقتادة ومجاهدًا والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور، فإنهم قالوا: الوقوف بمزدلفة ليس كالوقوف بعرفة من صلب الحج الذي لا يجري الحج أصلاً إلَاّ به. وأما الوقوف بمزدلفة فهو من سنن الحج المؤكدة لا من فروضها.

ثم تفصيل أقوالهم: أن مالكًا قال: من لم ينزل بها وتقدم إلى منى فعليه دم، وإن نزل بها في أول الليل أو آخره وترك الوقوف مع الإِمام فلا شيء عليه.

وقال نحوه الزهري والثوري وأحمد وإسحاق: إذا لم يقف بها ولم ينزل بها.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن لم يقف بها ولم يمر بها ولم يبت فيها فعليه دم، وكذلك إن بات بها وتعجل من غير عذر ليلاً ولم يرجع حتى يقف مع

(1) سورة البقرة، آية:[198].

ص: 505

الإِمام أو يصبح بها فعليه دم، وإن كان مريضًا أو ضعيفًا أو صغيرًا فتقدموا ليلاً فلا شيء عليهم.

وقال الشافعي: إن نزل بها وخرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن خرج قبل نصف الليل ولم يعد إليها ليقف مع الإِمام ويصبح فعليه شاة.

ويقال عن الشافعي قولان:

في قول: المبيت بالمزدلفة واجب.

وفي قول: سنة.

وهو قول مالك، وعن مالك: النزول بها واجب والمبيت بها سُنَّة، وكذا الوقوف مع الإِمام سُنة.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن قول الله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (1) ليس فيه دليل على أن ذلك على الوجوب؛ لأن الله عز وجل إنما ذكر الذكر ولم يذكر الوقوف، وكلٌّ قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله عز وجل إن حجة تام، فإن كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج فالموطن الذي يكون ذلك الذكر فيه الذي لم يذكر في الكتاب أحرى ألَّا يكون فرضًا، وقد ذكر الله عز وجل إشياء في كتابه في الحج لم يرد بذكرها إيجابها حتى لا يجزىء الحج إلَاّ بإصابتها في قول أحد من المسلمين، من ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (2). وكلّ قد أجمع أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد قد تم وعليه دم؛ مكان ترك من ذلك، فكذلك ذكر الله عز وجل المشعر الحرام في كتابه ليس في ذلك دليل على إيجابه حتى لا يجزىء الحج إلا بإصابته.

(1) سورة البقرة، آية:[198].

(2)

سورة البقرة، آية:[158].

ص: 506

وأما [ما](1) في حديث عروة بن مضرس فليس فيه دليل أيضًا على ما ذكروا؛ لأن رسول الله عليه السلام إنما قال فيه: "من صلى معنا صلاتنا هذه وقد كان أتى عرفة قبل ذلك من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه" فذكر الصلاة وكلٌّ قد أجمع أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإِمام حتى فاتته أن حجه تام، فلما كان حضور الصلاة مع الإِمام المذكور في هذا الحديث ليس من صلب الحج الذي لا يجزيء الحج إلَاّ بإصابته كان الموطن الذي تكون فيه تلك الصلاة الذي لم يذكر في الحديث أحرى ألَّا يكون كذلك، فلم يتحقق بهذا الحديث ذكر الفرض إلا بعرفه خاصة.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين وأراد به الجواب عما قال أهل المقالة الأولى من فرضية الوقوف بالمزدلفة مستدلين بالكتاب وحديث عروة بن مضرس.

أما الجواب عن استدلالهم بالكتاب فهو قوله -أي قول الله عز وجل

إلى آخره، وهو ظاهر ونوقش في قوله:"وكلٌ قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله عز وجل أن حجه تام" فإن الظاهرية أوجبوا صلاة الغداة مع الإِمام في المزدلفة، فلا يتم حجهم إلَاّ بها، ولا شك أن الصلاة ذكر الله تعالى.

والجواب أن خلافهم لا يعتبر به، فلا يكون قادحًا للإِجماع، وكذلك نوقش في قوله:"وكلٌ قد أجمع أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد تم" بأنه ليس كذلك؛ لأنه روي عن عائشة رضي الله عنها فرضية الطواف بين الصفا والمروة، وقالت في هذه الآية: إنما نزلت في أناس كانوا لا يطوفون بينهما، فلما كان الإِسلام طاف رسول الله عليه السلام.

وأجيب عن ذلك بأن مراد عائشة رضي الله عنها من ذلك هو فرضية الطواف بين الصفا والمروة في العمرة دون الحج؛ وذلك لأن العمرة عبارة عن الطواف بالبيت والطواف بين الصفا والمروة، بخلاف الحج فإنه عبارة عن الوقوف بعرفة وطواف الزيارة بشرط الإِحرام مع التلبية.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 507

قوله: "وكذلك ذكر الله عز وجل المشعر الحرام

إلى آخره"، أراد أن ذكر الله عز وجل المشعر الحرام لا يستلزم وجوب الذكر عند الجميع، فإذا لم يكن الذكر المذكور في الآية فرضًا، فالوقوف فيه الذي ليس بمذكور أولى وأحرى ألَّا يكون فرضًا.

ومن الناس من يقول: إن هذا الذكر هو صلاة المغرب والعشاء اللتين يجمع بينهما بالمزدلفة، والذكر الثاني في قوله:{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (1) هو الذكر المفعول عند الوقوف بالمزدلفة غداة جمع، فيكون الذكر الأول غير الثاني، والصلاة تسمى ذكرًا، قال عليه السلام (2): "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، وتلا عند ذلك قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (3) فسمى الصلاة ذكرًا، فعلى هذا اقتضت الآية تأخير صلاة المغرب إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة.

وأما الجواب عن استدلالهم بحديث عروة بن مضرس فهو قوله: "وأما في حديث عروة بن مضرس

إلى آخره" حاصله أنهم اتفقوا على أن ترك الصلاة هناك لا يفسد الحج، وقد ذكرها النبي عليه السلام فكذلك الوقوف.

فإن قيل: روى مطرف بن طريف، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس، عن النبي عليه السلام قال:"من أدرك جمعًا والإِمام واقف فوقف مع الإِمام ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك فلا حج له".

قلت: قد روى هذا الحديث جماعة حفاظ عن الشعبي مثل زكرياء وداود بن أبي هند وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الله بن أبي السفر وسيار وغيرهم ولم يذكر فيه أحد منهم: "فلا حج له"، ولئن سلمنا أن هذا صحيح، فمعناه أنه محمول على نفي

(1) سورة البقرة، آية:[198].

(2)

متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، البخاري (1/ 215 رقم 572)، ومسلم (1/ 477 رقم 684).

(3)

سورة طه، آية:[14].

ص: 508

الفضيلة والكمال لا نفي الأصل، كما في قوله عليه السلام:"لا وضوء لم يذكر اسم الله عليه"(1)، وكما روي عن عمر رضي الله عنه:"من قدَّم ثقله فلا حج له"(2).

ص: وقد روى عبد الرحمن بن يعمر الديلي، عن النبي عليه السلام ما يدل على ذلك:

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعلى بن عُبيد، قال: ثنا سفيان، عن بكير ابن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال:"رأيت رسول الله عليه السلام واقفًا بعرفات، فأقبل أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال: الحج يوم عرفة، ومن أدرك جمعًا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة أيام التشريق، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، ثم أردف خلفه رجلاً ينادي بذلك".

حدثنا علي، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا شعبة، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر، قال: قال رسول الله عليه السلام

ثم ذكر مثله، ولم يذكر سؤال أهل نجدٍ ولا إردافه الرجل.

ففي هذا الحديث أن أهل نجد سألوا رسول الله عليه السلام عن الحج فكان جوابه لهم: "الحج يوم عرفة".

وقد علمنا أن جواب رسول الله عليه السلام هو الجواب التام الذي لا نقص فيه ولا فضل؛ لأن الله تعالى قد آتاه جوامع الكلم وخواتمه، فلو كان عندما سألوه عن الحج أرادوا بذلك ما لا بد منه في الحج لكان يلكر عرفة والطواف ومزدلفة، وما يفعل في الحج سوى ذلك، فلما ترك ذكر ذلك في جوابه إياهم، علمنا أن ما أرادوا [بسؤالهم](3) إياه عن الحج وهو ما إذا فات الحج، فأجاجهم بأن قال:"الحج يوم عرفة"، فلو كانت مزدلفة كعرفة لذكر لهم مزدلفة مع ذكره عرفة،

(1) أخرجه أبو داود في "سننه"(1/ 25 رقم 101)، وابن ماجه في "سننه"(1/ 140 رقم 399) من حديث أبي هريرة، وروي من حديث أبي سعيد الخدري وغيره أيضًا.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 404 رقم 15389).

(3)

تكررت في "الأصل، ك".

ص: 509

ولكنه ذكر عرفة خاصة؛ لأنها صلب الحج الذي إذا فات فات الحج، ثم قال كلامًا مستأنفًا، ليعلم الناس [أن](1) من أدرك جمعًا قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، ليس على معنى أنه أدرك جميع الحج؛ لأنه قد ثبت في أول كلامه: الحج عرفة، فأوجب بذلك أن فوت عرفة فوت للحج، ثم قال: ومن أدرك جمعًا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج، ليس على معنى أنه لم يبق عليه شيء من الحج؛ لأن بعد ذلك طواف الزيارة وهو واجب لا بد منه، ولكن فقد أدرك بما تقدم له من الوقوف بعرفة.

فهذا أحسن ما خرِّج من معاني هذه الآثار وصحت عليه ولم تتضاد.

ش: أي قد روى عبد الرحمن بن يَعْمُر -بفتح الياء آخر الحروف وسكون العين المهملة وضم الميم وفي آخره راء- الديلي -بكسر الدال وسكون الياء آخر الحروف- نسبة إلى الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.

وأيضًا في عبد قيس: الديل بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصي بن عبد القيس.

وفي الأزد: الديل بن هذاذ بن زيد مناة بن الحجر.

وقال يونس: هم ثلاثة: الدُوْل بضم الدال وسكون الواو في حنيفة، والدِيل بالكسر وسكون الياء في عبد القيس، والدُئل بضم الدال وكسر الهمزة في كنانة رهط أبي الأسود، وعداده في أهل الكوفة، روي عن النبي عليه السلام ما يدل على أن الذي يتحقق من حديث عروة بن مضرس هو فرض الوقوف بعرفة خاصة لا غير.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعلى بن عُبيد بن أبي أميَّة الكوفي، روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن بكير بن عطاء الليثي الكوفي -وثقه يحيى والنسائي، وقال أبو حاتم: شيخ صالح لا بأس به. روى له الأربعة، عن عبد الرحمن بن يعمر.

(1) ليست في "الأصل، ك،" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 510

وأخرجه أبو داود (1): نا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، قال: حدثني بكير، عن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال:"أتيت النبي عليه السلام وهو بعرفة، فجاء أناس أو نفر من أهل نجد، فأمروا رجلاً فنادى رسول الله عليه السلام: كيف الحج؟ فأمر رجلاً فنادى: الحج الحج يوم عرفة، ومن جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمعٍ فتم حجه، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه. قال: ثم أردف رجلاً خلفه فجعل ينادي بذلك".

قال أبو داود: كذلك رواه مهران، عن سفيان: قال: "الحج الحج" مرتين.

ورواه يحيى القطان عن سفيان قال: "الحج" مرة.

وأخرجه الترمذي (2): نا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ابن مهدي، قالا: ثنا سفيان، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر:"أن ناسًا من أهل نجد أتوا رسول الله عليه السلام وهو بعرفة فسألوه، فأمر مناديًا فنادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه".

قال محمد: وزاد يحيى: "فأردف رجلاً فنادى" ثم قال: وهذا أجود حديث رواه سفيان الثوري.

وأخرجه النسائي (3): عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن سفيان .. إلى آخره نحوه.

وابن ماجه (4): أيضًا عن ابن أبي شيبة وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن سفيان

إلى آخره نحوه.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 196 رقم 1949).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 237 رقم 889).

(3)

"المجتبى"(5/ 264 رقم 3044).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1003 رقم 3015).

ص: 511

الثاني: عن علي بن معبد أيضًا، عن شبابة بن سوَّار الفزاري، عن شعبة بن الحجاج، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر.

وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا علي بن عبد العزيز ومحمد بن يحيى القزاز البصري، قال: ثنا حفص بن عمر الحوضي، نا شعبة، عن بكير بن عطاء، قال: سمعت عبد الرحمن بن يعمر الديلي: "أن النبي عليه السلام سئل عن الحج، فقال: يوم عرفة أو عرفات. وقال: من أدرك ليلة جمع قبل أن يصلي فقد أدرك، أيام منى ثلاث فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه".

قوله: "ففي هذا الحديث". أي حديث عبد الرحمن بن يعمر: أن أهل نجد سألوا رسول الله عليه السلام عن الحج فأجاب عليه السلام لهم بقوله: "الحج يوم عرفة"، وجوابه عليه السلام تام لا يأتي إلَاّ على طِبْق السؤال، فدل أن الوقوف بعرفة فرض، ولو كان سؤالهم عن جميع ما لا بد منه في الحج لكان رسول الله عليه السلام يذكر مع عرفة الطواف والسعي والوقوف بمزدلفة ورمي الجمار وغير ذلك، فلما اقتصر في كلامه على قوله:"الحج يوم عرفه" علمنا أن سؤالهم لم يكن إلَاّ عن شيء إذا فات فات الحج بفواته، فلو كان الوقوف بمزدلفة كالوقوف بعرفة لذكرها مع عرفة؛ ولم يذكر إلَاّ عرفة لأنها صلب الحج الذي إذا فات الوقوف بها فات الحج.

قوله: "ثم قال كلامًا مستأنفًا". أي: ثم قال النبي عليه السلام كلامًا مبتدأ غير متعلق بالكلام الذي قبله وهو قوله: "ومن أدرك جمعًا

إلى آخره" وإنما استأنف هذا ليُعْلِم الناس -من الإِعلام- من أدرك جمعًا -أي المزدلفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج معناه: فقد أدرك الحج بما تقدم له من الوقوف بعرفة، وليس معناه أنه أدرك جميع الحج عل معنى لم يبق عليه شيء من الحج؛ لأن بعد ذلك طواف الزيارة وهو من فروض الحج. والتحقيق في هذا الموضع أن في قوله: "فقد أدرك الحج"، إضمار شيء، تقديره: فقد أدرك معظم الحج وهو الوقوف بعرفة وإدراك الجمع إذْ لو لم يقدر هذا لفسد المعنى؛ لأنه بقي عليه طواف الزيارة وهو من الفروض،

ص: 512

وكذلك في قوله: "الحج عرفة" إظهار شيء تقديره: معظم الحج الوقوف يوم عرفة، ولا بد من هذا التقدير ليصح وقوع الخبر عن الحج؛ لأن الحج فعل وعرفة مكان ويوم عرفة زمان، فلا يصح أن يكون خبرًا عنه، فكان فيه مضمر في الموضعين وهو قولنا: معظم الحج الوقوف يوم عرفة، والمجمل إذا التحق به التفسير يصير معتبرًا من الأصل، فكأنه قال: الحج الوقوف بعرفة وظاهره يقتضي أن يكون هو الركن لا غير، إلَاّ أنه زيد عليه طواف الزيارة بدليل آخر قوله:"أيام التشريق" بالرفع بدل من قوله: "أيام منى ثلاثة"، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي أيام التشريق، وتكون الجملة في موضع البيان والتفسير عن الجملة الأولى.

وقال الجصاص في "أحكامه": اتفق أهل العلم على أن هذا بيان لمراد الآية في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (1) ولا خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيام التشريق، وقد روي ذلك عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر وغيرهم، إلَاّ شيئًا رواه ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن زر، عن علي رضي الله عنه قال:"المعدودات: يوم النحر، ويومان بعده، اذبح في أيها شئت"(2).

وقد قيل: إن هذا وهم، والصحيح عن علي أنه قال ذلك في المعلومات، وظاهر الآية ينفي ذلك أيضًا؛ لأنه قال: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق برمي الجمار المفعول في أيام التشريق.

قوله: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه". يعني إذا نفر في اليومين ولم يصبر إلى اليوم الثالث للرمي فلا إثم عليه في تعجيله.

روي هذا المعنى عن الحسن وغيره، وقد قيل: معناه: فلا إثم عليه لتكفير سيئاته وذنوبه بالحج المبرور.

وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وغيره.

(1) سورة البقرة، آية:[203].

(2)

أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(23/ 197)، وابن حزم في "المحلى"(7/ 275).

ص: 513

قوله: "ومن تأخر فلا إثم عليه". أي: ومن لم ينفر في اليومين وتأخر إلى اليوم الثالث فلا إثم عليه؛ لأنه يباح له التأخير.

ويستفاد منه أحكام:

الأول: فرضية الوقوف بعرفة؛ لما ذكرنا.

والثاني: استدل بقوله: "ومن أدرك جمعًا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج" جماعة من الظاهرية عل فرضية الوقوف بمزدلفة، وقال الجصاص: وهو مذهب الأصم وابن عُليَّة أيضًا، وقال: إن رواية من روى: "من أدرك جمعًا قبل الصبح" وهمٌ، وكيف لا يكون وهمًا وقد نقلت الأمة عن النبي عليه السلام وقوفه بعد طلوع الفجر ولم يرو عنه أنه أمر أحدًا بالوقوف بها ليلاً؟! ومع ذلك فقد عارضته الأخبار الصحيحة التي رويت من قوله:"من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا هذا الموقف"، وسائر أخبار عبد الرحمن بن يعمر أنه قال: "من أدرك عرفة فقد أدرك الحج وقد تم حجه، ومن فاته عرفة فقد فاته الحج. وذلك ينفي رواية من شرط معه الوقوف بعرفة.

قلت: وقع مثل ما ذكره الجصاص في رواية الترمذي حيث قال: "من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج"، وفي رواية أبي داود:"من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجه"، وبين الروايتين فرق؛ لأن رواية الترمذي تقتضي -ظاهرًا- أن من لم يدرك ليلة جمع قبل طلوع الفجر أنه لا يكون مدركًا للحج، ورواية أبي داود تقتضي -ظاهرًا- أن من لم يدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح أن حجه لا يكون تامًّا.

قلنا: ولكنه يكون مدركًا؛ لأن عدم التمام لا يستلزم عدم الإِدراك، فيكون مدركًا، ولكن لا يكون حجه تامًّا، وليس المخلص من هذا الإِشكال إلَاّ بأحد شيئين:

أحدهما: أن نقول بما قاله الجصاص.

ص: 514

والثاني: أن نأوله بما أوله الطحاوي، وهو الأشبه؛ لأن الحديث صحيح ليس فيه كلام من جهة الإِسناد ولا غيره، وقد أحسن الطحاوي في تأويله، ولهذا قال: وهذا أحسن ما خرج من معاني هذه الآثار وصحت عليه ولم تتضاد. والله أعلم.

الثالث: فيه بيان أيام الرمي وهي أيام منى التي ترمي فيها الجمار وهي ثلاثة، ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة بعد يوم النحر، وأن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار، وينفر، وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر.

واختلف فيمن لم ينفر حتى غابت الشمس من اليوم الثاني، فروي عن عمر وابن عمر وجابر بن زيد والحسن وإبراهيم: "أنه إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل أن ينفر فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد.

وقد روي عن الحسن أن له أن ينفر في اليوم الثاني إذا رمى وقت الظهر كله، فإن أدركته صلاة العصر بمنى فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث.

وقال أصحابنا: إذا لم ينفر حترل غابت الشمس فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمي جمرة اليوم الثالث، ولا يلزمه ذلك إلَاّ أن يصبح بمنى، فحينئذٍ يلزمه في اليوم الثالث ولا يجوز له تركه.

ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا قد رأينا الأصل المجتمع عليه: أن للضعفة أن يتعجلوا من جمع بليل، وكذلك أمر رسول الله عليه السلام أغيلمة بني المطلب، وسنذكر ذلك في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

وقد رخص لسودة ترك الوقوف بها.

حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كانت سودة امرأة ثبطة ثقيلة، فاستأذنت النبي عليه السلام أن تفيض من جمع قبل أن تقف، فأذن لها، ولوددت أني كنت استأذنته فأذن لي".

ص: 515

قال أبو جعفر رحمه الله: فسقط عنهم الوقوف بمزدلفة للعذر، ورأينا عرفة لا بد من الوقوف بها لا يسقط ذلك لعذر، فما سقط بالعذر فهو الذي ليس من صلب الحج، وما لا بد منه فلا يسقط بعذر ولا بغيره؛ فهو الذي من صلب الحج، ألا ترى أن طواف الزيارة هو من صلب الحج وأنه لا يسقط عن الحائض بالعذر، وأن طواف الصدر ليس من صلب الحج وهو يسقط عن الحائض بالعذر -وهو الحيض- فلما كان الوقوف بمزدلفة مما يسقط بالعذر كان من شكل ما ليس بفرض، فثبت بذلك ما وصفناه، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي: وأما وجه الوقوف بمزدلفة من طريق النظر والقياس فهو: أن الخصوم كلهم اتفقوا على أن الضعفة لهم التعجل من مزدلفة من الليل بدون الوقوف لأجل العذر.

واتفقوا أن الوقوف بعرفة لا يسقط بعذر ولا بغير عذر، فالذي يسقط بعذر لا يكون من صلب الحج، فالنظر على ذلك يقتضي أن يكون الوقوف بمزدلفة من أشكال ما ليس بفرض، فإذا كان من هذا القبيل يكون غير فرض.

قوله: "للضعفة" جمع ضعيف، كالنساء والصبيان وأصحاب الأعذار.

قوله: "وكذلك أمر رسول الله عليه السلام أغيلمة بني عبد المطلب". أراد أنه عليه السلام أمرهم بالتعجيل من جمع، على ما يأتي في الباب الذي بعد الباب الذي يليه.

والأغيلمة تصغير أغلمة، والأغلمة جمع غلام على ما نبينه مستقصى إن شاء الله تعالى.

وأخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن عائشة.

ص: 516

وأخرجه البخاري (1): ثنا محمد بن كثير، أنا سفيان، نا عبد الرحمن -هو ابن القاسم- عن القاسم، عن عائشة قالت:"استأذنت سودة النبي عليه السلام ليلة جمع وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها".

وفي رواية قالت (2): "نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي عليه السلام سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنت رسول الله عليه السلام كما استأذنت سودة رسول الله عليه السلام أحب إليَّ من مفروح به".

وأخرجه مسلم (3): نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: أنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة أنها قالت:"استأذنت سودة رسول الله عليه السلام ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة الناس، وكانت ثبطة -يقول القاسم: والثبطة: الثقيلة- قال: فأذن لها، فخرجت قبل دفعة الناس، وحُبْسَنا حتى أصبحنا ودفعنا بدفعه، ولأن أكون استأذنت رسول الله عليه السلام كما استأذنت سودة فأكون أدفع بإذنه أحب إليّ من مفروح به".

وأخرجه النسائي (4) أيضًا.

وسودة: هي بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية العامرية أم المؤمنين، تزوجها رسول الله عليه السلام بعد موت خديجة رضي الله عنها وكانت قبله عند السكران بن عمرو أخي سهل بن عمرو، توفيت في آخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قوله: "ثَبطة". بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة، يعني بطيئة، قال ابن قرقول: كذا ضبطناه، وضبطه الحياني عن ابن سراج بالكسر والإِسكان.

وقال عياض: حقيقة الثبطة المتأنية لثقلها وضخامتها.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 603 رقم 1596).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 603 رقم 1597).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 939 رقم 1290).

(4)

"المجتبى"(5/ 266 رقم 3049).

ص: 517

قوله: "قبل حطمة الناس". أي زحمتهم، ومنه سمي الحطيم لانحطام الناس عليه أي ازدحامهم.

قوله: "من مفروح به". أي مما يسر به المرء، ولا يقال دون "به"، ويقال:"من منُفْرح" بضم الميم وكسر الراء من قولهم: أفرحني الشيء إذا سرني، فهو مفرح.

ويستفاد منه أن الوقوف بمزدلفة ليس بفرض، إذ لو كان فرضًا لما أذن عليه السلام لسودة أن تترك الوقوف بها.

وأن ضعفة الناس يجوز لهم أن يتركوا الوقوف بها لأجل عذرهم.

واحتجت الشافعية بهذا الحديث على مذهبهم في جواز الرمي بعد نصف الليل قبل الفجر.

قلنا: هذا كان رخصة لأولي الأعذار في الدفع من جمع، والإِفاضة بليل، ولكن السُنَّة المبيت بها وصلاة الفجر بها غلسًا والوقوف بالمشعر الحرام حتى يسفر جدًّا، ثم الدفع قبل طلوع الشمس كما فعل النبي عليه السلام في حديث جابر وعدة من الأحاديث.

***

ص: 518