الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الرمل في الطواف
ش: أي هذا باب في بيان الرمل في الطواف بالبيت.
و"الرَّمَل" بفتح الراء والميم: هو سرعة المشي مع تقارب في الخطو، وفي "المحكم": رَمَل يَرمُل رَمْلًا إذا مشى دون العَدْو، وقال الفراء: هو العدو الشديد، وفي "الجمهرة": الرَّمَل شبيه بالهرولة، وفي "الصحاح": هو الهرولة، وفي "المغيث": هو الخبب، وقيل: هو أن يهز منكبيه ولا يسرع في العدو، وفي كتاب "المسالك" لابن العربي: هو مأخوذ من التحرك، وهو أن يحرك الماشي منكبيه لشدة الحركة في مشيه.
قلت: هو من باب نَصَرَ يَنْصُرُ تقول: رَمَل يرمُل رمْلًا بسكون الميم، ورمَلًا بفتحها ورملانًا كالنزوان على وزن فعلان، ويجيء المصدر كثيرًا على هذا الوزن نحو النسلان والرسفان ونحوهما.
والطواف بالبيت هو الدوران حوله، تقول: طفت أطوف طوفًا وطوافًا، والجمع: الأطواف، وطوَّف تطويفًا وتطوافًا.
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل قال:"قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت، وأن ذلك سُنَّة! قال: صدقوا وكذبوا. قلت: ما صدقوا وما كذبوا؟! قال: صدقوا، قد رمل رسول الله عليه السلام بالبيت، وكذبوا: ليست بسُنَّة، إن قريشًا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدًا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيء في العام المقبل، فيقيموا ثلاثة أيام بمكة، تقدم رسول الله عليه السلام، والمشركون على جبل قيقعان، فقال رسول الله عليه السلام لأصحابه: ارملوا بالبيت ثلاثاً. وليست بسُنَّة".
ش: أبو عاصم الغنوي وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: لا أعلم روى عنه غير حماد بن سلمة، ولا أعرفه ولا أعرف اسمه. روى له أبو داود، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وهو آخر من مات من الصحابة.
وأخرجه أبو داود (1): نا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، قال: أنا أبو عاصم الغنوي؛ عن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس
…
إلى آخره نحوه، وفي روايته بعد قوله:"وليس بسُنَّة": "قلت: يزعم قومك أن رسول الله عليه السلام طاف بين الصفا والمروة على بعير وأن ذلك سُنَّة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا، قد طاف رسول الله عليه السلام بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا، ليست بسُنَّة كان الناس لا يدفعون عن رسول الله ولا ينصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم".
قوله: "ليست بسُنَّة"، معناه أنه أمر لم يسن فعله لعامة المسلمين، على معنى القربة كالسنن التي هي عبادات، ولكنه شيء فعله رسول الله عليه السلام لسبب خاص.
قوله: "زمن الحديبية" أراد به عام الحديبية، وكان سَنة ست من الهجرة.
قوله: "موت النغَّفَ" أي كموت النَغَف، وهو بفتح النون بعدها غين معجمة مفتوحة وبعدها فاء، واحدتها: نغفة، وهي الدود التي تكون في أنوف الأنعام، وعن الأصمعي أنها تكون في أنوف الإِبل والغنم، وقال أبو عُبيد: وتكون أيضًا في باطن النوى، وما سوى ذلك فليس بنغف.
وفي حديث يأجوج ومأجوج: "فيرسل الله عليهم النغف فيصبحون"(2) قال ابن الأثير في تفسيره: النَّغَف -بالتحريك- دود يكون في أنوف الإِبل والغنم، واحدتها: نغفة.
قوله: "والمشركون على جبل قُعَيقِعَان" وفي رواية أبي داود: "والمشركون من قبل قعيقعان": وهو جبل مشهور بمكة، سمي به لأن جرهمًا لما تحاربوا كثرت قعقعة السلاح هناك، وهو بضم القاف وفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وكسر القاف وبعدها عين مهملة وبعدها ألف ونون، وهو جبل مشرف على مكة من غَرْبِيِّها كما أن جبل أبي قبيس مشرف على مكة من شَرْقِيِّها.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 177 رقم 1885).
(2)
أخرجه مسلم في "صحيحه"(4/ 2250 - 2254 رقم 2937).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الرمَل في الطواف ليس بسُنَّة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: إنما كان الرمَل ليرى المشركون أن بهم قوة، وأنهم ليسوا بضعفاء؛ لا لأن ذلك سُنَّة.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء وطاوسًا ومجاهدًا والحسن البصري والقاسم وسالمًا وسعيد بن جبير، فإنهم قالوا: الرَّمَل ليس بسُنَّة، من شاء فعله ومن شاء لم يفعله، وهو الأشهر عن ابن عباس، وعنه أنه سُنَّة.
وقال ابن حزم (1): وروينا عن ابن عباس وعطاء: ليس على من ترك الرمل شيء، وعن إبراهيم: عليه فدية، وعن ابن عباس: وجوبه على أهل الآفاق، وعن الحسن وعطاء: ليس على أهل مكة رمل، ولا على من أهلَّ منها، إلَّا أن يجيء أحد من أهل مكة من خارج، فهذه رواية ابن عباس بإيجاب الرمل على أهل الآفاق، وعن الحسن وعطاء مثل ذلك.
قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم لما ذهبوا إليه بالحديث المذكور.
ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"قدم رسول الله عليه السلام مكة وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قومٌ قد وهنتهم حمى يثرب، فلما قدموا، قعد المشركون مما يلي الحجر، فأمر النبي عليه السلام أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين. قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم بأن يرملوا الأشواط الأربعة إلَّا الإِبقاء عليهم".
ش: أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه أيضًا بما روي عن ابن عباس أيضًا، أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني
…
إلى آخره.
(1)" المحلى"(7/ 96).
وأخرجه البخاري (1): ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد هو ابن يزيد
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه مسلم (2): عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن أيوب
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه أبو داود (3): ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، أنه حدث عن ابن عباس قال:"قدم رسول الله عليه السلام مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم أقوام قد وهنتهم الحمَّى، ولقوا منها شرًّا، فأطلع الله تعالى نبيه عليه السلام على ما قالوا، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، فلما رأوهم رملوا قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمَّى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد منا، قال ابن عباس: ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلَّا للإِبقاء عليهم".
وأخرجه النسائي (4) أيضًا: عن محمد بن سليمان، عن حماد بن زيد
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "وقد وهنتهم" بتخفيف الهاء وفتحها أي أضعفتهم وفي "الموعب": وَهَنَ يَهِنَ مثل وَعَدَ يعَدُ، وَوهِن مثل وَرِم، والواهن الضعيف في قوته، لا بطش عنده، وعن صاحب "العين": الوَهْن الضعف في العمل والأمر وكذلك في العظم، وهن الشيء وأوهنه، والوَهَن لغة فيه، ورجل واهن في الأمر والعمل وموهون في العظم والبدن، وعن ابن دريد: وَهَن يُوهَن.
قوله: "حمَّى يثرب" الحمى مرض مشهور، ويثرب اسم مدينة النبي عليه السلام، والياء فيه زائدة.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 581 رقم 1525).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 923 رقم 1266).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 178 رقم 1886).
(4)
"المجتبى"(5/ 230 رقم 2945).
قوله: "الأشواط الثلاثة" وهو جمع شوط، وهو مأخوذ من قولهم: جرى الفرس شوطًا إذا بلغ مجراه ثم عاد، فكل من أتى موضعاً ثم انصرف عنه فهو شوط.
قوله: "إلَّا الإِبقاء" بكسر الهمزة وبالباء الموحدة والمد، أي إلَّا الرفق بهم، قال القرطبي: رويناه بالرفع على أنه فاعل "لم يمنعه" ويجوز النصب على أنه يكون مفعولًا من أجله، ويكون في "لم يمنعه" ضمير عائد على النبي عليه السلام وهو فاعل.
قلت: الصحيح أنه مرفوع على أنه فاعل "لم يمنعه" والمعنى لم يمنع النبي عليه السلام أن يأمرهم بأن يرملوا -أي بالرمل في الأشواط الأربعة- إلَّا الإِبقاء عليهم.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حجاج بن نصير، قال: ثنا فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل قال:"قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله عليه السلام رَمَل بالبيت وأنها سُنة، قال: صدقوا وكذبوا، قد رمل رسول الله عليه السلام بالبيت وليس بسُنة، ولكن قدم رسول الله عليه السلام مكة والمشركون على قُعَيْقِعَان، وبلغه أنهم يقولون: إن به وبأصحابه هزالاً، فقال لأصحابه: ارملوا، أروهم أن بكم قوة، فكان رسول الله عليه السلام يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليماني، فإذا توارى عنهم مشى".
قالوا: أفلا يرى أنه أمرهم أن يمشوا في الأشواط الثلاثة فيما بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، وأمرهم أن يرملوا فيما بقي من هذه الأشواط ليروهم؟ فلما كان قد أمرهم بالرمل حيث يرونهم، وبتركه حيث لا يرونهم؛ ثبت بذلك أن الرمل كان من أجلهم لا من أجل أنه سُنة.
ش: حجاج بن نصير الفسطاطي القيسي أبو محمد البصري، فيه مقال؛ فعن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وعن النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطيء ويهم.
وفطر بن خليفة القرشي أبو بكر الكوفي الحناط بالنون، وثقه أحمد ويحيى والعجلي، وفيه تشيع قليل، روى له البخاري -مقرونًا بغيره- والأربعة.
وأبو الطفيل عامر بن واثلة.
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى، نا فطر، عن أبي الطفيل قال:"قلت لابن عباس إن قومك يزعمون أن النبي عليه السلام قد رَمَل وأنها سُنة، فقال: كذبوا وصدقوا؛ قد رمل رسول الله عليه السلام، وليست سُنَّة: قدم رسول الله عليه السلام والمشركون على جبل قعيقعان، فبلغه أنهم يقولون: إن برسول الله عليه السلام وأصحابه هزلًا؛ فرمل رسول الله عليه السلام وأمر أصحابه أن يرملوا، لِيُري المشركين أن بهم قوةً".
قوله: "وإنها سُنة" أي: وإنَّ هذه الفعلة وهي الرمل، أنث الضمير بهذا الاعتبار.
قوله: "هُزالًا" بضم الهاء وتخفيف الزاي، وهو ضد السمن، تقول: هزلت الدابة هزالًا على ما لم يسم فاعله، وهزلته أنا هَزْلًا فهو مهزول، وأهزل القوم إذا أصابت مواشيهم سنة فهزلت.
قوله: "أروهم" بفتح الهمزة وضم الراء، لأنه أمر للجماعة، من أَرَى يُرِي إراءة والأمر أرِ، أريا، أَرُوا.
قوله: "قالوا" أي قال هؤلاء القوم: "أفلا يُرى" بضم الياء "أنه أمرهم" أي أن رسول الله عليه السلام أمر أصحابه أن يمشوا في الأشواط الثلاثة
…
إلى آخره وهو ظاهر.
ص: قالوا: ومما دل على ذلك أنه لم يفعل ذلك لما حج، وذكروا ما حدثنا فهدٌ، قال: ثنا يحيى الحماني، قال: ثنا قيس، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أن النبي عليه السلام رمل في العمرة، ومشى في الحج".
أفلا يُرى أن رسول الله عليه السلام لم يرمل في حجه حيث عُدِمَ الذين من أجلهم رمل في عمرته.
ش: أي قال هؤلاء القوم: ومما يدل على أن النبي عليه السلام إنما رَمَل لأجل مقالة المشركين: إن بهم هزالاً، لا لأجل كونه سُنةً؛ أنه عليه السلام لم يفعل ذلك -أي الرمل- حين حج حجة الوداع، لأنه عدم الذين من أجلهم قد كان رمل، وأنه
إنما فعل ذلك في عمرته لأجل ما قال المشركون لا لأنه سُنة، واحتجوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمر:"أنه عليه السلام رمل في العمرة ومشى في الحج".
وأخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن قيس (1)، عن العلاء بن المسيب بن رافع الكوفي، وثقه يحيى وغيره، وروى له البخاري ومسلم والترمذي، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد عن عبد الله بن عمر.
وأخرجه أبو عمر بن عبد البر في (2)"التمهيد" نحوه.
ويعارض هذا ما روي في "الصحيح"(3) من حديث نافع عن ابن عمر: "أن رسول الله عليه السلام كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ثم يمشي أربعًا" على ما يجيء بيانه إن شاء الله.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الرَمَل في الأشواط الثلاثة الأولى سُنة لا ينبغي تركها في الحج ولا في العمرة.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور فقهاء الأمصار؛ فإنهم قالوا: الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى سُنة، لا يترك في الحج ولا في العمرة، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس في رواية.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام اعتمر من الجعرانة، فرمل بالبيت ثلاثًا ومشى أربعة أشواط".
(1) بَيَّض له المؤلف ولم يعينه وترك له فراغًا وسط الكلام، وقيس هذا هو ابن الربيع الأسدي أبو محمد الكوفي، وثقه الثوري وشعبة وعفان وغيرهم، وضعفه أحمد ووكيع ويحيى وغيرهم، وقال ابن عدي: عامة رواياته مستقيمة، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. انظر "ميزان الاعتدال"(5/ 477).
(2)
"التمهيد"(2/ 75 رقم 947).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 920 رقم 1261).
ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام رَمَل الأشواط كلها، وقد كان في بعضها حيث يراه المشركون وفي بعضها حيث لا يرونه، ففي رمله حيث لا يرونه دليل على أنه ليس من أجلهم رَمَل، ولكن لمعنىً آخر.
ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن ابن عباس، حيث قال في حديثه:"فرمل بالبيت ثلاثًا".
أخرجه بإسناد صحيح: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة.
وأخرجه أبو داود (1): نا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عبد الله ابن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً، ومشوا أربعًا".
وأخرجه ابن ماجه (2) بنحوه.
قوله: "ففي هذا الحديث
…
إلى آخره" بيانه أن في هذا الحديث: رمل في هذه الأشواط الثلاثة كلها يعني من الحجر إلى الحجر، وقد كان في بعضها حيث يراه المشركون، يعني من ناحية جبل قعيقعان لأنهم كانوا عليه، وفي بعضها حيث لا يرونه، يعني من ناحية ما بين الركن اليماني والحجر؛ لأن الكعبة كانت تحجز بينه وبينهم، ففي رمله في هذا الموضع دليل على أنه عليه السلام لم يكن رمل من أجلهم، بل إنما رَمَل لمعنى آخر، إذ لو كان رمله لأجلهم لكان يتركه حين يتوارى عنهم، فَعُلِمَ من ذلك أنه سُنة لا تترك، ومن هذا يخرج الجواب عما يقال: إن سبب الرمل ارتفع، فينبغي أن يرتفع الحكم الدائر عليه، ولئن سلمنا أن سبب الرمل كان لإِظهار الجلادة وإبداء القوة للمشركين، وأنه ارتفع، فلا نسلم أن يرتفع الحكم بارتفاع السبب؛ لأن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء الحكم، كالبيع والنكاح وغيرهما.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 177 رقم 1884).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 984 رقم 2953).
أو نقول: رَمل النبي عليه السلام في حجة الوداع دليل على أنه سُنة مبتدأة، فيجب علينا اتباعها وإن كنا لا نعقل معناه، ألا ترى إلى ما قال عمر رضي الله عنه حين رمل في الطواف:"ما لي أهز كتفي وليس ها هنا أحد يراني؛ لكن أتبع رسول الله عليه السلام، أو قال: امتثل ما فعل رسول الله عليه السلام".
ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا ابن المبارك، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي الطفيل قال:"رَمَل رسول الله عليه السلام من الحجر إلى الحجر".
فهذا الحديث مثل الذي قبله.
ش: هذا الحديث أيضًا يدل على أن رمله عليه السلام لم يكن من أجل المشركين حين قالوا ما قالوا؛ إذ لو كان كذلك لم يكن يرمل من الحجر إلى الحجر وهو معنى قوله: "فهذا الحديث مثل الذي قبله".
وأخرجه بإسناد لا بأس به، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن سليمان الضبي أبي عثمان الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الله بن المبارك الإِمام الزاهد المشهور، عن عبيد الله بن أبي زياد القداح أبي الحصين المكي فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف، وعنه: ليس به بأس، وعن النسائي كذلك، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الصحابي.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عبيد الله بن محمد بن عباس الأصبهاني، ثنا سهل بن عثمان، نا عبد الله بن المبارك، ثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح، عن أبي الطفيل:"أن النبي عليه السلام رَمَل من الحجر إلى الحجر".
(1) وأخرجه أحمد في "مسنده"(5/ 455 رقم 23853)، وأبو يعلى في "مسنده"(2/ 196 رقم 901) كلاهما من طريق ابن المبارك به.
وقال الهيثمي في "المجمع"(3/ 239): "رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه عبيد الله بن أبي زياد القداح، وثقه أحمد والنسائي، وضعفه ابن معين وغيره".
ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع قال:"كان ابن عمر يرمل من الحجر إلى الحجر ثلاثًا ويمشي أربعًا على هيئته، قال ابن عمر: وكان رسول الله عليه السلام يفعله".
حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عفان، قال: ثنا سليم بن أخضر، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام كان يرمل من الحجر إلى الحجر".
فهذا مثل الذي قبله أيضًا، وقد استدل بذلك عبد الله بن عمر على ما ذكرنا، ففعله بعد رسول الله عليه السلام كما كان رسول الله عليه السلام فعله إلا أنه ليس في ذلك أنه فعله في حج ولا في عمرة، فقد يجوز أن يكون ذلك منه وهو حاج فخالف ذلك ما روى عنه مجاهد، وقد يجوز أن يكون ذلك كان منه في عمرة فيكون مذهبه: كان يرمل في العمرة، ولا يرمل في الحجة".
ش: هذا الحديث أيضًا يدل على أن رمله عليه السلام لم يكن من أجل المشركين؛ إذ لو كان كذلك لم يكن يرمل من الحجر إلى الحجر كما ذكرنا، ثم رمل ابن عمر من الحجر إلى الحجر كما كان رسول الله عليه السلام يفعله لا يخلو إما أن يكون كان قد فعل ذلك في حجته أو في عمرته؛ لأنه لم يبين ذلك في حديثه، فإن كان ذلك في حجته فقد خالف ذلك ما روى عنه مجاهد عن النبي عليه السلام:"أنه رمل في العمرة، ومشى في الحج" وقد مرَّ هذا الحديث عن قريب.
وإن فعل ذلك في عمرته دلَّ على أن مذهبه الرمل في العمرة دون الحج كما في حديث مجاهد عنه.
ثم إنه أخرج الحديث المذكور من طريقين صحيحين:
الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن أسباط بن محمد بن عبد الرحمن الكوفي، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني، عن نافع
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (1): أنا عبيد الله بن سعيد، نا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع:"أن عبيد الله بن عمر كان يرمل الثلاث ويمشي الأربع، ويزعم أن رسول الله عليه السلام كان يفعل ذلك".
الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة الكوفي، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، عن سليم بن أخضر البصري، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع.
وأخرجه مسلم (2): نا أبو كامل الجحدري، قال: ثنا سليم بن أخضر، قال: نا عبيد الله، عن نافع:"أن ابن عمر رَمَل من الحجر إلى الحجر، وذكر أن رسول الله عليه السلام فعله".
وأخرجه أبو داود (3): عن أبي كامل أيضًا نحوه.
قال القاضي: قوله: "رمل من الحجر إلى الحجر" هذا سنة الرمل عند العلماء أن يكون في جميع الثلاثة أشواط، وهو نص في هذا الحديث، وجاء في الحديث الآخر في قصة عمرة الحديبية، وفيه:"وأمرهم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين" قيل: لأنهم كانوا حينئذٍ لا تقع عليهم -أعين المشركين- وهذا لا تعارض فيه لأنها في قضيتين: الأولى في الحديبية، وهذه التي فيها الرمل من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، رفق بهم أولاً لما كان بهم من المرض، وأمرهم بالتجلد في الثلاث جهات التي كانت تقع عليهم فيها أعين المشركين حين جلسوا لهم على قعيقعان، وأكمل الرَمَل في الأدوار الثلاثة من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، وهو آخر فِعليه عليه السلام.
ص: ومما يدل أيضًا على ثبوت الرَمَل وأنه سُنة ماضية: أن رسول الله عليه السلام قد فعله في حجة الوداع حيث لا عدو يريه قوته، فمما روي في ذلك ما حدثنا يزيد بن
(1)"المجتبى"(5/ 229 رقم 2940).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 921 رقم 1262).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 179 رقم 1891).
سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبيد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام سعى ثلاثة ومشى أربعة، حين قدم في الحج، والعمرة حين كان اعتمر".
حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني قال: ثنا محمد بن إدريس، عن أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام مثل معناه.
فهذا خلاف ما رواه مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ش: هذان طريقان:
الأول: عن يزيد بن سنان، عن أبي بكر الحنفي -واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد البصري- شيخ أحمد، روى له الجماعة، عن عبد الله بن نافع القرشي، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف، وعنه: يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: منكر الحديث وهو أضعف ولد نافع.
وقال النسائي: متروك الحديث. روى له ابن ماجه، عن أبيه نافع، عن ابن عمر.
وبنحوه أخرج النسائي (1): أنا قتيبة، نا يعقوب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف ويمشي أربعًا، ثم يصلي سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة".
الثاني: إسناده صحيح، عن المزني، عن الإِمام الشافعي، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، عن نافع
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (2): نا إبراهيم بن المنذر، نا أبو ضمرة أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله عليه السلام كان إذا طاف
(1)"المجتبى"(5/ 229 رقم 2941).
(2)
"صحيح البخاري"(4/ 584 رقم 1537).
في الحج أو العمرة أول ما يقدم: سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة، ثم يسجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة".
فهذا الحديث يعارض ما رواه مجاهد عن ابن عمر: "أن النبي عليه السلام رَمَل في العمرة، هو ضعيف يترك بما روي في الصحيح بخلافه.
ص: وقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام: "أنه رَمَل في حجة الوداع".
حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال:"طاف رسول الله عليه السلام في حجة الوداع سبعًا، رَمَل منها ثلاثاً، ومشى أربعًا".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر ابن محمد
…
فذكر بإسناد مثله.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر:"أن رسول الله عليه السلام طاف سبعة، رَمَل في ثلاثة منهن من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود".
فلما ثبت عن رسول الله عليه السلام أنه رَمَل في حجة الوداع ولا عدو؛ ثبت أنه لم يفعله إذ كان العدو من أجل العدو، ولو كان فعله إذ كانوا من أجلهم، لما فعله في وقت عدمهم، فثبت بذلك أن الرَمَل من سنن الحج المفعولة فيه الذي لا ينبغي تركها.
ش: أخرج عن جابر بن عبد الله من ثلاثة طرق صحاح أنه رَمَل في حجة الوداع، والحال أنه لا عدو حينئذٍ حتى يكون الرمل لأجلهم، فثبت بذلك أنه لم يفعله حين فعله مع وجود العدو لأجل العدو؛ لأنه لو كان فِعْله هذا لأجلهم لما فعله عند عدمهم، فلما فعله عند عدمهم دلَّ على أنه سنة مبتدأة، وسنن الحج لا ينبغي تركها. هذا ما قاله الطحاوي وهو قوله: "فلما ثبت عن رسول الله عليه السلام
…
" إلى آخره.
والأحسن أن يقال: إنه فعل الرَمَل حين كان العدو لأجل العدو، وإظهارًا منهم للتجلد والقوة حين قالوا:"قد وهنتهم حمَّى يثرب"، ثم فعله حين عدمم على أنه سُنة مبتدأة، وإن كانت خفيت علينا حكمته، وإنما قلنا: إنه الأحسن؛ لأن ابن عباس قال في حديثه: "إنما سعى رسول الله عليه السلام بالبيت وبين الصفا والمروة؛ ليري المشركين قوته" رواه البخاري (1)، وفي رواية له (2) عن ابن عباس:"ارملوا؛ ليري المشركين قوتهم والمشركين من قبل قعيقعان"، وفي رواية لمسلم (3):"أروهم منكم ما يكرهون" فرمَلَ رسول الله عليه السلام ليري المشركين قوته وقوة أصحابه، فهذا كله يدل على أن رمله عليه السلام في عمرته كان لأجل العدو، ولكنه رمل أيضًا في حجة الوداع على أنه سُنة مبتدأة، والله أعلم.
الطريق الأول: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، عن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم المشهور بالصادق، عن أبيه محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب المشهور بالباقر، عن جابر رضي الله عنه.
وأخرجه النسائي (4): أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، أنا الليث، عن ابن الهاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال:"طاف رسول الله عليه السلام سبعًا، رمل منها ثلاثًا، ومشى أربعًا".
الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 594 رقم 1566).
(2)
"صحيح البخاري"(4/ 1553 رقم 4009).
(3)
هذا اللفظ ليس عند مسلم في "صحيحه"، إنما أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه على صحيح
مسلم" (3/ 354 رقم 2917).
(4)
"المجتبى"(5/ 235 رقم 2961).
وأخرجه مسلم (1) مطولاً: نا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم -قال أبو بكر: نا حاتم بن إسماعيل المدني- عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: "دخلنا على جابر
…
" الحديث. وفيه: "حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعًا" وقد ذكرناه بتمامه فيما مضى.
الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر.
وأخرجه مالك في "موطأه"(2).
وأخرجه مسلم (3): نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: نا مالك، ونا يحيى -واللفظ له- قال: قرأت على مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أنه قال:"رأيت رسول الله عليه السلام رَمَل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف".
والترمذي (4): نا علي بن خشرم قال: أنا عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر:"أن النبي عليه السلام رَمَل من الحجر إلى الحجر ثلاثاً، ومشى أربعًا"، وقال: حديث جابر حديث حسن صحيح.
والنسائي (5): عن محمد بن مسلمة، عن أبي القاسم، عن مالك
…
نحو رواية مسلم.
وابن ماجه (6): ثنا علي بن محمد، ثنا أبو الحسين العكلي، عن مالك بن أنس
…
نحو رواية الترمذي.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 886 رقم 1218).
(2)
"موطأ مالك"(1/ 364 رقم 810).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 921 رقم 1263).
(4)
"جامع الترمذي"(3/ 212 رقم 857).
(5)
"المجتبى"(5/ 230 رقم 2944).
(6)
"سنن ابن ماجه"(2/ 983 رقم 2951).
ص: وقد فعل ذلك أيضًا أصحاب رسول الله عليه السلام من بعده:
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه قال:"فيم الرَمَلان الآن والكشف عن المناكب وقد نفى الله عز وجل الشرك وأهله؟! ومع ذلك لا ندع شيئًا عملناه مع رسول الله عليه السلام".
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية قال:"لمَّا حج عمر رضي الله عنه رَمَل ثلاثًا" وهذا بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام لا ينكره منهم أحدٌ.
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور بن المعتمر، عن شقيق، عن مسروق قال:"قدمت مكة معتمرًا، فتبعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فدخل المسجد، فرَمَل ثلاثًا، ومشى أربعًا".
حدثنا محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع:"أن ابن عمر كان إذا قدم مكة طاف بالبيت ورَمَل، ثم طاف بين الصفا والمروة، وإذا لبَّى بها من مكة لم يرمل بالبيت، وأخر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر، وكان لا يرمل يوم النحر".
ش: أي وقد رمل أيضًا أصحاب رسول الله عليه السلام من بعده، وأخرج عن ثلاثة منهم، وهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
أما أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخرجه من طريقين:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن إسحاق بن إبراهيم الحنيني، فيه مقال، فقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. روى له أبو داود وابن ماجه. عن هشام بن سعد أبي عباد المدني يقال له: يتيم زيد بن أسلم، فيه مقال، فقال أحمد: لم يكن بالحافظ. وعن يحيى: ضعيف، وعنه: صالح. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. ولكن روى له مسلم والأربعة، عن زيد بن
أسلم القرشي أبي عبد الله المدني الفقيه مولى عمر بن الخطاب وأحد مشايخ أبي حنيفة ومالك، روى له الجماعة، عن أبيه أسلم مولى عمر روى له الجماعة.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد أَطَّأَ الله الإِسلام ونفى الكفر وأهله؟! ومع ذلك لا ندع شيئًا كنا نفعله على عهد رسول الله عليه السلام".
وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا جعفر بن عون، عن هشام ابن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: "فيم الرملان الآن وقد أَطَّأَ الله الإِسلام ونفى الكفر وأهله، وايم الله، لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله عليه السلام".
وأخرج البخاري (3): ما يقاربه: ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: أما والله، إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك، فاستلمه وقال: وما لنا وللرَمَل إنا كنا رائينا به المشركين، وقد أهلكهم الله عز وجل ثم قال: شيء صنعه النبي عليه السلام فلا نحب أن نتركه".
قوله: "فيم الرملانُ" بضم النون؛ لأنه مرفوع بالابتداء، وخبره مقدمًا قوله:"فيم"، ومعناه: لأجل أبي شيء الرَمَل؟! في الطواف، أراد أنهم كانوا يرملون إظهارًا للجلادة والقوة للمشركين، وقد نفى الله الشرك والمشركين، فلماذا نرمل؟! ولكنه سُنة فعلها رسول الله عليه السلام فلا نتركها.
و"الرملان" على وزن فعلان، مصدر كالرَّمَل، ويكثر مجيء المصدر على هذا الوزن في أنواع الحركة كالنزوان والنسلان والعسلان والرسفان ونحوها.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 178 رقم 1887).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 984 رقم 2952).
(3)
"صحيح البخاري"(2/ 582 رقم 1528).
وحكى الحربي فيه قولًا غريبًا وقال: إنه تثنية الرَمَل وليس مصدرًا، وهو أن يهز منكبيه ولا يسرع، والسعي: أن تسرع في المشيء، وأراد بالرملين: الرَمَل والسعي قال: وجاز أن يقال للرمل والسعي: الرملان؛ لأنه لما خف اسم الرمل وثقل اسم السعي غُلِّبَ الأخف، فقيل: الرملان، كما قالوا: القَمَران والعُمَران.
قلت: وعل هذا القول النون مكسورة في الرملان؛ لأنه نون التثنية، فافهم، وفيه نظر؛ لأن السعي بين الصفا والمروة شعار قديم من عهد هاجر أم إسماعيل عليهم السلام، والرمل إنما شرع في عمرة القضاء لأجل المشركين، وليس مراد عمر رضي الله عنه بقوله: فيم الرملان إلَّا الطواف وحده، فليس للتثنية وجه.
قوله: "وقد أَطَّأَ الله الإِسلام" أي ثبته وأرساه، والهمزة فيه بدل واو "وَطَّأَ".
الطريق الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن النهشلي أبي زكرياء الكوفي الجزار -بالجيم والزاي وفي آخره راء مهملة- قال العجلي: ثقة وكان فيه تشييع. وعن يحيى: ليس بشيء. روى له الجماعة سوى النسائي والبخاري في الأدب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، فيه لين، عن عطاء بن أبي رباح، عن يعلى بن أميَّة بن أبي عُبيدة المكي الصحابي.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث عطاء نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن يحيى بن يمان، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة:"أن عمر بن الخطاب رَمَل ما بين الحجر إلى الحجر".
وأما أثر عبد الله بن مسعود، فأخرجه بإسناد صحيح، عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن فضيل بن عياض
…
إلى آخره.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 82 رقم 9059).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 356 رقم 14889).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله:"أنه رَمَل ثلاثًا ومشى أربعًا".
وأما أثر عبد الله بن عمر، فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع.
وأخرجه ابن عبد البر (2) نحوه، قال: وأخرج مالك، عن نافع، عن ابن عمر نحوه، [ففي](3) هذا الحديث أنه كان يرمل في الحجة إذا كان إحرامه بها من غير مكة، وكان لا يرمل إذا أحرم بها من مكة، وهذا إجماع من العلماء: أن من أحرم بالحج من مكة من غير أهله والمتمتعين بها أنه لا رمل عليه إن طاف بالبيت قبل خروجه إلى منى؛ لأنهم قد طافوا حين وصولهم حين طافوا للقدوم.
قوله: "وإذا لبّى بها" أي بالحجة.
ص: ففي هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمل في الحجة إذا كان إحرامه بها من غير مكة، فهلا خلاف ما رواه عنه مجاهد عن النبي عليه السلام، فلا يخلو ما رواه عن مجاهد من أحد وجهين:
إما أن يكون منسوخًا، فما نسخه فهو أولى منه.
أو يكون غير صحيح عنه، فهو أحرى أن لا يعمل به، وأن يجب العمل بخلافه، ولما ثبت [ما ذكرنا](4) من الرمل عن رسول الله عليه السلام بعد عدم المشركين، وعن أصحابه من بعده في الأشواط الأُوَل [الثلاثة](4)؛ ثبت أن ذلك من سُنة الطواف عند القدوم، وأنه لا ينبغي لأحد من الرجال تركه إذا كان قادرًا عليه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 357 رقم 14987).
(2)
"التمهيد"(2/ 76 رقم 951).
(3)
في "الأصل، ك": "في"، والمثبت من "التمهيد".
(4)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"(2/ 182).
ش: أي ففي هذا الأثر عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان يرمل في حجته إذا كان إحرامه بها -أي بالحجة- من غير مكة، فهذا خلاف ما روى عنه مجاهد، عن النبي عليه السلام:"أنه رمل في العمرة ومشى في الحج" وقد تقدم ذكره، فإذا كان الأمر كذلك فلا يخلو ما رواه عنه من أحد وجهين:
إما أن يكون منسوخًا، فحينئذٍ العمل بالناسخ أولى وأجدر.
وإما أن يكون غير صحيح، فحينئذٍ العمل بالصحيح أولى، والظاهر أنه غير صحيح.
وقال أبو عمر (1): وأما رواية مجاهد عن ابن عمر فحديث لا يثبت؛ لأنه رواه الحفاظ موقوفًا عن ابن عمر، ولو كان مرفوعًا عارضه ما هو أثبت منه، ثم روى عن الطحاوي من حديث ابن عمر:"أن رسول اللَّه عليه السلام رَمَل ثلاثًا ومشى أربعةً حين قدم في الحج والعمرة".
قوله: "وإنه" أي الرمل لا ينبغي لأحد من الرجال تركه، لأنه سُنة من سنن الحج الماضية، حتى قال الحسن البصري: إذا ترك الرمل يهريق دمًا، وعن النخعي أنه يفدي، وقال أبو عمر (2): اختلف قول مالك وأصحابه فيمن ترك الرمل في الطواف، والهرولة في السعي، فقال مالك مرةً: يعيد، ومرةً قال: لا يعيد. وبه قال ابن القاسم.
واختلف قول مالك: هل عليه دم إذا لم يعد أم لا شيء عليه؟ فمرة قال: لا شيء عليه، رواه عنه ابن وهب في موطأه، وهو قول ابن القاسم، ومرة قال: عليه دم، ورواه معن بن عيسى عن مالك، وهو قول عبد الملك بن الماجشون والحسن البصري وسفيان الثوري، وذكر ابن حبيب ومطرف عن ابن القاسم: أن عليه في قليل ذلك وكثيره دمًا، وقد جاء عن ابن عباس نصًّا فيمن ترك الرَمَل أنه لا شيء
(1)"التمهيد"(2/ 75).
(2)
"التمهيد"(2/ 77).
عليه، وهو قول عطاء وابن جريج والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو أولى ما قيل في هذا الباب.
وإنما قيد الطحاوي بقوله: "من الرجال" لأنهم أجمعوا على أن ليس على النساء رَمَل في طوافهن بالبيت ولا هروة في سعيهن بين الصفا والمروة.
وروى الشافعي (1)، عن سعيد، عن ابن جريج، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال:"ليس على النساء سعي بالبيت ولا بين الصفا والمروة" ورواه أيضًا عن عائشة وعطاء.
…
(1)"مسند الشافعي"(1/ 129).