المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الصلاة للطواف بعد الصبح وبعد العصر - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٩

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الصلاة للطواف بعد الصبح وبعد العصر

‌ص: باب: الصلاة للطواف بعد الصبح وبعد العصر

ش: أي هذا باب في بيان حكم الصلاة -وهي الركعتان لأجل الطواف- إذا صلاهما بعد الصبح أو بعد العصر: هل يكره ذلك أم لا؟

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن ابن باباه، عن جبير ابن مطعم، رفعه أنه قال:"يا بني عبد المطلب لا تمنعوا أحدًا يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار".

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم.

ويونس هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، وسفيان هو ابن عيينة، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وأبي عبد اللَّه بن باباه ويقال: بَابَي، ويقال: ابن بابيه المكي، روى له الجماعة سوى البخاري، وجبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي الصحابي رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود (1): نا ابن السَّرْح والفضل بن يعقوب -وهذا لفظه- قالا: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن عبد اللَّه بن باباه، عن جبير بن مطعم يبلغ به النبي عليه السلام[قال:"لا تمنعوا أحدًا يطفو بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار"] (2) -قال الفضل-: "إن رسول اللَّه عليه السلام قال: يا بني عبد مناف

" إلى آخره نحوه.

وأخرجه الترمذي (3): عن أبي عمار وعلي بن خشرم وغير واحدٍ قالوا: نا سفيان

إلى آخره نحوه.

وقال أبو عيسى: حديث جبير حديث حسن صحيح.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 180 رقم 1894).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 220 رقم 868).

ص: 397

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم بن يزيد بن مردانبة، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول اللَّه عليه السلام قال:"يا بني عبد مناف، إن وليتم هذا الأمر فلا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار".

ش: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب محمد بن عبد اللَّه القرشي الأموي البصري، شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه.

وحسان بن إبراهيم بن عبد اللَّه الكرماني قاضي كَرمان وأحد أصحاب أبي حنيفة، وثقه يحيى، وروى له البخاري ومسلم وأبو داود.

وإبراهيم بن يزيد بن مردانبه المكي، فيه مقال، فعن ابن معين: ليس بثقة -أو ليس بشيء- وعن أحمد: متروك الحديث. وقال أبو زرعة: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. روى له الترمذي والنسائي وابن ماجه.

وعطاء هو ابن أبي رباح.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم الصائغ، حدثني عطاء، عن ابن عباس أن النبي عليه السلام قال:"يا بني عبد مناف، إن (وليتم من هذا الأمر من بعدي) (2) فلا تمنعن أحدًا طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار".

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى إباحة الصلاة للطواف في الليل والنهار، فلا يمنع من ذلك عندهم وقت من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

(1)"المعجم الكبير"(11/ 159 رقم 11359).

(2)

كذا في "الأصل، ك"، وفي "المعجم الكبير":"وليتم هذا الأمر بعدي".

ص: 398

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان والقاسم وعروة بن الزبير والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم ذهبوا إلى حديث جبير بن مطعم وابن عباس، فقالوا: تباح الصلاة لأجل الطواف في أي وقت كان من الليل والنهار.

وفي "شرح الموطأ" في هذا ثلاثة أقوال:

أحدها: إجازة الطواف بعد الصبح وبعد العصر وتأخير الركعتين حتى تطلع الشمس أو تغرب، وهو مذهب عمر وأبي سعيد الخدري ومعاذ بن عفراء وجماعة. وهو قول مالك.

والثاني: كراهة الطواف وكراهة الركوع في الوقتين، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وجماعة؛ للنهي عن الصلاة في الوقتين، ولأن الطواف لا يتم إلَّا بالركعتين، وسنتهما أن لا يفرق بينهما.

والثالث: إباحة ذلك كله في الوقتين. وبه قال الشافعي، وقاله ابن عمر وابن عباس وابن الزبير والحسين والحسن وعطاء وطاوس والقاسم وعروة.

وهو أحد قولي أبي حنيفة، وكره الثوري الطواف في الوقتين، فإن طاف فلا يركع حتى تحل صلاة النافلة، وقاله أبو حنيفة.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا حجة لكم في هذه الآثار؛ لأن ما أباح رسول اللَّه عليه السلام فيها، وأمر بني عبد مناف أن لا يمنعوا أحدًا منه من الطواف والصلاة هو الطواف على سبيل ما ينبغي أن يطاف، والصلاة على سبيل ما ينبغي أن تصلى، فأما على ما سوى ذلك فلا، أفلا ترى أن رجلاً لو طاف بالبيت عريانًا أو على غير وضوء أو جُنُبًا أن عليهم أن يمنعون من ذلك؟ لأنه طاف على غير ما ينبغي الطواف عليه، وليس ذلك بداخل فيما أمرهم رسول اللَّه عليه السلام ألَّا يمنعوا منه من الطواف، فكذلك قوله:"لا تمنعوا أحدًا يصلي" هو على ما أمر أن يصلى عليه من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة في الأوقات التي أبيحت الصلاة فيها، فأما ما

ص: 399

سوى ذلك فلا، وقد نهى رسول اللَّه عليه السلام نهيًا عامًّا عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، ونصف النهار، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغيب الشمس، وتواترت بذلك الآثار عن رسول اللَّه عليه السلام وقد ذكرت ذلك بأسانيده في غير هذا الموضع من هذا الكتاب.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا وسعيد ابن جبير، والحسن البصري والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا؛ فإنهم كرهوا الصلاة للطواف بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس.

قوله: "فقالوا" أي هؤلاء الآخرون، وأراد به نفي صحة استدلال القوم المذكورين بهذه الآثار المذكورة عن ابن عباس وجبير بن مطعم رضي الله عنهم، بيانه: أن المراد من هذه الآثار هو إباحة رسول اللَّه عليه السلام الطواف والصلاة إذا وقعا على سبيل ما ينبغي وقوعهما، وليس المرإد إباحتهما مطلقًا، وكيف يراد الإِطلاق وقد نهى رسول اللَّه عليه السلام نهيًا عامًا عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند استوائها، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، وقد مضى ذكر هذا عن ابن عباس وغيره في باب: الركعتين بعد العصر.

قوله: "وتواترت بذلك الآثار" أي بالنهي عن الصلاة في هذه الأوقات، وأراد بالتواتر التكاثر والتظاهر، ولقد ذكرنا هناك أن تسعة عشر من الصحابة رضي الله عنهم قد أخرجوا في كراهة الصلاة بعد العصر وبعد الصبح، وقد أجاب بعضهم عن الحديث المذكور بأنه محمول على الدعاء لا الصلاة الحقيقية، وهو بعيد.

وقال آخرون: هو محمول على غير أوقات النهي؛ لأن هذا عامٌّ في الإِباحة وحديث النهي خاص في التحريم، فيحمل على ما عداه، ولأن الإِباحة والتحريم إذا اجتمعا عُمِلَ بالتحريم؛ لأنه الأحوط في الدين.

ص: 400

فإن قيل: ما تقول فيما أخرجه الدارقطني (1) ثم البيهقي (2) من حديث عبد اللَّه بن المؤمل، عن جعفر مولى عفراء، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، عن أبي ذر، سمعت رسول اللَّه عليه السلام يقول:"لا يصلين أحد بعد الصبح إلى طلوع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلَّا بمكة يقول ذلك ثلاثاً؟ ".

قلت: قال صاحب "البدائع": هذا خبر شاذ فلا يعارض الخبر المشهور.

وقلت أنا: ابن المؤمل ضعيف، وجعفر الأعرج ليس بالقوي، ومجاهد لا يثبت له سماع من أبي ذر.

ص: وكان مما احتج به أهل المقالة الأولى لقولهم في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا بشر بن السري، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عبد اللَّه بن باباه قال:"طاف أبو الدرداء بعد العصر، وصلى قبل مغارب الشمس، فقلت: أنتم أصحاب محمد عليه السلام تقولون: لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فقال: إن هذا البلد ليس كسائر البلدان".

فقالوا: فقد دلَّ قول أبي الدرداء على أن الصلاة للطواف لم يدخل فيها نهي عن النبي عليه السلام من الصلاة في الأوقات التي ذكرتم.

قيل لهم: فأنتم لا تقولون بهذا الحديث؛ لأنا قد رأيناكم تكرهون الصلاة بمكة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها لغير الطواف؛ لنهي النبي عليه السلام عن الصلاة في تلك الأوقات، ولا تخرجون حكم مكة في ذلك من حكم سائر البلدان، وأبو الدرداء فقد أخرج في الحديث الذي احتجتم به حكم مكة من حكم سائر البلدان في المنع من الصلاة في ذلك وأخبر أن النهي لم يدخل حكمها فيه، وأنه إنما أريد به ما سواها،

مع أنه قد خالف أبا الدرداء في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 265 رقم 136).

(2)

"السنن الكبرى"(2/ 461 رقم 4207).

ص: 401

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال:"طاف عمر رضي الله عنه بالبيت بعد الصبح فلم يركع، فلما صار بذي طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري مثله.

فهذا عمر رضي الله عنه لم يركع حينئذٍ؛ لأنه لم يكن عنده وقت صلاة، وأخَّر ذلك إلى أن دخل عليه وقت الصلاة فصلى، وهذا بحضرة أصحاب رسول اللَّه عليه السلام فلم ينكره عليه منهم مُنْكِرٌ، ولو كان ذلك الوقت عنده وقت صلاة للطواف لصلى ولما أخَّر ذلك؛ لأنه لا ينبغي لأحد طاف بالبيت أن لا يصلي حينئذٍ إلَّا من عذر.

ش: أي وكان من الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه حديث أبي الدرداء.

وأخرجه عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن يعقوب بن حميد شيخ ابن ماجه، فيه مقال وقد تكرر ذكره، عن بشر بن السري البصري أبي عمرو الأفوه نزيل مكة، روى له الجماعة، وفي "الميزان": قال الحميدي: جهمي لا يحل أن يكتب عنه، وهو يروي عن إبراهيم بن طهمان الخراساني أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره، عن عبد اللَّه بن باباه المكي، روى له الجماعة.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عبد اللَّه بن باباه، عن أبي الدرداء:"أنه طاف بعد العصر عند مغارب الشمس، فصلى ركعتين قبل الغروب، فقيل له: أنتم أصحاب رسول اللَّه عليه السلام تقولون: لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فقال: إن هذه البلدة ليست كغيرها".

قوله: "فقالوا" أي أهل المقالة الأولى".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 463 رقم 4216).

ص: 402

قوله: "قيل لهم:

إلى آخره" أي قيل لأهل المقالة الأولى في الجواب عن هذا، وهو على وجهين:

الأول: أن يقال: أنتم لا تقولون بهذا الحديث لأنكم تكرهون الصلاة بمكة في الأوقات المذكورة إذا كانت لغير الطواف؛ لثبوت النهي عن الصلاة في تلك الأوقات، مع أنكم لا تخرجون حكم مكة في ذلك من حكم سائر البلاد، والحال أن أبا الدرداء قد أخرج في حديثه حكم مكة من حكم سائر البلاد، فإذن لا يتم استدلالكم بحديثه.

والثاني: أنه قد خالف أبا الدرداء فيما ذهب إليه، عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث لم يصل شيئًا بعد أن طاف بعد الصبح حتى طلعت الشمس ثم صلى بذي طوى.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاريّ -بتشديد الياء نسبة إلى قارة بن [الديش، و](1) هم بنو الهون بن خزيمة، قيل: إن له صحبة.

وأخرجه البخاري تعليقًا (2)، والبيهقي في "سننه" (3): من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد قال:"صلى عمر رضي الله عنه الصبح بمكة، ثم طاف سبعاً، ثم خرج وهو يريد المدينة، فلما كان بذي طوى [و] (4) طلعت الشمس صلى ركعتين".

وقال أحمد بن حنبل: أخطأ سفيان، وقد خالفوه فقالوا: الزهري عن حميد، قال الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه ذكر هذا الحديث فقال: ذاك يهم فيه سفيان، يقول: عن

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "الطبقات" لخليفة بن خياط (1/ 236)، و"تهذيب مستمر الأوهام"(1/ 70).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 588).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 463 رقم 4217).

(4)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي".

ص: 403

عروة. قيل له: فهذا نوح بن يزيد رواه عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة أيضًا، فأنكره، فرجعت إلى نوح فأخرجه لي من أصل كتابه، فإذا هو عن عروة، وإذا صالح أيضًا يرويه عن عروة، قال أبو عبد اللَّه: نوح لم يكن به بأس كان متثبتًا، ولعل إبراهيم أن يكون حدَّث من حفظه، وكان ربما حدث بالشيء من حفظه، وكتاب صالح عندي وما أدري كيف قال فيه؟ وقال أبو حاتم: حديث سفيان خطأ.

والآخر: عن يونس أيضًا، عن عبد اللَّه بن وهب، عن مالك بن أنس، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: "طاف عمر

إلى آخره".

وأخرجه مالك في موطأه (1).

قوله: "بذي طوى" ذكر ابن قرقول أنها بفتح الطاء المهملة وقيدها الأصيلي بخطه بكسرها، ومنهم من يضمها، قال أبو عبيد البكري: بفتح أوله مقصور منون على وزن فعلى: وادٍ بمكة. وقال السهيلي: بأسفل مكة، وفي "المحكم": ذو طوى مقصور وادي بمكة شرفها اللَّه تعالى، وكان في كتاب أبي زيد الأنصاري: ممدودًا، والمعروف أن ذا طوى -بالقصر- وادي بمكة، وذا طواء -ممدود- موضع بطريق الطائف، وقيل: وادٍ.

وفي باب ضم الطاء وفتح الواء ذكره الحازمي.

وقال القرطبي: ذو طوى بفتح الطاء والقصر، وحكى بعض اللغويين ضم الطاء مع القصر.

ص: وقد روي عن معاذ بن عفراء مثل ذلك، وقد ذكرت ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب.

(1)"موطأ مالك"(1/ 368 رقم 820).

ص: 404

ش: أي قد روي عن معاذ بن عفراء مثل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: "أنه طاف بعد العصر وبعد صلاة الصبح فلم يصل، فسئل عن ذلك، فقال: نهى رسول اللَّه عليه السلام عن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس".

ذكره الطحاوي في باب: الركعتين بعد العصر، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب، عن شعبة، عن سعد، عن نصر بن عبد الرحمن، عن معاذ بن عفراء.

ص: وقد روي مثل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما:

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا همام، قال: ثنا نافع: "أن ابن عمر قدم عند صلاة الصبح فطاف ولم يصل إلَّا بعد ما طلعت الشمس".

ش: أي وقد روي مثل ما روي عن عمر عن ابنه عبد اللَّه بن عمر، أنه طاف بعد الصبح ولم يصل إلَّا بعد طلوع الشمس.

أخرجه بإسناد صحيح، عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن همام بن يحيى، عن نافع مولى ابن عمر .. إلى آخره.

ويعارضه ما رواه البخاري (1) تعليقًا: "وكان ابن عمر يصلي ركعتين للطواف ما لم تطلع الشمس".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2) مسندًا: نا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عطاء قال:"رأيت ابن عمر طاف بالبيت بعد الفجر وصلى الركعتين قبل طلوع الشمس".

ص: والنظر يدل على ذلك أيضًا؛ لأنا قد رأينا رسول اللَّه عليه السلام قد نهى عن صيام يوم الفطر ويوم النحر، فكل قد أجمع أن ذلك في سائر البلدان سواء، فالنظر على ذلك أن يكون ما نهى عنه من الصلاة في الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها في سائر

(1)"صحيح البخاري"(2/ 588) باب الطواف بعد الصبح والعصر.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 180 رقم 13245).

ص: 405

البلدان كلها على السواء، فبطل بذلك قول من ذهب إلى إباحة الصلاة للطواف في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.

ش: أي القياس أيضًا يدل على ما ذكره أهل المقالة الثانية، ووجهه ظاهر.

ص: ثم اختلف الدين خالفوا أهل المقالة الأولى في ذلك على فرقتين:

فقالت فرقة منهم: لا يصلى في شيء من هذه الخمسة الأوقات للطواف كما لا يصلى فيها للتطوع.

وممن قال ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وقد وافقهم في ذلك ما روينا عن عمر ومعاذ بن عفراء وابن عمر رضي الله عنهم.

وقالت فرقة: يصلى للطواف بعد العصر قبل اصفرار الشمس، وبعد الصبح قبل طلوع الشمس، ولا يصلى لذلك في الأوقات الثلاثة البواقي المنهي عن الصلاة فيها.

وممن قال ذلك: مجاهد وإبراهيم النخعي وعطاء.

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"طف وصلّ ما كنت في وقتٍ، فإذا ذهب الوقت فأمسك".

حدثنا أحمد، قال: نا يعقوب، قال: ثنا ابن أبي غنيّة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، مثله.

حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا عبد اللَّه بن رجاء وعبيد اللَّه بن موسى، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال:"طف -قال عبيد اللَّه بعد الصبح وبعد العصر- وصلِّ ما كنت في وقت -وقال ابن رجاء: في وقت صلاة".

ش: "في ذلك" أي فيما ذهبوا إليه من إباحة الصلاة للطواف بعد العصر قبل غروب الشمس وبعد الصبح قبل طلوعها.

قوله: "فرقة منهم" أراد بهم: الثوري والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبا حنيفة وصاحبيه.

ص: 406

وقد وافق هؤلاء -أي مذهبهم- ما روي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد اللَّه ومعاذ بن عفراء.

قوله: "وقالت فرقة" وأراد بهم مجاهدًا وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح.

قوله: "حدثنا أحمد بنداود

إلى آخره" بيان لقوله: "وممن قال ذلك مجاهد

" إلى آخره.

ورجال هذه الآثار قد ذكروا غير مرة.

ومغيرة: هو ابن مقسم الضبي.

وابن أبي غنيّة: هو عبد الملك بن حميد بن أبي غنيّة الخزاعي الكوفي، روى له الجماعة.

وعبد الملك بن أبي سليمان واسمه ميسرة العرزمي، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا.

وعبد اللَّه بن رجاء بن عمر الغداني شيخ البخاري.

وعُبيد اللَّه بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي، روى له الجماعة.

وعثمان بن الأسود بن موسى بن باذان المكي، روى له الجماعة.

وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه ما يعارض ما روي عن مجاهد ها هنا، فقال (1): ثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب قال:"رأيت مجاهدًا وسعيد بن جبير يطوفان بالبيت حتى تصفرّ الشمس ويجلسان".

وروى أيضًا: عن عطاء، عن عائشة ما يعارض ما روي عن عطاء ها هنا، فقال (2): ثنا محمد بن فضيل، عن عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة أنها قالت:"إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر فطف، وأخِّر الصلاة حتى تغيب الشمس أو حتى تطلع، وصلِّ لكل أسبوع ركعتين".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 184 رقم 13256).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 182 رقم 13257).

ص: 407

وقال أيضًا (1): ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام، عن عطاء قال:"كان المسور بن مخرمة يطوف بعد الغداة ثلاثة أسابيع، فإذا طلعت الشمس صلى لكل أسبوع ركعتين، وبعد العصر يفعل ذلك، فإذا غابت الشمس صلى لكل أسبوع ركعتين".

ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما.

حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا ابن أبي غنيّة، عن عمر بن ذر، عن مجاهد قال:"كان ابن عمر يطوف بعد العصر ويصلي ما كانت الشمس بيضاء حيّة، فإذا اصفرّت وتغيرت طاف طوافًا حتى يصلي المغرب ثم يصلي، ويطوف بعد الصبح ويصلي ما كان في غلس، فإذا اسفر طاف طوافًا واحدًا ثم يجلس حتى ترتفع الشمس ويمكن الركوع".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن سالم وعطاء:"أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يطوف بعد الصبح وبعد العصر أسبوعًا أسبوعًا، ويصلي ركعتين ما كان في وقت صلاة".

فهذا عطاء قد قال برأيه ما ذكرنا، وقد روى عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام أنه قال:"لا تمنعوا أحدًا يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار" فقد حمل ذلك على خلاف ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى.

ش: أي وقد روي مثل ما روي عن مجاهد وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح -فيما ذكر- عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.

أخرجه من طريقين:

الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد، عن عبد الملك بن حميد بن أبي غنيّة، عن عمر بن ذر الهمداني الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، وثقه يحيى والنسائي والدارقطني، وعن أبي داود: كان رأسًا في الإِرجاء، وقال أبو حاتم: كان

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 181 رقم 1325).

ص: 408

صدوقًا، وكان مرجئًا لا يحتج بحديثه. روى له الجماعة سوى مسلم، ابن ماجه في التفسير عن مجاهد بن جبر المكي.

والثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد ابن سلمة، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي الذي روى له الجماعة، عن سالم بن عبد اللَّه وعطاء بن أبي رباح، كلاهما عن ابن عمر.

قوله: "في غَلَس" بفتحتين وهو ظلمة آخر الليل بعد طلوع الفجر الصادق.

قوله: "فإذا أسفر" أي انكشف الضياء وانتشر.

قوله: "ويمكن الركوع" أي الصلاة، من قبيل ذكر الجزء وإرادة الكل.

قوله: "أسبوعًا" نصب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي كان يطوف طوافًا أسبوعًا أي سبع مرات، ومثله. سبوعًا بدون الهمزة، وكذا يقال طاف سَبعًا بالفتح والضم، وفي "المطالع": المعروف في اللغة أنك إذا ضممت أدخلت الواو، وهو جمع سَبْع مثل: ضروب وضرب، وقال الأصمعي: جمع السبع أسبع.

قوله: "فهذا عطاء قد قال برأيه ما قد ذكرنا" وهو قوله: طف وصلّ ما كنت في وقت، فإذا ذهب الوقت: فأمسك.

قوله: "وقد روي عن ابن عباس" أي والحال أنه -أي عطاء- قد روى عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا تمنعوا أحداً يطوف

" الحديث، فقد حمل ذلك -أي ما رواه ابن عباس- على خلاف ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى؛ وذلك لأن أهل المقالة الأولى ذهبوا إلى [أن](1) معنى هذا الحديث إباحة الصلاة للطواف في أي وقت كان؛ أخذًا بظاهره، وعطاء ذهب إلى أن معناه: ويصلي أي ساعة شاء من الأوقات التي أبيحت الصلاة فيها، وهي ما عدا وقت الطلوع ووقت الغروب ووقت الاستواء، وقد ذكرنا أن أبا حنيفة وصاحباه ذهبوا إلى أن معناه: فيما ما عدا هذه الأوقات الثلاثة، وبعد العصر والصبح أيضًا، فالجملة خمسة أوقات.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

ص: 409

ص: وكان النظر في ذلك لما اختلفوا هذا الاختلاف: أنا رأينا طلوع الشمس وغروبها ونصف النهار، يمنع من قضاء الصلوات الفائنات، وبذلك جاءت السُنة عن رسول اللَّه عليه السلام في تركه قضاء الصبح التي نام عنها إلى ارتفاع الشمس وبياضها، فإذا كان ما ذكرنا ينهى عن قضاء الفرائض الفائنات فهو عن الصلاة للطواف أنهى، وقد قال عقية بن عامر رضي الله عنه:"ثلاث ساعات كان رسول اللَّه عليه السلام ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تَضَيَّفُ للغروب حتى تغرب".

وقد ذكرنا ذلك بإسناده فيما تقدم من كتابنا هذا.

فإذا كانت هذه الأوقات تنهى عن الصلاة على الجنائز، فالصلاة للطواف أيضًا كذلك، وكانت الصلاة بعد العصر قبل تغيُّر الشمس، وبعد الصبح قبل طلوع الشمس مباحة على الجنائز، ومباحة في قضاء الصلاة الفائتة، ومكروهة في التطوع، وكان الطواف يوجب الصلاة حتى يكون وجوبها كوجوب الصلاة على الجنائز، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون حكمها بعد وجوبها كحكم الفرائض التي قد وجبت، وكحكم الصلاة على الجنازة التي قد وجبت، فتكون الصلاة للطواف تصلى في كل وقت تصلى فيه على الجنازة، وتقضى فيه الصلاة الفائتة، ولا تصلى في كل وقت لا يصلى فيه على الجنازة، ولا تقضى فيه صلاة فائتة، فهذا هو النظر عندنا في هذا الباب، على ما قال عطاء وإبراهيم ومجاهد، وعلى ما قد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما وإليه نذهب، وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي وكان النظر والقياس في الحكم المذكور لما اختلفوا هذا الاختلاف المذكور أنَّا رأينا

إلى آخره.

قوله: "وبذلك جاءت السُّنة" أي وبمنع الصلوات في الأوقات الثلاثة جاءت السنة عن النبي عليه السلام في موضعين:

الأول: في حديث ليلة التعريس وهو مشهور.

ص: 410

والثاني: في حديث عقبة بن عامر الجهني: "ثلاث ساعات

" إلى آخره، قد ذكره الطحاوي في باب مواقيت الصلاة، والباقي من كلامه ظاهر، حاصله أنه اختار قول عطاء وإبراهيم النخعي ومجاهد في هذا الباب، حيث قال: وإليه نذهب، وقولهم هو: أن ركعتي الطواف تصلى فيما بعد الصبح وما بعد العصر، ولا تصلى في الأوقات الثلاثة: عند الطلوع وعند الغروب وعند الاستواء، فصار حكم هذه الصلاة كحكم صلاة الجنازة، وحكم الصلوات الفائتة، وهذا خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله فإنهم منعوها فيما بعد الصبح وما بعد العصر كما ذكرنا. والله أعلم.

***

ص: 411