الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موازنة بين المذهبين:
لا إخالك بعد أن تستحضر ما عرضناه عليك إلا مرجحا كفة مذهب البصريين، ولسنا في حاجة إلى البسط بعد ما فات، غير أنا هنا نلم التشعيب الفائت ليتركز في الذهن ويبقى في الذاكرة، فنقول: إن مذهب البصريين إنما رجح لأنه نشأ على ملاحظة أمور ثلاثة لا يراها الكوفيون:
1-
أنهم يؤثرون السماع على القياس فلا يصيرون إليه إلا إذا أعوزتهم الحاجة، وحملهم على هذا سهولة اتصالهم بجمهرة العرب، ولكثرتهم حولهم قد تعصبوا في رواياتهم فلا يحملونها إلا عن موثوق بفطرته، أما الكوفيون فعلى عكسهم فضلوا القياس على السماع في كثير من مسائلهم لتنائيهم عن خلص العرب، ولذا تساهلوا في رواياتهم فتلقوها عن أعراب لا يرى البصريون سلامتهم.
2-
أنهم احتاطوا في أقيستهم فلم يدونوها إلا بعد توافر أسباب الاطمئنان عليها بخلاف الكوفيين الذين تفككوا من قيودهم، ولذا يقول السيوطي:"اتفقوا على أن البصريين أصح قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ"1.
3-
أنهم لا يعولون على القياس النظري عند انعدام الشاهد إلا فيما ندر جدا، أما الكوفيون فطالما جنحوا إليه، وسلفت لك أمثلة من هذا النوع.
فهده الأمور الثلاثة التى تولد عنها الاختلاف بين الفريقين في المسائل الجمة تضافرت في النهوض بمذهب البصريين على الكوفيين، إذ لا ريب أن السماع في اللغة ركن أول لأنها ليست فلسفة يتحكم فيها ميزان العقل والدراية، والتشدد في القياس الذي يؤذن بصحة نظائره حتم لازم، وإلغاء القياس النظري في اللغة مستقيم مع الواقع، هذا حال المذهبين في مجملهما وإن ظفر مذهب الكوفيين في بعض المسائل.
1 الاقتراح ص100.
وقد ذكرنا لك أربعا منها في الكلام على المذهب الكوفي، وسبعا منقولة عن الأنباري في نتائج المخالفة بين الفريقين.
وما مثل الفريقين عند التقريب إلا كمثل الطبيب والمتطبب، فالبصريون كالطبيب الذي عانى المهنة حدثا وحذقها مدركا فأحكمها وأفاد المجتمع عن طول مدة ودقة خبرة، والكوفيون كالمتطلب الذي قد اكتهل ونظر الطبيب وما يسديه فوجد عليه ثم نعرف منه وقارعه، فإن الكوفيين ما منهم إلا من أخذ عن البصريين أرباب هذا الشأن بينما لم يتلق أحد من البصريين عن واحد منهم، قال السيوطي "وكذلك أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البصريين وأهل البصرة يمتنعون من الأخذ عنهم لأنهم لا يرون الأعراب الذين يحكون عنهم حجة"1.
إن احتضان العباسيين للكوفيين خصوصا بعد اتصال الكسائي وأصحابه هو الذي رفع من شأنهم عند أنفسهم واستخفهم إلى مناصبة البصريين، لحبهم إياهم وإيثارهم على البصريين لما قدموا من مؤازرتهم في تكوين دولتهم إذ كانوا شيعتهم من جهة ولقربهم عن البصريين من جهة أخرى، فأدنوهم منهم قبل البصريين، وأسبغوا عليهم نعمهم وأجزلوا لهم منحهم وأدخلوهم قصورهم واتخذوا منهم السمار والمؤذبين والمعلمين، فالمفضل الضبي وشرقي بن القطامي الكلبي مؤدبا المهدي، والكسائي معلم الرشيد ثم مؤدب ولديه الأمين والمأمون، والفراء رائد أولاد المأمون، وابن السكيت شيخ أولاد المتوكل، وابن قادم معلم المعتز بالله، وثعلب أستاذ عبد الله بن المعتز وابن طاهر، وبذلك قبضوا على أعنة الحركة العلمية في بغداد وساد مذهبهم فيها وانتشر قبل المذهب البصري، حتى انقاد إليه كثير من العلماء حرصا على التقريب من الدولة، وتغلغلت الناس في الأخذ بدعمائه فنفقت سوق الروايات الشاذة والموضوعة، حتى عمي على الناس الطريق
1 المزهر النوع الرابع والأربعين جـ2 ص256.
اللاحب1، يقول أبو الطيب:"فلم يزل أهل المصرين على هذا حتى انتقل العلم إلى بغداد قريبا وغلب أهل الكوفة على بغداد، وخدموا الملوك فقربوهم، فأرغب الناس في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر وتباهوا بالترخيصات وتركوا الأصول واعتمدوا على الفروع فاختلط العلم"2.
لقد استحوذ الكوفيون على بغداد وحالوا دون اتصال البصريين بها، بينما حاول البصريون الولوج إليها تلهفا على مقاسمة الكوفيين حظوتهم فلم يفلحوا، وفي حادثة سيبويه الماضية التي كان فيها القضاء عليه ما يشهد بتآمرهم عليهم ومناصرة العباسيين وبطانتهم لهم.
على أنه مع هذا العنت الشديد والضغط المقيت قد نفذ إلى بغداد قليل منهم "كاليزيدي" توفي 202هـ إلا أن اتصاله يرجع إلى حسن وقته الذي سهل له الدخول في غمار العلماء الكوفيين ببغداد، فإنه قدم إليها قبل استفحال العداء العلمي بين البلدين وقد ظهر فضله عند يزيد بن منصور خال المهدي فاستبقاه عندما استعرت نار المخاصمة، وطار به إلى قصور الخلفاء فجعله الرشيد من مؤدبي المأمون، ومع هذا فقد كان متطامنا أمام الكسائي أولا.
أما الأخفش الأوسط الذي قضى الشطر الأخير من حياته في بغداد فلسنا نحسبه فيمن نعد؛ إذ ما ارتحل إليها ليأخذ يحق سيبويه أستاذه من الكسائي وجها لوجه، لا رغبة في منزلة ولا في دنيا يصيبها، لكن الكسائي قد تغلب عليه بدهائه وقيده بإحسانه، فأقام عنده مؤدب أولاده حتى لقي ربه، ولقد كان لإقامته الطيبة مع الكسائي تأثيرها في نفسه حتى وافق الكوفيين في مسائل عدة ذات بال واحتذى حذوهم في العناية بالقياس وقد مر في ترجمته بسط المقال في ذلك.
1 اللاحب الطريق الواضح كاللحب والملحب ولحب كمنع وطئه وسلكه كالتحبه.
2 مراتب النحويين ص147، ونقل في المزهر المبحث الماضي.
هذا، وكما نفذ اليزيدي إليها كذلك نفذ إليها المبرد توفي 285هـ، بفضل لياقته البادية للخلفاء والأمراء فنال مكانته عندهما وبقي ناعم البال فيها، وشارك ثعلبا تعليم ابن المعتز، ولا سيما وقد هدأت فيها المنازعة وكادت تضع أوزارها، وما أشبه كلا الرجلين - اليزيدي والمبرد - بالآخر في الوسائل التي أتاحت لهما طيب الحياة ببغداد وإن اختلف زمانهما.
الحق أن السياسة هي التي عاضدت الكوفيين وأوجدت منهم رجالا كونوا مذهبا ناضل المذهب البصري، ولولاها لما ثبتوا أمام البصريين في مساجلاتهم بل ولما قهروهم في مواطن كثيرة ظلما وعدوانا، والدنيا منذ الخليقة مملوءة بالأغراض والشهوات.
والبصريون وإن لم ينصفوا في حياتهم إلا أنهم كوفئوا بعد مماتهم بتفضيل العلماء لمذهبهم، وببقاء أغلب مؤلفاتهم تشيد بذكراهم، أما الكوفيون فلم ينالوا الأمرين، فالعلماء يرون مذهبهم في وضعه اللائق به، ومؤلفاتهم قد أسدل التاريخ ستاره على كثير منها، حتى كأن لم تكن لولا تراجم أصحابها التي تطلعنا على مؤلفاتهم، ولولا ذكرها عرضا خلال الكتب في بعض الأحيان لمناسبة ذكر خلاف.
وعلى كل حال فقد كان تلاقي الفريقين في بغداد موجها أنظار العلماء فيها إلى عرض المذهبين وانتقادهما.