الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرابع: طور الترجيح "بغدادي
"
سلف أن هذا الطور كان التمهيد إليه على أيدي الخالطين النزعتين، وأن أساسه المفاضلة بين المذهبين: البصري والكوفي وإيثار المختار منهما.
ولقد أمعنوا في هذا الاختيار، فاصطفوا مسائل ذات بال مزيجا من المذهبين، على أنهم قد أسلمهم هذا الاستقراء البالغ خلال تلك الأيام إلى العثور على قواعد أخرى من تلقاء أنفسهم لا تمت بصلة إلى المذهبين تولدت لهم من اجتهادهم قياسا وسماعا، ذلك لأن سلائق العرب ما انفكت سليمة في البوادي إلى أواسط القرن الرابع الهجري كما تقدم، ومشافهة العلماء لهم حينئذ متيسرة إما بالرحلة إليهم في البادية وهي دانية منهم أو بالسماع منهم في الحضر إذ كان لفيف منهم ينتجعه استجداء للعطاء والتماسا للرزق، فكان ذلك المذهب في عمومه ملفقا من المذهبين مع بعض قواعد استنبطوها، وعلى هذا فمسائله إما كوفية أو بصرية أو مبتكرة بيد أنه لا يعزب عن الذهن أن مسائل المذهب الكوفي المختارة في أول تكوين المذهب الجديد كانت أكثر من البصرية، لأن الكوفيين غلبوا على أمرهم، فكان النفوذ في بغداد لهم، ولم يلبث هذا الشأن أن تغير بعد حين، فبعد موت العصبية وانقراض المتأثرين بها رجعوا إلى تقدير المذهب البصري والتنديد بالكوفي والحط من حججه، فابن الشجري يقول في أماليه "المجلس السادس" عند القضاء في المناظرة السابقة بين الكسائي والأصمعي وقد عرفت ما فيها ما لفظه "ولنحاة الكوفيين في أكثر كلامهم تهاويل فارغة من الحقيقة".
فهذا حكم يعطينا صورة صادقة عن عزوف المتأخرين عن المذهب الكوفي، وقد سلفت الإشارة إلى شيء من هذا عند الموازنة بين المذهبين.
من القواعد التي ركن فيها البغاددة إلى المذهب الكوفي:
1-
إعمال اسم المصدر عمل فعله كما تقدم.
2-
مجيء "بله" للاستثناء1.
3-
إعطاء المستثنى المتقدم على المستثنى منه حكم المستثنى منه على سبيل القياس، فيصير المستثنى منه المؤخر بدل كل لأنه عام أريد به خاص2.
4-
جواز نداء المعرف بأل في الاختيار دون التوصيل إليه بأي أو اسم إشارة3.
5-
عدم تنوين المنقوص الممنوع من الصرف مع الفتح حال الجر4.
6-
مراعاة لفظ الجمع في العدد فيجرد من التاء في نحو ثلاث حمامات5.
ومن القواعد التي عولوا فيها على المذهب البصري:
1-
عمل المصدر المنون عمل فعله، قال تعالى:{أَوْ إ ِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} {يَتِيمًا} 6.
ومن القواعد المستدركة وراء المستحسن من المذهبين:
1-
جواز تعريف الحال مطلقا خلافا للبصريين الموجبين التنكير مطلقا، والكوفيين إن لم يشعر بالشرط نحو عبد الله المحسن أفضل منه المسيء.
1 المغني الباب الأول "بله"، وجمع الجوامع باب الاستثناء.
2 همع الهوامع باب الاستثناء.
3 باب المنادى، الرضي على الكافية، وابن الناظم على الألفية.
4 شرح ابن يعيش: ما لا ينصرف.
5 شرح الأشموني: أول باب العدد.
6 سورة البلد، الآية:14.
2-
جواز عدم الفصل بين أن المخففة والفعل المتصرف، قال الرضي "وحكى المبرد عن البغاددة علمت أن تخرج بالرفع بلا عوض إلخ"1.
3-
جواز بناء اسم لا مع ارتباط الظرف والجار به، قال الرضي "وحكى أبو علي عن البغداديين أنهم يجيزون كون الظرف والجار في نحو لا آمر بالمعروف ولا عاصم اليوم من أمر الله من صلة المنفي المبني إلخ"2.
4-
جواز إتباع محل المعطوف عليه مع عدم أصالته، قال ابن هشام بعد ذكره الشرط الأول لصحة العطف عليه:"الثاني أن يكون الموضع بحق الأصالة فلا يجوز هذا ضارب زيدا وأخيه، لأن الوصف المستوفي لشروط العمل الأصل إعماله، لا إضافته لالتحاقه بالفعل، وأجازه البغداديون إلخ"3.
5-
تقدير عامل النصب في ويحه وأختيها من مادتها، قال خالد:"وذهب بعض البغداديين إلى أن "ويحه وويله وويسه" منصوبة بأفعال من لفظها"4.
هذا هو نمط المذهب البغدادي الذي زاوله كثيرون، ذكرنا بعضا منهم فيمن جمع بين النزعتين، ولقد مالوا أخيرا في مؤلفاتهم إلى جعل المذهب البصري أساسا وتلك السنة سرت فيمن بعدهم، وما تزال إلى أيامنا هذه في أكثر الكتب النحوية.
ظل المذهب البغدادي مدة مديدة، إذ كانت بغداد بلد الخلافة ومحج
1 شرح الكافية نواصب المضارع أن.
2 شرح الكافية اسم لا النافية للجنس.
3 المغني الباب الرابع، العطف على المحل.
4 التصريح المفعول المطلق.
العلماء طرا من أقاصي بلاد الإسلام، وإن كانت بغداد مضطربة الأحوال في هذا الحين باستبدال الأتراك بعد جرأتهم على الفتك بالخليفة جعفر المتوكل سنة 247هـ1.
إلا أن ذلك الاضطراب قد نفر قلوب أهل العلم الذين كان معظمهم من العرب والفرس، فأخذوا يتفرقون في البلاد شرقا وغربا، زرافات ووحدانا، والخلافة تزداد ضعفا على ضعف حتى انتثر نظمها بتغلب "بني بويه" على أمرها، وذلك على يد معز الدولة أبي الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه، فقد دخل بغداد من جهة الأهواز في عهد الخليفة "المستكفي بالله" وقبض على أزمة الدولة سنة 334هـ مع بقاء الخلافة صورية في بغداد2.
وقد تحاصت الدولة الإسلامية الجديدة من هذا الوقت في باقي الأقطار، وبذلك اختصت البويهية الفارسية بالعراق وفارس وخرسان إلى أن تغلب عليها السلاجقة التركية سنة 447هـ في عهد الخليفة القائم بأمر الله إذ ملك بغداد والعراق طغرلبك "محمد بن ميكائيل بن سلجوق" أول ملوك السلجوقيين، كما اختصت السامانية الفارسية بما وراء النهر، والغزنوية التركية
1 قتله مماليكه الأتراك باتفاق مع ولده محمد المنتصر على ذلك لأن المتوكل كان أراد خلعه من ولاية العهد وتقديم ابنه المعتز عليه فاتفق مع وصيف وموسى بن بغا وباغر على قتله فدخلوا عليه وعنده وزيره الفتح بن خاقات فأول من ضربه بالسيف باغر ثم أخذته السيوف حتى هلك فصاح وزيره ويحكم أمير المؤمنين فلما رآه قتيلا قال: ألحقوني به فقتلوه ولف وهو والفتح بن خاقان في بساط ثم دفنا بدمائهما من غير تغسيل في قبر واحد وذلك في ليلة الخميس خامس شوال سنة 247. وبويع بالخلافة بعده ابنه المنتصر محمد ويقال: إنه رأى أباه المتوكل في المنام فقال له: ويحك يا محمد! ظلمتني وقتلتني، والله لا تمتعت في الدنيا بعدي إلا أياما يسيرة ومصيرك إلى النار، فانتبه فزعا وقال لأمه: ذهبت عني الدنيا والآخرة، ومرض بعد أيام ومات بالذبحة في أوائل ربيع الأول سنة 248.
2 راجع حوادث 334 في النجوم الزاهرة.
بأفغانستان والهند، والحمدانية العربية بحلب وما بين النهرين، والإخشيدية التركية فالفاطمية العربية بمصر وبلاد المغرب، والأموية العربية بالأندلس، وغير هؤلاء بأقاليم أخر.
وتبع هذه التقاسيم توزع العلماء في مختلف هذه الأقطار، فتنقل هذا العلم في المدائن الإسلامية، وتدرج الانتقال من بغداد شرقا إلى العراق العجمي فخراسان فما وراء النهر، وغربا إلى الشام ومصر فالمغرب والأندلس، وقامت علماء هذه الدول الحديثة يشتغلون به كل في قطره على طبق ما توحيه إليهم الحياة الجديدة، فأخذ المذهب البغدادي يتلاشى رويدا رويدا.