الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انفراط عقد المذهب البغدادي بعد استيلاء بني بويه على بغداد:
لقد ظهر هذا المذهب -كما عرفت- على أيدي الخالطين النزعتين أواخر القرن الثالث، وبلغ أشده منذ أوائل الرابع، واستحكم شأنه تلك المدة التي التأم فيها الفريقان ببغداد إلى أن تضعضع شأن الخلافة العباسية بغلبة البويهيين عليها، فحينذاك تمزق الشمل، وتفرق العلماء، وما المذهب البغدادي إلا مذهب العلماء في بغداد، فكما انتثر جمعهم انفرط عقده.
ومن هنا يعرف أن انفراط المذهب البغدادي كان على سبيل التقريب بعد منتصف القرن الرابع الهجري، وبعبارة أخرى بعد انصرام النصف الأول تقريبا من عمر الدولة العباسية.
نعم، إن روح المذهب البغدادي بقي فيها ذماء1 في العراق العربي وما يليه شرقا ويقرب منه غربا إلى حين، لتقارب هذه البلاد وتماثل نزعات ذوي الشأن فيها، ويرى العلماء على حسب الاصطلاح المتواطأ عليه بينهم أن انفراط عقد المذهب البغدادي يعتبر حدا فاصلا بين المتقدمين والمتأخرين.
1 الذماء: الحركة، والمراد بقيت حية.
تشاطر الدول الإسلامية نهضة هذا العلم
انتهاء المتقدمين وابتداء المتأخرين
…
تشاطر الدول الإسلامية نهضة لهذا العلم:
انتهاء المتقدمين وابتداء المتأخرين:
لا ريب أن انتثار عقد المذهب البغدادي الناشئ عن انحلال عروة الدولة الإسلامية على يد البويهيين لم يصحبه تحديد الزمن الحقيقي في الفصل بين المتقدمين والمتأخرين، فما برح المتقدمون قبل الانتثار من العلماء أحياء على اختلاف في تفاوت أزمنتهم بعد قصرا وطولا، وجدير بهؤلاء أن يحفظ لهم ما اكتسبوه قبله، وأن يعدوا في مصاف المتقدمين، وأما من نشأ
من العلماء قبيله وامتدت أيامه وعاصر من جاء بعده فيسري عليه وضعه ويعد في جماعة المتأخرين.
فمناط العنوانين في الحقيقة راجع إلى طول المعاصرة للجيل المتقدم أو المتأخر، ومن ثمة اعتبر العلماء ابن درستويه، وابن الأنباري، ونفطويه وأندداهم من ساقه المتقدمين، كما اعتبروا أبا سعيد السيرافي، وأبا على الفارسي وابن خالويه وأترابهم مقدمة المتأخرين.
يؤيد هذا ما قاله الرضي استطرادا في باب اسم المفعول، لمناسبة الكلام على شروط عمله:"وليس في كلام المتقدمين ما يدل على اشتراط الحال أو الاستقبال في اسم المفعول، لكن المتأخرين كأبي علي ومن بعده صرحوا باشتراط ذلك فيه، كما في اسم الفاعل" وهذا الذي يتفق مع الواقع في الفصل بين المتقدمين والمتأخرين فالمتأخرون عندهم يبدءون من العلماء الذين قاموا بنهضة هذا الفن بعد انفراط المذهب البغدادي، واشتغالهم بعلم النحو في الممالك الإسلامية الحديثة، لا تجمعهم زعامة في قطر دون آخر طوعا للوضع الجديد من تعدد المماليك واستقلال كل بشئونها لضعف نفوذ الخلافة العباسية، إلا أن هدف العلماء على اختلاف مواطنهم واحد، فاستقروا في أوطانهم يتشاطرون الرفع من شأن هذا العلم، ويتبارون في الاستزادة منه.
وبعثهم هذا النشاط المتواصل إلى تقصي المسائل التي حدث فيها الاختلاف بين البصريين والكوفيين، وتدوينها للموازنة بين المذهبين، وتصويب المصيب وتخطئة المخطئ دون هوى أو ميل، والتاريخ لا يقول الحق إلا حين يطمئن لقوله بعد مواراة أرباب الشأن في الثرى، ولهذا ظهرت في هذه الحقبة بكثرة مؤلفات خاصة استعرضت ما اختلف فيه المذهبان ووازنت بينهما.
أما المؤلفات السابقة على هذه الحقبة فكانت تشوبها العصبية المذهبية، وقد عرضنا لسرد هذه المصنفات عامة فيما تقدم عند الكلام على "نتائج المخالفة بين المذهبين" للمناسبة هناك.
والمقصود هنا أن علماء هذه الحقبة أفرغوا جهدهم في إعلاء منارة هذا العلم، ونوعوا في مصنفاتهم ابتغاء الإحاطة بكل ما يتصل به، وافتنوا في تلوين عرض هذا الفن بصور مختلفة، وأدوا رسالتهم خير تأدية، وما فتئوا جادين في خدمة هذا العلم حتى آذنت شمس الدولة العباسية بالمغيب سنة 656هـ، فسقط كثير من هذه الممالك الإسلامية وراءها وطويت صفحاتها حينا من الدهر، فوهنت فيها اللغة العربية نفسها، وخفت صوت هذا الفن.
وبذلك انحصر الكلام في مطلبين:
الأول: في حالة هذا العلم ورجاله في عهد الدول الإسلامية الحديثة المتعاصرة من عهد بني بويه إلى سقوط بغداد.
والثاني: من سقوط بغداد إلى أيامنا الحاضرة.