الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: علم النحو في مصر والشام وعلماؤه
قد مضى أن القطرين في عصورهما الأولى لم يكونا مهدا وثيرا للنحو كما كانت بلاد المشرق، وحانت منهم التفاتات في أخريات الأيام إلى النحو، فظعنوا إلى العراق وسمعوا من علمائه ثم نشروه في القطرين، غير أنهم كانوا يعدون على الأصابع، وقد ذكرنا أشهرهم سابقا.
وفي غضون هذه المدة وقبيلها وبعيدها ورد بعض علماء العراق الشام كالزجاجي والفارسي وابن خالويه وابن جني، وبعضهم مصر كالتبريزي فقد عرفت في ترجمته أنه أقام بمصر فترة من الزمن تلقى عنه فيها ابن بابشاذ، وبعضهم القطرين غير أن ورود العلماء إلى القطرين يعتبر كرحلات في بلادهم الإسلامية فلا يترتب عليه آثار تجعل القطرين كالعراق مبعث العلم.
نعم، كان لتشجيع بني حمدان في الشام وتمجيدهم العروبة وعلماءها لأنهم عرب الداعي القوي في تحبيب العلماء الإقامة في الشام، فقد سبق أن ابن خالويه توطنها في ذرا سيف الدولة حتى توفي بحلب، ومن قبله الزجاجي الذي ما برح الشام حتى توفي بدمشق، ومن بعده ملك النحاة الذي نعم بخفض العيش في دمشق تحت ظلال نور الدين محمود بن زنكي، كما عرفت في ترجمته.
ظل القطران كذلك حتى قيضت لهما دولة الفاطميين التي كانت أوفر عناية مما قبلها، وبخاصة في الدواوين، إذ كانت تعمد إلى تعيين المراقب عليها ممن عرف بالنحو وعلوم اللغة العربية فلا تصدر مكاتبتها إلا بعد وقوفه عليها وموافقته على ما فيها لأن الدولة عربية، وممن تولى هذا المنصب فيها ابن بابشاذ وابن بري، ثم أعقبتها الدولة الأيوبية ولم تقصر شأوا عنها في هذا المضمار وإن كانت كردية الأصل.
أشهر نحاة القطرين:
1-
الحوفي: هو أبو الحسن علي بن إبراهيم، وأصله من شبرا النخلة "من حوف بلبيس" بمحافظة الشرقية، ورد القاهرة فسمع من أبي بكر الأدفوي وبعض علماء المغرب الذين نزحوا إلى القاهرة، وسرعان ما اشتهر علمه وأدبه، فتصدر لإقراء العربية، وصنف في النحو "الموضح" استوفى فيه العلل والأصول، وقد لاحظ عليه ابن هشام في مقدمة كتابه "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" فرط عنايته بإعراب الواضحات كالمبتدأ والخبر والفاعل ونائبه والجار والمجرور والعاطف والمعطوف مما لا حاجة إليه، توفي سنة 430هـ.
2-
ابن بابشاذ: هو أبو الحسن طاهر بن أحمد المصري، وأصله من الديلم ولد ونشأ بمصر، ثم وفد إلى العراق لتجارة اللؤلؤ فجنحت نفسه إلى تلقي العلم عن علمائه وفتح عليه، ثم قفل إلى مصر وتصدر للإفادة في جامع عمرو بن العاص وتولى ديوان الإنشاء للفاطميين حتى لا يخرج منه كتاب إلا بعد عرضه عليه، وله مصنفات نحوية، منها شرح الجمل للزجاجي، وشرح الأصول لابن السراج، والتعليق المشهور بتعليق الغرفة، وقد انقطع آخر أيامه لعبادة الله في جامع عمرو، وعلا سطحه في ليلة مقمرة وبعينيه بقية من النوم، فزلت قدمه، ومات سنة 469هـ1.
3-
ابن بري: هو أبو محمد عبد الله بن بري المصري، وأصله من المقدس، ولد ونشأ بمصر فأخذ عن الشنتريني النحوي وغيره، وشاع علمه فانتفع بالتلقي عنه خلق كثير، ورأس ديوان الرسائل كابن بابشاذ، وله مصنفات نحوية منها جواب المسائل العشر التي سأل ملك النحاة كما تقدم في ترجمته، ومع طول باعه في علوم اللغة كان يرسل كلامه كيفما
1 بابشاذ كلمة أعجمية بسكون الباء الثانية أو كسرها، وبإعجام الذال أو إهمالها معناها الفرح والسرور.
اتفق، وكانت فيه غفلة عجيبة في غير العلم توفي بمصر في شوال سنة 582هـ، وله ثلاث وثمانون سنة.
4-
ابن معط: هو أبو الحسين يحيى زين الدين بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي، ولد بالمغرب من قبيلة زواوة، سمع من الجزولي وابن عساكر، ثم رحل إلى دمشق واستوطنها، وفيها انتفع الخلق بعلمه دراسة وتصنيفا، ثم أرغبه الملك الكامل الأيوبي في القدوم إلى مصر فتصدر بالجامع العتيق لدراسة النحو والأدب على أجر جزيل، ومن مصنفاته النحوية "الألفية" التي أشار إليها ابن مالك في مستهل ألفيته، وشرح الجمل للزجاجي، توفي في ذي القعدة بالقاهرة ودفن بالقرب من الإمام الشافعي سنة 628هـ.
5-
ابن يعيش: هو أبو البقاء يعيش موفق الدين بن علي بن يعيش، نشأ بحلب، وتلقى النحو عن فتيان الحلبي وغيره ثم ارتحل إلى بغداد أملا في السماع من كمال الدين الأنبارى لكن شاء القدر أن لا يراه، فقد توفي قبيل وصوله إلى بغداد فعرج على الموصل ولبث بها مديدة، ثم عاد إلى حلب، ولما عزم على التصدر للإقراء رحل إلى دمشق فالتقى بالشيخ تاج الدين الكندي السالف ترجمته، ثم سأله عن مسائل كثيرة، ومنها إعراب ما ذكره الحريري في المقامة الرحبية العاشرة وهو "حتى إذا لألأ الأفق ذنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان" فاستبهم الإعراب على الكندي، ثم قال له: أردت إعلامي بمكانتك، وكتب بخطه شهادة بالثناء عليه، ثم قفل ابن يعيش بعد هذا التطواف إلى بلدة "حلب" واستقر فيها للإفادة فانتفع الناس به حتى دان له رؤساؤها بالتلمذة، وله شرح على "المفصل" في غاية الجودة، وشهرته تغني عن التعريف به، ولولا ضيق المجال لكتبت كلمة عنه أعرض فيها مزاياه وقد أفاض في ترجمة ابن يعيش تلميذه ابن خلكان في وفيات الأعيان، فقد تلقى عنه معظم كتاب "اللمع" لابن جني ونعته بالعلم والظرف والكياسة وخفة الروح، توفي رحمه الله بحلب "في جمادى الأولى"
ودفن بتربته بالمقام المنسوب إلى سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام سنة 643هـ "وله تسعون سنة".
6-
السخاوي: هو أبو الحسن علي علم الدين بن محمد، ولد في سخا "بمديرية الغربية" تلقى العلم عن البوصيري وغيره، ثم انتقل إلى دمشق وسمع من الكندي وغيره، وأربى على معاصريه مع الخلال الحميدة فازدحم الطلاب عليه في جامع دمشق، ومن تصانيفه النحوية شرح أحاجي الزمحشري، وشرحان للمفصل، وله ألغاز في النحو بديعة، توفي بدمشق سنة 643هـ1.
7-
ابن الحاجب: هو أبو عمر عثمان جمال الدين بن عمر الكردي الأصل المشهور بابن الحاجب لأن أباه كان حاجبا للأمير عز الدين موسك الصلاحي بالقاهرة، ولد ابن الحاجب بأسنا ثم تعهده أبوه بالقاهرة فحفظ القرآن ولما ييفع، وتلقى العلوم عن الشاطبي 2 وغيره فتبحر في العربية حدثا، ثم انتقل إلى دمشق فأكب الناس عليه في متنوع الفنون إلا أنه غلب عليه النحو، وتردد مرارا أمام قاضي الشام ابن خلكان بسبب أداء شهادات، فكان يسأله عن مشاكل في العربية ذكر بعضا منها في ترجمته في وفيات الأعيان، ثم عاد إلى القاهرة وتصدر بالمدرسة الفاضلية، ثم انتقل إلى الإسكندرية، كان رحمه الله أصفى الناس ذهنا وأقدرهم بيانا مع الإيجاز اشتهر بالتصانيف المختصرة المنقحة في جملة من العلوم ورزقت مصنفاته القبول، فمنها في النحو:"الإيضاح" شرح المفصل للزمخشري، و "الأمالي" الذي هو الغاية في الدقة، "والكافية" وشرحها، والكافية على وجازتها حوت مقاصد النحو بأسرها، فلا غرابة أن يتسابق حذاق النحاة في شرحها، ويضيق المقام عن استيعاب شروحها، وفي كشف الظنون تفصيلها، وممن شرحها: الرضي، والجامي، وسنذكر نبذة عن هذين الشرحين، في ترجمة أصحابهما، توفي رحمه الله في "شوال" بالإسكندرية سنة 646هـ، وله ست وسبعون سنة.
1 في النجوم الزاهرة. كان إماما علامة مقرئا محققا مجودا بصيرا بالقراءات ماهرا في النحو واللغة إماما في التفسير شيخا للقراء بدمشق مات في جمادى الآخرة سنة 463 وله خمس وثمانون سنة.
2 الشاطبي توفي سنة 790 فكيف يتلقى عنه وقد توفي قبله بأربع وأربعين ومائة سنة.