الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النحو والنحاة في عصر المماليك:
وضح مما فات أن المماليك قبضوا على زمام المقاليد في القطرين، والعراق في الاحتضار والأندلس في سبيل الزوال، وأن علماءهما لم يلفوا أمامهم موطنا يعيشون فيه ويجدون مبتغاهم من الهدوء ونشر العلوم والإفادة والاستفادة إلا القطرين، لا سيما وقد عرف عنهما حرب العلماء وإكبارهم، وأن العلماء بدورهم قد رأوا إقفار البلاد من الكتب العربية، يقول السيوطي وهو من علماء هذا العهد:"وقد ذهب جل الكتب في الفتن الكائنة من التتار وغيرهم بحيث إن الكتب الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدمين والمتأخرين لا تجيء حمل جمل واحد"1.
وربما كان في هذا الكلام شيء من العلو إلا أنه أيا ما كان دليل على إحساسهم بالنقص والخسارة؛ وواجب الدين في أعناقهم يقضي عليهم بإحياء ما درس من علوم لغة الدين، وبينهم بعض المشارقة الذين فروا من وجه المغول والجم الغفير من المغاربة، والأندلسيين الذين وردوا القطرين من عهد بعيد، فهبت حركة طيبة في علومها وفي مقدمتها النحو.
وفي الإنصاف أن نقول إن عماد هذه الحركة التي كانت فيها إمساك للحوباء2 إنما هم جالية الأندلس والمغرب الذين سلف ذكرهم، فإنهم لما ألبوا3 بالقطرين واتخذوهما مقرا لهم بثوا علمهم وأذاعوا مصنفاتهم فيهما بين الناس، فتخرج عليهم تلاميذ كانوا كواكب العصور المتأخرة وصارت مصنفاتهم نبراسا لمن صنف بعدهم من العلماء، ويرجع السبب في ذلك إلى أن رحلاتهم إلى القطرين كانت بعيدة العهد وطالت أيامها فاختلطوا بالعلماء قبل حادثهم بزمن غير قريب، ولا كذلك المشارقة الذين بغتوا بحادثهم
1 المزهر النوع الأول، المسألة السادسة عشرة بعد الكلام على جمهرة ابن دريد.
2 في القاموس: الحوباء: الناس.
3 في القاموس: ألب: أقام.
ولجئوا إلى القطرين فإنهم وردوهما وقد تشبع العلماء من روح المغاربة، ومن هنا ندرك:
السر في تغلب المذهب الأندلسي عند نحاة القطرين على البغدادي:
من الحديث السالف الذي وقفت منه على تبكير المغاربة عن المشارقة في النزوح إلى القطرين واستيطانهما ومعهم مؤلفاتهم وقد تكون لديهم مذهبهم تدرك أن مذهبهم سبق المذهب البغدادي إلى علماء القطرين، فإن علماءهما قد تتلمذوا لهم فتشبعوا بروحهم وتغلب المذهب الأندلسي عليهم، فتغلغل في الدراسة والتصنيف والرأي أخيرا.
فألفية ابن مالك الأندلسي التي كثرت الشروح عليها، وطاف المؤلفون في القطرين حولها هي التي توزعت دراستها على مراحل التعليم باعتبار شروحها سهولة وصعوبة، واختصارا واتساعا، وكذا "الكافية الشافية" له أيضا، وقد راجت أقوال ابن مالك حتى عند المشارقة، وقد نقل الرضي عنه كثيرا في شرحه على "الكافية" لابن الحاجب، وبالجملة فإن اتجاه النحاة بعد اقتفى المنهاج الأندلسي وما برح إلى عصرنا الحاضر في القطرين ففي هذا العصر فاضت دراسة النحو في أغلب مدن القطرين، وبخاصة في القاهرة ودمشق وحلب.
وقد كانت الدراسة أول أمرها أشبه شيء بعلاج المريض الذي لم يبق فيه إلا الذماء1 ولكن اطرادها على طول الأيام محفوفة بالترغيب والتقدير قد أكسبها استعادة ما فقد النحو من الازدهار، فظهر في البلدين جهابذة العلام2 الذين حفظوا وجود هذا العلم بعد نكبتي المشرق والمغرب ونقلوه كاملا غير منقوص لمن بعدهم ممن حدثوا في عصورهم الظلام، ونشطت حركة التأليف لتزايد الإقبال عليها، ومن مظاهر هذا النشاط أن توخى أغلب
1 الذماء: بقية النفس.
2 العلام: جمع علامي: الخفيف الذكي.
المؤلفين في مؤلفاتهم المتعددة التدرج والتنويع فيها لاختلاف قدر الطالبين من مبتدئ وشاد ومنته، فجمعوا فيها بين وجيز ووسيط وبسيط حبا في تعميم النفع كما صنع ابن مالك وابن هشام والسيوطي، نعم إن التأليف على عمومه في خلال هذا العهد قد طرأ عليه اتجاه جديد، وذلك أن معظم المؤلفات السابقة كانت زعيمة بالإبانة عن نفسها بنفسها لا ترتقب تفسيرا ولا توضيحا مع النزوع إلى الوجهة النحوية، يستوي في هذا مطولها ومختصرها، إذ لم يقصد واضعو المختصرات سابقا إلا مجرد التسهيل على المبتدئ بذكر جزئيات من مسائل العلم تؤنسه إذ وجه فيه، فساوت عبارتها في التأدية ما فيها من المعاني، وممن ألف مختصرا على هذا النهج قديما الزجاجي في الجمل "الجمل الكبيرة" وعبد القاهر الجرجاني في "جمله" أيضا.
أما في هذا العهد فقد طفق المؤلفون ينشئون المتون مع استيعابها لما في المطولات ويفتنون في سبيل إيجازها ما وسعته قدرتهم، ومن هنا مست الحاجة إلى الشروح وربما جللت بالحواشي، وأقرب الأمثلة لهذا شروح كافية ابن الحاجب وألفية ابن مالك وكافيته ومغني ابن هشام وتوضيحه وبعض حواشيها، وهذه المؤلفات التي كانت غزيرة المادة العلمية من الجهة النحوية لم يعبها إلا ما شابها في الشروح والحواشي من: " كثرة بيان اللهجات العربية لكثير من الكلمات مما يمت إلى فقه اللغة بسبب وثيق، ومن التعليل والتوجيه لمتضارب الآراء النحوية مما لا يعود بطائل على النحو، ومن محاولة أخذ القاعدة النحوية من مادة الكتاب المعلق عليه وكثيرا ما يكون في العبارة قصور في الدلالة، لكن هذه الهنات لم تذهب بمحاسن هذه المصنفات، وجلها ما يزال إلى يومنا عتاد طلاب النحو ومطمح أنظارهم، ويظهر أن الحامل لهم على الإكثار من المتون حبهم في سرعة تلافي ما ضاع من كتب النحو، والمتون كفيلة بجمع ما كثر من القواعد في موجز الكلام، فلكي يسهلوا على الراغبين جمع شتات هذا الفن في قبضة اليد صنفوها كعلاج بدا لهم، فلم يكن بعد هذا بد من شروح تكشف قناع هذه المخدرات المكنونة،
وبالتالى قد تقتضي الشروح تفصيلا لما أجمل فيه فكانت بعض الحواشي، فما أجدر عهد المماليك بتسميته عهد المتون والشروح، وسيتبين لك عند تراجم علمائه أن معظم مؤلفاتهم متون وشروح، فقلما ترى حاشية لمؤلف منهم، كل ذلك والأقطار الإسلامية الأخرى منصرفة عن هذا العلم وغيره، ترزح تحت نير الظلم من ملوك لا تحنو على اللغة وعلومها ولا تربطها بها أسباب، فإن المطالع لصفحات تاريخ النحويين لهذا العهد لا تكاد تقع عيناه عليهم إلا متوطنين بالقطرين إما نازحين إليهما أو مولودين بهما، فمما لا مرية فيه أنه لولا القطران في هذا الأمد لانقطعت الصلة بين النحو قديمه وحديثه، ولكان له نظام آخر -تلك هي حالة هذا العلم ورجاله- وهاك بعض مشهوريهم مع الترتيب الزمني في وفياتهم:
1-
ابن الناظم: هو محمد بدر الدين بن محمد، ولد بدمشق فأخذ عن أبيه ونشأ حاد الذهن إلا أنه غلبت عليه معاشرة الشذاذ فأقصاه أبوه فأقام في "بعلبك" وانتفع الناس بعلمه، وكانت له مشاركة في علوم كثيرة، ومن مؤلفاته النحوية شرحه على "ألفية" والده.
نبذة عن شرح ابن الناظم:
يغلب على الظن أنه أول شرح على الألفية مهد السبيل لمن شرحوا الألفية بعده، نقلوا عنه وعنوا ببسط ما فيه حتى امتاز أن يصير علما بالغلبة "للشارح" إذا أطلق في هذه المصنفات، وقد تعقب ابن الناظم أباه كثيرا، دون هوادة، انظر باب "المفعول المطلق والتنازع والصفة المشبهة"، وربما حمله التعقب إلى الإتيان ببيت بدل بيت الناظم، ففي باب التنازع رأى أن قول أبيه:
بل حذفه الزم إن يكن غير خبر
…
وأخرنه إن يكن هو الخبر
يفيد أن ضمير المتنازع فيه إن كان المفعول الأول في باب ظن يجب حذفه مع أنه لا فرق بين المفعولين، فاستصوب أن يقول بدله:
واحذفه إن لم يك مفعول حسب
…
وإن يكن ذاك فأخره تصب
إلا أن الشراح بعده من: ابن هشام وابن عقيل والأشموني وغيرهم تصدوا للرد عليه بما جعل حملاته على الناظم طائشة كما ترى فيها مبسوطا.
وقد وردت فيه بعض شواهد محرفة نقلها عنه من بعده، ومن ذلك على سبيل المثال: استشهاد في أول باب "نعم، وبئس" للكوفيين على اسميتها بقول الراجز:
صبحك الله بخير باكر
…
بنعم طير وشباب فاخر
وصحة الشطر الثاني "بنعم عين إلخ" كما في لسان العرب، وشرح القاموس، وعلى هذا ضاع الاستشهاد بالبيت، مع أنه اقتفاه في هذا الاستشهاد الأشموني.
ويلاحظ عليه أنه ربما ساق بعض شعر المحدثين استدلالا، فقد جوز ذكر الخبر بعد لولا إن دل عليه دليل كقول أبي العلاء المعري:
يذيب الرعب منه كل عضب
…
فلولا الغمد يمسكه لسالا
ثم الشارح في الواقع مغلق ولهذا كثرت الحواشي عليه: فكتب عليه ابن جماعة والعيني والسيوطي وزكريا الأنصاري وابن قاسم العبادي وغيرهم، ومنها شرحه على "كافيته" أيضا، ولما توفي أبوه استدعي إلى دمشق فولي وظيفة أبيه ومات بمرض القولنج شابا بدمشق سنة 686هـ1.
2-
ابن النحاس: هو أبو عبد الله محمد بهاء الدين بن إبراهيم الحلبي، أخذ العربية عن ابن عمرون، والقراءات عن الضرير وسمع من غيرهما، ودخل مصر وتلقى عن مشايخها ثم صار إمام المصريين في العربية، وفي فوات الوفيات ترجمة "محمد بن رضوان" من شعره إلى الشيخ بهاء الدين:
سلم على المولى البهاء وصف له
…
شوقي إليه وإنني مملوكه
1 ترجمته في الوافي بالوفيات، وبغية الوعاة، وشذرات الذهب.
أبدا يحركني إليه تشوقي
…
جسمي به مشطوره منهوكه
لكن نحلت لبعده فكأنني
…
ألف وليس بممكن تحريكه
واستطرف ابن هشام الأبيات فذكرها للمناسبة في تقدير الحركات الإعرابية في المقصور "شرح شذور الذهب" ولم يصنف ابن النحاس إلا ما أملاه على "المقرب" لابن عصفور، توفي بمصر سنة 698هـ1.
3-
المرادي: هو الحسن بن قاسم المصري، أخذ عن أبي حيان وغيره، وصنف وتفنن وأجاد، فمن مصنفاته شرح المفصل، وشرح التسهيل، والجنى الداني في حروف المعاني، وشرح الألفية، ومؤلفات المرادي مصادر لدى النحاة وثيقة، فالدماميني عول في شرح التسهيل على شرحه، والأشموني نقل في شرح "الألفية" كثيرا عن شرحه، وقالوا: إن ابن هشام، استفاد في "المغني" من الجنى الداني، توفي بالقاهرة سنة 749هـ2.
4-
ابن هشام: هو أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف الأنصاري، ولد بالقاهرة ولزم عبد اللطيف بن المرحل وسمع على أبي حيان ديوان زهير، وحضر دروس التاج التبريزي، ثم فاق أقرانه بل شيوخه وتخرج على يده الكثير، صنف المؤلفات المليئة بالفوائد الغريبة والمباحث الدقيقة والاستدراكات العجيبة مع التصرف في منهجها والتنويع في إفادتها مما يدل على الاطلاع الغريب، فمنها: شذور الذهب في معرفة كلام العرب وشرحه، وقطر الندى وبل الصدى وشرحه، وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، وشرح التسهيل لابن مالك، والجامع الكبير، والجامع الصغير، والإعراب عن قواعد الأعراب، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب الذي طارت شهرته إلى المغرب، يقول ابن خلدون: "ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من
1 ترجمته في بغية الوعاة، وفوات الوفيات، وشذرات الذهب.
2 ترجمته في البغية، وحسن المحاضرة "أئمة النحو واللغة"، والدرر والشذرات.
مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها إلى أن قال: فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه والله يزيد في الخلق ما يشاء"1.
إن ابن هشام نسيج وحده، فما من كتاب له إلا وفيه شاهد على علو كعبه، ولتتبين ذلك فأمامك التوضيح والمغني.
تعريف بكتابي التوضيح والمغني:
ففي التوضيح توخى شرح الألفية مع الإلماع إلى ما فاتها: من استكمال لبعض الأقسام، ومن انسجام في ترتيب المعلومات، ومن تنسيق في ضم القواعد المتصلة بعضها ببعض كما يظهر جليا في باب التصريف، وذلك فوق التخطئة في الأحكام لمسائل كثيرة سأقتصر على قليل منها على سبيل التمثيل خوف التطويل، فقد عقب على البيت الأول في باب التمييز وهو:
اسم بمعنى من مبين نكره
…
ينصب تمييزا بما قد فسره
بأن تمييز النسبة ناصبه المسند لا النسبة، وفي باب الإضافة عقب على البيت:
قبل كغير بعد حسب أول
…
ودون والجهات أيضا وعل
بأن "حسب" لا تعرب نصبا إذا نكرت وأن "عل" لا تضاف ولا تنصب على الظرفية أو غيرها، وفي باب الوقف عقب على البيت:
بأن المضارع المجزوم الباقى على حرفين لا تجب فيه هاء السكت بدليل إجماع المسلمين في الوقف على "ولم أك" بترك الهاء.
وفي المغني نهج سبيلا لم يسبق إليه، أتاح له ألا يدع مسألة نحوية إلا
1 المقدمة الفصل الثالث علوم اللسان، علم النحو، ومن إعجاب ابن خلدون ذكر مثل ذلك قبلا في المقدمة فصل "في أن كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل".
عرض لها بإبداع مع عدم تكرار، فأوفى على الغاية، وفي خلال تفصيلاته وازن كثيرا بين المذاهب النحوية وإن كان صغوه1 مع البصريين.
فمما اختار من مذهب الكوفيين:
1-
إنكارهم وجود أن المفسرة قال: "وعن الكوفيين إنكار أن التفسيرية ألبتة وهو متجه عندي إلخ"2.
2-
اختيارهم شرطية "أن" المدغمة في "ما" نحو أما أنت منطلقا انطلقت، قال:"وإليه ذهب الكوفيون ويرجحه عندى أمور إلخ"3.
ومن الاتفاق والمصادفات أن هذا الترجيح سبق للرضي كما تقدم في ضمن المسائل التي فضل فيها رأي الكوفيين مستدلا في هذا الاختيار بعين ما استدل به ابن هشام، مع أن ابن هشام ولد بعد وفاة الرضي بنحو عشرين عاما، ولذلك قال البغدادي في خزانة الأدب الشاهد الخمسين بعد المائتين للاشتراك بين الرأيين ما نصه:"وهذا من توافق الخاطر كما يقال: قد يقع الحافر موضع الحافز".
3-
إعراب فعل الأمر بالجزم بلام الأمر المقدرة لأنه مقتطع من المضارع المجزوم بها، قال:"فحذفت اللام للتخفيف وتبعها حرف المضارعة، وبقولهم أقول لأن الأمر معنى إلخ"4.
4-
عدم وجوب أن تكون أم المنقطعة بمعنى بل والهمزة جميعا، قال:"والذي يظهر لي قولهم إذ المعنى في نحو {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} 5 ليس على الاستفهام إلخ"6.
هذا، وفي بعض شواهده عرض تحريف لا نحسبه عليه في هذا المؤلف الكبير ومن ذلك على سبيل المثال:
1 أي: ميله.
2 الباب الأول "أن".
3 المبحث الماضي.
4 الباب الأول "اللام".
5 سورة الرعد، الآية:16.
6 المغني الباب الأول "أم".
1-
استشهاده في مبحث "التاء" للمناسبة على قلة تقدم الخبر جملة بقول الفرزدق:
إلى ملك ما أمه من محارب
…
أبوه ولا كانت كليب تصاهره1
والصواب "أبوها" كما يقتضيه البيت التالي وهو:
ولكن أبوها من رواحة ترتقى
…
بأيامه قيس على من تفاخره
وبهذا صار البيت شاهدا على تقدم الخبر شبه جملة لا جملة كما هو ظاهر.
2-
استشهاده في مبحث "كل" على وجوب مراعاة معناها بحسب المضاف إليه النكرة، فهو مثنى في قول الفرزدق:
وكل رفيقي كل رحل وإن هما
…
تعاطي القنا قوما هما أخوان2
وبالنظر إلى روايته "قوما" بالتنوين قال: "وهذا البيت من المشكلات لفظا وإعرابا ومعنى فلنشرحه إلخ"، ثم قال ما قال بناء على روايته الخاطئة، وسيأتي في ترجمة الدماميني شارح المغني تصحيحها بما يفيد أنه مثنى مرفوع مضاف لا مفرد منصوب منون.
ومما يجدر التنويه به أن ابن هشام في المغني لم يقف عند المسائل النحوية، فتناول فيه بعض المسائل البلاغية، لا لتقليد السابقين من النحاة، ولذا يقول: "ولم أذكر بعض ذلك في كتابي جريا على عادتهم، وأنشد متمثلا:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزية أرشد
بل لأني وضعت الكتاب لإفادة متعاطي التفسير والعربية جميعا"3
1 البيت من قصيدة في مدح الوليد بن عبد الملك بن مروان.
2 البيت من قصيدة في ذئب نزل به وقراه.
3 آخر الباب الخامس، والبيت لدريد بن الصمة الجشمي من مرثية في أخيه عبد الله المقتول يوم اللوي، وغزية رهط دريد أو جده، والمرثين في الحماسة "الرثاء".
يريد أن ما ذكره منها ليس اقتفاء لغيره حتى يحتاج إلى الاعتذار بإنشاد البيت وإنما لقصده أن المغني يجمع بين الأمرين، ويروى أنه قيل لابن هشام: هلا فسرت القرآن، أو أعربته، فقال أغناني المغني.
كنت أود أن أذكر تعريفا خاصا بكتاب "المغني" أعرض فيه سبب التأليف له واتجاهه فيه ونقده للنحاة وانتحاءه منحى قويا في الاستشهاد بالقرآن الكريم، ومآخذه على العلماء في أعاريب مشتهرة، وما إلى أولئك من مزايا أخرى، ولكن لا يتسع هذا الكتاب لكل ما نود، وما يجدي التعريف إلا بسفر خاص به.
غير أنه مما لا ينبغي التساهل فيه أن أنبه على أن المغني قد تبارى العلماء في التعليق عليه مذ ظهر فشرحه ابن الصائغ إلى أثناء الباء الموحدة وسمي شرحه "تنزيه السلف عن تمويه الخلف"، والدماميني بعد أن علق عليه في الديار المصرية ونزح إلى الهند شرحه بتوسع وسمى شرحه "تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب"، وفي هذا الشرح اعتراضات على المغني كثيرة تعقبها الشمني في حاشيته عليه المسماه "المنصف من الكلام على مغني ابن هشام"، وللسيوطي حاشية على المغني وصل فيها إلى "حتى" وللأمير حاشية تامة، والدسوقى أيضا، وكذا الإبياري سماها "القصر المبني على حواشي المغني" وصل فيها إلى أول الباب الثاني، توفي ابن هشام بالقاهرة ودفن خارج باب النصر سنة 761هـ1.
5-
ابن عقيل: هو أبو عبد الرحمن عبد الله بهاء الدين بن عبد الرحمن الحلبى أصلا، تلقى عن الجلال القزويني وأبي حيان وغيرهما، واشتهر في العربية حتى تبوأ منزلة مشايخه، ودرس بالقطبية والخشبية والجامع الناصري بالقلعة والجامع الطولوني، وولي القضاء الأكبر لشهرته بالتدين، إلا أنه كان غير محمود التصرفات المالية على نفسه.
1 ترجمته في الدرر والبغية، وحسن المحاضرة، والشذرات، والبدر الطالع.
ومن مؤلفاته النحوية: شرحه على التسهيل "المساعد على تسهيل الفوائد، وتكميل المقاصد"، وشرحه على الألفية.
كلمة عن شرحه على الألفية:
يمتاز هذا الشرح بالسهولة، فلا يحتاج الطالب الشادي إلى تفهيمه من موقف، وليس من المبالغة أن يقال: إن هذا الشرح هو الذي أرشد المتعلمين إلى معرفة المراد من الألفية تماما، فإن عنايته متجهة إلى إيضاحها، وتبيان المقصود منها.
وهو شرح حسن، متوسط في النصف الأول ومختصر في النصف الثاني، وتتجلى فيه مواءمة ابن عقيل للناظم، ولهذا دافع هجوم ابنه عليه في شرحه كثيرا، فيقول مثلا في باب المفعول المطلق: "وقول ابن المصنف إن قوله: وحذف عامل
…
ليس بصحيح".
وقد اهتم العلماء بهذا الشرح وكتبوا عليه الحواشي، فمنها:
حاشية "إرشاد النبيل إلى ألفية ابن مالك وشرحها لابن عقيل" لابن الميت وحاشية لعطية الأجهوري، وحاشية للسجاعي، وحاشية للخضري، توفي ابن عقيل ودفن بالقرب من الإمام الشافعي سنة 769هـ1.
6-
ابن الصائغ: هو محمد شمس الدين بن عبد الرحمن، أخذ عن ابن المرحل، ولازم أبا حيان، فمهر في العربية مع النشاط وحدة الذكاء ودماثة الأخلاق، فسرعان ما تبوأ المناصب العليا، فولي قضاء العسكر، وإفتاء دار العدل، ودرس بالجامع الطولوني، وصنف وأبدع فمن مؤلفاته النحوية: شرح الألفية، والتذكرة عدة مجلدات، والمرقاه في إعراب لا إله إلا الله وحاشية على المغني سلفت الإشارة إليها، والوضع الباهر في رفع أفعل الظاهر، وهذا الكتاب مسطور في "الفن السابع" من الأشباه والنظائر، توفي بالقاهرة سنة
1 ترجمته في الوافي، والدرر، والبغية، وحسن المحاضرة، والشذرات، والبدر الطالع.
776هـ1.
7-
ناظر الجيش: هو محمد محب الدين بن يوسف، ولد بحلب واشتغل بها، ثم قدم إلى القاهرة، ولازم أبا حيان وغيره، ومهر في العربية، وولي ناظر الجيش وغيره فكان المثل الأعلى في الكياسة والجود والتدين ومن مؤلفاته النحوية: شرح التسهيل "تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد" توفي بالقاهرة سنة 778هـ2.
8-
ابن جماعة: هو محمد عز الدين بن أبي بكر بن عبد العزيز، ولد بينبع، أخذ عن ناظر الجيش والسيرامي وغيرهما، ثم صار المشار إليه في الديار المصرية في فنون شتى، ولم يتزوج وكان فيه ميل إلى السهولة والمزاح، وجاوزت مؤلفاته الألف، منها في النحو: حاشية على شرح ابن الناظم تسمى "المسعف والمعين في شرح ابن المصنف بدر الدين"، وحاشية على المغني، وحاشية على شرح التوضيح، توفي سنة 819هـ3.
9-
الدماميني: هو محمد بدر الدين بن أبي بكر بن عمر المخزومي أصله من دمامين "قرية قريبة من الأقصر" ولد بالإسكندرية وتعلم بها ثم هبط مصر وارتفع قدره فيها فالتف حوله الطلاب بالأزهر، ثم اشتغل بالدنيا ولما نكب بالحريق هرب من الغرماء إلى الصعيد فاستقدموه مرغما، وبعد صلاح حاله غادر الديار المصرية فدرس في جامع زبيد باليمن وترك اليمن متجها إلى الهند، وهناك صعد نجمه وأقبلت الدنيا عليه فتفرغ للتعليم والتصنيف.
فمن مؤلفاته النحوية: شرح التسهيل لابن مالك "تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد" عول فيه كثيرا على شرح المرادي للتسهيل، وقد ألفه تلبية لطلب السلطان "أحمد شاه"، وفي مستهل الشرح بعد الإهداء كلمة عن ابن مالك ومؤلفاته.
1 ترجمته في الوافي، والدرر، والبغية، وحسن المحاضرة، "الفقهاء الحنفية" والشذرات.
2 ترجمته في الدرر، والبغية، وحسن المحاضرة: الفقهاء الحنفية، والشذرات.
3 ترجمته في الدرر، الضوء اللامع، البغية، حسن المحاضرة، الشذرات، والبدر الطالع.
وله تعليق على المغني كتبه بالديار المصرية، وشرح مزيج على المغني ألفه بالهند سماه "تحفة الغريب في الكلام على مغني اللبيب" إجابة لرغبة السلطان محمد شاه، وفي هذا الشرح جلى عن غزارة مادة وعبقرية فذة، بيد أنه أسرف في تعقبه لابن هشام مما حمل الشمني على محاولة الرد عليه دائما في حاشيته "المنصف من الكلام على مغني ابن هشام" ففي التسمية ما يغني عن البيان.
والحقيقة أن "الدماميني" في بعض الأحايين يكون متوخيا لإصابة الحق في اعتراضه، فمن هذا على نمط التمثيل تخريج ابن هشام في مبحث "كل" قول الفرزدق:
وكل رفيقي كل رحل وإن هما
…
تعاطي القنا قوما هما أخوان
بناء على ظنه تنوين "قوما" إذ قال: "وهذا البيت من المشكلات لفظا وإعرابا ومعنى" فأبان الدماميني أن "قوما" مثنى، وطاح كلام ابن هشام من أساسه.
كان الدماميني رحمه الله أديبا جيد النظم فترى طلاوة أدبه في ألغازه النحوية المشهورة التي يستهلها بخطاب علماء الهند، فمنها ألغازه في مفرد جمع المذكر السالم فقد اشترطوا علميته إن لم يكن وصفا، ومع هذا فلا يجمع بعد إلا مقصودا تنكيره بأن يراد به واحد مسمى به، وذلك لأن العلم يدل على التشخص والجمع يدل على الشيوع والتعدد فيتنافيان، فيقول:
أيا علماء الهند لا زال فضلكم
…
مدى الدهر يبدو في منازل سعده
ألم بكم شخص غريب لتحسنوا
…
بإرشاده عند السؤال لقصده
وها هو يبدي ما تعسر فهمه
…
عليه لتهدوه إلى سبل رشده
فيسأل ما أمر شرطتم وجوده
…
لحكم فلم ترض النحاة برده
فلما رأيتم ذلك الأمر حاصلا
…
أبيتم ثبوت الحكم إلا بفقده
وهذا لعمري في الغرابة غاية
…
فهل من جواب تنعمون برده
وقد أجاب بعض الفضلاء عليه بشعر من بحر وروي السؤال كما في حاشية العطار على الأزهرية مبحث جمع المذكر السالم، ومنها ألغازه في جر الفاعل وقد ذكره في "تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب" عند الكلام على الجملة الرابعة المضاف إليها من الجمل السبع التي لها محل من الإعراب في "الباب الثاني".
وذلك أن ابن جني في الجزء الأول من الخصائص "باب في الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى" للمناسبة قال في بيت طرفة العبدي:
بجفان تعتري نادينا
…
من سديف حين هاج الصنبرِ1
"يريد الصنبرُ فاحتاج للقافية إلى تحريك الباء، وكان يجب على هذا أن يضم الباء فيقول: الصنبرُ لأن الراء مضمومة إلا أنه تصور معنى إضافة الظرف إلى الفعل فصار إلى أنه كأنه قال حين هيْجِ الصنبرِ، فلما احتاج إلى حركة الباء تصور معنى الجر فكسر الباء، وكأنه قد نقل الكسرة عن الراء إليها إلخ".
فقال الدماميني على هذا التقدير ملغزا:
أيا علماء الهند إني سائل
…
فمنوا بتحقيق به يظهر السر
أرى فاعلا بالفعل أعرب لفظه
…
بجر ولا حرف يكون به الجر
وليس بمحكي ولا بمجاور
…
لدى الخفض والإنسان للبحث يضطر
فهل من جواب عندكم أستفيده
…
فمن بحركم ما زال يستخرج الدر
وأجاب عن هذا اللغز نظما أيضا من البحر والروي السجاعي فانظره في ترجمته في الجبرتي.
قال الشمني تعليقا على الدماميني: "قد سبقه إلى الإلغاز بهذا فرج بن قاسم الأندلسي في منظومته النونية في الألغاز النحوية"، وهذا مبني على
1 بجفان متعلق بالفعل قبل وهو ندعو، وتعتري نادينا تلم به، والنادي مجلس القوم، والسديف قطع السنام، والصنبر أشد ما يكون من البرد، والبيت من قصيدة طويلة.
القطع بسكون الباء في الصنبر، لكن في الصحاح ورودها بالكسر أيضا فلا إلغاز، وقد نقل ذلك كله تفصيلا البغدادي في الخزانة مكررا في شاهدي 607 و759، بل على السكون قد يكون الكسر للتخلص لا للنقل فلا إلغاز أيضا كما قال الخضري على ابن عقيل أول باب الفاعل، توفي الدماميني بالهند في كليرجا سنة 827هـ1.
10-
الشمني: هو أبو العباس أحمد تقي الدين بن محمد المشهور بالشمني "نسبة إلى مزرعة ببلاد المغرب" ولد بالإسكندرية وقدم مع أبيه القاهرة فتلقى النحو عن الشطنوفي وبقية الفنون عن أساتذتها، ثم صار واحد العصر في سائر الفنون، وتزاحم الناس في الأخذ عنه إذ كانت التلمذة له مفخرة، وولي المشيخة والخطابة بقايتباي، وطلب للقضاء فأبى، وله في النحو حاشية على المغني وشرح الدماميني سماها:"المنصف من الكلام على مغني ابن هشام" وسبقت الإشارة إليها، وقد وهبها الله القبول فحرص الناس على قراءتها، غير أنها في الحقيقة ليست من الحواشي الضافية التى أسبغت ثوبا جديدا على ما تعلق عليه، فليس من المبالغة قول الشوكاني عليها في أثناء الكلام على ترجمة الشمني في البدر الطالع:
"وقد رأيت حاشية على المغني وحضرت عند قراءة الطلبة علي في الأصل فما وجدتها مما يرغب فيه لا بكثرة فوائده ولا بتوضيح خفي ولا بمباحثه مع المصنف، بل غايتها نقول من كلام الدماميني وإني لأعجب من تنافس الناس في مثلها"، توفي رحمه الله بالقاهرة سنة 872هـ2.
11-
خالد الأزهري: هو خالد بن زين الدين بن عبد الله، ولد بجرجا "في الصعيد" وتحول وهو طفل مع أبيه إلى القاهرة، ثم حفظ القرآن وخدم
1 ترجمته في البغية، وحسن المحاضرة، والضوء اللامع، والشذرات والبدر الطالع.
2 ترجمته في البغية، وحسن المحاضرة "الفقهاء الحنفية" الضوء اللامع، والشذرات، والبدر.
في الأزهر وقادا فسقطت منه يوما فتيلة على كراس أحد الطلبة فشتمه وعيره بالجهل فعز عليه شتمه، واشتغل بالعلم بعد أن جاوز العقد الثالث وقرأ في العربية على يعيش المغربي والسنهوري، وأخذ قليلا عن الشمني والمناوي وغيرهما، وقد بورك له في عمله فصنف مؤلفات انتفع بها لإخلاصه، منها في النحو: التصريح بمضمون التوضيح، والأزهرية وشرحها وشرح الآجرومية، وشرح قواعد الإعراب لابن هشام، وإعراب الألفية، توفي عائدا من الحج في "بركة الحج" قليوبية توفي سنة 905هـ1.
12-
السيوطي: هو أبو الفضل عبد الرحمن جلال الدين بن أبي بكر، نشأ يتيما وكان ذكيا حُفَظَةً فتلقف مشايخ العصر في كل فن، وأخص مشايخه في النحو الشمني والسيرامي والكافيجي، ونفر في سبيل العلم إلى الشام والحجاز واليمن والهند، فأعطاه ربه ما أرضاه، وصنف مؤلفات في متنوع العلوم تربو على الثلاثمائة فسبحان الوهاب، ومن أشهرها في النحو الأشباه والنظائر، وجمع الجوامع وشرحه همع الهوامع، والنكت تعليقا على "ألفية ابن مالك والكافية والشافية لابن الحاجب والشذور ونزهة الطرف لابن هشام"، والاقتراح في أصول النحو، ومن مؤلفاته الممتعة "المزهر" في علوم اللغة وأنواعها، و"بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة" وهذه الكتب من المراجع القيمة التى لجأنا إليها في هذا الكتاب، وبعد فلا أستطيع في هذه الكلمة الموجزة إيفاء المترجم حقه، وقد ترجم لنفسه في الجزء الأول من كتابه "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" فارجعْ إليه تَرَ العجب العجاب توفي بالقاهرة سنة 911 هـ2.
13-
الأشموني: هو أبو الحسن علي نور الدين بن محمد بن عيسى الأشموني أصلا، ولد بقناطر السباع وتوطن القاهرة مكبا على العلم مع
1 ترجمته في شذرات الذهب والضوء اللامع.
2 ترجمته أيضا في البدر، والضوء اللامع، والشذرات.
التقشف في مأكله وملبسه ومفرشه لا هم له إلا العلم والطاعة، أخذ عن الجلال المحلي والكافليجي والتقى الحصني وغيرهم، ومن أشهر مؤلفاته النحوية شرحه على الألفية المسمي "منهج السالك إلى ألفية ابن مالك".
تعريف بشرح الأشموني:
في الحق أنه أغزر شروح الألفية مادة على كثرتها واختلاف مشاربها، بل إنه من أوفى كتب النحو جمعا لمذاهب النحاة وتعليلاتهم وشواهدهم على نمط البسط والتفصيل، ولا غرابة أن يجمع في شرحه ما جمع، فأمامه من شروح الألفية شرح ابن الناظم والمرادي وابن عقيل والشاطبي والتوضيح وغيرها، ومن شروح الكافية شرح الناظم وغيره، ومن شروح التسهيل المرادي وغيره، وأمامه المغني وهذا كله عدا كتب السابقين، فما عليه وقد رام أن يكون شرحه موسوعة إلا أن يضم كل شيء إلى نظيره ويضعه في موطنه، وإذا أنعم النظر في شرح الأشموني وكانت الأصول السالفة بين يديه فإنه يسهل عليه أن يرجع المقال إلى مصدره.
وقد يحسن الأشموني في بعض الأحيان فينسب القول إلى قائله فيصرح بالشاطبي في باب المعرب والمبني عند قول الناظم "في اسمي جئتنا". وبالمغني عند قول الناظم "وفعل أمر ومضي بنيا" وبالتوضيح في باب النكرة والمعرفة عند قول الناظم "كافعل أوفق نغتبط إذ تشكر" وفي الابتداء بعد قول الناظم "وأخبروا باثنين أو بأكثر إلخ"، وبالمرادي في التنازع عند قول الناظم، "وأخرنه إن يكن هو الخبر"، وكثيرا ما يصرح بلفظ الشارح يقصد ابن الناظم، ولكن ذلك كله من الأشموني قليل جدا بالنسبة لإغفاله النسبة إلى صاحب الكلام، فإذا قرأت المباحث فيه المتعلقة بالأدوات في باب "عطف النسق" مثلا أو "النواصب" أو "الجوازم" أو "لو" أو "أما ولولا ولوما" أو "كم وكأين وكذا" وأمثال هذا فإنك واجده قد نقل كلام المغني مع قليل من التغيير: إما بنقص لا يلمح أو زيد لا يذكر أو تقديم أو تأخير ربما أذهب شيئا من المطلوب، زيادة على أنه ربما دعا الكاتبين عليه
إلى تنكب الجادة، ولتهافته على تسطير ما حوته الكتب السابقة، فقد كتب بعض المعلومات في موطن غيره أنسب بالكتابة فيه، وحمله هذا الصنيع إلى تكرارها ثانيا وثالثا، والحيلة في التخلص عنده لجوؤه إلى "التنبيه" مفردا ومثنى وجمعا، هذا مع عدم الدقة في ترتيب التنبيهات من حيث رعاية ارتباطها بالمقصود، فلو اتسقت في الترتيب على المعنى المقصود من البيت المشروح لحسنت وضعا، وكانت الثمرة منها أشهى، ولا يتسع هذا الكتاب لضرب أمثلة لكل هذا، تلك حالة هذا الشرح من الناحيتين: العلمية والتأليفية.
بقي علينا -إيفاء للمطلوب- أن نكتب كلمة عن شواهده لأهميتها لدى المستفيد.
شواهده:
سلك الأشموني في شواهده مَهْيَعَ السابقين عليه الذين دونوها في مصنفاتهم، سواء في ذلك الشعر أم النثر، وسواء في النثر القرآن الكريم أم الحديث الشريف أم كلام العرب "مثلا أو غير مثل".
أما الشواهد النثرية فمحشودة في الشرح، فلسنا في حاجة إلى عرض شيء منها لأن النثر متفق على الاستشهاد به في غير الحديث أما فيه فتابع لابن مالك المجيز له على ما سبق في ترجمته، وأما الشعر فكثير أيضا ومقلد فيه من أخذه منهم، وقد ساعده تأخره الزمني على جمع مقدار كبير من مختلف المؤلفات قبله، فمما يمتاز به هذا الشرح زيادة الشواهد فيه عن المصنفات النحوية زيادة يئود الطالب حفظها والإحاطة بما تستوجبه المعرفة بها من قائليها ومن قصائدها، ومما قيلت فيه وغير هذا من مقتضيات الوقوف على جلية الحال في الشعر، وإن المتتبع لهذه الشواهد يعلم أنها للشعراء المعتد بهم إلا قليلا، غير أن قليلا من الشعر المعتد به قد ناله التحريف أو التصحيف، لهذا ناسب أن أذكر الأمرين: الشعر المحدث والشعر القديم الطارئ عليه التغيير.
من شواهد الشعراء المحدثين:
ذكرت في الشواهد بعض أبيات الشعراء المحدثين الذين لا يعتد بهم النحاة وإن كان مقلدا من قبله، فمن أمثلة ذلك استشهاده في باب الابتداء مجاراة للرضي بقول أبي نواس:
غير مأسوف على زمن
…
ينقضي بالهم والحزن
ومتابعة لابن الناظم بقول أبي العلاء المعري:
يذيب الرعب منه كل عضب
…
فلولا الغمد يمسكه لسالا
واستشهاده في باب إعراب الفعل مجاراة للسيوطي في الهمع بقول المرتضي:
أتبيت ريان الجفون من الكرى
…
وأبيت منك بليلة الملسوع
وعجب ابن هشام في المغني "الباب السابع" من استشكال بعض علماء العربية ضم التاء من "تبيت" وفتحها من "أبيت" مع الوضوح، ثم شرح الإعراب.
من شواهد الشعراء القدامى المحرفة أو المصحفة:
كثر ما وقع في شواهده الشعرية من تصحيف أو تحريف، ولا يجمل بي أن أعرض كل ما عثرت عليه من تلك الشواهد فإنه يقتضي مع التفصيل رسالة خاصة، فسأجتزئ بذكر بعض الشواهد، مع بيان أن ذلك التغيير العارض على الشواهد قد يجر عليها عدم صحة الاستشهاد بها في الحقيقة، وربما لا يستدعي ضررا في ناحية الاستشهاد بها، وهاك أمثلة للنوعيين:
مما لم يجن التغيير الطارئ فيه على الشاهد:
1-
استشهاده في باب أبنية المصادر بعد قول الناظم: "وغير ما مر السماع عادله" على ورود المصدر بزنة اسم المفعول كمعقول في قول الشاعر:
لم يتركوا لعظامه لحما
…
ولا لفؤاده معقولا
وصحة البيت هكذا:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه
…
لحما ولا لفؤاده معقولا
فإنه من قصيدة للراعي النميري مذكورة في جمهرة أشعار العرب "الملحمات" فالتغيير طمس وزن البيت فقط، ولم يستتبع ضررا في موطن الشاهد.
2-
استشهاده في باب عطف النسق بعد قول الناظم: "وحذف متبوع بدا هنا استبح" على تقدم المعطوف على المعطوف عليه بقول ذي الرمة:
كأنا على أولاد أحقب لاحها
…
ورمي السفي أنفاسها بسهام
جنوب ذوت عنها التناهي وأنزلت
…
بها يوم رباب السفير خيام
وصحة البيت الثاني كما في "سيبويه جـ1 ص266" هكذا:
جنوب ذوت عنها التناهي وأنزلت
…
بها يوم ذباب السبيب صيام
فالتغيير جر إلى الإقواء والإبعاد عن مرمى الشاعر فقط.
3-
استشهاده في باب إعراب الفعل بعد قول الناظم "وبلن انصبه" على ورود "لن" للدعاء بقول الأعشى:
لن تزالوا كذلكم ثم لازلـ
…
ـت لهم خالد خلود الجبال
وصحة البيت هكذا:
لن يزالوا كذلكم ثم لازلـ
…
ـت لهم خالد خلود الجبال
فإنه من معلقة الأعشى في جمهرة أشعار العرب.
مما جنى التغيير فيه على موطن الشاهد:
1-
استشهاده في أول باب "نعم وبئس" للكوفيين على اسميتهما بقول الشاعر:
صبحك الله بخير باكر
…
بنعم طير وشباب فاخر
تبعا لاستشهاد ابن الناظم به، وتقدم في التعريف بشرح ابن الناظم تصحيح البيت بما يضيع الاستشهاد به.
2-
استشهاده في إعراب الفعل بعد قول الناظم:
...... كذا بأن
…
لا بعد علم
…
على أن المضارع نصب شذوذا بأن الواقعة بعد العلم بقول جرير:
نرضي عن الله إن الناس قد علموا
…
ألا يدانينا من خلقه بشر
والرواية "أن لن يفاخرنا" بنصب المضارع بلن، فطاش الاستشهاد للنصب بأن بعد العلم، وبراعة التحريف في البيت ظاهرة في استبدال الفعل الناقص بالتصحيح، واستبدال لا بلن.
3-
استشهاده "في إعراب الفعل" أيضا بعد قول الناظم: "وبعد غير النفي جزما اعتمد إلخ" على مجيء المضارع مرفوعا بعد الأمر بقول الأخطل:
كروا إلى حرتيكم تعمرونها
…
كما تكر إلى أوطانها البقر
والاستشهاد بالبيت مبني على فعل الأمر أول البيت، والحقيقة أنه فعل ماض "كروا" فانعدم الاستدلال بالبيت، وتقدم في الحديث عن أبيات سيبويه التي خطئوا فيها روايته ما يتعلق بهذا البيت تفصيلا، لأن سيبويه أول من استدل به.
وكنت أحب أن أبسط القول في تحليل هذا الشرح لأنه الكتاب المقرر على الطلاب، وعسى أن تسنح فرصة أكتب فيها تعريفا خاصا به أتناول فيه عناصره تفصيلا ليكون مرشدا لمن يقرؤه عما فيه، وقد رزق هذا الشرح القبول بين العلماء فعلق عليه كثيرون، فمن حواشيه حاشية المدابغي "حسن بن علي"، وحاشية الأسقاطي "أحمد بن عمر"، وحاشية الحفني، وحاشية الصبان، وسأفرد حاشية الصبان بنبذة خاصة في ترجمته.
توفي الأشموني سنة 929هـ1.
1 ترجمته في الضوء اللامع، وشذرات الذهب، والبدر الطالع.