الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحاة مصر الآخذون عن العراقيين:
يحار الناظر في تعريف الأسباب التي أقعدت مصر عن النهوض بهذا العلم دون مشاطرة العراق في إبان تكوينه ونشوئه حتى أوشك أن ينضج ويكمل، مع توثق الصلات بينها وبين العراق في ذلك العهد، ومع وفود العرب الخلص إليها مع الفاتحين كالعرب الذين نزحوا إلى العراق، وكانوا مثابة لنحاته في تدوين النحو، والسير به قدما إلى أن تم على أيديهم، ومع وجود العلماء الذين يعتمد عليهم، وفيهم غناء أي غناء بين ظهرانيهم من أمثال عبد الرحمن بن هرمز الذي استوطن قديما الإسكندرية حتى قضى نحبه سنة 117هـ، وقد مضى في الكلام على واضع النحو أن بعض العلماء عده الواضع له.
وأعجب من هذا تواني الشام عن المشاركة في هذا العلم تلك الأيام السالفة، فإن للشام بعد هذه الدواعي المساوية فيها مصر امتيازها عنها بالقرب من العراق من جهة واقتراب بادية الشام منها من جهة أخرى، فكان سهلا على علماء الشام اتصالهم بها عن كثب منهم دون اغتراب وعناء.
أما بلاد الأندلس فبعد الشقة بينها وبين العراق حال دون اقتفائها العراق حينا من الدهر، ولا سيما إذا أضيف لذلك تقطع الأسباب بين المشرق والمغرب في فترات اتفق فيها أن كانت النهضة في العراق سائرة إلى الأمام، في سبيل الاستكمال لهذا العلم، فما طفقت الأندلس تشتغل بهذا العلم إلا بعد نضوجه وكماله في العراق.
نعم، لا غرابة في سبق العراق القطرين وغيرهما في مزاولة هذا العلم، فقد توافر في العراق أسباب متضافرة تجعله خليقا أن يكون مهده، وقد بيناها أوائل الكتاب في الكلام على وضعه زمانا ومكانا، وعلى مشاهير البصريين والكوفيين، إنما الذي نبحث عنه وننشده الآن تعرف الأسباب التي أخرت مصر والشام فلم تتأثر1 دمشق وحلب ولا القاهرة عاجلا البصرة والكوفة وبغداد.
والذي يلوح لنا -والله أعلم بالحقيقة- أن العراق كان دائم الاتصال بالبلاد الحجازية المقدسة، والرحلات بينهما متبادلة، فسمع أهل العراق من الصحابة ومن التابعين أحكام الدين فامتد نظرهم إلى ذلك الأمر الجديد أمر
1 يقال: تأثره بمعنى تبع أثره: كما هنا.
اللغة والمحافظة على سلامتها حتى يكمل لهم الشأن من جميع نواحيه، وفي العراق حضارة علمية تليدة سهلت عليهم السير في تنظيم هذا العلم واستكمال بنائه، أما القطران فكانا في أشد الحاجة إلى تعلم الدين وعلومه، فغلب على العرب النازلين فيهما داعي الدين والناس من ورائهم، فساهم القطران في العلوم الشرعية ونبغ فيهما أئمة في القراءات والحديث والفقه كانوا يعاصرون أئمة العراق فيها.
وقصارى القول أن القطرين لم يتجها لهذا العلم إلا بعد نشوئه ونموه وبوادر استكماله في العراق، فهبا يذهبان إليه أرسالا1 للتلقي عن علمائه في أخريات أيامه، كما ترى.
نعم، قد وفد على القطرين نفر من المشارقة كالأخفش الصغير، على أن مصر كانت أسبق من الشام وأكثر وفادة، ولهذا فإنا نقصر الكلام على علماء مصر في تلك الحقبة، وقد تحدث عنهم الزبيدي في "الطبقات" بعنوان خاص بهم بعد البصريين والكوفيين، كما أفردهم السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" بمبحث أواخر الجزء الأول، وقد ذكرت أخبارهم في كتب التراجم موزعة فيها على طباق نظامها.
ولا يغيب عن الذهن أن علماء هذا العصر هم أصحاب الفضل في دخول النحو مصر دراسة وتصنيفا، وقد حملوا معهم إلى مصر بعض مؤلفات المشارقة كما سترى أما نزعتهم المذهبية فمرجعها إلى شخصية شيوخهم، وستعرف في تراجمهم شيوخهم فلسنا بحاجة إلى أن نعين نزعة كل كما سبق في المشارقة، وهاك أسماء المشهورين منهم مرتبين بحسب سني وفاتهم:
1-
ولاد: هو الوليد بن محمد التميمي، أصله من البصرة، ونشأ بمصر ثم رحل إلى البصرة يطلب العلم فتلقى عن المهلبي تلميذ الخليل وعن غيره، فروى كتب اللغة والنحو وحذقهما، ثم قفل إلى مصر ومعه كتب
1 جمع ترسل بالتحريات: القطيع من كل شيء.
النحو واللغة التي رواها بأسانيدها، فهو أول من أدخل كتب النحو واللغة إلى مصر، وقد بورك له في بنيه وحفدته، توفي بمصر سنة 263هـ.
2-
أبو على الدينوري: هو أحمد بن جعفر الدينوري ختن ثعلب، وأصله من الدينور، قدم البصرة وأخذ عن المازني كتاب سيبويه، ثم دخل بغداد فقرأه على المبرد أيضا مع تحمله الملام من ثعلب، ثم وفد إلى مصر متوطنا، وله مؤلفات في النحو منها: المهذب، توفي بمصر سنة 289هـ.
3-
ابن ولاد: هو أبو الحسين محمد بن الوليد التيمي السابق، أخذ بمصر عن الدينوري وغيره ثم يمم بغداد فلقي المبرد وثعلبا وجاد بالمال في سبيل نقل كتاب سيبويه من المبرد وقراءته عليه، وبعد التزود رجع أدراجه إلى مصر، فهو أول من أدخل كتاب سيبويه البلاد المصرية، توفي بمصر سنة 298هـ.
4-
ابن ولاد: هو أبو العباس أحمد بن محمد التميمي السابق، فهو نحوي ابن نحوي ابن نحوي، شدا على أبيه وغيره شيئا من العربية، ثم صوب نظره إلى بغداد فسمع من الزجاج وغيره مع معاصره أبي جعفر النحاس المصري إلا إن الزجاج كان يؤثره على النحاس حتى كان بعد مغادرتهما بغداد يختصه بالسؤال ويشيد بعلمه، ولذا فإنهما أقاما في مصر على نفور دائم بينهما، ومما زاد توتر العلاقة جمع بعض ملوك مصر بينهما في مناظرة تلتها مناظرات احتدم بينهما فيها الشجار، وبسطها السيوطي في الأشباه والنظائر "الفن السابع فن المناظرات إلخ" في الجزء الثالث، وله كتاب الانتصار لسيبويه، وكتاب المقصور والممدود1 توفي بمصر سنة 332هـ.
5-
النحاس: هو أبو جعفر أحمد بن محمد المصري، تلقى مبادئ اللغة العربية في مصر، ثم ارتحل إلى العراق، فتلقى عن الأخفش الصغير والزجاج ونفطويه وابن الأنباري وغيرهم، ثم آب إلى مصر، وقد سبق الحديث
1 هو مطبوع.
عما حدث بينه وبين ابن ولاد، كان قوي الذاكرة جيد التصنيف في متنوع العلوم، من مؤلفاته في النحو: كتاب "المقنع في اختلاف البصريين والكوفيين"، والتفاحة، والكافي، وغيرها، مر عليه المنذر بن سعيد البلوطي الأندلسي وهو يملي من قصيدة مجنون ليلى:
خليلي هل بالشام عين حزينة
…
تبكي على نجد لعلي أعينها
قد أسلمها الباكون إلا حمامة
…
مطوقة باتت وبات قرينها1
فقال له: ماذا أعزك الله باتا يصنعان؟ فقال: وكيف تقول أنت يا أندلسي؟ فقال: بانت وبان قرينها، فسكت وحقد عليه فمنعه استنساخ كتاب العين، وكان على علمه وسعة ثقافته وشغف الناس بالأخذ عنه شحيح النفس رث الهيئة، جلس يوما على درج المقياس على شاطئ النيل في أيام الفيضان يقطع بيتا من الشعر فظنه بعض العامة ساحر النيل فرفسه برجله، فلم يوقف له على خبر، وذلك سنة 337هـ.
1 ملاحظة الأندلسي على النحاس مذكورة في معجم الأدباء في كل من ترجمة النحاس وترجمة المنذر، وفي نفح الطيب القسم الأول الباب الخامس ترجمة المنذر وفي طبقات الزبيدي ترجمة النحاس.