الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النازع الثاني: كثرة العبادة:
رغبة كل مسلم ملتزم بدينه أن يكون عظيم العبادة، كثير الأوراد متقرباً إلى بشتّى الطاعات حتى يفوز في الآخرة بالمنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة.
وأشد ما يكون شوقه إلى الإكثار من العبادة حين يقرأ أو يسمع أخبار السّلف وعبادتهم، فهذا سُهيل بن عمرو (1)
رضي الله عنه قد كان ((كثير الصلاة والصوم والصدقة، خرج بجماعته إلى الشام مجاهداً، ويقال إنه صام وتهجّد حتى شحب لونه وتغيّر، وكان كثير البكاء
(1) خطيب قريش وفصيحها وشريفها. أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه. وكان سمحاً جواداً. قام بمكة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم وعظّم الإسلام.
وكان كثير الصلاة والصيام والصدقة. واستشهد يوم اليرموك رضي الله عنه. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 1/ 194 - 195.
إذا سمع القرآن)) (1).
وهذا أنس بن عياض (2) يحدث أنه رأى صفوان بن سليم (3) - أحد أئمة التابعين - ((لو قيل له: ((إذا القيامة)) ما كان عنده مزيد على ماهو عليه من العبادة)) (4).
وهذا هنّاد بن السَّري (5) يحدث عنه أحمد بن سلمة النيسابوري الحافظ (6) بأنه كان ((كثير البكاء، فرغ يوماً من القراءة لنا، فتوضأ وجاء إلى المسجد فصلى إلى الزّوال، وأنا معه في المسجد، ثم رجع إلى منزله، فتوضأ وجاء فصلى بنا الظهر، وأخذ يقرأ في المصحف حتى صلّى المغرب، فقلت لبعض جيرانه: ما أصبره على العبادة، فقال: هذه عبادته بالناهار منذ سبعين سنة، فكيف لو رأيت عبادته بالليل)) (7).
(1)((نزهة الفضلاء)): 1/ 34 - 35.
(2)
أنس بن عياض بن ضمرة، أبو عبد الرحمن الليثي المديني. ثقة توفي سنة مائتين وله ستة وتسعون سنة:((التقريب)): 115.
(3)
الإمام الثقة الحافظ الفقيه، أبو عبد الله الزهري المدني مولى محمد بن عبد الرحمن بن عوف، كان قد بلغ في العبادة مبلغاً عظيماً، وكان من الصالحين الثقات. توفي سنة 132 وقد عاش 72 سنة، وانظر ((سير أعلام النبلاء)): 5/ 364 - 369.
(4)
المصدر السابق: 1/ 498.
(5)
الإمام الحجة القدوة، زين العابدين، أبو السَرِيّ التميمي الدارمي الكوفي. ولد سنة 152. وكان كثير البكاء، طويل التعبد. توفي سنة 243 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 11/ 465 - 466.
(6)
الحافظ الحجة المأمون، رفيق الإمام مسلم في رحلته. روى وجمع وصنف توفي رحمه الله تعالى سنة 286. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 13/ 373.
(7)
((نزهة الفضلاء)): 2/ 847 - 848.
هذه بعض الأمثلة من عبادة السلف، إذ لو أكثرتُ لأتيت بالعجب العُجاب، فهذه الأخبار وغيرها يقرأها المسلم أو يسمعها يتفطر قلبه، ويتمنّى أن ول عبد الله مثلهم، ولكنه يصدم بواقعه، فهو يعمل من الصباح الباكر حتى العصر، هذا إن كان ممن اقتصر على عمل واحد، فكيف بمن يعمل مرتين في اليوم - صباحاً ومساءً - ثم إنه عندما يعود إلى منزله إمّا أن يخلد إلى الرّاحة أو يقضي حوائجه وحوائج أهله، ثم قد ينظر في بعض أموره، فينتهي يومه وهو في عمل متصل، حتى إذا جاء المساء احتاج لقضاء بعض الوقت في الدعوة أو في شأن آخر، ثم يخلد إلى الراحة ليستيقظ فجراً، وهكذا دَوَاليك، فماذا يصنع وكيف يصل إلى ما وصل إليه القوم؟
لبيان ذلك لابد م توضيح الآتي حتى لا يصاب
الشخص بإحباط، أو يكذب هذه الأخبار فيرتكب ما لا يسوغ:
1 -
لم يكن السلف يعملون أغلب أوقات نهارهم كما نفعل الآن، بل كان أحدهم إذا كسب ما يقوته اكتفى به، فهذا الآن، بل كان أحدهم إذا كسب ما يقوته اكتفى به، فهذا عتبة الغلام (1) - من نسّاك أهل البصرة - ((كان رأس ماله فلساً يشتري به خُوصاً يعمله ويبيعه بثلاثة فلوس، فيتصدق بفلس، ويتعشى بفلس، وفلس رأس ماله)) (2).
هذا شيخ الإسلام حماد بن سلمة (3) إذا ربح في ثوب حبة أو حبيتين لم يبع شيئاً (4).
فهذه الصورة لكسب الرزق لم تعُد سائغة اليوم،
(1) عتبة بن أبان البصريّ. الزاهد الخاشع، كان ورعاً زاهداً عابداً. قاتل الروم فاستشهد رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 7/ 62 - 63.
(2)
((نزهة الفضلاء)): 1/ 564.
(3)
الإمام القدوة شيخ الإسلام، أبو سلمة البصري النحويّ البزاز مولى آل ربيعة بن مالك. كان إماماً في الحديث العربية، فقيهاً فصيحاً، رأساً في السنة، صاحب تصانيف، عابداً كثير التعبد. توفي سنة 167 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 7/ 444 - 456.
(4)
المصدر السابق: 1/ 603. والمقصود بالحبة وزن حبة من شعير ونحوه ذهباً أو فضة.
ولا هي مطلوبة - أيضاً - في زماننا هذا الذي نريد الإمساك بزمام الأمر فيه.
2 -
كانت عندهم بركة في الوقت تكاد تكون معدومة في عصرنا، وما ذاك - والله أعلم - إلا بإخلاصهم وكثرة تحريهم للحلال.
3 -
لم تكن الحياة بنحو هذا العسر الذي نعيشه الآن، فالأماكن كانت متقاربة، والعيش سهل، ولكن انظر إذا تعطلت سيارة الشخص مثلاً كيف يعسر عيشه، أو إذا خرب شيء في منزله فكيف يتنغص ويمكث أيّاماً من أجل إصلاحه، وهكذا
…
4 -
لم تكن هناك كثير من الأمور المزعجة لنا الآن، أذ هاجس الشخص الملتزم - اليوم - هو تربية أولاده فيحتاج إلى مراعاتهم وقضاء كثير من الوقت في إصلاحهم، بينما لم يكن ذلك كذلك عند السلف، وذلك لنقاء حياتهم وصفائها وخلوّها من كثير من أسباب الفساد الكائنة
في هذا العصر.
وهاجس آخر - كذلك - هو توفير أسباب العيش الكريم له ولأهله؛ فقد ضافت أرزاق كثير من الناس في كثير من البلاد على وجه لم يكن معروفاً عند سلفنا، وكذلك كانوا يقنعون بالرزق اليسير ممّا لا يقنع أبناء العصر بأضعافه.
وهاجس آخر، وهو أن الشخص الملتزم في كثير من ديار المسلمين أصبح يفكر كيف يتخفى بإسلامه ودينه عن أعين الغادرين والمتربصين.
والهواجس المزعجات أكثر من أن تُحصر في عصرنا.
5 -
تغير نمط الحياة بحيث صار الشخص - إلا من رحم الله - يفكر في مستقبله ووظيفته وماله، وكذا مستقبل أولاده ووظائفهم وأموالهم، ويسعى لهذه الأمور الثلاثة سعياً عظيماً يكاد يغلب كلَّ سعي آخر.
6 -
سَعْيُ الشخص المسلم - في كثير من ديار