الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واقعية هذا البحث:
قد عرضت في الصفحات الماضية النوازع المختلفة التي تتأجّج في نفس المسلم الغيور، وأَوضحُ بأن تحقيق الاتستجابة لنازع أو اثنين أمر قد يكون ميسوراً، ولكن كيف السبيل لتحقيقها كلها أو غالبها فيصير الإنسان قدوة؟
وقبل أن أجيب على هذا السؤال هناك سؤال آخر يدور بخلد الكثيرين، وهو مدى واقعية هذا المبحث وإمكانية تحققه في هذه الحياة المعقدة كثيرة المطالب.
ولابدّ قبل الإجابة على هذا السؤال التوضيح بأن
هذا الكتاب كله لم يصنف لقاعدي الهمّة، أو للمحبَطين اليائسين الذين من صميم عملهم إحباط أي فكرة متفائلة أو عل الأقل الغضّ من شأنها، إنما وضع هذا الكتاب لمن هو عالي الهمة، قويّ الإرادة، ترى بريق العزم في عينيه، ويفصح لسانه عن مخبوء صدره وعقله، فإن كنت من هذا الفريق، أو ممن يطمح لأن يكون منهم فواصل القراءة مستعيناً بالله، وإن كنت من فريق المثبطين فاعزم على فراقهم، والاستئناس بما ورد في هذا الكتاب في مسيرتك الجديدة:(والله معكم ولن يتركم (1) أعمالكم) (2).
إذاً قد يسأل سائل مستغرباً مستنكراً: هل هذا بحث واقعي يمكن إيجاد أو تحقيق ما يصبو إليه كاتبه من كتابته؟!
(1) قال صاحب: ((مختار الصحاح)): وَتَرَهُ يَتره - بالكسر - وتراً، بالكسر أيضاً: نفصه، وقوله تعالى (ولن يتركم أعمالكم) أي في أعمالكم)) انظر ((مختار الصحاح)) (وتر).
(2)
سورة محمد صلى الله عليه وسلم: [35].
أو هو مثاليات وكلام مُرسل لا قيد له ولا ضابط؟
وللإجابة على هذا السؤال لابد من بيان أنه حتى يُتحقق من واقعية هذا الأمر وإمكانية تطبيقه يُنظر إلى جانبين اثنين:
الأمر الأول: هل حدث مثل هذا التوازن بين المتنازعات في عصور السلف الذين فهموا الإسلام وطبقوه أو حتى فيمن جاء بعدهم؟!
وأما الأمر الآخر: هل يمكن أن يحدث هذا التوازن في هذا الزمان؟ سواء أحدث في العصر الأول أم لم يحدث؟
أما الأمر الأول فقد تحقق جزماً فيسيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم،فقد كان صلى الله عليه وسلم قويَّ الإيمان، راسخ اليقين، بل أعظم الناس في هذا صلى الله عليه وسلم، وكان سيد العابدين الزاهدين، وكان مجاهداً عظيماً، وقائداً بطلاً شجاعاً، كما كان صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله وأقاربه، وهو صلى الله عليه وسلم كذلك - أعظم
الناس تربية لصحبه وأزواجه وأولاده، وهكذا لا تكاد تجد جانباً من جوانب التفوق إلا وقد حازه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه الأعظم (1).
وهناك أمثلة أخرى لبعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفاوت في تحقيق الجمع بين الفضائل والموازنة بينها، ولكني أحب بيان حال من جاء بعدهم لشهرة الصحابة ولقلة من يَعرف مَنْ جاء بعدهم.
وهناك مثل مضيء من عصور السلف وهو الإمام بقيّ بن مخلد محدث الأندلس وعالمها وزاهدها، وأعرض عليكم سيرته لتعرفوا ما أقصده، قال الذهبيّ رحمه الله تعالى:
(1) هناك كتب كثيرة تكفلت بإبراز جوانب العظمة والتفوق في شخصية رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم مثل كتب السيرة، وكتب فقه السيرة، وهنك كتب تكفلت بإبراز صفاته صلى الله عليه وسلم وتقريرها على الوجه الأتم وهي كثيرة فليرجع إليها للتوسع، ومن هذه الكتب ((زاد المعاد))، و ((بطل الأبطال)) لعبد الرحمن عزّام، و ((الرحيق المختوم)) للمباركفوري، وغيرها كثير.
((كان بَقيّ يختم القرآن كل ليلة، في ثلاثَ عشرةَ ركعة، وكان يصلي بالنَّهار مئة ركعة، ويصوم الدهر. كان كثيرَ الجهاد، فاضلاً، يذكر عنه أنه رابط اثنتين وسبعين غَزْوة.
ونقل بعض العلماء من كتاب لحفيد بَقيٍّ عبد الرحمن ابن أحمد:
كان جدِّي قد قسَّم أيامَه على أعمال البرِّ: فكان إذا صلى الصُّبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف، سُدسَ القرآن، وكان أيضاً يَخْتم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويَخْرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده فيختم قُرب انصداع الفجر، وكان يُصلي بعد حزبه من المصحف صلاةً طويلةً جداً، ثم ينقلب إلى داره - وقد اجتمع في مسجده الطلبة - فيجدِّد الوضوء، ويخرج إليه، فإذا انقضت الدُّول (1)، صار إلى صومعة المسجد، فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المبتدئ
(1) النُّوَب، وهي أوقات الطلبة التي يتداولونها بينهم.
بالأذان، ثم يهبط، ثم يُسمعُ (1) إلى العصر، ويصلي ويُسمع، وربما خرج بقية النهار، فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده، ثم يصلي، ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسردُ الصومَ إلا يوم الجمعة، ويخرج إلى المسجد، فيخرُج إلى جيرانه، فيتكلَّم معهم في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء، ويدخل بيته، فيحدِّث أهله، ثم ينام نومه قد أخذتْها نفسُه، ثم يقوم. هذا دَأبُه إلى أن توفي. وكن جَلْداً، قويّاً على المشي، قد مشى مع ضعيف في مَظْلَمة إلى إشبيلية، ومشى آخر إلى إلبيْرة، ومع امرأة ضعيفة إلى جَيَّان)) (2).
هذه هي سيرة الإمام بَقيّ بن مخلد، يراها كثير من الناس من ضروب الخيال، ويراها الصالحون العاملون فيعلمون أنها ترجمة علمية لحياة بعضهم ولأشواق كثير منهم.
فهو رحمة الله قد عبد الله أحد ما تكون العبادة.
(1) أي يُسمع الطلبة.
(2)
مدن أندلسية، انظر ((نزهة الفضلاء)): 2/ 975.
ولم ينس تلاميذه وأصحابه، فكان يعلمهم ويرشدهم ويوجههم.
ولم يُغفل جيرانه، فقد كان يتعهدهم بالنصح والإرشاد.
وكان يتعهد أهله ويحدثهم ويؤانسهم.
ولم يمنعه ذلك كله من الانتصار للمظلومين والسفر من أجلهم، حتى لو كان ذلك المظلوم امرأة ضعيفة.
وقد توّج أعماله الصالحة بالجهاد، فقد ((كان كثير الجهاد، رابط اثنتين وسبعين غزوة)).
ثمّ إنه قد فهم الشرط الأساسي والمهم لكل تلك الأعمال الصالحة حتى تدخل سجلات الخالدين ألا وهو الدوام والدأب عليه.
رحمه الله تعالى، فقد كان شخصيته المثال المطلوب المفقود.
وبهذا المثل - وهناك عشرات غيره في التاريخ
الإسلامي، وإنما ضربته مثالاً لقلة من يعرفه في عصرنا - نتبين، أن هذا الأمر - أمر التوازن - قد حدث في عصور سلفنا رحمهم الله، فحدوثه في هذا الزمان ممكن، وليس بمستغرب.
وليس على الله بمستغرب
…
أن يجمع العالم في واحد
وأما الأمر الآخر وهو إمكانية حدوثه في هذا الزمان ففيه توضيح وضوابط:
أما التوضيح في هذا الأمر فهو أن هذا الزمان أصبح من الصعوبة والتعقيد بمكان، وقد تداعت الأعداء علينا من كل جانب، وأصبحنا نفاجأ كل يوم بجديد، وقد قلّت بركة الزمان، وكثرت فيه الهموم اليومية والمطالب الدنيوية كثرة عظيمة، وتباعدت الأمكنة والديار، وكثرت شواغل الحياة كثرة قد يعصب معها فعل هذا الأمر، ولكن هناك ضوابط إن استقامت للشخص يستطيع أن يفكر في مثل هذا ويوفقه الله في تحقيقه.