الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الزاهد أبو عثمان الحيري (1)((طلب في مجلسه مالاً لبعض الثُّغور فتأخر، فتألّم وبكى على رؤوس النّاس فجاءه ابن نُجيْد (2) بألفي درهم فدعا له)) (3).
سادساً: التوازن بين كره التصدي والشهرة وبين وجوب قيادة الناس:
الداعية يكره التصدر والشهرة بطبعه لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولكن ماذا يفعل إن تعينّ عليه نصح الجمهور وإرشادهم للحق، فإنه لا ينبغي له الفرار من الميدان بدعوى كراهية الشهرة والتصدر، كما أنه لا ينبغي له طلب الشهرة وإرادة التصدر لئلا يجرح إخلاصه.
قال تعالى:
(وأجعلنا للمتقين إماماً*)(4).
(1) الشيخ الإمام، المحدث الواعظ، القدوة، شيخ الإسلام، الأستاذ سعيد بن إسماعيل بن سعيد النيسابوري الصوفي. ولد بالري سنة230. وكان مجاب الدعوة، مجمع العباد والزهاد، وله مواعظ حسنة وحكم رائعة وكرامات جليلة. توفي سنة 298 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 16/ 146 - 148.
(2)
الشيخ الإمام القدوة، المحدث، الرباني، شيخ نيسابور إسماعيل بن نجيد السلمي الصوفي. ولد سنة 272. وتوفي سنة 365 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 16/ 146 - 148.
(3)
((نزهة الفضلاء)): 2/ 1158.
(4)
سورة الفرقان: [74].
وقال سبحانه قاصاً كلام سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام:
(أجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم*)(1).
فهاتان الآيتان توضحان أن المسلم هو الرائد والدليل، بل قد ينبغي له طلب هذه الوظيفة الشريفة.
وقد يكون في قلب المتصدر المخلص حبٌ للشهرة وهو لا يشعر به ولا يريده، ولكنه نازع من نوازع النفس الإنسانية لا يؤخذ عليه إن شاء الله، فهذا إبراهيم بن أدهم (2) يقول:
((ما صدق الله عبدٌ أحب الشهرة)).
فيعلق الذهبيّ قائلاً:
((علامة المخلص الذي قد يحب شهرةً ولا يشعر بها أنه إذا عُوتب في ذلك لا يَحْرد ولا يبرىء نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إليّ عيوبي، ولا يكن معجباً بنفسه لا يشعر بعيوبها، بل لا يشعر أنه لا يشعر، فإن هذا داءٌ مزمن)) (3).
(1) سورة يوسف: [55].
(2)
القدوة الإمام العارف، سيد الزهاد، أبو إسحاق العجلي الخراساني البلخي، نزيل الشام. ولد في حدود المائة. له = كلام رائق جميل وكرامات. توفي رحمه الله سنة 162. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 7/ 387 - 396.
(3)
((نزهة الفضلاء)): 1/ 596.
وقد أكثر السلف من التحذير من طلب التصدر وحب الشهرة، فهذا شيخ المالكية أبو عثمان ابن الحدّاد (1) يقول:
((ما صد عن الله مثل طلب المحامد وطلب الرفعة)) (2).
ويقول الذهبي رحمه الله محذراً من حب الشهرة:
((فربما أعجبته نفسه وأحب الظهور فيعاقب
…
فكم رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داء خفيٌ سارٍ في نفوس الفقهاء، كما أنه سارٍ في نفوس المنفقين من الأغنياء
…
وهو داء خفيّ يسري في نفوس الجند والأمراء والمجاهدين، فتراهم يلقون العدو ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبآت وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة ليُقال (3)
…
يضاف إلى ذلك إخلال بالصلاة وظلم للرعيّة وشرب للمسكر
(1) الإمام شيخ المالكية سعيد بن محمد بن صبيح المغربي. أحد المجتهدين، وكان بحراً في فروع الفقه، رأساً في لسان العرب، بصيراً بالسنن كريماً حليماً. توفي سنة 302 عن 83 سنة رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 14/ 205 - 214.
(2)
((نزهة الفضلاء)): 2/ 1034.
(3)
أي ليقال عنهم إنهم شجعان.
فأنى ينصرون؟ وكيف لا يخذلون؟
…
فمن طلب العلم للعمل كسره العلم، وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء تحامق واختال وازدرى بالناس وأهلكه العجب ومقتته الأنفس)) (1).
والذي يحب الصدارة معرّض للذل، كما قال أبو الطيب سهل الصعلوكي:(2)
((من تَصدّر قبل أوانه فقد تصدّى لهوانه)) (3).
وكما قال زُفَر بن الهذيل (4):
((من قعد قبل وقته ذَلّ)) (5).
وهذه الأقوال إن انطبقت على محب التصدر والشهرة وعديم الإخلاص فلا تنطبق - إن شاء الله - على داعية
(1)((نزهة الفضلاء)): 3/ 1277 - 1278.
(2)
العلامة شيخ الشافعية بخراسان، الإمام الطيب سهل بن محمد العجلي الحنفي ثم الصُعلوكي النيسابوري الفقيه الشافعي. وبعده بعض العلماء مجدد المائة الرابعة. توفي رحمه الله تعالى سنة 404 وهو في عشر الثمانين. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 17/ 207 - 209.
(3)
((نزهة الفضلاء)): 3/ 1277 - 1278.
(4)
العنبري، الفقيه المجتهد، الرباني، العلامة، أبو الهذيل. ولد سنة 110 كان ثقة مأموناً. توفي سنة 158 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 8/ 46 - 48.
(5)
((نزهة الفضلاء)): 2/ 612.
تصدّر لإرجاع قومه إلى الحق وإلى طريق مستقيم حتى لو شُهر وعرف فلا بأس عليه - إن شاء الله تعالى - وله أسوة بالرسل الكرام، فهم أعظم الناس شهرة، وكذلك المصلحون والدعاة من بعدهم.
وما أجملَ قول الفُضَيْل رحمه الله:
((من أحب أن يُذكر لم يذكر، ومن كره أن يُذكر ذُكر)) (1).
وقد وازن الفُضَيْل - أيضاً - هذا الأمر قائلاً:
((إن استطعت ألا تكون محدثاً ولا قارئاً ولا متكلماً (2)، إن كنت بليغاً قالوا: ما أبلغَه وأحسنَ حديثه وأحسنَ صوته فيعجبك ذلك فتنتفخ، وإن لم تكن بليغاً ولا حسن الصوت قالوا: ليس يحسن يحدّث وليس صوته بحسن، أحزنك ذلك وشق عليك فتكون مرائياً، وإذا جلست فتكلمت لم تبال من ذمك ومن مدحك فتكلم)) (3).
وقد يكون المرء كارهاً للشهرة من باب التواضع الكاذب الذي سول لصاحبه أنه أضعف وأصغر من أن يشتهر ويعرف، وهذا داء سارٍ في كثير من الصالحين ولولاه لتمكنوا من ارتياد آفاق أعظم لدعوتهم ودينهم.
(1) المصدر السابق: 2/ 665.
(2)
أي فافعل إن كنت ممن يحب التصدر.
(3)
((نزهة الفضلاء)): 2/ 665.