الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى التوازن والنوازع:
التوازن لغةً:
قال أبو فارس (1):
((الواو والزاء والنون: بناء يدل على تعديل واستقامة، ووَزِينُ الرأي: معتدله. وهو راجح الوزن إذا نسبوه إلى رجاحة الرأي وشدة العقل)) (2).
أما اصطلاحاً فيمكن تعريفه بأنه:
((إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص، وهو ينشأ عن معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، ومعرفة حدودها وغاياتها ومنافعها.
وهو الحكمة المنوّه بها في قوله تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي كثيراً وما
(1) الشيخ الإمام أحمد بن فارس بن زكريا القزويني. ولد سنة 329. وكان مقيماً بهمذان والريّ. له تصانيف كثيرة في اللغة والأصول والفقه والقرآن، وله شعر حسن. توفي بالري سنة 395 رحمه الله تعالى. انظر ((الوافي بالوفيات)): 7/ 278، و ((الأعلام)): 1/ 193.
(2)
((معجم مقاييس اللغة)): 6/ 107.
يذكر إلا أولوا ألالباب*) (1).
وأما التنازع فقد جاء في ((المصباح المنير)) في مادة ((ن ز ع)):
((نازعت النفسُ إلى الشيء نُزُوعاً ونزاعاً: اشتاقت، وبعير وناقة نازع: حَنّت إلى أوطانها ومرعاها)).
وجاء في ((لسان العرب)) في المادة نفسها:
((نازعتني نفسي إلى هواها نزاعاً: غالبتني، ويقال للإنسان إذا هَوىَ شيئاً ونازعته نفسه إليه: هو ينزع إليه نزاعاً.
والتنازع: التجاذب، ومنه حديث:((مالي أنازَعُ القرآن)) (2) أي أجاذب في قراءته، وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه، فنازعه قراءته، فشغله، فنهاه عن الجهر بالقراءة في الصلاة خلفه)).
(1)((بصائر تربوية)): 25. والآية من سورة البقرة ورقمها: [269].
(2)
أخرجه الترمذي في باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة، وقال الترمذي، وقال الترمذي:((هذا حديث حسن)) ، وقد أخرجه كذلك مالك في الموطأ والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد.
فالتنازع تدور معانيه على التجاذب والحنين والمغالبة.
والنوازع المذكورة في هذا البحث هي الأمور التي يشتاقها الإنسان ويحنّ إليها، وتحصل المجاذبة فيها بينه وبين نفسه لتحقيقها وتحصيلها.
ولا يخفى على اللبيب العاقل أن كل إنسان ينزع إلى ما تدفعه همته إليه، فمن كان عالي الهمة شريف النفس نزع إلى المعالي، ومن كان ممن جذبته الدنيا إليها وكبّلته بحبها نزع إلى ما يزيده حباً فيها وتعلقاً بها، والبون بين الفريقين شاسع.
ولا شك أن حديثي موجه للفريق الأول؛ لأنه هو الذي تتنازعه فضائل كثيرة، ويمكث زماناً يحاول أن يوفق بينها، أو يختار منها ما وفقه الله إليه.
وقد رأيت أن أتكلم عن نوازع خمسة أظن أنها تستوعب وتتضمن باقي النوازع التي ذكرتها في المقدمة، وهذه الخمسة هي:
1 -
طلب العلم الشرعي.
2 -
كثرة العبادة وإحسانها.
3 -
الدعوة إلى الله تعالى.
4 -
الجهاد في سبيل الله.
5 -
طلب المال الصالح.
وهي إن حاكت في صدر المسلم كلها أو بعضها منعته الرقاد، وأورثته السهاد، فلا يعود يطيب له العيش حتى يُحكم أمره فيها، ويختار منها ما يوفقه الله تعالى إليه، وقد يمنّ الله عليه بجمعها أو بجمع غالبها، فيكون إماماً قدوة كما سأبين، إن شاء الله تعالى.
والجامع بين هذه النوازع المختلفة بطريقة محكمة هو الذي يملي على التاريخ ما يكتبه، وهو الذي يجعله الله تعالى ملجأ للناس وملاذاً لهم حال الخَطْب المُدْلهمّ والحادث الجَلل، وهو الذي إن عاش كان رمزاً، وإن مات صار حديثاً للأجيال.
أما من جدّ واجتهد في جانب أو جانبين من الفضائل واقتصر على ذلك هو في حال حسنة، لكنها مفضولة.
يقول الأمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى موضحاً كيفية هذا التنازع بين
الفضائل المتنوعة:
((نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً، وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه؛ لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فرد، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه .. فلا أرى الرضى بنقصان العلوم إلا حادثاً عن نقص الهمّة.
ثم إني أروم - نهايةً - العمل بالعلم، فأتُوق إلى ورع بشر (1)، وزهادة معروف (2)، وهذا مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيدٌ.
ثم إني أروم الغنَى عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وقَبول المننن (3) مما تأباه الهمة العالية.
ثم إني أُوق إلى طلب الأولاد، كما أتُوق إلى تحقيق
(1) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن. الإمام المحدث الزاهد الرباني القدوة، شيخ الإسلام، أبو نصر المروزيّ ثم البغدايّ، المشهور بـ (الحافي). ولد سنة 152 وكان رأساً في الورع والإخلاص، وله حكم جميلة وكلام رائق. توفي رحمه الله تعالى سنة 227. انظر ترجمته في ((سير أعلام النبلاء)): 10/ 469 - 477.
(2)
الكرخي، علم الزهاد، بركة العصر، أبو محفوظ البغدادي، توي سنة 200، انظر أخباره في ((سير أعلام النبلاء)): 9/ 339 - 345.
(3)
أي العطايا المالية.
التصانيف لبقاء الخَلَفَيْن (1) نائبيْن عني بعد التلف، وفي طلب ذلك مافيه من شغل القلب المحب للتفرّد.
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثمّ لو حصل فرّق جمع الهمة
…
وكل ذلك جَمْعٌ بين أضداد
…
فواقلقي من طلب قيام الليل وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف
…
وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة بالخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم، ويا كدر الورع مع طلب لابد منه للعائلة، غير إني قد استسلمت لتعذيبي، ولعلّ تهذيبي في تعذيبي، وإن بلغ همي مراده وإلا فنيّة المؤمن خير من عمله)) (2).
وكلام الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى يتردد في صدور كثير من الصالحين، والغالب أن أكثرهم لا يجد سبيلاً للجمع بين تلك الأمور المذكورات على وجه حسن.
(1) أي الكتب والأولاد
(2)
((صيد الخاطر)): 216 - 217.
وللتدليل على أهمية هذا الأمر - أمر التوازن بين النوازع المختلفة - فإني أذكر حال واحد من إخواني الصالحين، فقد كان داعية نشيطاً، ولكنه كان يعاني من عدم استطاعته التوفيقَ والتوازن بين نوازعه، فقد كان يقوم الليل ويكثر من التعبد أياماً كثيرة، حتى إذا فطن أنه قد قصّر في حق الدعوة ترك التعبد وانغمس في العمل الدعويّ بنشاط عظيم، ثم إذا فطن أنه قد قصّر في حقوق أهله وأقاربه ترك كل ما مضى وجعل يهتم بأهله وأبنائه، فنصحته وبعضُ إخواني بالاتزان فلم ينتصح، فنتج عن ذلك أنه ترك الالتزام كلية بعد شعوره بالضعف وعدم القدرة على التوفيق، ثم منّ الله عليه بالتوبة والرجوع والحمد لله، نعم هذا مرض نادر، ولكنه يحدث في صفوف الدعاة بدرجات مختلفة الحدة، لعل هذه الحالة أشدها، عافاني الله وإياكم.
وحال عرضي لهذه النوازع سوف أذكر أموراً تضبطها، وأقوالاً للسلف حولها، وأذكر أيضاً كيفية تحقيق
التوازن فيها خاصة، وكيفية التوفيق بينها وبين بعض النوازع الأخرى، وقد أرجىء ذكر تفصيل بعض ذلك إلى المبحث الأخير إن شاء الله تعالى.