الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النازع الأول: طلب العلم الشرعي:
هذا النازع قويّ متجذِّر في نفوس كثير من الملتزمين بالإسلام، وذلك لما ورد من نصوص كثيرة في الكتاب والسنة وكلام أئمة السلف تنوِّه بطلب العلم وتذكر عظم أجره وفضله.
والعلماء العاملون سبب لهداية الناس، وهم الذين يجدّدون الدين وينقّونه ممّا عَلق به من البدع والمخالفات، ويصححون مفاهيم العامّة وآراءهم، وهم الذين يُستشفى بحديثهم ويتنزل نصر الله بسببهم.
وإذا علم الأخ المسلم فضل العلم والعلماء دعته نفسه ليكون منهم فيفوز بما فازوا به من الأجر والفضل، ولكنه
لا بد له أن يلتفت إلى جملة من التحذيرات والتنبيهات في هذا، وهي:
1 -
لا يحسن به ولا يجمل أن يترك دراسته للفنون والصناعات - إن كان من المتخصصين فيها والدارسين لها - ليطلب العلم الشرعي الكفائيّ، فإن هذه الفنون والصِّناعات - من طب وهندسة وفيزياء وكيمياء وغيرها - سببٌ من أسباب سعادة الأمة وفوزها على أعدائها المتربصين بها، وترك المسلمين لها يزيدهم وهناً على وهن، وقد يصيب التاركَ لهذه الفنون - ممن تعينت عليه - إثمٌ؛ لأنها - اليوم - من فروض الكفاية ومن أصول الرِّيادة.
2 -
لم تكن للصناعات والفنون في عهد السلف هذه المنزلة التي لها يقوم، فلا يصح أن نقارن ما عليه السلف بما نحن عليه، فقوة الأمم - اليوم - تقاس بما هي عليه من التقدم التِّقَني والعلميّ.
3 -
كان السلف حريصين على هذه الفنون والصناعات - رغم بدائيتها في عصرهم- فكثير من علمائهم اشتُقت
ألقابهم من الصناعات التي يزاولونها، فهناك القفّال، والشاشيّ، والحدّاد، والزجّاج، والفرّاء، والخيّاط، والسرّاج، والحذّاء، وغيرهم من علماء السلف وأعلامهم.
4 -
قد عاب بعض السلف تضييع بعض الفنون والصناعات، فهذا الإمام الشافعي (1) يقول فيما نقله عنه الربيع (2):
((لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطبِّ إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه)) (3).
وقال حَرْملة (4):
((كان الشافعي يتلهّف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى)) (5).
يقول هذا في زمانه فكيف في زماننا؟!
5 -
قد سَهُل عند بعض السلف الجمع بين الصناعات والفنون وبين طلب العلم الشرعيّ، ولكنّا اليوم يصعب علينا بل قد يعسُر فعل هذا، فطلبك
(1) محمد بن إدريس الشافعي الإمام المشهور، وأحد أصحاب المذاهب الأربعة المتبوعة. كان ذا ذكاء نادر، وصاحب لغة مستقيمة لم يؤثر عنه لحن قط. توفي رحمه الله تعالى سنة 204.
(2)
الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المراديّ، أبو محمد المصريّ المؤذن، صاحب الإمام الشافعي، ثقة، مات سنة 270 وله ست وتسعون سنة، رحمه الله تعالى. انظر ((التقريب)):206.
(3)
((نزهة الفضلاء)): 2/ 738.
(4)
أبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد الله التُجيبيّ المصريّ الحافظ، صاحب الإمام الشافعيّ. ولد سنة 166 وتوفي 243. وله بعض المصنفات. انظر ((الوافي بالوفيات)): 11/ 334.
(5)
((نزهة الفضلاء)): 2/ 738.
للعلم الشرعيّ من مظانّه يعني أنك لابد أن تلتحق بكلية من الكليات الشرعية أو تطلب العلم على شيخ، والأوّل صعب المنال إن كان الشخص مشغولاً بفنه وبصناعته، والثاني من أصعب الأمور؛ إذ هات لي شيخاً يصبر على تدريس الطالب أوّليات العلوم ومبادئها، ثم يتدرج معه حتى يكمل ويفقه، فالمشايخ- اليوم- يعتذرون لطالب العلم بالانشغال وعدم القدرة، وبين كثير منهم وبين الشباب فجوة سحيقة؛ إذ لا يوصل إليهم- غالباً - إلا بشق الأنفس، وإذا وصلت إليهم وجدت من الصِّعاب والعقبات عند الشيخ ما يفقدك الرغبة في طلب العلم عليه.
هذا ما حدا بكثير من الشباب إلى طلب العلم من الكتب والتفقه بغير شيخ، فظنوا أنهم قد علموا، والحقيقة أنه بينهم وبين العلم الصحيح المعتبر مفاوز؛ إذ هم من الفضلاء المطّلعين، ولا يصح وصفهم بأكثر من هذا.
فإذا فهمت الأمور الخمسة الماضية فاعلم أنك إن لم
تستطع تحصيل العلم الشرعيّ على الوجه المطلوب فقد يعوضك الله بفن وبصناعة تكفي بها الأمة الذل والهوان، وتكون ممن رُفع عند الله درجات أعلى وأعظم من كثير من العلماء المتقاعسين الذين لم يجمعوا بين العلم والعمل:
((أين فينا من يساهم ابتداءً في العمل على رقي المسلمين وتحررهم ووحدتهم إسهاماً يجسد ما يريد الإسلام من أبنائه، أن يكونوا عُباداً بررة وصناعاً مهرة، رهباناً بليل وفرساناً بنهار، دعاة إلى إنارة القلوب بالذكر، وسعاة إلى إزالة الظُلمة والجوع والمرض والفقر بالتقدم، يريدهم أن يكونوا هم المتفوقين دوماً في كل علم وصنعة لا عالة على أهل البحوث والدراسات والصناعات، وهم المخترعين المبدعين المبتكرين في كل فن وميدان لا المستوردين المستهلكين دون تقصٍّ أو انتقاء لكل جديد مُبتدَع، وهم الذين يصنعون التاريخ لا الذين يقرؤون
أحداثه فحسب)) (1).
ومن الأمور التي يجب أن تُعرف أنه لا بد لمزاول صناعة أو مهنة أن يكون له إلمام بالأحكام الشرعيّة اللازمة لصناعته ومهنته وفنه، فالطبيب- مثلاً- عليه أن يعرف الحكم الشرعيّ في الاطلاع على عورة مرضاه، ومتى يجوز له ذلك ومتى يُحظر عليه، وحكمَ التشريح، وحكم الإجهاض إلخ
…
والإعلاميّ عليه أن يعرف ما الذي يحل له بثُه وإذاعته بين الناس وما لا يحل له، وما هي الضوابط الشرعية لبثّ ما يملك من معلومات وأخبار؟ ويجب أن يعرف أيضاً كيفية التثبت من الأخبار شرعاً حتّى يكون في مأمن من تشويش الناس وإقلاقهم أو تطمينهم وتهدئتهم بدون وجه حقٍّ كما يحصل - اليوم - كثيراً.
(1)((الرائد)): 12 - 13.