الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثاني: هو القاتل؛ لأنه قطع سراية القطع، فصار، كما لو اندمل القطع، ثم قتله. وإن كان قطع اليد آخر فالأول القاتل، ولا ضمان على قاطع اليد؛ لأنه صار في حكم الميت، إنما يتحرك حركة المذبوح، ولا حكم لكلامه في وصيته، ولا غيرها. وإن أجافه جائفة، يتحقق الموت منها، إلا أن الحياة فيه مستقرة، ثم ذبحه آخر، فالقاتل هو الثاني؛ لأن حكم الحياة باق، ولهذا أوصى عمر رضي الله عنه بعدما سقي اللبن فخرج من جرحه، وأيس منه فعمل بوصيته، فأشبه المريض المأيوس منه. وإن ألقى رجلًا من شاهق، فتلقاه آخر بسيف، فقده قبل وقوعه، فالقصاص على من قده؛ لأنه مباشر للإتلاف، فانقطع حكم المتسبب، كالحافر مع الدافع.
[باب جنايات العمد الموجبة للقصاص]
وهي تسعة أقسام: أحدها: أن يجرحه بمحدد يقطع اللحم والجلد، كالسيف، والسكين، والسنان، والقدوم، وما حدد من حجر، أو خشب، أو قصب، أو زجاج، أو غيره، أو بما له مور وغور، كالمسلة والسهم، والقصبة المحددة، فيموت به فهذا موجب للقصاص إجماعًا. وإن غرزه بإبرة في مقتل، كالصدر، والفؤاد، والخاصرة، والعين، وأصل الأذن فمات، وجب القود؛ لأن هذا في المقتل، كغيره في غيره. وإن غرزه في غير مقتل، كالألية والفخذ، فبقي منه ضمانًا، حتى مات، وجب القود؛ لأن الظاهر موته به. وإن مات في الحال، ففيه وجهان:
أحدهما: لا قود فيه؛ لأنه لا يقتل غالبًا أشبه ما لو ضربه بعصاة.
والثاني: فيه القود؛ لأن له مورًا وسراية في البدن. وفي البدن مقاتل خفية، أشبه ما لو غرزه في مقتل.
فصل:
القسم الثاني: ضربه بمثقل كبير، يقتل مثله غالبًا، سواء كان من حديد أو خشب أو حجر، أو ألقى عليه حائطًا، أو حجرًا كبيرًا، أو رض رأسه بحجر، فعليه القود، لما روى أنس:«أن يهوديًا قتل جارية، على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين» ، متفق عليه وفي مسلم:«فأقاده» ولأنه يقتل غالبًا، أشبه المحدد. وإن ضربه بقلم، أو إصبع، أو شبههما، أو مسه بكبير مسًا، فلا قود فيه؛ لأنه لم يقتله. وإن كان مما لا يحتمل الموت به، كالعصا والوكزة بيده، فكان في مقتل، أو مرض أو صغر، أو شدة برد، أو حر أو وإلى الضرب به، أو عصر خصيتيه عصرًا شديدًا، بحيث يقتل
غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، أشبه الكبير. وقد وكز موسى عليه السلام القبطي، فقضى عليه. وإن لم يكن مثله يقتل غالبًا، فهو عمد الخطأ، لا قود فيه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إلا أن دية القتل شبه العمد ما كان بالسوط والعصا، مائة من الإبل» . رواه أبو داود.
فصل:
القسم الثالث: منع خروج نفسه، إما بخنقه بحبل أو غيره، أو غمه بمخدة، أو وضع يده على فيه مدة يموت فيها غالبًا، ونحو هذا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، وإن خلاه حيًا متألمًا فمات، فعليه القود؛ لأنه مات من سراية جنايته، أشبه الميت من الجرح. وإن صح منه ثم مات، لم يضمنه؛ لأنه لم يقتله، أشبه ما لو برئ الجرح ثم مات. وإن كان ما فعله به، لا يموت منه غالبًا، فمات، فهو عمد الخطأ.
فصل:
القسم الرابع: إلقاؤه في مهلكة، كالنار، والماء الكثير الذي لا يمكنه التخلص منه، لكثرته، أو ضعف الملقى أو ربطه، ونحو ذلك، أو في بئر ذات نفس، أو ألقاه من شاهق، يقتل غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبا. وإن كان لا يقتل غالبًا، أو التخلص منه ممكن، فلا قود فيه؛ لأنه عمد الخطأ، وإن التقمه في الماء القليل حوت، فلا قود فيه كذلك، وإن ألقاه في لجة لا يمكنه التخلص منها، فالتقمه الحوت فيها، أو قبل وصوله إليها، ففيه وجهان:
أحدهما: فيه القود؛ لأنه ألقاه في مهلكة، فهلك، أشبه ما لو هلك بها.
والثاني: لا قود؛ لأنه هلك بغير ما قصد إهلاكه به، أشبه الذي قبله.
فصل:
القسم الخامس: أن ينهشه حية، أو سبعًا قاتلًا، أو يجمع بينه وبين أسد، أو نمر، أو حية، في موضع ضيق، أو ألقاه مكتوفًا بين يدي أسد أو نحوه مما يقتل غالبًا، ففعل به السبع فعلًا، لو فعله الملقي أوجب القود، ففيه القود؛ لأن فعل السبع كفعله؛ لأنه صار آلة له، والحيات كلها سواء في أحد الوجهين؛ لأنها جنس يقتل سمه غالبًا، وفي الآخر إن كانت الحية مما لا يقتل سمها غالبًا كحية الماء، وثعبان الحجاز، فلا قود فيها؛ لأن هذا لا يقتل غالبًا، أشبه الضرب بمثقل صغير. وإن ألقاه مكتوفًا في أرض مسبعة، أو ذات حيات فقتلته، فلا قود فيه؛ لأنه مما لا يقتل غالبًا، فكان عمد الخطأ.
وقال القاضي: حكمه حكم الممسك للقتل على ما سنذكره؛ لأنه أمسكه بربطه حتى قتلته.
فصل:
القسم السادس: سقاه سمًا مكرهًا، أو خلطه بطعامه، أو بطعام قدمه إليه، أو أهداه إليه، فأكله غير عالم بحاله، ففيه القود، لما روي «أن يهودية أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر شاة مصلية، فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قال: ارفعوها، فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة فأرسل إلى اليهودية فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: إن كنت نبيًا، لم يضرك، وإن كنت ملكًا، أرحت الناس منك. فأكل منها بشر بن البراء بن معرور، فمات، فأرسل إليها فقتلها» ، رواه أبو داود. ولأنه يقتل غالبًا، أشبه القتل بالسلاح. وإن خلطه بطعام، وتركه في بيت نفسه، فدخل رجل فأكل فمات، فلا قود؛ لأنه عمد قتل نفسه، فأشبه ما لو قدم إليه سكينًا، فقتل بها نفسه، وإن ادعى ساقي السم أنه لم يعلم أنه يقتل، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه القود؛ لأن السم يقتل غالبًا.
والثاني: لا قود فيه؛ لأنه يجوز خفاء ذلك عليه، فتكون شبهة يسقط بها القود.
فصل:
القسم السابع: قتله بسحر يقتل غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، أشبه السكين. وإن كان مما لا يقتل غالبًا، فهو خطأ العمد. وإن ادعى الجهل بكونه يقتل غالبًا، وكان مما يجوز خفاؤه عليه فيه، فلا قود عليه؛ لأنه يخل بمتحض العمد.
فصل:
القسم الثامن: حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة يموت في مثلها غالبًا، فمات، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، وإن كانت المدة لا يموت فيها غالبًا، فهو شبه عمد. وإن حبسه على ساحل بحر في مكان يزيد عليه الماء غالبًا زيادة تقتله، فمات منه، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا. وإن كانت الزيادة غير معلومة، فهو شبه عمد. وإن أمسكه لرجل ليقتله فقتله، ففيه روايتان:
إحداهما: عليه القصاص؛ لأنه تسبب إلى قتله بما يقتل غالبًا، فأشبه شهود القصاص إذا رجعوا.
والثانية: لا قصاص، لكن يحبس حتى يموت لما روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمسك الرجل، الرجل، وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك» . أخرجه الدارقطني. ولأنه حبسه إلى الموت، فيفعل به مثل فعله. وسواء حبسه بيديه، أو بجناية عليه، أو غير ذلك. وإن أمسكه لغير القتل فقتل، فلا ضمان على الممسك؛ لأنه لم يقتله، ولا قصد قتله.
فصل:
القسم التاسع: أن يتسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبًا، أربعة أنواع:
أحدها: أن يكره غيره على قتله، فيجب القصاص على المكره، والمكره جميعًا؛ لأن المكره تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبًا، أشبه ما لو أنهشه حية، أو أسدًا، أو رماه بسهم. والمكره قتله ظلمًا، لاستبقاء نفسه، فلزمه القصاص، كما لو قتله في المجاعة ليأكله.
النوع الثاني: أن يأمر من لا يميز من المجانين والصبيان، أو عبدًا أعجميًا لا يعلم تحريم القتل بقتله، فيقتله، فعلى الآمر القصاص، دون المأمور؛ لأن المأمور صار كالآلة له، فأشبه الأسد والحية. وإن كان المأمور مميزًا فلا قود على الآمر؛ لأن المأمور له قصد صحيح فأشبه ما لو كان رجلًا عاقلًا. فإن كان العبد يعلم تحريم القتل، فالقصاص عليه؛ لأنه مباشر للقتل، مختار، عالم بتحريمه، فأشبه الحر، ويؤدب السيد، لتسببه إليه. وإن أمر السلطان رجلًا بقتل رجل بغير حق، ولم يعلم الحال، فقتله، فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور معذور في قتله، لكونه مأمورًا بطاعة السلطان في غير المعصية، والظاهر أنه لا يأمر إلا بحق. وإن علم أنه مظلوم فالقصاص عليه وحده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» من ((المسند)) . فصار كالقاتل من غير أمر. وإن أمره غير السلطان بالقتل، فقتل، فالقصاص على القاتل وحده، علم أو جهل؛ لأنه لا تلزمه طاعته.
النوع الثالث: أن يشهد رجلان على رجل بما يوجب القتل، فقتل بغير حق، ثم رجعا عن الشهادة، وأقرا أنهما فعلا ذلك ليقتل، فعليهما القود، لما روى القاسم بن عبد الرحمن: أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل، أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا عن الشهادة، فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما، لقطعت أيديكما، وغرمهما دية يده. ولأنهما قتلاه بسبب يقتل غالبًا، أشبه المكره.