المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌السَّلَمُ لَهُ شُرُوطٌ: الأَوَّلُ: تَسْلِيمُ جَمِيعِ الثَّمَنِ خَوْفَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ في - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٦

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌السَّلَمُ لَهُ شُرُوطٌ: الأَوَّلُ: تَسْلِيمُ جَمِيعِ الثَّمَنِ خَوْفَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ في

‌السَّلَمُ

لَهُ شُرُوطٌ: الأَوَّلُ: تَسْلِيمُ جَمِيعِ الثَّمَنِ خَوْفَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ

في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم» .

واحترز بقوله: (جَمِيعِ الثَّمَنِ) مما لو نقد البعض فإنه لا يجوز، ونص على ذلك في المدونة، وبه قال محمد وغيره.

ابن راشد: وهو المعروف، وذكر ابن القصار قولاً بإمضاء ما تناجزا فيه، وهو مبني على أحد القولين في الصفقة إذا جمعت حلالاً وحراماً، ولأشهب قول ثالث: يجوز أن يتأخر اليسير لا النصف؛ لأن اليسير تبع فيعطى حكم متبوعه، وأشار سند إلى تخريج قول بإجازة تأخير الثلث مما أجازه مالك في الموَّازيَّة في الكراء المضمون إذا نقد الثلثين وتأخر الثلث.

وفرق غيره بأن مالكاً إنما أجاز ذلك في الكراء المضمون للضرورة؛ إذ الأكرياء يقتطعون أموال الناس، ولا ضرورة في السلم وأجرى اللخمي قولاً بالفرق بين أن يسمى لكل قفيز - مثلاً - ثمناً فيصح ما يقابل المقبوض، أولا فيبطل الجميع مما تقدم في الصرف من التفصيل لذلك، وفي تغليل المصنف بخوف الدين بالدين نظر من وجهين:

أحدهما: أن الخوف إنما يستعمل في المتوقع لا في الواقع، وإن اشترط التأخير فالمحذور واقع، ولا يقال: قوله: (خَوْفَ الدَّيْنِ) تعليل لتسليم جميع الثمن؛ لأن الخوف مع التسليم منتفٍ.

الثاني: أن العلة غير منعكسة؛ لأن الدين قد ينتفي، والمنع باق فيما إذا كان رأس المال سلعة معينة، وأخرت بشرط لعلة أخرى؛ لأنه بيع معين يتأخر قبضه.

ص: 3

وَجُوِّزَ الْيَوْمَ والْيَوْمَيْنِ بِالشَّرْطِ، وَفِيهَا: وثَلاثَةٌ، وقِيلَ: لا يَجُوزُ

يجوز في (جُوِّزَ) أن يُبنى للفاعل ويكون مالك رضي الله عنه، وأن يبنى لما لم يسم فاعله، وعليه تكلم ابن عبد السلام وقال: إنما أتى به مبنياً لما يم يُسَم فاعله؛ لأنه لم يستحسن ذلك لدخوله تحت الدين بالدين.

وما نسبه للمدونة من الثلاثة هو في كتاب الخيار منها، والقول بأنه لا يجوز تأخيره بشَرْطٍ يوماً ولا يومين لابن سحنون، واختاره ابن الكاتب وعبد الحق وصاحب الكافي؛ لأنه ظاهر النهي عن الكالئ بالكالئ.

الباجي: وإنما يجوز التأخير إلى اليومين والثلاثة على المشهور، وأما من يجوز السلم إلى هذه المدة فلا يجوز التأخير عنده إلى هذه المدة؛ لأنه عين الكالئ بالكالئ، ويجب أن يقبض عند هذا القائل في المجلس أو بالقرب منه.

فَإِنْ أَخَّرَ أَكْثَرَ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَقَوْلانِ

أي: أكثر من ثلاثة أيام؛ يريد: والثمن من النقدين لما سيذكره، والقولان لمالك، وبالفساد قال ابن وهب، قيل: وهو الصواب، وهو ظاهر المدونة في السلم.

الثاني: إذا ادعى أحدهما الفساد [497/ب] فقال: تأخر شهراً، وفي السلم الثالث ما ظاهره مخالفة هذا، فقال: إن تأخر رأس المال أكثر من ثلاثة أيام من غير شرط فيجوز ما لم يَحِل الأجل فلا يجوز، والجواز قول أشهب ورجع إليه ابن القاسم في الموَّازَّية، ولابن وهب قول ثالث: إن تعمد أحدهما تأخيره لم يفسد، وإلا فسد، ولابن الماجشون وابن حبيب رابع: إذا مطل المبتاع للبائع رأس المال أو بعضه حتى حل الأجل، فالبائع مخير إن شاء أخذ منه رأس المال أو أعطاه طعامه أو يعطيه حصة ما نقده خاصة، وإن كان التأخير بسبب البائع لزمه الطعام كله.

ص: 4

ابن عبد السلام: والأقرب الفساد؛ لأنه دين بدين، وفي معنى تأخيره تأخير النصف فأكثر، وقيل: يحلف في اليسير بناء على إعطاء اليسير حكم نفسه أو حكم الكثير، فإن حصل قبض رأس المال حساً ولم يحصى معنىً، كما لو اطلع المسلم إليه على أن بعض الدراهم ناقص أو زائف ففي مختصر ابن شعبان: أنه إذا جاء بدرهم ناقص فاعترف الآخر أنه ينتقص من السلم بقدره، ولا شك أن هذه الباب أخف من الصرف، فكل ما جاز في الصرف يجوز هنا من باب أولى.

والمشهور وهو مذهب المدونة: جواز البدل وتأخيره اليومين والثلاثة. قال أشهب: إلا أن يكونا دخلاً على ذلك ليجيزا بينهما الكالئ بالكالئ، وهو تقييد بعض الموثقين، وهذا عندي لا يعرف إلا ببينة تشهد على أصل تعاقدهما في الشراء أو بإقرارهما معاً.

المتيطي: وفسر سحنون ما في المدونة بأن الدراهم مكروهة أو زيوفاً، ولو كانت نحاساً أو رصاصاً ما حل أخذها، ولا التبايع بها.

أبو عمران: وهو ظاهر المدونة.

وقال في مختصر ابن شعبان: إذا جاء بدرهم ناقص واعترف الآخر به ينتقص من السلم بقدره، ولا شك أن هذا الباب أوسع من الصرف، قيل: ويجوز التأخير اليوم واليومين على قول ابن سحنون المتقدم أيضاً.

أشهب: يجوز تأخير البدل أكثر من ثلاثة أيام بشرط أن يبقى من الأجل اليوم واليومين، فإن أخره بشرط أمد بعيد، فإن عثر على ذلك بعد يوم أو يومين أبطل تراخيهما وأمر بالتناجز والبدل، وإن لم يعثر على ذلك إلا بعد أيام كثيرة فالعقد فاسد.

ص: 5

أبو بكر بن عبد الرحمن: العقدة كلها فاسدة؛ خوفاً من دخولهما على ذلك ابتداءً، ولم يفسد أبو عمران إلا قدر ما تأخر ويصح ما عده، ورأى غيرهما الصحة في الجميع، لصحة العقد أولاً.

ويَجُوزُ الْخِيَارُ إِلَى مَا يِجُوزُ التَّاخِيرُ إِلَيْهِ بِالشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ نَقْدٍ، فلو نَقَدَ - ولَو تَطَوُّعَاً - فَسَدَ؛ لأَنَّهُ إِنْ تَمَّ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ ....

لما بين لزوم حكم العقد في السلم ذكر حكم الخيار فيه، وذكر أنه يجوز الخيار في السلم بشرطين:

أولهما: أن يكون إلى ثلاثة أيام فأقل؛ إذ هو الذي يجوز تأخير النقد إليه.

الثاني: لا ينقد ولو تطوعاً، ولو نقد فسد؛ لأن المسلم إذا نقد وتم العقد كان المسلم إليه قد أعطى سلعة موصوفة إلى أجل عن ثمن تقرر في ذمته، وذلك فسخ دين في دين، وعلى هذا فيجوز التطوع بما يعرف بعينه؛ لأنه لتعيينه ليس ديناً بدين.

فائدة: تشارك هذه المسألة في عدم النقد ولو تطوعاً مسائل: إذا بيعت الأمة على خيار وفيها مواضعة لهذه العلة؛ لأن الثمن دين على البائع فإذا تم البيع بانقضاء مدة الخيار صار المشتري قد اقتضى من ذلك الذي دفعه جارية فيها مواضعة، وبيع الشيء الغائب بخيار والكراء على خيار والأرض غير المأمونة قبل الري.

وأَمَّا غَيْرُ النَّقْدِ فَيَجُوزُ تَاخِيرُهُ لِتَعَيُّنِهِ، وَلَيْسَ دَيْناً بِدَيْنٍ لَكِنَّهُ كُرِهَ فِيِمَا يُغَابُ عَلَيْهِ كَالطَّعَامِ والثَّوْبِ، وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يُكَلِ الطَّعَامُ ولَمْ يُحْضَرِ الثوْبُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؛ إِذْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ حَقُّ تَوفِيَةً ....

هذا مستثنى من قوله: (جَمِيعِ الثَّمَنِ) أي: إنما يجب تسليم الجميع إذا كان نقداً، وأما غير النقد فيجوز تأخيره؛ لأنه لتعينه لا يكون ديناً، ثم ذكر أن مالكاً في المدونة كره

ص: 6

تأخير الثوب والطعام؛ يريد: إذا كان التأخير بغير شرط، وأما إن كان بشرط فإنه يفسد. نص عليه في المدونة، وحمل ابن محرز وغيره الكراهة على إطلاقها، ومنهم من قيدها بما إذا لم يكل الطعام الذي هو رأس المال ولم يحضر الثوب محل العقد، أما إذا كيل الطعام وأحضر الثوب فقد انتقل ضمانهما إلى المسلم إليه وصار كالحيوان، فلا معنى للكراهة.

وإليه الإشارة بقوله: (وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يُكَلِ

إلخ) ولم يذكر المصنف الحيوان، ولعله رآه كالعرض كما قال بعضهم، وقد ذهب فضل بن سلمة وبعض القرويين إلى أنه لا فرق بين العرض والطعام إذا أخره، ولم يذكر المعين بغير شرط حل الأجل أم لا، وأنه جائز ماض، وأنه إنما أطلق الجواز في المدونة في مسألة الحيوان؛ لأنه سئل عن أمر وقع وكرهه في الأخرى ابتداءً، كما يكرهه في الأولى، وإليه نحا أبو عمران أيضاً، وذهب ابن أبي زمنين وجماعة من الشارحين إلى أن مذهب الكتاب أن تأخير رأس مال السلم بغير شرط المدة الكثيرة على ثلاثة أقسام؛ ففي العين يفسخ، وفي العرض والطعام يكره فيهما ذلك ولا يفسخ، وفي الحيوان لا يكره ذلك فيه ولا يفسخ، لأن الحيوان مما لا يغاب عليه، وقال أبو محمد اللؤلؤي: الطعام أشد؛ إذ لا يعرف بعينه، وفرق [498/أ] بين العروض والحيوان لأنهما مما يغاب عليهما، وهذا على القول بأن مصيبة الحيوان من مشتريه، وأما على القول بأن مصيبته من البائع فلا فرق بينه وبين العرض.

خليل: وينبغي أن تحمل كراهة الإمام في الطعام على التحريم؛ لأنه إذا لم يكل لم يكن بينه وبين العين فرق، وينبغي إذا أحضر الثوب أن يجوز؛ لأنه بحضوره يتعين، فلا يكون ديناً بدين، والله أعلم.

ويَجُزُ بِمَنْفَعَةِ مُعَيَّنٍ اتِّفَاقاً

أي: ويجوز أن يكون رأس المال منفعة معين كدار معينة ونحو ذلك.

ص: 7

واحترز بالمنفعة المعينة من المنافع المضمونة فلا يجوز أن تكون رأس المال؛ لأنه الكالئ بالكالئ، وحكى المصنف الاتفاق تبعاً لابن بشير، لكن ذكر المازري أن الشيخ أبو الحسن أشار إلى أن في الموَّازيَّة ما يدل على منع شراء المنافع بدين.

فإن قيل: لِمْ أجازوا هنا أن يكون رأس المال منافع معين ومنع ابن القاسم أخذها عن دين؟ قيل: لأن اللازم في محل المنع فسخ دين في دين، وهو أشد من ابتداء الدين بالدين.

والْمُجَازَفَةُ فِي الثَّمَنِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ جَائِزَةٌ كَالْبَيْعِ اتِّفَاقاً

يجوز في الثمن؛ أي: رأس المال أن يكون جزافاً في غير المعين.

ابن عبد السلام: وظاهر كلام القاضي أبي محمد منع كون رأس المال جزافاً لما يتوقع من طرو ما يبطل الثمن فيفضي إلى التنازع.

ابن بشير في نوازله: والمذهب كله على خلافه.

وقوله: (كَالْبَيْعِ) يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون قصد الاستدلال على من منع في السلم أن يكون رأس المال جزافاً؛ إذ هو بيع كسائر البيوع.

والثاني: أن يكون قصد الإحالة على ما تقدم من شروط الجزاف، وما فيه من الخلاف.

والثَّانِي: أَلَاّ يَكُونَا طَعَامَيْنِ ولا نَقْدَيْنِ؛ لِلنَّسَاءِ والتَّفَاضُلِ، وَلا شَيْءَ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ؛ لأَنَّهُ سَلَفٌ بِزِيَادَةٍ، وَلا فِي أَقَلَّ مِنْهُ، لأَنَّهُ ضَمَانٌ بِجُعْلٍ ....

الضمير في (يَكُونَا) عائد على العوضين، وتصور كلامه ظاهر، واختلف في سلم النخيل في الطعام؛ فمنعه ابن القاسم، وأجازه سحنون، وقال ابن سلمة: إن هو أزهى مُنِعَ، وإلا جاز.

ص: 8

قوله: (لِلنَّسَاءِ والتَّفَاضُلِ) النساء يدخل في الجنس والجنسين، والتفاضل خاص بالجنس الواحد.

قوله: (وَلا شَيْءَ فِي أَكُثَرَ مِنْهُ) أي: ولو كان من غير الطعام والنقدين.

ومفهوم قوله: (فِي أَكْثَرَ مِنْهُ

وَلا فِي أَقَلََّ) جواز سلم الشيء فيما يساويه، وفيه قولان: قول بالمنع مطلقاً وهو في الموَّازيَّية، وعزي أيضاً لأبي بكر الوقار، ومذهب المدونة الجواز بقيد ألا يقصد المسلم منفعة لنفسه، ففيها: فإن ابتغيت به نفع نفسك لم يجز؛ يريد: وكذلك إذا ابتغى به نفعهما جميعاً.

وكَذَلِكَ فِي أَجْوَدَ وأَرْدَأَ عَلَى الأَصَحِّ

أي: وكذلك يمتنع سلم الشيء في أجود منه وأردأ على الأصح تنزيلاً للجودة منزلة الكثرة، والرداءة منزلة القلة، ورأى مقابل الأصح أن اختلاف الصفة يصير الجنس كالجنسين.

إِلا أَنْ تَخْتَلِفَ مَنَافِعُهُمَا كَجَذَعٍ طَوِيلٍ أَو غَلِيظٍ فِي جَذَعٍ يُخَالِفُهُ

هذا استثناء من قوله: (الأَصَحِّ) الذي يمتنع في سلم الأجود في الأردأ أو بالعكس، فقال: إلا أن تكون منفعة الأجود والأردأ مختلفة فيجوز حينئذٍ سلم أحدهما في الآخر، وما ذكره المصنف قريب مما قاله في المدونة من أن الخشب لا يسلم فيها جذع في جذعين حتى يتبين اختلافهما كجذع نخل غليظ كبير غلظه وطوله، كذلك في جذوع قصار لا تقاربه فيجوز، ومنعه ابن حبيب، وصوبه فضل؛ لأن الكبير يصنع منه صغار، فيؤدي إلى سلم الشيء فيما يخرج منه، وأجيب بأوجه:

أولها: حمل ما في المدونة على أن الكبير لا يصلح أن يجعل فيما يجعل فيه الصغار أو أنه لا يخرج منه الصغار إلا بفساد لا يقصده الناس.

ص: 9

ثانيها: أن الكبير من نوع الصغيرز

ثالثها: لعياض: المراد بالجذع الصغير المخلوق لا المنجور؛ لأن المنجور يسمى جائزة لا جذعاً. وعلى هذا فالكبير لا يخرج مه جذوع بل جوائز، فلا يلزم عليه سلم الشيء فيما يخرج منه، لكن قول المصنف:(كَجَذَعٍ طَوِيلٍ أَو غَلِيظٍ) يقتضي أنه يجوز إذا كان طويلاً فقط، وهو لا يتأتى فيه الجواب الثالث.

تنبيه:

الجواب الثاني: إنما يصح إذا بنينا على أن الخشب أصناف، وهو ظاهر كلام ابن أبي زمنين، فإنه قال: قوله في المدونة: "يمتنع سلم جذع في نصف جذع" لو كان الجذع من نوع واحد مثل الصنوبر، ويكون نصف الجذع من نخل أو نوع آخر غير الصنوبر لم يكن به بأس على أصل ابن القاسم. وفي الواضحة: الخشب صنف وإن اختلفت أصوله، إلا أن تختلف المنافع والمصارف مثل الألواح والجوائز وشبهها. وتردد بعضهم في كلام ابن حبيب هذا هل هو موافق لما قاله ابن أبي زمنين أو مخالف؟ لأن ظاهر كلام ابن أبي زمنين الاكتفاء في المخالفة باختلاف الجنسين، وابن حبيب لم يعتبر إلا المنافع، لكن لا يبعد أن يريد ابن أبي زمنين أن مطلق اختلاف الجنس لا بد معه من قيد اختلاف المنفعة فيتفق قولان:

وَكَالحِمَارِ الْفَارِهِ فِي الأَعْرَابيِّ

هذا معطوف على الجائز فهو جائز، والفراهة عبارة عن سرعة السير، وضابط هذا أن اختلاف المنفعة تصير الجنس الواحد جنسين، ولابن القاسم في الموازية قولان آخران:

أحدهما: أن حُمُرَ مصر كلها صنف رفيعها ووضيعها، وإن كان بعضها أَسْيَرُ مِنْ بَعْضٍ وأحمل.

ص: 10

عياض: وهو مذهب المدونة، وقال، وتأول فضل على [498/ب] المدونة خلافه.

خليل: والظاهر ما تأوله فضل فإن بين الحمر عندنا بمصر اختلافاً كثيراً قل أن يوجد ذلك ببلد.

الثاني: أن الحُمُرَ كلها صنف، والمشهور أن البغال والحمير جنس، وهو مذهب المدونة، خلافاً لابن حبيب أنهما جنسان إلا أن يقرب ما بينهما، هكذا حكى القولين جماعة.

ورأى فضل أن ذلك ليس بخلاف، وأن كل واحد تكلم على عادة بلده وأن بينهما بالأندلس اختلافاً بَيِّنَاً، وفي مصر الأمر بخلافه.

وليس بظاهر؛ فإن الاختلاف فيها بمصر أظهر، وعورض مذهب المدونة هنا بمنعه في القسمة جمع البغال والحمير في قسم القرعة، ولولا أنهما عنده جنسان لأجاز الجمع بينهما وأجاب ابن يونس وغيره بأنه احتياط في البابين.

ابن عبد السلام: وهو جواب ضعيف؛ لأنه جمع في القسم بين الثياب التي لا شك في أن أجناسها مختلفة وأن منافعها متباينة كثياب الحرير والقطن والصوف والكتان، فأي احتياط هنا؟! فإنه يجوز سلم الحرير في الصوف.

واختلف في سرعة السير، فلم ير محمد ذلك شيئاً. وقال عبد الملك: إذا اختلفا في سيرهما كاختلاف الخيل جاز سلم أحدهما في الآخر، قال: لأن فضل السير هو الذي يراد في البغال والحمير.

اللخمي: وهو أحسن؛ لإنه زيادة فضل يزاد في الثمن لأجله.

وكَالْجَوَادِ فِي حَوَاشِي الْخَيْلِ

الجواد هو السابق، قال في الموَّازيَّة: وليس الفرس الجميل السمين العربي صنفاً حتى حتى يكون جواداً سابقاً.

ص: 11

وقال ابن حبيب: ليس السمن في الخيل يوجب الاختلاف؛ لأن المبتغى منه السبق والجودة، إلا البراذين العراض التي لا جري لها ولا سبق، بل تراد لما يراد لها البغال من الحمل والسير، فلا بأس أن يسلم الواحد منها في اثنين من خلافه، وجعل اللخمي الجمال مما تختلف به الخيل بشرط أن يقابله العدد، فيجوز سلم حميل في اثنين دونه؛ لأنه بمعنى المبايعة، وأما حميل في دونه فلا، وهو الأظهر.

وَكَذَلِكَ الإِبلُ

أي: يسلم النجيب في غيره.

ابن عبد السلام: المعتبر عندهم الحمل خاصة، وليس السبق بمعتبر.

خليل: فسر التونسي النجابة بالجري فقال: النجيبة منها صنف، وهو ما بان بالجري، والجمال صنف، والدنيء صنف، وينبغي اعتبار كل من الحمل والسبق والسير، وهو الذي قاله اللخمي.

والْبَقَرُ وَالْمَعَزُ

قال المازري: تعتبر النجابة في ذكور البقر بالقوة على الحرث، وأما إناثها فمذهب ابن القاسم أنها كالذكور إنما تختلف بقوة العمل، وذهب ابن حبيب إلى أن الإناث إنما يعتبر فيها اللبن.

عياض: وما في الأسدية يرد عليه، وهو المعروف من مذهب ابن القاسم أن الحرث يراعى فيها:

تنبيه:

الجواز على مذهب ابن القاسم إنما هو إذا كان في معنى المبايعة، بأن تسلم البقرة القوية في البقرتين أو أكثر، أما سلم بقرة قوية في بقرة ليست كذلك فنص بعضهم على

ص: 12

المنع، وهو ظاهر؛ لأنه ضمان بجعل، وعكسه سلف بزيادة، لكن نص في الموازية على خلافه، فإنه أجاز فيها سلم الفرسين السابقين في فرسين ليسا كذلك.

قوله: (وَالْمَعَزُ) أي: فيعتبر فيه الاختلاف بغزارة اللبن، حكى المازري على ذلك الاتفاق.

خليل: وانظر كيف اعتبروا غزارة اللبن في المعز ولم يعتبرها ابن القاسم في البقر، ولعل ذلك لأن المعز لا يمكن فيه غير ذلك. وفيه نظر.

بخِلافِ الضَّانِ عَلَى الأَصَحِّ

فلا يعتبر الاختلاف باللبن في الضأن على الأصح، وحكاه ابن حبيب عن مالك وأصحابه وقال به، قال: ولا يُعْرَفُ مِنْ غَزَرِ اللبنِ في الضأن ما يوجب ذلك، وغير الأصح اعتبار غزارة اللبن في الضأن كالمعز، وعزاه اللخمي لابن الماجشون.

ابن يونس: وهو ظاهر المدونة، ولا سيما وقد جعل في المدونة الضأن والمعز كالجنس الواحد، قال فيها: ولا تسلم صغار الغنم في كبارها ولا معزاها في ضأنها، ولا ضأنها في معزاها؛ لأنها كلها منفعتها اللحم لا الحمولة، إلا شاة غزيرة اللبن موصوفة بالكرم، فلا بأس أن تسلم في حواشي الغنم فأطلق. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: الضأن والمعز صنفان.

وكَذَلِكَ كَبِيرٌ فِي صَغِيرٍ، وصَغِيرٌ فِي كَبِيرٍ عَلَى الأَصَحِّ بِشَرْطِ أَلا تَكُونَ الْمُدَّةُ تُفْضِي إِلَى مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ فِيهِ، بِخِلافِ صَغِيرِ الآدَمِيِّ عَلَى الأَصَحِّ ....

لما ذكر أن الجنس يختلف بالمنفعة شرع فيما يقع به الاختلاف من الصغير والكبير؛ أي: وكالاختلاف بالمنافع الاختلاف بالكبر والصغر.

ص: 13

قوله: (كَبِيرٌ فِي صَغِيرٍ) يحتمل أن يريد الجنس فيصدق على كبير في صغير وعكسه، وعلى كبيرين في صغيرين، وعلى كبير في صغيرين وعكسه، وعلى صغير في كبيرين وعكسه.

ويحتمل أن يريد الواحد، ويكون التعدد مأخوذاً منه من باب الأولى؛ لأن كل من أجاز مع الواحدة أجاز مع التعدد، والأصح ظاهر المدونة؛ لأن فيها: وتسلم كبار الخيل في صغارها، وكذلك الإبل والبقر، وعليه حملها ابن لبابة وأبو محمد وغيرهما واختاره الباجي، وغير الأصح: لا يجوز سلم أحدهما في الآخر مطلقاً، سواء اتحد أو تعدد.

وفهم بعضهم المدونة عليه، وهو في الموازية، ففيها: لا خير في قارح في حولين، ولا حولي في قارح، ولا صغير في كبيرين، وهذا من الزيادة في السلف.

سند: فجعلهما جنساً واحداً حتى تختلف المقاصد فيكون العدد من أحد الجنسين، والكبير من الجهة الأخرى ككبير في صغير. قال جماعة: ولا خلاف في جواز هاتين الصورتين.

وعلى هذا ففي كلام المصنف نظر؛ [499/أ] لأنه لم يستثنهما، وهذا إنما يأتي على الاحتمال الأول، وهو إرادة الجنس، أما على إرادة الواحد فيصير مفهومه الجواز مع التعدد، وهو مذهب العتبية، فإن عياضاً وغيره نقلوا عنها منع سلم صغير في كبير، وعلله بأنه زيادة في السلف، وجواز سلم صغيرين في كبيرين وعكسه، وجعل اختلاف العدد مقصوداً، واستشكله ابن يونس فقال: جعل صغيرين في كبيرين بمعنى البيع وصغير في كبير بمعنى السلف، ووهم المازري في حمل المدونة على هذا، قال: وسبب الوهم أنه ذكر أولاً منع صغير في كبير وعكسه، ثم قال: والذي يشبه التبايع سلم كبير في صغيرين وعكسه، قال: وكذلك صغيرين في كبيرين وعكسه، وفهم عنه أن يفرق بين الواحد والاثنين، وهو السابق إلى فهم قارئه، ويمكن أن يوجد بينهما فرق، قال: وقد يحتمل ما قاله في الاثنين أنه عطف على أول كلامه بالمنع، وظاهر كلام المصنف جواز سلم صغير

ص: 14

الغنم في كبيرها لتعميمه، وهو مذهب ابن وهب في مختصر ما ليس في المختصر، ولذلك جاز سلم كبش في خروفين، ومذهب المدونة خلافه، ففيها: لا تسلم صغارها في كبارها. وسئل ابن القسم: لِمَ كره مالك ذلك؟ فقال: ليس بين الصغير والكبير تفاوت إلا اللحم ولا أرى ذلك شيئاً.

سند: وهذا هو المعروف في المذهب فكان ينبغي للمصنف أن يذكره مع صغير الآدمي؛ لاتحاد المشهور فيهما، ولهذا قال ابن القاسم: الصغار والكبار من سائر الحيوان مختلفان إلا في جنسين خفيفين: الغنم وبني آدم. قال في الموازية: والحولي صغير، والقارح والربع كبير، وقال ابن حبيب: صغار الحمر ما لم تبلغ الحمل والركوب، وقال في الإبل: الصغار فيها التي لا حمل لها.

وقال الباجي في البقر: حد الكبير في الذكور أن يبلغ حد الحرث، ومثله في الإناث على قول ابن القاسم، وعلى قول ابن حبيب أن تبلغ سن الوضع واللبن.

وقوله: (بِشَرْطِ

إلخ) إذا قلت: بجواز سلم الكبير في الصغير وعكسه فهو مشروط بأن لا يكون بينهما من المدة ما يؤدي إلى معنى المزابنة، فلا يسلم كبير في صغير إلى أجل ينتج فيه الكبير صغيراً، ولا يسلم الصغير في الكبير إلى أجل يصير فيه الصغير كبيراً، ومعنى المزابنة فيهما الخطر والقمار؛ لأنه إذا أعطاه الصغير في الكبير إلى أجل يكبر فيه فكأنه قال: اضمن لي هذا إلى أجل كذا فإن مات ففي ذمتك، وإن سلم عاد إلي وكانت منفعته لك، وإذا أعطاه الكبير في الصغير فكأنه أخذ هذا الكبير على صغير يخرج منه؛ أي: تلده الكبيرة فصار كمن أسلم شيئاً فيما يخرج منه والمزابنة في تقديم الصغير في الكبير؛ لأنه أعطاه الصغيرة في الكبيرة إلى أجل يبكر فيه الصغير.

ابن بشير: لأنه كمن أخذ صغيراً مشفع ويضمنه حتى يكبر، والبغال لا تنتج فسلمت من هذا التقدير.

ص: 15

قوله: (بِخِلافِ صَغِيرِ الآدَمِيِّ) أي: إن صغير الآدمي صنف واحد مع كبيره؛ فلا يسلم كبير في صغير وعكسه، وسواء اتحد العدد أو اختلف، والأصح حكى المازري الاتفاق عليه، ومقابله اختيار اللخمي، قال: القياس عندي أن يكون صغير الرقيق جنساً مخالفاً لكبيره، واحتج بخلاف المنافع.

ابن عبد السلام: واختياره هو الصواب عندي.

وبخِلافِ طَيْرِ الأَكْلِ باتِّفَاقٍ

يعني: أن طير الأكل لا يجوز سلم صغيرها في كبيرها ولا كبيرها في صغيرها باتفاق، ولكنه مقيد بالصنف الواحد.

ففي الواضحة الديكة والدجاج صنف واحد صغارها وكبارها، والإوز صنف، والحمام صنف لا يفترق في ذلك ذكر ولا أنثى، ولا صغار ولا كبار، وأخرج بطير الأكل طير التعليم، فإنه يختلف بسببه، وهل يختلف بالبيض؟ قال ابن القاسم: لا، وقال أصبغ: يختلف؛ فيجوز على قوله: أن تُسْلَمَ الدجاجة البَيُوَضُ في اثنين أو أكثر غير بيوض.

والذُّكُورِةُ والأُنُوثَةُ فِي الآدَمِيِّ مُلْغَاةٌ عَلَى الأَشْهَرِ كَغَيْرِهِ بِاتِّفَاقٍ

يعني: أن الذكورة والأنوثة لا يختلف بها غير الآدمي من الحيوان باتفاق، وهل يختلف فيها الآدمي؟ الأشهر أنه لا يختلف كغيره، قاله مالك في المدونة والعتبية. وأكثر المتأخرين على مقابله، لاختلاف المنفعة، فإن منفعة الذكور المنفعة الظاهرة ومنفعة الأناث المنفعة الباطنة. وحكى المازري أن بعضهم خَرَّجَهُ مِنَ الاختلاف فيمن أسلم دجاجة بيوضة في ديكين.

وفيه نظر؛ لأن الحيوان إنما قيل به للبيض لا للذكورة والأنوثة فقط، وأن اللخمي خرجه من الاختلاف فيمن حلف بحرية من يملك من الذكور أو الإناث هل تلزمه هذه

ص: 16

اليمين أم لا؟ فمن ألزمه بنى على أنها جنس فيكون كمن حلف بعتق بعض الجنس، ومن لم يلزمه بنى على أنهما جنسان، فلما حلف بعتق الذكور كان كمن لم يعم الجنس، وهذا مذهب المدونة في العتق الأول، وهو خلاف ما نص عليه في السلم أنهما جنس واحد.

وفيه نظر؛ لأن غاية ما يستفاد من مسألة الحالف اختلاف الجنسية، واختلاف الجنسية أعم من اختلاف المنفعة أو اتحادها، والحاصل مما تقدم من قوله:(الْجَوَادِ) إلى هنا أن الجيد لا يسلم في الرديء لما تقدم أن الجودة والرداءة لا ينقل جنسها على الأصح عن أصله إلا إذا كان معها معاراً آخر، ولذلك يسلم البعير المعروف بالنجابة في حواشيها كالخيل والبقر القوية على الحرث والعمل في حواشيها، والشاة الغزيرة اللبن في حواشي الغنم، والصغير والكبير مختلفان في سائر الحيوان إلا الغنم وبني آدم؛ لأن المراد من الغنم الغالب في اللحم، ومن بني آدم الخدمة في الحال والمآل، وأما غيرهما فمنافعها شتى كالقوة على الحمل، والنجابة في الجري.

أبو الظاهر: الحيوان ناطق، وغيره؛ فالناطق نصوص المتقدمين: لا يختلف [499/ب] بالكبر والصغر. وغير الناطق مأكول وغيره؛ وغير المأكول اختلف فيها المذهب كالخيل والبغال والحمير، وهو خلاف في شهادة. والمأكول ثلاثة: صنف فيه القوة على الحمل والعمل كالإبل والبقر فلا خلاف أن الصغير بخلاف الكبير، وصنف ليس فيه منفعة مقصودة ولا قوة على الحمل والعمل كالطير الذي للأكل لا للولادة لا خلاف في تسوية الكبير والصغير؛ لأن المقصود منهما معاً مجرد اللحم، وصنف لا قوة فيه على الحمل والعمل وفيه منفعة مقصودة وهي الذرية والنسل كالغنم ففيه قولان وهما خلاف في شهادة.

والصَّنَائِعُ النَّادِرَةُ فِي الآدَمِيِّ كَالتَّجْرِ والْحِسَابِ وَشِبْهِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِاتِّفَاقٍ

كلامه ظاهر التصور، ولا يريد بـ (النَّادِرَةُ) أن تكون الصنعة قليلة الوجود جداً على ما يتبادر إلى الذهن من هذا اللفظ، وإنما مراده ما يوجد في بعض الأشخاص دون بعض.

ص: 17

المازري: والتجارة أيضاً تتنوع، فيجوز أن يسلم تاجر البز في تاجر القطن.

ولعل مراده الاختلاف بمجموع التجارة والحساب فيصح له الاتفاق، فإن اللخمي وغيره حكى قولاً بأن الحساب لا يختلف به الجنس، وهو المنقول عن ابن القاسم، فإنه نقل عنه أنه لا يرى الحساب والكتابة والقراءة توجب الاختلاف.

قوله: (وَشِبْهِهِ) أي: كالخياطة والبناية، ولا يريد بـ (شِبْهِهِ) الكتابة، فإن ابن زرقون حكى فيها ثلاثة أقوال:

أحدها: لمالك وابن القاسم عدم اعتبارها في الذكور والإناث.

الثاني: لأصبغ وابن حبيب أنها معتبرة فيهما.

الثالث: لعيسى عن ابن القاسم أنها معتبرة في الذكور دون الإناث، وكان ينبغي أن يقول: شبههما؛ لأن العطف بالواو يوجب مطلق التشريك إلا أن يريد: مجموعهما.

بِخِلافِ الْغَزْلِ والطَّبْخِ إِلا مَا بَلَغَ النِّهَايَةَ

لأن الغزل والطبخ أمر عام، وإذا علمته الجارية من يومها علمته إلا ما بلغ النهاية، فإن بعضهن تبيع الغزل بوزنه فضة وبعضهن يطبخ أنواعاً فائقة، ونص ابن القاسم وغيره على أن الطبخ والغزل والخبز كصنعة واحدة، فلا خير في طباخة بخبازتين. وفيه نظر. وجعل في الموَّازَّية الطبخ والخبز مما تختلف بهما الجواري، ولم يجعل الغزل وعمل الطيب ناقلاً، واستشكله التونسي في عمل الطيب ورآه ناقلاً، وتأوله على علم عمل صنعة الطيب.

وفِي الْجَمَالِ الْفَائِقِ قَوْلانِ

هذا الخلاف إنما هو منقول في الإماء، والقول بأنه لا ينقل لابن القاسم في الموَّازيَّة، والقول بالنقل لأصبغ.

ص: 18

محمد: وهو استحسان، والقول ما قال ابن القاسم وهو القياس. وقال المازري: الأصح قول أصبغ، واختاره التونسي وابن يونس وغيرهما.

ابن عبد السلام: وهو الأصح؛ لأن المراد من الجميلة غير المراد من غيرها، إلا أن أصبغ تارة يطلق الكلام في الجمال، وتارة يقيده بالفائق، فإن قيد كلامه بعضه ببعض - وهو الأظهر - كان في الجمال الفائق قولان كما ذكره المصنف، وغلا ففيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين الفائق وغيره بخلاف النقد، والفائق الشاهي.

وأَمَّا الْمَصْنُوعُ لا يَعُودُ، فَإِنْ قَدَّمَهُ وهَانَتِ الصَّنْعَةُ كَالْغَزْلِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الأَشْهَرِ بخِلافِ النَّقْدِ ....

لما تكلم رحمه الله على ما يختلف به الجنس من المنفعة والخلقة والصنائع المتعلقة بالآدمي شرع في الصنائع المتعلقة بالجمادات، ثم إن المصنف تكلم على جميع أقسام المسألة، لأنه إما أن يسلم مصنوع في غيره أو العكس، أو مصنوع في مصنوع أو عكسه، وبدأ بالمصنوع إذا أسلمه في غير المصنوع.

واحترز بـ (مَا لا يَعُودُ) مما يعود إلى أصله مع بقاء ذاته كقدور النحاس وشبهها، وسيأتي ذلك.

ومثل المصنف الصنعة الهينة بالغزل.

و (الأَشْهَرِ) المازري: وهو المشهور، وغير الأشهر أنها صنفان، فيجوز سلم الغزل في أصله، وأشار بعض المتأخرين إلى أنه القياس، واختاره ابن يونس، وحمل سند اتحاد الجنسين على غليظ الغزل، بخلاف رقيقه لشدة تباين الغزل الرقيق مع أصله.

خليل: ويؤيده ما نص عليه في الموَّازيَّة أن الغزل الرقيق صنف، والغزل الغليط صنف.

ص: 19

قوله: (بخِلافِ النَّقْدِ) أي: فيجوز بيع الغزل بالكتان نقداً، لكن بشرط أن يكونا معلومين، فإن كانا جزافاً أو أحدهما لم يجز إلا أن يتبين الفضل بينهما. قاله في الموَّازيَّة، وهو مبني على أنهما جنس واحد فيؤدي إلى المزابنة.

وإِنْ كَثُرَتْ كِالنَّسْجِ جَازَ

هذا قسيم قوله: (وَهَانَتِ الصَّنْعَةُ).

وقوله: (كِالنَّسْجِ) أي: يجوز سلم الثوب في الغزل؛ لاختلاف الأغراض وتباين المنافع، قال في المدونة: لا بأس أن يسلم ثوب كتان أو ثوب صوف في صوف.

أبو محمد: إلا ثياب الخز؛ لأنها تنفيش، وهذا هو المشهور؛ لانتفاء توهم المزابنة.

وفي الموَّازيَّة: لا يجوز بيع الصوف بالصوف إلا يداً بيد إلا أن يتبين الفضل بينهما. وهو يدل على أن المنسوج أصله جنس واحد، وتأوله أبو إسحاق على ما يعود صوفاً إذا نقض، واستبعده سند؛ لأن التهمة لا ينظر لصورتها، وإنما ينظر لقوتها، ويبعد في المنسوج أن يقصد إلى التعامل على نقض نسجه وغزله، قال: والمذهب الجواز مطلقاً، وذكر ابن يونس والمازري عن أشهب: أن النسج ليس بصنعة في الغزل، وأنه لا يجيز الثوب بالغزل إلى أجل ولا يداً بيد؛ للمزابنة، إلا أن يتبين الفضل بينهما، وقد جاء لمالك في النسج ما يقوي قول أشهب؛ لأنه قال فيمن اشترى غزلاً فنسجه ثم فلس المبتاع: إن النسج ليس يفوت [500/أ] به الغزل.

وَإِنْ قَدَّمَ أَصْلَهُ اعتْبِرَ الأَجَلُ

أي: وإن أسلم غير المصنوع فيما يصنع منه نظر إلى الأجل الذي ضربه المتبايعان، فإن أمكن أن يجعل فيه من غير المصنوع مثل ذلك المصنوع منع؛ لأنه مزابنة؛ إذ حاصله الإجارة بما يفضل مثلاً من الكتان عن الثوب، وهو مجهول، وإن لم يمكن أن يصنع جاز؛

ص: 20

لانتفاء المانع، وعدل المصنف عن أن يقول: وإن قدم غير المصنوع إلى قوله: (وَإِنْ قَدَّمَ أَصْلَهُ) لكونها أشمل؛ إذ هي تشمل سلم الغزل في الثوب، وفي كلامه إطلاق؛ لأن مقتضاه أن الأصل إذا قدم اعتبر فيه الأجل سواء هانت الصنعة أم لا، ولا يصح؛ لأن ما هانت الصنعة فيه يمتنع سواء قدم أصله عليه أو العكس، طال الأجل أم لا، وكأنه استغنى بما تقدم.

والْمَصْنُوعَ يَعُودُ مُعْتَبَرٌ فِيهِمَا

أي: إذا كانت الصنعة يمكن زوالها حتى يعود المصنوع إلى حاله قبل الصنعة كالرصاص والنحاس، فلا بد من اعتبار الأجل.

وقوله: (مُعْتَبَرٌ) أي: الأجل المتقدم.

وقوله: (فِيهِمَا) أي: في صورتي المصنوع في أصله، وتقديم الأصل فيه، أما اشتراط الأجل فيهما إذا قدم غير المصنوع فظاهر، وأما إذا قدم المصنوع في غير المصنوع فلا معنى لاشتراط الأجل فيه؛ إذ يبعد أن يفسد المصنوع، ويزيد عليه من عنده ثم يدفعه للمسلم، إلا أن يحمل على صورة نادرة، وهو أن يكون المصنوع قليل الثمن لقدمه أو لغيره ذلك، فإذا زالت صنعته ظهرت له صورة. وفيه بُعْدٌ.

ابن عبد السلام: وينبغي أن يكون حكم هذه الصورة حكم سلم غير المصنوع في غير المصنوع؛ أي: فلا يجوز في أكثر؛ لأنه سلف بزيادة ولا في أقل؛ لأنه ضمان بجعل.

فَإِنْ كَانَا مَصْنُوعَيْنِ يَعُودَانِ نَظَرْتَ إِلَى الْمَنْفَعَةِ

يعني: فإن كان رأس مال السلم والمسلم فيه مصنوعين من جنس واحد والصنعة مع ذلك يمكن زوالها؛ أي: يمكن إعادة المصنوع إلى أصله اعتبرت المنفعة؛ أي: فإن تقاربت منفعتهما منع سلم أحدهما في الآخر، وإن تباعدت جاز. مثاله أن يسلم

ص: 21

مسامير في سيف أو منارة في إبريق. وإن تقاربت جداً منع؛ لأنه مزابنة كإبريق من نحاس في مثله. انتهى.

وفي المدونة: الحديد كله صنف حتى يعمل سيوفاً أو سكاكين، فيجوز سلم المرتفع منها في غير المرتفع، قال فيها: قلت: فما منع من الحديد حتى يكون سيوفاً وسكاكين ومرآة وغير ذلك، قال: إذا صنع الحديد افترق وصار أصنافاً مختلفة باختلاف المنافع، وكذلك النحاس وأصنافه كله صنف واحد حتى يعمل فيصير أصنافاً، وكذلك غير ذلك من الأشياء إذا عملت واختلفت منافعها.

وتقييده بالعودة يوهم أنهما لو كانا يعودان لا ينظر إلى المنفعة، وليس كذلك بل لا فرق بين ما يعود وما لا يعود، ولهذا لم يجز سلم الرقيق من الثياب في الرقيق منها إذا اتحد الجنس بخلاف الرقيق في الغليظ؛ لتباين المنفعة.

وفِي السَّيْفِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ قَوْلانِ

ذكر هذه المسألة إثر التي قبلها؛ لأنها داخلة تحت: (الْمَصْنُوعَيْنِ يَعُودَانِ).

ابن عبد السلام: ومذهب المدونة الجواز، ومذهب سحنون المنع.

خليل: لم يجعل في المدونة مطلق الجودة والدناءة مقتضياً للجواز، بل فيها المنع إلا أن يَبْعُدَ ما بينهم في الجوهر والقطع كتباعد الرقيق والثياب؛ فيجوز أن يسلم سيف قاطع في سيفين ليس مثله.

ابن يونس: ولم يجزه سحنون، والصواب الجواز؛ لتباين المنفعة.

فرع:

منع في المدونة سلم السيوف في حديد لا يخرج منه السيوف، وقال: لأن الحديد نوع واحد، قال: ولو أجزنا السيوف في الحديد لأجزت حديد السيوف في الحديد الذي لا يخرج منه سيوف، ولأجزت الكتان الغليظ في الكتان الرقيق.

ص: 22

أبو الحسن: والمسألة على أربعة أوجه:

أحدها: سلم السيوف في حديد يخرج منه السيوف.

والثاني: سلم السيوف في حديد لا يخرج منه السيوف.

والثالث: سلم حديد لا يخرج منه السيوف في سيوف.

والرابع: سلم حديد يخرج منه السيوف في سيوف. وكلها عند ابن القاسم ممنوعة.

وقال سحنون: لا بأس أن يسلم الحديد الذي لا يخرج منه السيوف في سيوف.

ابن عبد السلام: قال عبد الحق: وهو موافق للمدونة.

فانظر ما قاله ابن يونس عن ابن القاسم، لكن قال ابن بشير: إن ما تأوله عبد الحق غير صحيح وقد نص في الكتاب على خلافه، وأجاز يحيى بن عمر والبرقي سلم السيوف في حديد لا يخرج منه السيوف، وَنَظَّر ذلك يحيى بثوب الكتان، وأنكر فضل تنظيره؛ لأن الثوب لا يعود كتاناً بخلاف السيوف، واختار اللخمي قول البرقي، قال: وليس إعادة السيوف حديداً مما يفعله العقلاء، وقوله في المدونة: ولو أجزت السيوف مع الحديد لأجزت الكتان الغليظ

إلخ.

أبو الحسن: يعني بالكتان هنا: الشعر لا الغزل.

سؤال: قد تقرر في المذهب أن اختلاف المنفعة يصير الجنس الواحد جنسين وهو منخرم بما ذكرناه هنا عن المدونة.

المازري: فاختلفت طريقة الأشياخ في الاعتذار؛ فرأى بعضهم أن الدنئ مِنْ هذين النوعين قد يبالغ في عمله بلطافة الصنعة حتى يصير يعمل منه ما يعمل من الآخر، ورأى بعضهم أن هذا خلاف ظاهر المدونة؛ لأنه قال: يعمل من أحدهما ما لا يعمل من الآخر، وأشار إلى أن العذر كون الاختلاف في هذه الصفات المشار إليها ربما وقع فيها الغلط

ص: 23

[500/ب] وبناء على الاجتهاد والحرص بحمية الأربعة لئلا يعقد السلم على نوع لا تفاوت فيه، ويقول العاقد بل فيه تفاوت.

وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وتَقَارَبَتِ الْمَنْفَعَةُ كَالْبِغَالِ والْحَمِيرِ وثَوْبَيِ الْقُطْنِ والْكَتَّانِ فَقَوْلانِ ....

تصوره واضح، وقد تقدمت مسألة البغال مع الحمير، ومذهب ابن القاسم في المدونة جواز سلم رفيع القطن في الكتان، والمنع لأشهب.

واختلف شارحو المدونة هل يؤخذ من هذه المسألة الخلاف من هذه القاعدة أولا؟ وإنما سبب الخلاف هنا خلاف في حال.

وفِي نَحْوِ جَمَلٍ فِي جَمَلَيْنِ - مِثْلِهِ -أَحَدُهُمَا مُعَجَّلٌ قَوْلانِ

أي: اختلاف في جواز سلم جمل في جملين كل منهما مماثل له، وهو معنى قوله:(مِثْلِهِ). و (مِثْلِهِ) مجرور؛ صفة لجملين.

و (أَحَدُهُمَا مُعَجَّلٌ) أي: والآخر مؤجل، والمشهور المنع؛ لأن المؤخر عوض عنه والمعجل زيادة، ورأي في الشاذ أن المعجل بالمعجل والمؤخر محض زيادة، والقولان لمالك.

ابن عبد السلام: وأقربهما جرياً على قواعد المذهب هو المشهور؛ لأن في هذه المسألة تقدير المنع وتقدير الجواز، والأصل في مثله تغليب المنع.

وقال المصنف: (فِي نَحْوِ) إشارة إلى أن هذا جار في الثياب ومثلها، وقيد الجملين بالمثلية تحرزاً من أن يكون المعجل مخالفاً لِلجَمَلِ المنفرد فيمتنع؛ لأنه تختلف الأغراض فيها حينئذ فيتعلق الغرض بهما أو بالمتعجل، فإن تعلق بالمتأجل كان سلفاً، وكان المتعجل منهما زيادة، وإن تعلق بها جميعاً كان جزءً مِنَ المنفرد متعلقاً بالمتعجل، وبقيته مع بقية المتأجل زيادة في السلف.

ص: 24

وأما لو كان عوض أحد الجملين دراهم أو دنانير فقال في المدونة: إن عجل الجملان جاز، تأخر النقد أم لا، وإن تأخر أحد الجملين امتنع، تعجل النقد أم لا؛ لأنه رباً.

وَأَلْزَمَ أَشْهَبَ عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ دِينَاراً لِدِينَارَيْنِ كَذَلِك فَالْتَزَمَهُ وَلا يَلْزَمُهُ

يحتمل أن أشهب هو المُلْزِمُ للمغيرة، وكذلك ذكره ابن بشير في كتاب الصرف، ويحتمل أن يكون أشهب مفعولاً مقدماً، والمغيرة هو الفاعل، وكذاك ذكره ابن بشير في السلم الثالث، وهو الذي ذكره المازري وغيره، وهو الصواب.

ويقع في بعض النسخ تقديم المغيرة، وهو واضح في هذا المعنى، ووجه الإلزام أن الزائد إن كان المقصود به المعروف جاز فيهما، وإلا منع فيهما، ورد عبد الحق الإلزام بأن الربا في العين أضيق؛ لأن الزيادة في العروض نقداً جائزة، وإلى أجل فيه خلاف.

وقد أجازه الشافعي وغيره بخلاف النقد فإنه أجمع على منع الربا فيه، إلا ما نقل عن ابن عباس بأنه أجازه فيه، ويقال: إنه رجع عنه، وإليه أشار بقوله:(وَلا يَلْزَمُهُ).

واختلف الشيوخ بناءً على صحة الإلزام، هل يلزم المغيرة أن يقوله في دينارين معجلين للمعروف أم لا؟ لأن كل منها صالح للعوضية، وليس أحدهما أولى بخلاف مسألة المعجل أحدهما.

ابْنُ الْقَاسِمِ: ومَنِ اسْتَصْنَعَ طَسْتاً أَوْ سَرْجاً فَسَلَمٌ، فَيُقَدَّمُ الثَّمَنُ ويُضْرَبُ الأَجَلُ، وَيَفْسُدُ بِتَعْيينِ الْمَعْمُولِ مِنْهُ وَالصَّانِعِ؛ لأَنَّهُ غَرَرٌ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَجُوزُ إِنْ شَرَعَ بِغَيْرِ أَجَلٍ ....

لا شك في الجواز إذا لم يعين الصانع ولا المصنوع منه، وأنه سلم يجري على أحكام السلم من تقديم الثمن أو تأخيره اليومين والثلاثة، وضرب الأجل ووصف العمل.

و (سَلَمٌ) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فاستصناعه سلم.

ص: 25

(ويَفْسُدُ

إلخ) هو مذهب ابن القاسم في المدونة، وما علل به المصنف من الغرر هو في المدونة؛ لأنه اشترى موصوفاً معيناً يخرج من هذا المعين، فقد يخرج وقد لا يخرج، وذكر ابن المواز عن أشهب الجواز من غير أجل إذا شرع في العمل، وفي حكم الشروع عنده أن يتأخر إلى ثلاثة أيام، وكلام المصنف يقتضي أن قول أشهب خلاف للأول. وقاله غير واحد، وذهب بعضهم إلى أنهما متفقان، وأن ابن القاسم منع إذا كان خروجه يختلف، وأن أشهب أجاز إذا كان خروجه لا يختلف، والطست بفتح الطاء وكسرها.

وفي المقدمات: السلم في الصناعات إلى أربعة أقسام: إما ألا يعين الصانع والمعمول منه، وإما أن يعينهما، وإما ألا يعين الصانع ويعين المعمول منه، وعكسه.

فأما الأول: فهو سلم لا يجوز إلا بضرب الأجل ووصف العمل وتعجيل رأس المال.

وأما الثاني: وهو أن يشترط عمله ويعين ما يعمل منه - فليس بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع، فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل أو تمكن إعادته للعمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام ونحو ذلك، فإن كان على أن يشرع في العمل جاز بشرط تعجيل النقد وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى ثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل.

وأما الوجه الثالث: وهو ألا يشترط عمله بعينه ويعين المعمول منه، فهو أيضاً من باب البيع والإجارة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره.

وأما الوجه الرابع: وهو أن يشترط عمله دون المعمول منه، فلا يجوز على حال؛ لأنه يجتذبه أصلان متناقضان: أحدهما النقد لكون مع يعمل منه مضموناً، وامتناعه لاشتراط عمل العامل بعينه، وبالله التوفيق.

ص: 26

وأَمَّا لَوِ اشْتَرَى الْمَعْمُولَ مِنْهُ واسْتَاجَرَهُ عَلَيْهِ جَازَ

فارقت هذه المسألة التي قبلها بأن التي قبلها لم يدخل المبيع في ملك البائع، وهذه دخل في ملكه أولاً ثم آجره على عملها.

وقوله: (جَازَ) هذا على المشهور من جواز البيع والإجارة خلافاً لسحنون في منعه البيع والإجارة إذا كان محل الإجارة في [501/أ] نفس المبيع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والجواز مقيد بما إذا كان خروجه معلوماً، وأما إن اختلف مثل أن يبيعه ثوباً على أن على البائع صبغه أو نسجه أو يبيعه خشبة على أن يعملها تابوتاً فهو ممنوع.

وذكر ابن حارث في كتابه الاتفاق عليه، إلا أنهم فصلوا فيه بين ما يمكن عوده فيجوز إذا اشترط إعادته حتى يخرج على الوجه المشترط كحديد على أن يضربه سيوفاً لانتفاء الجهالة وبين ألا يمكن عوده فلا يجوز، كغزل على أن ينسجه للجهل بخروجه.

وإلى هذا أشار بقوله:

وفُرِّقَ بَيْنَ ثَوْبٍ وتَوْرٍ يُكَمِّلُهُمَا؛ لأَنَّ التَّوْرَ مُمْكِن الإِعَادَةِ

يجوز بناء (فُرِّقَ) للمفعول وللفاعل، ويكون عائداً على مالك؛ لأنه وقع له هذا في الموَّازيَّة.

ووقع في بعض النسخ (يُكَمِّلُهُمَا) وفي بعض النسخ (يَعْمَلُهُمَا) والمسألة إنما هي في الموَّازيَّة على (يُكَمِّلُهُمَا) وقال ابن عبد السلام: (ويُكَمِّلُهُمَا) أقرب إلى النصوص، قال في الموَّازيَّة والواضحة المنع من شراء ثوب نسج البائع أكثره وبقي أيسره على أن على البائع نسج باقيه". وزاد في الواضحة ألا يكون الباقي منه يسيراً جداً.

ابن عبد السلام: نقلت كلام ابن حبيب هذا من حفظي ولا إشكال في صحة معناه.

خليل: ولأن نسخه (يَعْمَلُهُمَا) راجعة إلى المسألة التي قبلها.

ص: 27

واعلم أن ما ذكره من عدم الجواز إذا لم تمكن الإعادة مقيد باليسير، وأما الكثير فلا؛ لأنه إن فسد عمل له من بقيته كاللبن غير المطبوخ، نص عليه ابن محرز، وقال: ولا بد من الشروع في العمل لئلا يكون معيناً يضمن إلى أجل، قال: وأما الممكن الإعادة كالرصاص فيجوز وإن كان يسيراً إلى أنه إن لم يأت على ما شرط أمكنه كسره وإعادته، قال: ولذلك رأوا ضمانه إن هلك من مشتريه؛ لأنه قد ملكه بالشراء، وإنما شرط على بائعه صنعة، فيه فيضمنه ضمان الصناع.

وأَمَّا نَحْوُ الْقَصَّابِ والْخَبَّازِ الدَّائِمِ الْعَمَلِ فَقَدْ أُجِيزَ الشِّرَاءُ مِنْهُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى النَّقْدِ، واسْتَقْرَأَ اللَّخْمِيُّ مِنْهُ السَّلَمَ الْحَالَّ ....

هذا مقابل القسم الذي قبله؛ لأن الأول الصانع فيه غير معين والمصنوع معين، وهذا الصانع معين والمصنوع غير معين، ثم هو ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: أن يكون الصانع دائم العمل.

والثاني: ألا يكون دائمه.

وذكر المصنف أنهم أجازوا الشراء من الصانع الدائم العمل كل يوم بكذا، وهذا هو المشهور، وروي عن مالك المنع. وعلى المشهور يشترط أن يكون ذلك موجوداً عنده، وأن يشرع في الأخذ ولا يشترط فيه ضرب الأجل، بل يجوز أن يكون مؤجلاً كغيره، ويجوز أن يكون حالاً، وسواء قدم النقد في ذلك أو أخره. وفي العتيبة عن مالك عن سالم بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نتبايع اللحم من الجزارين بسعر معلوم نأخذ كل يوم رطلين أو ثلاثة بشرط أن ندفع الثمن إلى العطاء.

مالك: ولا أرى به بأساً إذا كان العطاء معروفاً.

ابن رشد: ولاشتهارها سميت بيعة المدينة.

ص: 28

وقوله: (إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى النَّقْدِ) يحتمل معنيين:

أحدهما - وهو الأقرب -: أنهم جعلوا المسلم فيه هنا كالحال، ولهذا أجازوا فيه تأخير رأس المال، وأبطلوا بقيته بموت المسلم إليه.

ابن القاسم: ولو كان سلماً لأخذ من تركته.

والثاني: أنه لما كان الغالب من الصانع الذي هذا شأنه تحصيل ما أسلم إليه، ولا يعوزه وجوده كما لا يعوز غيره، صار وجوده عنده كالنقد بالنسبة إلى جميع الناس، فكما يجوز البيع بالعين على الحلول كذلك، فلفظ النقد على الثاني مستعمل في الدنانير والدراهم، وفي الأول مستعمل في مقابلة الأجل، وروي عن مالك أنه لا يجوز تأخير رأس المال في هذه المسألة، ورآه من باب الدين بالدين، واختلف لو نقد أكثر هل للمشتري مقال في الفسخ كاستحقاق الأكثر أولا مقال له في رد القليل المقبوض كالجائحة؟ وعلى أنه لازم في المقبوض وحده فاختلف هل تقع المحاسبة فيما قبض على مقدار ما لم يقبض من غير نظر إلى الزمان، أو إنما ينظر إلى قيمة ما شرط قبضه باعتبار زمانه؟ فقد يكون الربع المقبوض أولاً مساوياً لقيمة النصف، وهو الأظهر، والله أعلم.

وذكر المصنف أن اللخمي استقرأ من هذه الصور جواز السلم الحال، وقد تقدم ما يرد هذا الاستقراء؛ لأنه إنما أجيز هذا لتيسيره عليهم بخلاف غيرهم.

تنبيه:

وأما القسم الثاني وهو ألا يكون مستديم العمل فقال ابن بشير: قد أعطوه حكم السلم وأجازوه للضرورة، وقال: يشترط أن يكون أصل المسلم فيه يبقى إلى أجل السلم فأبعد، ويقدم رأس المال، فإن تعذر شيء من المسلم فيه تعلق بالذمة.

ص: 29

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ لِئَلَاّ يِكُونَ بَيْعٌ مُعَيَّنٌ إِلَى أَجَلٍ

وحقيقة الذمة أمر تقديري يفرضه الذهن وليس بذات ولا صفة لها، فيقدر المبيع وما في معناه كأنه في وعاء عند من هو مطلوب به، فالذمة هي الأمر التقديري الذي يجري ذلك المبيع أو عوضه مجراه، أي ولا يجوز بيع معين يتأخر قبضه؛ لأنه إن لم يكون في ملك البائع، فالغرر ظاهر، وإن كان في ملكه فبقاؤه على تلك الصفة غير معلوم؛ لأنه يلزم منه الضمان بجعل؛ لأن المسلم يزيد في الثمن ليضمنه له المسلم إليه، ولأنه إن لم ينقد الثمن اختل شرط السلم، وإن نقده كان دائراً بين الثمن إن لم يهلك والسلف إن هلك.

فإن قيل: من البياعات ما يجوز بيعه على أن يقبضه المشتري بعد شهر فلم لا أجيز هنا كذلك؟ قيل: هذا إنما هو في [501/ب] البيع، وكلامنا في السلم.

فإن قيل: قد أجاز ابن القاسم كراء الدابة المعينة تقبض بعد شهرين، ويلزم عليه جواز السلم في معين إلى أجل.

قيل: الفرق أن الدابة المعينة ضمانها من المبتاع بالعقد أو التمكن، فإذا اشترط تأخيرها كان ضمانها من البائع، فيلزم ضمان بجعل، بخلاف منافع العين فإن ضمانها من ربها، فلم يشترط إلى ما وجب عليه.

الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَقْدُوراً عَلَى تَحْصِيلِهِ غَالِباً وَقْتَ حُلُولِهِ؛ لِئَلَاّ يَكُونَ تَارَةً سَلَفاً وَتَارَةً ثَمَناً ....

قوله: (غَالِباً) أي: فلا يعتبر عدمه نادراً؛ لأن الغالب في الشرع كالمحقق.

وقوله: (وَقْتَ حُلُولِهِ) إشارة إلى أنه لا يشترط وجوده قبل ذلك، وعلى هذا فيجوز السلم فيما له إبار، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد خلافاً لأبي حنيفة رضي الله عنه في اشتراط وجوده من حين أسلم فيه إلى حسن وجوده؛ لاحتمال الموت والفلس، ولم يعتبر

ص: 30

أصحابنا ذلك؛ لأنه من الأمور النادرة، والظاهر أن العلة التي ذكرها من كون الثمن تارة يكون ثمناً وتارةً سلفاً جارية فيما يعرف بعينه وفيما لا يعرف بعينه، وإن كان ابن عبد السلام يقول: السلف لا يمكن فيما لا يعرف بعينه.

ومعنى: (تَارَةً سَلَفاً) إن لم يقدر على تحصيله (وَتَارَةً ثَمَناً) إن قدر على تحصيله.

فَلا يَجُوزُ فِي نَسْلِ حَيَوَانً بعَيْنِهِ

أي: من أجل كون اشتراط المسلم فيه مقدوراً على تحصيله عند حلول الأجل امتنع السلم في نسل حيوان معين لفقد الشرط المذكور، وأجاز اللخمي السلم في نسل حيوان بعينه على صفة معلومة إن وجدت، بشرط أن ينقد الثمن، وبشرط قرب الوضع، قال: ويختلف إذا كان الموضع بعيداً لموضع التحجير، فيجوز على أصل ابن القاسم، ويمتنع على أصل غيره.

سند: وما قاله لا يحتمله المذهب ولا غيره؛ لأن ما لا يقدر على تسليمه عند الأجل ولا تعرف له صفة يُعْرَفُ بِهَا يمتنع بيعه، سواء وصف أم لا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما في الأرحام من غير تقييد، ولا يعرف فيه خلاف.

وَلا حَائِطٍ بِعَيْنِهِ إِلا أَنْ يُزْهِيَ فَيَكُونُ بَيْعَاً لا سَلَماً

قال في المدونة: ومحمل هذا عند مالك محمل البيع لا محمل السلم، ولم يذكر شروطه، كما ذكر ابن شاس وكما ذكر في المدونة؛ لأنه ليس من باب السلم، وعلى أن بعضها قد يؤخذ بالقوة.

الأول: أن يُزْهِي ويصير بُسْرَاً؛ لأن بيعه قبل الإزهار غير جائز؛ للنهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.

الثاني: أن يذكر القدر من كيل أو وزن أو عدد.

ص: 31

الثالث: أن يكون المشتري مما يسعه الحائط.

الرابع: أن يبقى زهوه أو رطبه إلى أجل لا يثمر فيه.

الخامس: أن يكون مؤجلاً.

السادس: أن يذكر ما يأخذ كل يوم، وهل الأيام متوالية أو متفرقة، ولا يجوز على أن يأخذ كل يوم ما شاء، ولو شرط أخذ الجميع في يوم لجاز.

السابع: أن يسلم إلى مالكه؛ لأن السلم فيه إلى غيره غرر؛ إذ قد لا يبيعه المالك.

الثامن: أن يشرع في الأخذ حين الشراء أو بعد أيام يسيرة، قال في المدونة: والخمسة عشر يوماً قريب، وقيل: العشرون قريب، وقيل: لا يجوز التأخير أصلاً، وإنما جاز أن يشترط أخذه بسراً أو رطباً لا تمراً؛ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ البُسْرِ والرطب والتتمير، فيدخله الحظر بخلاف العقد على ما في الحائط جزافاً فله تركه إلى أن يتمر؛ لأن الجزاف قد تناوله العقد على ما هو عليه، وقد تسلمه المبتاع بدليل أنه إذا أراد بيعه لم يمنع ولم يبق على البائع فيه ضمان إلا ضمان الجوائح، وهو خلاف الأصل، وفي السلم لا يتناوله على ما هو عليه، وإنما يتناوله على صفة الجوائح، وهو خلاف الأصل، وفي السلم لا يتناوله على ما هو عليه، وإنما يتناوله على صفة غير موجودة فكان غرراً، وهذه التفرقة هكذا هي الصواب، وفي ابن بشير العكس، وهو خطأ على المذهب لا شك فيه، قاله ابن عبد السلام.

بعض القرويين: وهذه الشروط إنما تلزم إن سموه سلماً، وأما إن سموه بيعاً فلا يلزم ويكون على الفور؛ إذ بعقد البيع يجب له قبض الجميع.

فرع:

فإن وقع البيع بشرط البقاء إلى التتمير نُظِرَ فإن وقع البيع عليه وهو رطب وقبضه تمراً قبل أن يطلع على فساده مضى بلا خلاف.

ص: 32

ابن القاسم: وكذلك يمضي إذا غفل عن الاطلاع عليه حتى يتمر، فإن وقع وهو زهو فتأول ابن شبلون وغيره أنه يفسخ مطلقاً، وإنما يفوت بما يفوت به البيع الفاسد، وعلى هذا فيكون المنع على التحريم، وقال ابن أبي زيد: يمضي إذا نزل، وعليه أول المدونة، وفسر الفوات الذي في المدونة بالقبض، ومثله في الواضحة، وفسر غيره الفوات بالعقد، ومثله في الموَّازيَّة، وعلى هذين فالمنع على الكراهة، وصوب عبد الحق وابن يونس تأويل ابن أبي زيد، وأكثر الشيوخ على تأويل المدونة على مافي الواضحة يفسخ ما لم يقبض ولو انقطعت ثمرته قبل الاستيفاء رجع بحصة ما بقي اتفاقاً، قاله ابن يونس وغيره، وهو خلاف الثمن المضمون ينطقع بعدما أخذ بعض سلمه، فهذا فيه اختلاف وسيأتي.

قال عيسى بن دينار: رجوعه على حسب المكيلة، وقال القابسي وابن شبلون وَجُلُّ الأشياخ: بل على القيمة؛ لأنه دخل على أن يأخذ شيئاً فشيئاً، إلا أن يشترط عليه أن يجده في يومه أو يوم واحد فعلى المكيلة، وهو ظاهر، وإذا رجع بالحصة ففي المدونة يجوز أن يأخذ بتلك الحصة ما يشاء من السلع معجلاً، فإن تأخر لم يجز؛ أي: لأنه فسخ دين في دين.

ابن أبي زمنين: وذكر بعض الرواة عن ابن القاسم أنه قال: له أن يأخذ بها من شاء من السلع معجلاً، [502/أ] إلا ما كان من صنف الثمرة التي أسلم فيها فلا يجوز أن يأخذ منه إلا مثل ما بقي من الكيل؛ لأنهما يتهمان أن يكونا عملاً على التاخير ليأخذ منه أكثر من كيله.

بعض القرويين: ويجب على هذا ألا يأخذ بما بقي له من رأس ماله ذهباً عن وَرِقٍ أو بالعكس؛ لما يخشى أن يكونا عملا على صرف يتأخر. قال بعضهم: وإن ذهبت الثمرة بأمر من الله تعالى فينبغي أن يجوز ذلك كله، وقد يعترض على من قاس هذا على ما قاله ابن القاسم في الصرف المستأخر، فإن التهمة في فسخ الدين أقوى؛ لأن فيها دفع قليل في كثير بخلاف الصرف.

ص: 33

بِخِلافِ غَنَمٍ كَثِيرَةٍ، لا يَتَعَذَّرُ الشِّرَاءُ مِنْ نَسْلِهَا، أَو مِصْرٍ لا يَتَعَذَّرُ الشِّرَاءُ مِنْ ثَمَرَهِ ....

أي: فيجوز السلم فيهما؛ أي: لأن غنما ً كثيرةً، أو مصراً من الأمصار العظام سلم في الذمة حقيقة، ولو أراد المسلم إليه أن يعطي من غير نسل تلك الأنعام أو من غير ثمرة ذلك الحائط المشترطة فأجراه بعضهم على الخلاف في شرط ما لا يفيده هل يلزم أم لا؟

ولا يَضُرُّ الانْقِطَاعُ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ

أي: قبل حلوله ولا بعده كالأشياء التي لها إبار، وقد تقدم هذا.

بعض القرويين: ولو مات المسلم إليه قبل الإبار فلتوقف تركته إليه، ولا يقسم ماله حتى يأخذ المسلم حقه، ولو كان عليه دين يغترق تركته تحاصوا في تركته، وضرب للمسلم بقيمة شيئه في وقته على ما يعرف في أغلب الأحوال من غلاء أو رخص، قيل: فيوقف ما صار له ثم يشتري له ما أسلم فيه، فإن نقص اتبع بالباقي ذمة الميت إن طرأ له مال وإن زاد لم يشتر له إلا قدر حقه، وترد البقية إلى من يستحق ذلك من وارث أو مديان، ولو هلك الموقوف لكان من المسلم إليه؛ لأن له نماؤه فعليه ثواؤه، ولم يجروا في هذه المسألة ما وقف للغرماء من مال المفلس؛ لأن مسألة السلم لم يحل الأجل فيها لكون الإبار لم يأت، ولو حل لجرى فيها حكم ما وقف الغرماء.

فَلَو أَخَّرَهُ حَتَّى انْقَطَعَ فَالمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْفَسْخِ والإِبْقَاءِ

فلو أخر المسلم إليه المسلم فيه حتى انقطع وخرج إباره فالمشتري - وهو المسلم - مخير بين فسخ العقد ويأخذ رأس ماله، وبين إبقاء العقد إلى قابل؛ لأن الحق للمبتاع، ولم يذكر المصنف إلا هذا القول، وخرج سند الأقوال المذكورة في تأخير البعض، وكلام المصنف ظاهر في أن المسلم إليه هو المؤخر، وينبغي ألا يكون للمسلم تخيير إذا كان

ص: 34

التأخير من جهته؛ لأنه ظلمه بالتأخير فتخييره بعد ذلك زيادة في ذلك الظلم، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام.

ويشبه هذه المسألة إذا أسلم في أضحية فلم يأت بها البائع حتى فات زمن الأضحية، وإذا هرب البائع في السلم ممتنعاً من قبض رأس المال، وفيها في المذهب اضطراب.

فَلَو قَبَضَ الْبَعضَ فَسِتَّةٌ؛ يَجِبُ التَّأخِيرُ إِلا أَنْ يَتَرَاضَيَا بِالْمُحَاسَبَةِ، وقَالَ أَصْبًغُ بِعَكْسِهِ، وقَالَ سُحْنُونٌ: يَجِبُ التَّاخِيرُ، وقَالَ أَشْهَبُ: تَجِبُ الْمُحَاسَبَةُ، وقِيلً: الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وقِيلً: إِنْ قَبَضَ الأَكْثَرَ جَازَ التَّاخِيرُ، وإِلا وَجَبَتِ الْمُحَاسَبَةُ

أي: إذا قبض بعض المسلم فيه وتأخر بعضه لفقده وذلك في صورتين:

الأولى: أن يسلم فيما له إبار ثم ينقطع، وهي التي في المدونة وغيرها.

والثانةي: أن يسلم في ثمرة قرية مأمونة فتصيب ثمرتها جائحة، وهي التي ذكر اللخمي فيها الخلاف، وأما القرية غير المأمونة فحكى عياض وغيره فيها قولين:

أحدهما: وجوب المحاسبة ولا يجوز البقاء لقابل.

والثاني: الجواز، وصوبه ابن محرز.

عياض: وأما لو أجيحت فيلزمه البقاء اتفاقاً، وأما الحائط المعين فيفسخ فيما بقي اتفاقاً، نقله اللخمي وابن يونس وغيرهما.

وقوله: (فَسِتَّةٌ) أي: أقوال:

الأول: أن الحكم وجوب التأخير، ومن دعا إليه منهما كان القول قوله إلا أن يتراضيا بالمحاسبة، وهو قول مالك الذي رجع إليه في المدونة، وقول ابن القاسم وسحنون، وصوبه التونسي؛ لأن السلم يتعلق بالذمة، فلا يبطل ببطلان الأجل كالدين ولا يتهمان على قصد البيع والسلف؛ لأن انقطاعه إنما هو من الله تعالى، وكذلك لو كان هو رب

ص: 35

أحدهما، فإن التهمة أيضاً منتفية بخلاف ما لو سكت المشتري عن طلب البائع حتى يذهب الإبار فلا يجوز تراضيهما على المحاسبة؛ لأنهما يتهمان على البيع والسلف، وهل من شرط تراضيهما بالمحاسبة ألا يكون رأس المال مقوماً؟

لم يشترط ذلك ابن القاسم واشترطه سحنون؛ ليأمنا من الخطأ في التقويم؛ لأنه إذا كان مقوماً جاز أن يكون مخالفاً بالقلة والكثرة فيكون إقالة في البعض على غير رأس المال إلا أن يكون المردود من الأثواب جزءً شائعاً فيكون المشتري شريكاً للبائع في رأس المال، وإذا تراضيا على المحاسبة فلا يجوز أن يأخذ بقية رأس ماله عوضاً ولا غيره؛ لأنه بيع الطعام قبل قبضه، قاله أبو بكر بن عبد الرحمن والتونسي، ولم يعتبروا تهمة البيع والسلف للضرر الداخل عليهما بالتأخير.

القول الثاني: لأصبغ عكس الأول تجب المحاسبة إلا أن يتراضيا بالتأخير، وَضُعِّفَ؛ لأنه إذا وجبت المحاسبة فليس للمشتري على البائع سوى بقية رأس المال، فإذا اجتمعا على التأخير لزم فسخ دين في دين، وأجاب المازري بأن فسخ دين في دين هنا ليس متفقاً عليه؛ لأنه قد قيل بوجوب التأخير ابتداء.

القول الثالث: [502/ب] وهو قول مالك الأول في المدونة، ونقل عن سحنون أيضاً يجب التأخير، وليس لهما أن يتراضيا بالمحاسبة، ووجه ما ذكره التونسي في توجيه الأول.

القول الرابع لأشهب في الموَّازيَّة: تجب المحاسبة، ولا يجوز لهما أن يتراضيا على التأخير؛ لأن الأجل مقصود فيفسخ بفواته، ولا يجوز لهما أن يتراضيا على التأخير؛ لأنه كفسخ دين في دين، ويجوز على هذا أخذ عوض عن بقية الثمن ناجزاً كالحائط المعين.

الخامس: لابن القاسم في الموَّازيَّة: الخيار للمشتري في الفسخ والإبقاء؛ لأن الحق له.

السادس: أن المسلم إذا قبض أكثره جاز التأخير والمحاسبة، وإن قبض أقله وجبت المحاسبة، وعزاه ابن يونس لمالك، وابن بشير لابن القاسم.

ص: 36

لكن استشكل نقل المصنف له؛ لأن من نقله إنما نقله في الأقل والأكثر، وقول المصنف وألا يدخل فيه الأقل والمساوي.

الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلاً لِئَلَاّ يَكُونَ بَيعَ ما لَيْسَ عِنْدَكَ إِلَى مُدَّةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا الأَسْوَاقُ عُرْفاً كَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمَاُ، وقِيلَ: إِلَى يَوْمَيْنِ، وقِيلَ: إِلَى يَوْمٍ ....

الشرط الخامس أن يكون المسلم فيه إلى أجل؛ فلا يجوز الحال، خلافاً للشافعي لما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قدخم المدينة فوجدهم يسلمون الثمار السنة والسنتين فقال:«من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» .

وقد تجاذبه كل من المذهبين:

فالأول: رأي أن الشرط مركب من الأجل والمعلومية.

والثاني: رأى أن المقصود من الشرط المذكور إنما هو كونه مضبوطاً إلا أنه لا بد من أجل، وإلا لزم ذلك في الكيل والوزن ولا قائل به.

وقوله: (لِئَلَاّ يَكُونَ

إلخ) روى الترمذي وصححه أنه عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عندك، ورواه أبو داود والنسائي أيضاً.

وقوله: (إِلَى مُدَّةٍ) بيان للأجل المشترط، وذلك أن أصحابنا لما اشترطوا الأجل قالوا: إن علة ذلك تحصيل مصلحتين:

إحداهما: في حق البائع وهي دفع القليل ليأخذ ما هو أكثر منه.

والثانية: في حق المشتري وهو الانتفاع بالثمن، وقد يحصله بذلك الثمن ثم إن مالكاً اكتفى بهذا القيد في الرواية المشهورة عنه، قال في المدونة: ولم يحد مالك في ذلك حداً، وهو عين الفقه، وذكر صاحب المعونة عنه رواية أخرى بالاكتفاء بمطلق الأجل. وروى ابن القاسم تحديد أقل هذه المدة بخمسة عشر يوماً، وجعل ذلك مظنة اختلاف الأسواق

ص: 37

غالباً، وعلى هذا ففي كلام المصنف نظر؛ لأنه اكتفى بقول ابن القاسم عن قول مالك، وجعل الخمسة عشر يوماً مثالاً للمدة الموصوفة، وليس الأمر عند مالك على هذا، والقول بجواز السلم إلى يوم لمالك في الموَّازيَّة، وباليومين لابن عبد الحكم.

أصبغ: قال: فإن وقع إلى يومين لم يفسخ؛ لأنه ليس بحرام بَيِّنٌ ولا مكروه بَيِّنٌ، واختاره ابن حبيب، وقال ابن المواز: فسخه أحب إليَّ، وهو ظاهر المدونة عند ابن رشد.

ومِنْ ثَمَّ قِيلَ: يَجُوزُ السَّلَمُ الْحَالُّ

أي: وَمِنْ إجازة السلم إلى اليوم واليومين خَرَّجَ بعضهم - وهو التونسي - قولاً بجواز السلم الحال؛ لأن هذه المدة لا تتغير فيها الأسواق غالباً، وقال غيره: لا يلزم من قال هذا إجازة السلم الحال؛ لأن قائله اشترط ضرب الأجل، ولعله اعتقد أن الأسواق تتغير فيه، ولا يخرج الإنسان قولاً من مسألة نص فيها على ما يناقضه، ونقل المتيطي أن أبا تمام روى عن مالك إجازة السلم الحال، فذكر الباجي عن عبد الوهاب أنه قال: "اختلف أصحابنا في تحرير المذهب، فمنهم من حكى رواية بجواز السلم الحال، ومنهم من قال: الأجل شرطٌ روايةً واحدة، وإنما اختلفت الرواية عنه في مقدار الأجل.

إِلا أَنْ يُعَيِّنَ الْقَبْضَ بِبَلَدٍ أخَرَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأَجَلُ الْمَسَافَةَ ولَو يَوْماً

هذا مستثنى من قوله: (أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلاً .... إِلَى مُدَّةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا الأَسْوَاقُ) أي: إلا أن يكون المسلم اشترط قبضه ببلد آخر فلا يشترط فيها الأجل البعيد، ويكتفى بأن يكون الأجل مقدار المسافة ولو كانت يوماً، وتبع في اليوم ابن بشير.

وفي السلم الثالث من المدونة: فإن أسلمت إلى رجل في طعام ببلد على أن تأخذه ببلد آخر مسافة ثلاثة أيام أجاز ذلك.

ص: 38

ابن المواز: أو اليومين، ومفهومهما يخالف ابن بشير والمصنف، إلا أن يكون خرج على سؤال فلا مفهوم له.

وإنما أجازوا مع اختلاف البلدين وإن كان الأجل قريباً لأنه يحصل مع اختلافهما من اختلاف الأسواق ما يحصل في البلد الواحد مع الأجل البعيد، وقيد ابن أبي زمنين التأجيل بالمسافة بالخروج بالحال والسير في البر أو البحر بغير ريح، وإلا فلا بد من ضرب الأجل.

اللخمي: واختلف إذا اشترط القبض ببلد ولم يذكر أجلاً ولم تكن عادة فقيل: إن ذلك جائز؛ لأن تلك المسافة بين البلدين كالأجل، فيجبر المسلم إليه على الخروج بفور العقد أو التوكيل على الوفاء، فإذا وصل أجبر على القضاء واستحق القبض حينئذ، وقيل: السلم فاسد، وهو أحسن؛ لأن السلم يتضمن موضعاً يقبض فيه ومدة يقبض إليها، فذكر الموضع لا يفهم منه الأجل، وقال غيره: ليس هذا بخلاف ولكن للمسألة صورتان:

إحداهما: أن يكون السلم يحل بالوصول إلى البلد الثاني.

الثانية: أن يطول زمان مقدار الحلول؛ فلا بد مع هذا من ضرب الأجل، وإذا وكل من يخرج لإقباض المبيع.

ابن عبد السلام: فهل من شرط الوكالة في هذه المسألة أن يلزم الموكل ألا يعزل ذلك الوكيل حتى يقبض حق المشتري، أولا يحتاج إلى ذكر هذا الشرط؛ لأن الحكم يقتضيه بسبب حق المشتري، فلو عزله لم ينعزل كما لا ينعزل وكيل الخصومة [503/أ] إذا أشرف على ظهور الحق أو قاعده خصمه ثلاثاً؟ وقيل: في مسألة المسلم قول ثالث أن للموكيل عزل الوكيل لا مطلقاً، ولكن إلى بدل. وفيه نظر؛ إذ يتعلق حق المشتري بعين الوكيل الأول؛ لأنه أسهل قضاءً وشبه ذلك. انتهى.

ص: 39

وحكى الباجي عن بعض المتأخرين أن التوكيل لا يجزئ إلا أن يضمن الوكيل المسلم فيه؛ لجواز أن يعزله المسلم إليه فيبطل سفر المسلم.

الباجي: ويجوز عندي إلا يكون له عزله كالوكيل على بيع الرهن، أما الدنانير والدراهم في الذمة على أن يقبض ببلد آخر فلا بد من ضرب الأجل فيها، ولا تكفي المسافة وإلا كان فاسداً.

والفرق أن العين يتفق فيها الأسعار؛ فَذِكْرُ البلد لغو، ولهذا يأخذه بها حيث وجده، أما لو كانت العين معينة ببلد آخر فالمسافة كافية كالعروض، ولا بد من شرط الخلف وإن لم يشترط ففي صحة البيع قولان.

وَيجُوزُ تَعْيينُ الأَجَلِ بِالْحَصَادِ والدِّرَاسِ وقُدُومِ الْحَاجِّ، والْمُعْتَبَرُ مِيقَاتُ مُعْظَمِهِ لا الْفِعْلُ، وَكَخُرُوجِ الْعَطَاءِ، والْمُعْتَبَرُ الزَّمَانُ

أي: ويجوز أن يكون أجل السلم إلى الحصاد والدراس وقدم الحاج؛ يعني: بالشام ومصر، وكذلك سائر البيوع؛ لأنه وقت يعرف بالعادة لا يتفاوت، والمعتبر زمان معظم الحصاد والجذاذ سواء كان ذلك الطعام حصاداً أو جذاذاً أولا.

وإليه أشار بقوله: (لا الْفِعْلُ) أي: لا أوله.

(وِكَخُرُوجِ الْعَطَاءِ) معطوف على قوله: (بِالْحَصَادِ). والعطاء: الرواية من بيت المال، والمعتبر أيضاً زمانه لا نفسه، وإلا امتنع؛ لجواز ألا يكون العطاء في ذلك العام أو يتقدم أو يتأخر.

وإِلَى ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ يُكَمَّلُ الشَّهْرُ الْمُنْكسِرُ ثَلاثِينَ

أي: وإذا وقع البيع إلى ثلاثة أشهر فإن كان في أول شهر فلا إشكال أنها تكون ثلاثة بالأهلة، وإن كان في بعض شهر كمل شهر الابتداء ثلاثين من الرابع.

ص: 40

وقد اختلف المذهب في العدد والأيمان هل يحكم بهذا الذي ذكره المصنف أو يكمل كل شهر ثلاثين يوماً من الذي يليه؟

وإِلَى رَمَضَانَ يَحِلُّ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ

أي: إذا كان أجل السلم إلى رمضان حل بأول جزء منه، فيحل باستهلاله، وفي عبارة بعضهم: يحل بأول ليلة من الشهر، وذلك أوسع من الزمان الذي يعطيه كلام المصنف.

المازري: وإن قال: إلى يوم السبت حمل على طلوع فجره.

وفِي رَمَضَانَ بِآخِرِهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ أَجَلٌ يُغْتَفَرُ مَعَهُ الشَّهْرُ، وإِلا نُقِضَ

ما صَدَّرَ به المصنف من أنه إذا عقد المسلم على أنه يأخذ في رمضان أنه يحل في آخره تبع فيها ابن شاس، وهو قول ابن العطار، ولكنه كره ذلك ابتداءً وقال: فإن وقع لم يفسخ، ويؤيده ما في المدونة فيمن حلف ليقضين فلاناً حقه في شهر كذا فقضاه في آخره أنه لا يحنث، وجوابه أن الأجل في الأيمان لا تنافي التوسعة بخلاف البيوع، ألا ترى أن الحالف لو صرح فقال:"لأقضينك حقك في هذا العام في أي وقت" لكان له ذلك، وقيل: إذا مضى معظم الشهر وجب القضاء، والمنقول عن مالك في المبسوط أنه يدفع في وسط الشهر، وقاله ابن القاسم في العتبية وفضل، وقال ابن لبابة: هو أَجَلٌ مجهول حتى يسمي أي وقت في الشهر، أي: فيفسد البيع، وأنكره ابن زرب وغيره.

ابن راشد: وصحح المازري الفساد لتردده بين أول الشهر ووسطه وآخره، وضعف قول ابن العطار لكراهته ابتداء؛ لأنه إن كان معلوماً فلا وجه للكراهة، وإلا فسد، ثم وجه الكراهة باختلاف العلماء.

ابن راشد: وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ أَجَلاً) هو قول الباجي، وهو إن كان هذا القدر نسب إلى جملة الأجل، زاد الثمن أو نقص بأوله وآخره فإنه يفسخ، وإن كان الأجل بعيداً

ص: 41

بحيث تكون نسبة الشهر لا تزيد ولا تنقص لم يفسخ، واختلف إذا قال: لصدر شهر كذا؛ فقال ابن القصار: هو ثلثاه أو النصف، واحتج بما رواه ابن القاسم في القائل لغرمائه:"إن لم تقضني صدراً من حقي يوم كذا فعليَّ المشي إلى بيت الله إن لم ألزمك بحقي كله" فقال مالك: الثلثان أحب إليَّ، ولو قيل: النصف لكان قولاً، إلا أن تكون له نية فذهب مالك إلى أن الصدر أقل من ذلك، واختاره ابن سهل وَحَدَّهُ بالثلث، لما رواه ابن حبيب عن مالك وابن القاسم وغيره من أصحاب مالك في الحالف ليقضين غريمه إلى أجل سماه، فلما حل الأجل قضاه من حقه صدراً مثل الثلث فما فوق، فإنه يبرئه.

ابن حبيب: ولا أعلمهم يختلفون فيه، ونص ابن نافع أيضاً على أن الصدر الثلث، وعلى أن الجل الثلثان، واختاره ابن رشد.

السَّادِسُ: أَنْ يِكُونَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ بِعَادَتِهِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَو عَدَدٍ أَو ذَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِ

قوله: (بَعَادَتِهِ) أي: فما كانت فيه العادة الكيل فلا ينتقل إلى الوزن كالحنطة، وكذلك العكس كالصوف.

قال جماعة: ويجب أن يقدر في السلم بعرف بلده؛ فإن غيره مجهول فيه.

قوله: (أَوْ عَدَدٍ) كالبيض. قال في المدونة: ولا بأس بالسلم في البيض عدداً.

الباجي: وصغير الفاكهة يتصور فيه الكيل والوزن والعدد، ويحمل على عرف بلد السلم، وما ييبس منها ويدخل كاللوز والبندق وقلوب الصنوبر لا يسلم فيه إلا كيلاً.

قال ابن حبيب: ولا يسلم فيه عدداً.

الباجي: وما قاله بَيِّنٌ؛ لأن المشقة تلحق في عدده، ثم أشار إلى حمل ذلك على عرفه، أما الرمان والسفرجل والجوز فروى ابن القاسم عن مالك أنه يباع عدداً [503/ب].

ص: 42

ابن القاسم: وإن كان الكيل فيها مَعْرُوْفَاً فلا بأس به. وقال ابن حبيب: يسلم فيه كيلاً وعدداً لا وزناً، وقيل: أما ما عَظُمَ فالعدد فيه أظهر، ولا ينبغي أن يعد هذا خلافاً، ويحمل على أن كل واحد تكلم على ما يعرفه من العادة.

وقوله: (أَوْ غَيْرِهِ) كالأحمال والحزم والجزر، وهي القبض، وذلك في البقول والقصيل والقرط والقضب، نص عليه في المدونة، قيل: وذلك أن يقاس ذلك بحبل فيقال: أسلم لك فيما يسع هذا ويجعلانه عند أمين.

الباجي: ولا يجوز أن يقدر بذرع الأرض، وجوز ذلك أشهب، لا يقال: قد أجاز مالك في السلم الأول السلم في اللحم تحرياً، وليس بمقدار معلوم؛ لأنه قال: إذا كان لذلك قدر عرفوه فهو راجع إلى قدر معلوم. واختلف في صفة ضبطه؛ فقال ابن أبي زمنين: إنما يجوز فيما قل، وصفة ضبطه أن يقول: أسلفك في لحم يكون قدره عشرة أرطال مثلاً، وكذلك الخبز. وقال ابن زرب: هو أن يعرض عليك قدر ما يقول مثل هذا كل يوم، ويشهد على المثال، ولا يجوز على شيء يتحراه، وفي السلم الثاني من المدونة: ومن أسلم في ثياب موصوفة بذراع رجل بعينه إلى أجل جاز ذلك إذا أراه الذراع وليأخذا قياس الذراع عندهما كما جاز شراء ويبة وحفنة بدراهم إن أراه الحفنة؛ لأنها تختلف.

واختلف في مسألة الويبة فقيل: ذلك حيث لا مكيال، كما قال في القصعة.

محمد: وقيل: هو جائز كالذراع، واختلفوا إذا كثرت الويبات والحفنات، وأكثرهم على المنع، ونص عليه سحنون.

أبو عمران: وظاهر المدونة رؤية ذراع الرجل المعير خلاف ما في الموَّازيَّة أن السلم جائز وإن لم يره الذراع، وفي الطرر: إن كان القاضي نصب للناس ذراعاً لم يجز اشترط ذراع رجل بعينه، كما لا يجوز ترك المكيال المعروف والعدول إلى المجهول، فإن لم يكن للناس ذراع

ص: 43

منصوب فلا يجوز السلم على ذراع رجل بعينه، وإنما يجوز على ذراع وسط مطلقاً، ويحملان على الوسط.

فرع:

واختلف في جواز السلم على مثال يريه إياه على قولين حكاهما ابن بشير، قال: ولا ينبغي أن يعد خلافاً، وإنما هو خلاف في حال إن قصد بالمثال المشابهة في كل الصفات لم يجز، وإن قصد الصفات العامة جاز.

وَالْمَعْدُودُ كَالْبَيْضِ والْبَاذِنْجَانِ والرُّمَّانِ والْجَوْزِ واللَّوْزِ

هو ظاهر، وقد تقدم، وشرط في المدونة أن يصفا قدر الرمانة والسفرجلة ونحوهما إن كان يحاط بمعرفته.

وَلَوْ عَيَّنَ مِكْيَالاً مَجْهُولاً فَسَدَ، وإِنْ عُلِمَتْ نِسْبَتُهُ كَانَ لَغْواً

تصوره واضح.

وقوله: (فَسَدَ) يقتضي فسخه إن وقع، وهو المشهور، وكرهه أشهب في الطعام ابتداءً، ولا يفسخ عنده إن نزل. وخفف في المدونة في شراء العلف والتين والخبط من الأعراب في السفر بمكيال لا تعرف نسبته من المكيال الجاري بين الناس للضرورة. واختلف فيما أجازه مالك من ذلك في القصعة للأعراب وحيث يعدم الكيل، ففي كتاب محمد أن ذلك جائز في اليسير، وعن أبي عمران: أنه يجوز هنالك في الكثير إن احتيج إليه كاليسير.

السَّابِعُ: مَعْرِفَةُ الأَوْصَافِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا الْقِيمَةُ اخْتِلافاً لا يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ فِي السَّلَمِ ....

الشرط السابع: ذكر الأوصاف التي تختلف بها قيمة المسلم فيه اختلافاً لا يتغابن المتبايعان بمثله، وظاهره أن الصفة إذا كانت لا تختلف القيمة بسببها أنه لا يجب بيانها في

ص: 44

السلم. وعبارة غيره أقرب؛ لأنهم يقولون: يبين في السلم جميع الأوصاف التي تختلف الأغراض بسببها، واختلاف الأغراض لا يلزم منه اختلاف القيمة؛ لجواز أن يكون ما تعلق به الغرض صفة يسيرة عند التجار، وتخلفها صفة أخرى.

وقوله: (فِي السَّلَمِ) مفهومه أن السلم يغتفر فيه من الإضراب عن بعض الأوصاف ما يغتفر مثله في بيع النقد ولا ينعكس؛ لأن السلم مستثنى من بيع الغرر، بل ربما كان التعرض للصفات الخاصة في السلم مبطلة له لقوة الغرر. قاله ابن عبد السلام.

ويشترط أن تكون الصفات معلومة لغير المتعاقدين؛ لأنه متى اختصم المتعاقدان بعلمهما دل ذلك على ندورهما، والندور يقتضي عزة الوجود، وأيضاً فاختصاصها بها يؤدي إلى التنازل بينهما.

وَيُرْجَعُ فِيهَا إِلى الْعَوَائِدِ، فَقَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الْبِلادِ

أي: يرجع في تعيين تلك الأوصاف التي تختلف بها القيمة إلى العوائد، فرب صفة تتعين في نوع دون غيره، وفي بلد دون آخر، واستغنى المصنف بهذا الضابط عن مسائل ذكرها أهل المذهب لاندراجها فيما ذكره، وهذا الضابط ذكره المازري، قال: يحتاج في الثمن إلى ذكر النوع والجودة والرداءة. قال: وزاد بعض العلماء: البلد واللون وكبر الثمرة وصغرها، وكونه جديداً أو قديماً، ويحتاج في القمح إلى هذه الصفات أيضاً.

واشترط بعض العلماء في القمح وصفاً سابعاً، وهو كون القمح ضامراً أو ممتلئاً، ورأى أن الثمن يختلف باختلافه، ورأى أن الضامر يقل ريعه، لكن الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن حمل المذهب على أنه لا يلزم اشتراط القدم والجودة في القمح، واحتج بالرواية الواقعة في السلم أنه إذا أسلم في قمح فأتاه بقمح قديم أنه يجبر على قبوله. زاد ابن يونس عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه قال: لا يختلف العتيق من الجديد عندنا بإفريقية.

ص: 45

ابن يونس: وهو يختلف عندنا بصقلية؛ فلا يجوز حتى يشترط قديم من جديد، وهل يجب أن يبين السمراء من المحمولة؟ إن كان بمحل ينبتان فيه، ولا غالب وجب بيانه وإلا فسد، وإن كان ما يجلبان إليه فرأى ابن حبيب أن تركه لا يفسد، ورأى الباجي أن مقتضى الروايات خلاف قوله [504/أ].

ابن بشير: ولا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً، بل إن اختلاف الثمن بهما وجب ذكره وإلا فلا، أما إن لم يكن إلا واحداً فلا يجب البيان.

واختلف في مثل مصر فقيل: لا يفتقر إلى الجنس؛ لأن قمح مصر جنس واحد في الغالب، وهو المحمولة.

وقال ابن عبد الحكم وغيره: لا بد أن يسمي الجنس وإلا فسخ البيع.

والأول مذهب المدونة، ففيها: ويقضي بمصر بالمحمولة، وبالشام بالسمراء، قال: وإن أسلم بالحجاز حيث يجتمع المحمولة والسمراء ولم يسم جنساً فالسلم فاسد.

فرع:

قال ابن عبد الغفور: وإذا سمى قمحاً طيباً ولم يقل جيداً فالسلم تام، وقاله ابن حبيب.

وقال ابن لبابة: لا بد أن يقول جيداً، وإلا لم يجز على مذهب المدونة، نقله ابن راشد.

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَتُرَابِ الْمَعَادِنِ، والدُّورِ، والأَرْضِينَ لَمْ يَجُزْ بِخِلافِ غَيْرِهَا

أي: فإن لم يكن ذكر تلك الأوصاف لم يجز السلم فيه، وَمَثَّلَهُ بشيئين:

أولهما: تراب المعادن. قال في المدونة: لأن صفته غير معروفة.

ثانيهما: الدور والأرضون. وفي التمثيل بهما نظر؛ لأنه مما يمكن صفتهما، وإنما امتنع السلم فيهما؛ لأن وصفهما بما تختلف الأغراض به يستلزم تعيينهما فيؤدي إلى السلم في

ص: 46

معين. وذكر المازري عن بعض الأشياخ أنه خرج قولاً بجواز السلم في العقار مما قاله أشهب أنه يسلم في البقول فدادين؛ لأنه إن لم تصرف الفدادين لم يجز السلم، وإذا وصف بمكانه صار معيناً.

قال صاحب المقدمات: أربعة أشياء لا يصح السلم فيها. فذكر الإثنين اللذين ذكرهما المصنف، وألحق بتراب المعادن الجزاف فيما لا يصح بيعه جزافاً.

قال: والثالث: ما يتعذر وجوده من الصفة.

والرابع: ما لا يجوز بيعه بحال كتراب الصواغين وجلود الميتة.

فَيَذْكُرُ فِي الْحَيَوَانِ النَّوْعَ وَاللَّوْنَ وَالذُّكُورَةَ وَالأُنُوثَةَ وَالسِّنَّ، وَيُزَادُ فِي الرَّقِيقِ الْقَدُّ، وَكَذَلِكَ الْخَيْلُ وَالإِبِلُ وشِبْهُهُمَا ....

مذهبنا جواز السلم في الحيوان، ومنع جماعة من الشيوخ السلم في الآدمي، ولا سيما جواز الوطء، وعلى هذا قصر بعضهم المنع اعتقاداً منهم أن الصفات في ذلك لا تضبطه، وذكر المصنف في الحيوان خمسة أوصاف:

أحدها: (النَّوْعَ) فيحتمل أن يريد به النوع حقيقة كنوع الإنسان والإبل، ويحتمل أن يريد الصنف كالرومي والتركي، فلا بد من ذكرهما.

الثاني: (اللَّوْنَ) وجعله المصنف معتبراً في جميع الحيوان، وقد نص في الجواهر على اعتباره في الإبل والخيل ولم يذكره في الطير.

وعلم أن ذِكْرَ الجنس يغني عن اللون في الرقيق، فجنس النوبة السواد، والروم البياض، والحبش السمرة، لكن يحتاج هذا إلى بعض عرضيات النوع كالدهمي والأحمر والبياض الشديد، وذكر سند أن اللون لا يعتبر عندنا في غير الرقيق، ولعله اعتمد على المازري، فإنه لم يذكر اللون في غيره. وليس بظاهر؛ فإن الثمن يختلف به، وقد ذكره بعضهم في الخيل وغيره من الحيوان.

ص: 47

ابن بشير وغيره: وحظ الفقيه المفتي في هذا أن يحيل على العارفين بالعوائد، فما حكموا أن الأثمان والأعراض تختلف به يجب ذكره.

الثالث: (وَالذُّكُورَةَ وَالأُنُوثَةَ) وهما معتبران في جميع الحيوان؛ لاختلاف الثمن بهما.

الرابع: (السِّنَّ) وهو أيضاً مطلوب في الجميع.

الخامس: يختص بالرقيق وهو (القَدُّ).

وفي بعض النسخ (القَدْرُ) والمعنى واحد، فيقال: طويل أو قصير أو متوسط.

قوله: (وَكَذَلِكَ الْخَيْلُ وَالإِبِلُ) ظاهره أنه يشترط فيهما، وما أشبههما ذكر القد، وذكر سند أنه لا يشترط ذلك فيما عدا الإنسان؛ فانظر ذلك.

وبقي عليه من شروط الحيوان الجودة والدناءة، وإن كانت أنثى الثيوبة والبكارة، ذكرهما المازري، على أنه قال في الثيوبة والبكارة إن كان الثمن يختلف بذلك، وقيده سند بالعليات.

ولا يُشْتَرَطُ فِي اللَّحْمِ فَخِذٌ ولا جَنْبٌ، وَلا يُؤْخَذُ مِنَ الْبَطْنِ إِلا بِعَادَةٍ، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَيَكُونُ لَحْمٌ بِلا بَطْنٍ، قِيلَ: فَمَا مِقْدَارُهُ؟ قَالَ: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) لأَنَّهَا كَانَتْ عَادَتَهُمْ ....

للسلم في اللحم شروط:

أولها: الجنس من إبل أو بقر أو ضأن أو معز.

ثانيها: السن من صغر أو كبر.

اللخمي والمازري: فيقال: ثني أو رباع أو جذع.

ثالثها: السمن والهزال ويقضي في مطلقها بالعرف، قاله في الموَّازيَّة والواضحة، ويختلف فيه كما في مطلق الجودة والطعام هل يقضي فيها بالعرف الغالب أو ما يتناوله الاسم فقط.

ص: 48

رابعها: الراعي والمعلوف. قاله المازري.

الباجي: ولم أر لأصحابنا تفريقاً بين الذكورة والأنوثة. فإن كان مؤثراً في الثمن لزم ذكره، ونحوه لعبد الوهاب وغيره، وشرط أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى.

المازري: والخصي والفحل.

وقال الباجي: ولم أر لأصحابنا تفريقاً فيه.

سند: وعندي ذكره حسن.

ابن حبيب وابن المواز: ليس عليه ذكر موضع اللحم.

ابن حبيب: وإن ذكر فحسن.

ابن القاسم: وإنما يشترطه أهل العراق، وهو معنى قول المصنف:(وَلا يُشْتَرَطُ فَخِذٌ وَلا جَنْبٌ).

وقال عبد الوهاب: إن اختلفت الأغراض بموضعه من الشاة ذكره. قال: ولا يؤخذ من البطن إلا بعادة.

وقال ابن القاسم: لا يخالفه، لأن العادة كانت جارية عندهم بأخذها.

وفسر في المدونة قوله: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) بأن ذلك على قدر البطن من قدر الشاة.

خليل: والعادة الآن جارية بمصر أن البطن لا يخلط مع اللحم، ولذلك وإن كان البطن لحماً وجزءاً من الشاة [504/ب] فإن المتبادر إلى الذهن من اللحم عند إطلاق اللفظ ما عد البطن، فلا يلزم المسلم أن يأخذ من البطن إلا بشرط لفظي أو عادي، والمراد بالبطن ما احتوت عليه من كرش أو مصارين وغيره.

ص: 49

ويَذْكُرُ فِي الثِّيَابِ النَّوْعَ، والرِّقَّةَ والْغِلَظَ، والطُّولَ، والْعَرْضَ

النوع؛ أي: من قطن أو كتان والرقة وما بعده ظاهر.

والغلظ والطول والعرض، زاد المازري: والصفاقة والخفة؛ والبلد؛ لاختلاف الثمن باختلاف البلد.

وكأن المصنف استغنى عن ذكر هاتين الصفتين اكتفاءً بما قدمه حيث قال: معرفة الأوصاف التي تختلف بها القيمة، وليس عليه أن يذكر وزنه ولا جيداً. قاله ابن القاسم في المدونة.

سند: وروي أن الجودة تدخل تحت غيرها من الأوصاف.

وَلَوِ اشْتَرَطَ فِي الْجَمِيعِ الْجَوْدَةَ وَالدَّنَاءَةَ جَازَ، وحُمِلَ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْوَسَطُ

مراده والله أعلم بالجميع جميع أنواع المسلم فيه، ويحتمل ما تقدم له من الثياب والحيوان، وأما الطعام فقد ذكروا أنه إذا ذكر صنفه فلا بد أن يصفه بالجودة والدناءة والوسط؛ لأن الصنف الواحد يختلف بذلك. انتهى.

وقد تقدم من كلام المازري أنه يشترط في الحيوان ذكر الجودة والدناءة، وأما اللحم فلم ينصوا عليها فيه. قال في المدونة: وإن لم يذكر في الطعام الجودة والدناءة فالسلم فاسد.

التونسي: اجتزى في صفة الطعام أن يقول جيداً ولم يجتزِ في صفة الحيوان بفاره ولا من الثياب بجيد، والفرق بينهما أن الطعام يعرف الجيد منه فلا يختلف الجيد منه اختلافاً متبايناً؛ فيكون له وسط الجيد والفاره من الحيوان، والجيد من الثياب يختلف اختلافاً متبايناً لا متقارباً، ثم هل يكفي ذكر الجودة فيما هي فيه شرطه وهو المذهب، أو لا بد أن يقول غاية الجودة، وإلا بطل السلم، قاله ابن العطار؟ وزيفه الباجي بأن الغاية غير

ص: 50

محصورة، وبأنه لا يلزم ذلك في سائر الأوصاف كالطول والقصر والبياض والسواد، ثم إذا اشترطت الجودة، فقال ابن حبيب وابن المواز: يقضي بالغالب من الجيد، وإليه أشار بقوله:(حُمِلَ عَلَى الْغَالِبِ) وإن لم يكن غالب فقال الباجي: يحمل على ما يقع عليه اسم الجيد.

سند: ورأى غيره أن العرف يقتضي في الإطلاق الوسط من الجيد كما في النكاح على غنم موصوفة. وعلى هذا الأخير اقتصر المصنف.

وَأَدَاؤُهُ بِجِنْسِهِ بَعْدَ أَجَلِهِ بِأَرْدَأَ أَو بِنَوعٍ آخَرَ يَجُوزُ، وَبِأَجْوَدَ يَجِبُ

أي: أداء المسلم فيه. ومراده بهذا الفصل الكلام على حكم اقتضاء المسلم فيه جوازاً أو منعاً.

ابن عبد السلام: والباء للمصاحبة في الثالث، والأول والثالث مجاز؛ لأن الشيء لا يفارق جنسه ولا نوعه، والباء الثانية حقيقة؛ لأن صفتي الجودة والدناءة يعتذران على الماهية. انتهى.

وقال بعضهم: الأولى بمعنى عن، و (أَدَاؤُهُ) خبر مبتدأ على حذف مضاف؛ أي: هذا باب أدائه كسائر التراجم.

وقوله: (بِجِنْسِهِ) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: إثباته بجنسه.

و (بِأَرْدَأَ): بدل من جنسه. ولا يقال: فيه إبدال مشتق من جامد؛ لأنا نقول هو غير ممتنع، وإنما هو قليل، وهذا هو الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر.

وتكلم المصنف على الأردأ والأجود ولم يتكلم على المساوي لوضوحه. واحترز بالجنس من غيره وسيأتي، ويبعد أجله من قبله كما سيأتي.

وقوله: (بِأَرْدَأَ) يريد: سواء كان من نوعه أو من نوع آخر كمحمولة عن سمراء؛ لأنه جنس اقتضاء.

ونبه بقوله: (يَجُوزُ) على أنه لا يجب القبول، وكلام المصنف عام بالنسبة إلى الطعام وغيره.

ص: 51

ابن عبد السلام: وفي الطعام إشكال؛ لأن المخالفة في الصفة والنوع إن كان غير ما في الذمة وجب قبوله، وإن لم يكن هو الحق فلا يجوز قبوله وإن اتفقا عليه؛ لأن قبوله بيع ثان فيدخل تحت عموم النهي عن بيع الطعام قبل قبضه.

لا يقال: مقتضى إطلاق المصنف جواز اقتضاء الأردأ وإن كان أقل كيلاً، وقد منعه ابن القاسم في السلم الثالث كمن أخذ خمسين محمولة من مائة سمراء إذا كانت بمعنى الصلح والتبايع، وأما إن كان على الإبراء فجائز كمن أخذ خمسين عن خمسين وبقيت له خمسون ثم أبرأه منها بعد ذلك فيجوز.

لأنا نقول: إنما تكلم على الأردأ المساوي في الكيل، وقد نص سند على أنه لا يجوز أن يقتضي أدنى النوعين عن الآخر إذا خالف في القدر، وأنه لو نقص كف واحد لم يجز.

فرع:

منع مالك اقتضاء دقيق من قمح وبالعكس مراعاة لمن قال: إنهما جنسان، فيؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه.

قوله: (وَبِأَجْوَدَ يَجِبُ) هو معطوف على قوله (بِأَرْدَأَ) ومعناه إذا قضاه جنس ما في الذمة ونوعه لكنه أجود صفة فإنه يجب قبوله؛ لأنه حصل المقصود وزيادة، وتبع في وجوب القبول ابن شاس.

ابن عبد السلام: وهو قول غير واحد من المتأخرين.

خليل: والمذهب خلافه؛ لأن الجودة هبة لا يجب قبولها. وفي الصرف من المدونة: ومن اقترضته دراهم خلافه؛ لأن الجودة هبة لا يجب قبولها. وفي الصرف من المدونة: ومن أقرضته دراهم يزيدية فقضاك محمدية أو قضاك دنانير عتقى عن هاشمية، أو قضاك سمراء عن محمولة أو شعير لم يجبر على أخذها، حل الأجل أو لم يحل.

ص: 52

ابن القاسم: وإن قبلها جاز في العين من بيع أو قرض قبل الأجل أو بعده، والمحمولة والعتق والسمراء أفضل.

وقَبْلَهُ بِصِفَتِهِ يَجُوزُ

أي: قضاؤه قبل الأجل من نوع ما في الذمة، وصفته جائز، وإن أبى من الأخذ لم يلزمه؛ لأن الأجل في السلم من حق كل من المتبايعين، وتحرز بصفته من الأجود منه أو الأردأ فلا يجوز؛ لأنه في أخذ الأجود: حُطَّ الضمانَ [505/أ] وَأَزِيْدُكَ، وفي الأردأ: ضَعْ وَتَعَجَّلْ.

فَإِنْ زَادَهُ قَبْلَ الأَجَلِ دَرَاهِمَ عَلَى ثَوْبٍ أَعْرَضَ أَو أَطْوَلَ جَازَ إِنْ عَجَّلَهَا، وَفِيهَا: لأَنَّهُمَا صَفْقَتَانِ كَغَزْلٍ يَنْسِجُهُ ثُمَّ زِدْتَهُ لِيَزِيدَ طُولاً، وقَالَ سُحْنُونٌ: دَيْنٌ بِدَيْنٍ بِخِلافِ الإِجَارَةِ؛ لأَنَّهُ مُعَيَّنٌ ....

أي: وإن زاد المسلم للمسلم إليه في ثوب موصوف دراهم على أن يأخذ ثوباً أطول من ثوبه. زاد في المدونة من الصفة أو من غير الصفة جاز بشرط تعجيلها؛ أي: الدراهم لا الثوب الطويل، هذا ظاهر قوله، وهو الذي قاله ابن عبد السلام.

واعترضت هذه المسألة بأن الثوب الأطول إما أن يكون معيناً أو في الذمة؛ فالمعين حاضر لا معنى لاشتراط تعجيل الدراهم؛ لأن الثوب الطويل حينئذ يكون بعضه مأخوذاً عن الثوب القصير الذي في الذمة وبعضه مبيع بالدراهم، ويصح بيع ذلك البعض بنقد وبنسيئة، وإن كان في الذمة لم يجز، وهو ظاهر ما فهمه سحنون؛ لأنه إذا اشترط تعجيل الثوب الأطول يلزم المسلم الحال، وإن لم يشترط فهو فسخ دين في دين، وقال بعض من تكلم هنا: إن ضمير (عَجَّلَهَا) عائد على الزيادة؛ أي: يجوز بشرط تعجيل الزيادة؛ لأنه إن تأخرت وكانت في صفقة فهو بيع وسلف تأخير بما عليه سلف وزيادة

ص: 53

بيع بالدراهم، وإن كان على غير صفقة فهو دين بدين، وأما ثمن الزيادة فيجوز تأخيرها، قال في كتاب الصرف من المدونة فيمن لك عليه لحم حيتان وأقضيته فوجدت فيه فضلاً عن وزنك فجائز شراؤك تلك الزيادة نقداً أو إلى أجل إن كان الأجل قد حل.

خليل: وفي نظر، والظاهر ما قاله ابن عبد السلام، وما ذكره من مسألة الحيتان ليس فيها دليل؛ لأنه لما أتى بما عليه وفضلت فضلة واشتراها كان ذلك شراءً محضاً ليس من السلم في شيء، ثم لا يصح على هذا إلى أن يحمل قوله:(عَجَّلَهَا) أي: عند الأجل مع الأصل، وليس بظاهر؛ إذ المسألة مفروضة قبل الأجل، فإن ابن يونس وغيره إنما نقلوا قول سحنون قبل الأجل، وعلى هذا فليعتمد في كلام المصنف على فسخه قبل الأجل، وإن كان الواقع في أكثر النسخ:(بَعْدَ الأَجَلِ) وقد ذكر سند الإجماع على الجواز بعد الأجل إذا كان المزيد فيه على الصفة؛ يعني: بشرط أن يعجل الجميع.

قال في المدونة: وإن أسلمت في ثوب موصوف فزدته عند الأجل دراهم على أن يعطيك ثوباً أطول منه في صفة من صنفه أو من غير صنفه جاز إذا تعجلت ذلك؛ أي: وإما إن لم يتعجل فلا يجوز؛ لأنه بيع للزيادة وسلف لتأخير الثوب الأول.

ابن يونس: فإن قيل: لِمَ منع التأخير بعده لعلة البيع والسلف وأجاز ذلك قبل الأجل، ولم يعجله ثوباً مؤجلاً ودراهم نقداً بثوب مؤجل أطول منه فيكون ديناً بدين كما قال سحنون؟ قيل: الفرق أنه قبل الأجل لم يملك المسلم تعجيل الثوب حتى يعد تأخيره به سلفاً، وأما بعده فقد ملك تعجيل الثوب فيكون تأخيره به سلفاً، والزيادة بيع، فيدخله البيع والسلف.

وقوله: (وَفِيهَا: لأَنَّهُمَا صَفْقَتَانِ) استدل به في المدونة على الجواز في جواب السائل لما قال له: لِمَ أجزته وقد صارت صفقة فيها دراهم نقداً ودراهم إلى أجل بثوب إلى أجل؟ قال: ليس هي صفقة واحدة، ولكنها صفقتان وللتحقيق أنها صفقتان إنما يجوز ذلك

ص: 54

بشرط أن يبقى من الأجل مثل أجل اسلم؛ لأنها صفقة ثانية، وعلى هذا فيلزم تقديم الثمن. وقيد عبد الحق ما في المدونة فقال: يريد: أنه لو اشترط عليه في أصل العقد أنه يزيده بعد مدة كذا وكذا لم يجز، ولو قال: أسلمته إليك في كذا على أني إن زدتك في الثمن زدت في الطول لم يجز أيضاً؛ لأنها صفقة واحدة عقدت على غرر.

وقوله: (كَغَزْلٍ يَنْسِجُهُ) استدلال من ابن القاسم لقول مالك في النسج، ونصه: قال لي مالك: لا بأس به في النسج إذا دفع الرجل الغزل إلى النساج على أن ينسج له ثوباً ستة في ثلاثة، فزاده درهماً وزاده غزلاً على أن يجعله سبعة في أربعة، فقال السائل: مسألتي بيع وهذه إجارة فكيف يكون مثله؟ قال: الإجارة عند مالك بيع من البيوع؛ أي: أن الإجارة والبيع كلاهما عقد معاوضة مالية، ويمتنع فيها الغرر ويقعان على مضمون ومعين، فما يمتنع في أحدهما يمتنع في الآخر.

قوله: (وَقَالَ سُحْنُونٌ: دَيْنٌ فِي دَيْنٍ) أي: لأن الزيادة في طول الثوب تغيير للصفقة الأولى كالزيادة في صفاقته وخفته.

قوله: (بِخِلافِ الإِجَارَةِ؛ لأَنَّهُ مُعَيَّنٌ) أي: أن سحنون فرق بين السلم والإجارة بأن في السلم نقله من مضمون إلى مضمون، وذلك فسخ دين في دين، والإجارة والمستأجر عليه معين؛ فهو في حكم البيع للمعين، ولهذا يجوز فيها تأخير العوض، ولولا أنها في حكم المعين ما جاز تأخير العوض فيها؛ لأنه يكون دين بدين.

قال في النكت: وفي قول سحنون نظر؛ لأن الإجارة أيضاً في ذمته، ألا ترى أنه لو مات لم تنفسخ الإجارة، ويستأجر من ماله من يتم العمل، فصار كل منهما ديناً عليه.

تنبيه:

إنما وقعت المسألة في المدونة في ثوب أطول والمصنف قال: (أَطْوَلَ أَوْ أَعْرَضَ) وفيه نظر.

ص: 55

ومقتضى كلام اللخمي أن الأعرض يتفق فيه على المنع؛ لأنه قال: إن زاده دراهم قبل الأجل ليأخذ إذا حل الأجل أصفق أو أرق أو أعرض لم يجز، وهو فسخ دين في دين، ويجوز ذلك إذا حل الأجل إذا كان يقبض العوض الثاني قبل الافتراق، وإن زاده قبل الأجل ليأخذ أطول، وهو على الصفة في الجودة جاز ذلك عند ابن القاسم، وقال سحنون: هو فسخ دين في دين. والأول أصوب، وهو مقتضى كلام ابن يونس.

وبِغَيْرِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَجَلِهِ يِجُوزُ بِثَلاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُبَاعُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَيُخْرِجُ الطَّعَامَ ....

أي: وإن كان قضاء المسلم [505/ب] فيه بجنس مخالف لجنسه، وذلك بعد أن حل أجل السلم فإنه يجوز بثلاثة شروط:

أحدها: (أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُبَاعُ قَبْلَ قَبْضِهِ) تحرز به مما إذا كان المسلم فيه طعاماً فلا يجوز أن يقتضي عنه من غير جنسه، كما لو اقتضى فولاً أو عدساً عن قمح، وأجازوا إذا أسلم في سمراء أن يأخذ عنها محمولة وبالعكس، وكذلك القمح والشعير، وكان ينبغي أن يحتاطوا بالمنع؛ لأنه قيل: إنهما جنسان كما احتاطوا بالمنع في القمح والدقيق كذلك.

وَأَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضى مِمَّا يُسْلَمُ فِيهِ رَاسُ الْمَالِ فَيَخْرُجُ أَخْذُ الطَّعَامِ ورِاسُ الْمَالِ طَعَامٌ، والذَّهَبُ بِالْوَرِقِ وعَكْسُهُ، والْعُرُوضُ بِصِنْفِهَا ....

هذا ثاني الشروط؛ وهو: أن يكون المقتضى؛ أي: المأخوذ عوضاً عما في الذمة مما يصح أن يسلم فيه رأس المال، وذكر أنه احترز بهذا الشرط من ثلاث مسائل، وتصورها واضح، ومنعت سداً للذريعة.

ويستثنى من الأول إذا كان الطعام المأخوذ مساوياً لرأس المال فإنه يجوز ويعد إقالة، ومن الثانية ما إذا زاد أحد العوضين على الآخر زيادة كثيرة لِبُعْدِ التُّهْمَةِ حينئذ عن الصرف المستأخر، ومن الثالثة ما إذا كانت العروض المأخوذة مثل رأس المال.

ص: 56

وَأَنْ يِكُونَ الْمُقْتَضَى مَمَّا يُبَاعُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ يَداً بِيَدٍ، فَيَخْرُجُ أَخْذُ اللَّحْمِ عَنِ الْحَيَوَانِ، وعِكْسُهُ ....

هذا ثالث الشروط، وتصوره واضح.

وقَبْلَ أَجَلِهِ يُزَادُ: أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى مِمَّا يُبَاعُ بِالْمُسْلِمِ فِيهِ إِلَى أَجَلٍ فَيَخْرُجُ صِنْفُ الْمُسْلِمِ فِيهِ الأَعْلَى والأَدْنَى ....

هذا قسيم قوله: (بَعْدَ أَجَلِهِ) يعني: وإن وداه بغير جنسه قبل أجله اعتبرت الشروط الثلاثة.

وزيد رابع؛ وهو: أن يكون المقتضى مما يصح سلمه فيما يثبت في الذمة إلى أجل، فلا يجوز أخذ أعلى أو أدنى؛ لأنه في الأعلى يلزم حُطَّ الضَّمَانَ وَأَزِيْدُكَ، وفي الأدنى: ضَعْ وَتَعَجَّلْ، والظاهر أن مراده بالأعلى والأدنى في الصفة؛ لأنه غالب اصطلاح الفقهاء، ويكون سكت عن الأكثر والأقل في القدر؛ لأنه مساو له، وإن كان ابن عبد السلام قال: الأقرب أن المصنف أراد في القدر؛ لأنه مساوٍ له. وإن كان ابن عبد السلام قال: الأقرب أن المصنف أراد بالأعلى والأدنى في الصفة والمقدار.

وَفِي اشْتِرَاطِ زَمَانَيْ سَلَمٍ لِتَوَسُّطِ الْمُقْتَضَى قَوْلانِ

يعني: أنه اختلاف هل يضم إلى الشروط السابقة شرط آخر، وهو أن يكون قد مضى من يوم عقد السلم إلى زمان الاقتضاء أَجْلُ السلم، وأن يكون قد بقي فيما بين الاقتضاء وحلول الأجل الأول مقدار أجل السلم على قولين حكاهما ابن بشير، وذلك أنا لما اشترطنا صحة سلم رأس المال في هذا المقتضى واعتبرنا أيضاً أن يكون المقتضى مما يجوز سلمه في السلم فيه استلزم ذلك عقدتي سلم. وقيل: لا يشترط ذلك في الصورتين؛ لأن اشتراط الأجل في السلم ليس بالقوي؛ فلا يتحرز منه بخلاف ما تقدم من الشرط.

ص: 57

وبنى ابن بشير القولين على أن المأخوذ عما في الذمة سلف فلا يشترط الأجل أو بيع فيشترط.

وذكر بعضهم أن هذا الخلاف إنما يحسن إذا كان المقتضى مخالفاً في الجنس، وأما إن كان موافقاً فلا يشترط الأجل؛ لأنه في معنى القرض، والقرض يجوز حالاً ومؤجلاً؛ نعم يشترط فيه ما يشترط في القرض، وصورة ما ذكر أن يسلم ديناراً في قنطار حناء إلى شهر فقضى له فيه غير الجنس وهو قنطار من كتان مثلاً عند تمام خمسة عشر يوماً فهو رأس المال هنا، لأنه يقتضي من ذمته.

وصورته أيضاً أن يسلم ديناراً في ثوب ثم اقتضى فيه حماراً، فإن لم يكن أجل السلم بين عقد السلم والاقتضاء كان سلماً حالاً؛ لأن المعتبر أفعالهما كأنهما عقدا سلماً على الحمار المقتضى، وذكر الثوب وشبهه لغو، ووجه اشتراط مدة السلم بعد الاقتضاء أنه إن لم يكن أدى ذلك إلى السلم الحال أيضاً، ثم إن المسلم إليه ثبت في ذمته ثوب يأخذ الحمار.

الزَّمَانُ: ولا يَلْزَمُ قَبُولُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَهُ بِالْكَثِيرِ، وبِالْيَوْمَيْنِ يَلْزَمُ

لما فرغ من شروط السلم وآدابه شرع في زمانه ومكانه، ولما كان الأجل في السلم من حقهما لم يكن للمسلم ولا المسلم إليه التعجيل إلا برضاهما، وهذا هو القياس، لكن استحسن جماعة من المتأخرين ما رواه أشهب عن مالك أنه إذا قدم المسلم إليه باليوم أو باليومين لزم المسلم قبوله، وعلى هذا اقتصر المصنف؛ لأن التأخير إنما كان من حق المسلم لاختلاف الأسواق، واليومان لا تختلف فيهما الأسواق غالباً، ولهذا قيد بعضهم هذا بما إذا كانت قيمة السلعة الآن مساوية لقيمتها بعد يومين، وظاهر المدونة خلافه لقوله: وإن كان لك على رجل طعام فأتاك به لم تجبر على أخذه، وإن كان من قرض جبرت على أخذه. لكن ذكر ابن محرز عن الأشياخ أنهم فهموا الكتاب على ما رواه أشهب.

ص: 58

ابن راشد: ولو حل الأجل فكان رب السلم غائباً، ورفع المسلم إليه إلى القاضي وقال:"لا أرضى ببقائه في ذمتي واقتضه للغائب أيها القاضي" فحكى التونسي أنه يلزم القاضي أخذه وإيقافه للغائب.

ومثله في المدونة في باب المفقود، وظاهر ما في العيوب خلافه.

والْمَكَانُ: مَا يُشْتَرَطُ وَإِلَاّ فَمَكَانُ الْعَقْدِ

تصوره واضح، وما ذكره من الصحة إذا لم يشترط المكان هو المشهور، وفي كتاب ابن حارث إذا لم يذكر موضع القضاء فسد السلم.

فَلَو عَيَّنَ الْفُسْطَاطَ جَازَ، فَلَو تَشَاحَّا فَسُوقُهَا

أي: إذا اشترط التسليم بالفسطاط جاز، وهو مأخوذ مما تقدم، وإنما مراده به التوصل إلى ما بعده من التشاح، فإذا تشاح في جهاته قضى بالتسليم في سوق تلك السلعة؛ لأنه أخص بقاع [506/أ] البلد، وهذا هو المشهور. وقال سحنون في الموَّازيَّة: على المسلم إليه أن يوصله إلى دار المسلم.

التونسي: وهو المحكوم به اليوم؛ لأن الناس اعتادوا ذلك، هكذا أشار إليه اللخمي أن الاعتبار بالعادة.

فرعان:

الأول: إن لم يكن للسلعة سوق فالمشهور أنه يلزمه القبول حيثما قضاه. وقال سحنون: بدار المسلم. وقال ابن القاسم في سماع عيسى: بالموضع الذي قبض فيه رأس المال.

ابن بشير: وهذا ليس بخلاف، وإنما يرجع إلى العوائد.

ص: 59

الثاني: إذا اختلفا في الموضع الذي شرط القبض فيه فقال ابن القاسم: القول قول من ادعى موضع العقد وإلا القول قول المسلم إليه إن أتى بما يشبه، وإلا فقول المسلم إن أتى بما يشبه، وإن تباعدا تحالفا.

وقال سحنون: القول قول المسلم إن ادعى الآخر موضع العقد؛ لأنه صاحب الحق.

وقال أبو الفرج: إن لم يدع واحد منهما موضع العقد تحالفا وتفاسخا؛ لتساويهما.

فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ فِي غَيْرِهِ وكَانَ فِي الْحَمْلِ مُؤْنَةٌ لَمْ يَلْزَمْ، وَإِلَاّ فَقَوْلانِ

يحتمل: فإن ظفر من عليه الدين بالطالب وأراد المديان التعجيل فامتنع الطالب، ويحتمل عكسه؛ فعلى الأول فقال ابن بشير وغيره: المسألة على ثلاثة أقسام:

إن كان الدين عيناً وجب قبوله، قال في نوازله: إلا أن يتفق أن للطالب فائدة في التأخير كما لو حصل في الزمان خوف أو فيما بين البلدين.

وإن كان الدين عروضاً لها حملٌ أو طعاماً فلا يجبر على قبوله، وإن لم يكن لها حمل كالجواهر فقولان: المشهور أنهما كالعروض، وقيل: كالعين. قال: وهما خلاف في شهادة إن كان الأمن في الطريق فكالعين وإلا فلا. قال: وهذا إذا كان من بيع.

وأما القرض فيجبر على قبوله مطلقاً، وعلى الثاني فنص محمد وغيره أنه ليس للطالب جبر المطلوب مطلقاً.

اللخمي: ولأشهب عند محمد ما يؤخذ منه أنه إذا كان سعر البلدين سواء، وهو في البلد الذي لقيه فيه أرخص أنه يجبر المسلم إليه على القضاء في البلد الذي لقيه فيه، وحمل ابن عبد السلام المسألة على هذا الثاني، وقد يقال: هو الأقرب إلى لفظه، ولعل الأول هو المتعين؛ لأن ذكر مؤنة الحمل إنما يناسب إرادة المطلوب بالتعجيل، ولأنه كذلك منقول.

ص: 60

ويفهم من قوله: (لا يلزم) أنهما لو اتفقا على ذلك جاز في العروض سواء حل الأجل ألم يحل، وأما الطعام فيجوز إن حل الأجل، بل وإن لم يحل لم يجز، قاله في الموازية والواضحة، واعترض ذلك ابن الكاتب والتونسي وابن محرز، وقالوا: لا فرق بين حلول الأجل أو عدم حلوله لأن القضاء لا يلزمه هناك فأشبه عدم الحلول؛ لأن مسافه البلدين يفتقر فيها إلى كراء الحمولة، فكأنه وجب عليه كراء الحموله فعجل له الطعام بشرط أن يسقطها فيدخله ضع وتعجل.

ابن بشير: ونقل اللخمي عن الموازية المنع سواء حل ذلك الأجل ألم يحل.

والذى في الموازية التفرقة بين حلول الأجل وعدمه كما تقدم.

ولا يَجُوزُ أَخْذُهُ ودَفْعُ الْكِرَاءِ؛ لأَنَّهُمَا كَالأَجَلَيْنِ

أى: فإن لقيه في غير المكان الذى يتعين فيه القبض فتراضيا على أخذ المسلم ودفع كراء ما بين المسافتين لم يجز، قال في المدونة: لأن البلدين بمنزلة الآجال، ثم هذا المنع عام في الطعام وغيره، لكن تزيد العلل المقتضية للفساد في الطعام؛ إذ فيه بيعه قبل قبضه، والنسيئة لأنه أخره في الطعام الذى يجب له ليستوفيه من نفسه في بلد الشرط، والتفاضل بين الطعامين، ويدخل في الطعام وغيره سلف جر منفعة إذا كان ما أخذ المسلم من الكراء من جنس رأس المال. وبيع وسلف وحط الضمان وأزيدك إذا كان في موضع الاشتراط أرخص.

ومفهوم قوله هو مفهوم المدونة: أنه لو لم يأخذ كراء المسافة لجاز، ولا إشكال فيه في العروض، وأما الطعام فقد تقدم أنه قوله في الموازية والواضحة، وأن ابن الكاتب وغيره اعترضوا ذلك، وقال: ينبغي عدم جوازه.

ص: 61