الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصُّلْحُ:
مُعَاوَضَةٌ - كَالْبَيْعِ -، وَإِبْرَاءٌ، وَإِسْقَاطٌ
النووي: الصلح والإصلاح والمصالحة والاصطلاح: قطع المنازعة، وهو مأخوذ من صلح الشيء بفتح اللام أو ضمها إذا كمل، وهو خلاف الفساد، يقال: صالحته مصالحة وصِلاحاً بكسر الصاد، ذكره الجوهري وغيره، والصلح يذكر ويؤنث، وقد يقال: اصطلحا واصَّالحا وتصالحا، وروى الترمذي وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:«الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» .
وقوله: (مُعَاوَضَةٌ
…
إلى آخره) الظاهر أنه قصد بالإبراء والإسقاط شيئاً واحداً؛ لأنه كذلك في الجواهر والتلقين، ولأن المصنف إنما تعرض للكلام على الإبراء، فلو كان الإسقاط مبايناً له لتعرض له، ويحتمل أن يكون قسمه إلى ثلاثة أقسام، وهو الأليق باختصار المصنف، وإنه لا يذكر لفظة زائدة، وإلى هذا ذهب ابن عبد السلام وقال: المعاوضة أخذ ما يخالف الشيء المدعى فيه إما في الجنس أو الصفة، والإبراء إسقاط بعض ما في الذمة إذا كان المدعى فيه غير معين، والإسقاط وضع بعض المدعى فيه المعين، كدار أخذ بعضها، وقيل: استعمل الإسقاط للعيب والإبراء لترك البعض، وقال ابن راشد: والإبراء أعم من الإسقاط لوجوده مع عدم ثبوت الحق في الإبراء من التهم ومع ثبوته في الإبراء في الديون الثابتة، وأما الإسقاط فلا يكون إلا في الحقوق الثابتة. واعترضه ابن عبد السلام بأن المصنف لم يتعرض للإبراء من التهم فلا يحسن أن يقال: إن المصنف أراده وإن كان صحيحاً من جهة اللغة.
فَالصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ كَبَيْعِ الدَّيْنِ، وَعَنِ الْبَعْضِ إِبْرَاءٌ عَنِ الْبَعْضِ، وَالْوَضِيعَةُ لازِمَةٌ
أي: إذا ادعى عليه ديناً فأقر به فصالحه عنه، فإن صالحه عن جميعه بعرض يأخذه منه فذلك كبيعه منهن فيشترط في الصلح ما يشترط في بيعه، وإن صالحه عنه بترك بعضه فهو إبراء عن البعض وما وضع عنه فهو لازم له؛ لأنها هبة مقبوضة، ويشترط فيها قبول الموهوب في حياة الواهب، وهي يكفي في ذلك قبول الموهوب له بعد موت الواهب؟ فيه قولان.
وَيُقَدَّرُ الدَّيْنُ وَالْمَقْبُوضُ كَالْعِوَضَيْنِ
أي: ويقدر الدين المدعى فيه والمقبوض عنه كالعوضين في البيع؛ أي كما لو باع الدين بعوض فما يجوز في البيع يجوز في الصلح، وما يمتنع يمتنع.
فَيُعْتَبَرُ: ضَعْ وَتَعَجَّلْ، وَحُطَّ الضَّمَانَ وَأَزِيدُكَ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ
عطف بالفاء لأنه كالنتيجة عما قبله، و (ضَعْ وَتَعَجَّلْ) يكون في العين وغيرها، كما لو ادعى عليه بعشرة دراهم أو عشرة أثواب إلى شهر فأقر بذلك ثم صالحه على ثمانية نقداً.
(وَحُطَّ الضَّمَانَ وَأَزِيدُكَ) إنما يكون في غير العين، كما لو ادعى عليه بعشرة أثواب إلى شهر فصالحه على اثني عشر نقداً، وإن صالحه عنها بدنانير أو دراهم مؤجلة لم يجز؛ لأنه فسخ دين في دين، وهذا معنى قوله:(وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ)، وكذلك يعتبر الصرف المؤخر كما لو صالحه عن [539/أ] دنانير مؤجلة بدراهم أو بالعكس، وكذلك يعتبر بيع الطعام قبل قبضه، فلا يجوز لمن ادعى بطعام من بيع أن يصالح عنه بغيره، وكذلك يشترط معرفة ما يصالح عنه، فإن كان مجهولاً لم يجز، ولذلك اشترط في المدونة في صلح الولد للزوجة على إرثها معرفتها بجميع التركة وحضور أصنافها وحضور من عليه العرض وإقراره وإلا لم يجز، وكأن المصنف نبه بالموانع الثلاثة على ما عداها.
وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْقِيَامِ بِالْعَيْبِ، فَابْنُ الْقَاسِمِ يَرَى أَنَّهُ مُبَايَعَةٌ بَعْدَ فَسْخِ الأُولَى فَيُعْتَبَرُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَفَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، وَأَشْهَبُ يَرَى الْبَيْعَ الأَوَّلَ بَاقِياً، وَهَذَا عِوَضٌ عَنِ الإِسْقَاطِ فَيُعْتَبَرُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مَنْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَفَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ ....
يعني: أن من اشترى سلعة ثم اطلع على عيب بها فقام به فأقر به البائع، أو قامت به بينة واصطلحا على شيء يدفعه له ويترك القيام بالعيب، فرأى ابن القاسم أن العقدة الأولى قد انحلت، وهذه إنشاء مبايعة أخرى، ورأى أشهب أن العقدة الأولى باقية، وما وقع به الصلح عوض عن القيام بالعيب.
ومنشأ الخلاف: من ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟ وأحسن من هذا أن يقال كما قال المازري وابن شاس وغيرهما: إن من خُيِّر بين شيئين هل يعد مالكاً لما يختاره قبل اختياره أم لا؟ فإن المتمسك بهذا المغيب ملك أن يتمسك أو يرد، فهل يقدر أنه مالك للرد قبل اختياره فيكون الصلح عما ملك، أو لا يكون مالكاً إلا لما اختاره وهو التمسك؟ واختار جماعة قول أشهب؛ لأن القيام بالعيب لا يلزم فيه حل البيع.
اللخمي: وهو أقيس إذا قام بالعيب ولم يقل رددت، فإن قال: رددت، فالجواب على قول ابن القاسم، وقد نقل القصار عن مالك أن قول المشتري: رددت، فسخ للبيع وإن لم يحكم بذلك. ويظهر ما بناه المصنف على كل قول بالتمثيل.
فَمَنِ اشْتَرَى عَبْداً بِمِائَةٍ نَقْداً وَنَقَدَهَا فَصَالَحَ عَنْ عَيْبٍ بِمُعَجَّلٍ مِنْ ذَلِكَ النَّقْدِ أَوْ مِنَ الْعُرُوضِ جَازَ عِنْدَهُمَا ....
قوله: (عَبْداً) مثال وتبع في فرض المسألة المدونة، وقيدها في المدونة بما إذا كان العبد باقياً، وذكر للمسألة شرطين: أن يكون الشراء بالنقد، وأن يكون قد نقد الثمن، فإذا
صالحه بنقد أو عرض جاز عند ابن القاسم وأشهب، والجواز على قول أشهب واضح، وكذلك على قول ابن القاسم؛ لأنه لما انتقض البيع الأول وجب للمشتري عند البائع مائة، أخذ عوضاً عن تسعين منها عبداً واسترد عشرة، ولهذا كان من شرط الجواز أن تكون العشرة من سكة المائة.
وهو معنى قوله: (مِنْ ذَلِكَ النَّقْدِ) أما إذا كانت من سكة أخرى فيمتنع؛ لأنه بيع ذهب وعبد بذهب.
فَلَوْ صَالَحَ بِعَشَرَةٍ إِلَى شِهْرٍ مَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ؛ لأَنَّهُ بَيْعٌ وَسَلَفٌ؛ لأَنَّهُ اشْتَرَى حِينَئِذٍ الْعَبْدَ بِتِسْعِينَ وَأَخَّرَ الْعَشَرَةَ، وَجَوَّزَ أَشْهَبُ؛ لأَنَّهَا عَنِ الْعَيْبِ ....
منع ابن القاسم؛ لأنه لما انحلت العقدة الأولى وجب للمشتري في ذمة البائع مائة حالَّة اشترى بتسعين منها عبداً وأخره بعشرة، وذلك سلف فصار العقد مشتملاً على البيع والسلف، وجوز أشهب؛ لأن العقدة الأولى عنده منعقدة فصارت العشرة المؤخرة مأخوذة لأجل العيب، وليس فيها سلف.
فَلَوْ صَالَحَ قَبْلَ نَقْدِهَا عَلَى تِسْعِينَ وَيُؤَخِّرُ الْعَشَرَةَ إِلَى أَجَلٍ، انْعَكَسَ الْقَوْلانِ؛ لأَنَّهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ: تَاجِيلٌ لِبَيْعٍ مُسْتَانَفٍ، وَهُوَ جِائِزٌ، وَعِنْدَ أَشْهَبَ: أَخَّرَهُ بِالْعَشَرَةِ لِيَسْقُطَ الْعَيْبُ، فَهُوَ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً
أي: لو كانت المسألة بحالها: اشترى عبداً بمائة نقداً، لكن لم ينقد المشتري المائة حتى اطلع على العيب فصالحه البائع على أن يأخذ منه الآن تسعين ويؤخره بالعشرة الأولى إلى شهر مثلاً انعكس القولان؛ أي في الصورة لأن ابن القاسم منع في الأولى وأجاز أشهب وهنا بالعكس، وإلا فكل باقٍ على أصله، وإنما أجازه ابن القاسم؛ لأنه لما انحلت العقدة الأولى لم يبق للبائع في ذمة المشتري شيء ثم باعه العبد بيعاً ثانياً بمائة منها تسعون معجلة
ومنها عشرة مؤجلة، ولا مانع في ذلك، ومنع أشهب؛ لأن العقدة الأولى منعقدة فللبائع في ذمة المشتري مائة معجلة أخره منها بعشرة، وذلك سلف ليسقط عنه القيام بالعيب فيكون سلفاً جر منفعة، وهذا القدر كافٍ في تصوير كلام المصنف، وإلا فالمسألة يتصور فيها ست وثلاثون صورة، وبيان ذلك أنه إما أن يشتريه بدنانير أو بدراهم وينقدها، أو بدراهم ولا ينقدها أو بنقد مؤخر، وكل من هذه الثلاثة يتصور فيها اثنتا عشرة صورة، فيقال: إذا اشتراه بنقد ونقده فإما أن يصالح بدراهم أو بذهب أو بعرض فهذه ثلاثة، ثم كل منها ينقسم إلى قسمين: معجل ومؤجل، فهذه ستة، ثم للعبد حالتان: تارة يكون قائماً وتارة يكون فائتاً، وكذلك الكلام فيما إذا اشتراه بدراهم ولم ينقد، أو بدراهم مؤجلة.
ولعل المصنف استغنى عن ذكر هذه الأقسام، ورأى أن من فهم ما ذكره يمكنه فهم ما تركه، ولنترك نحن أيضاً الكلام عليها تبعاً له؛ لأن القصد الأهم حل كلامه.
وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى ذَهَبٍ بِوَرِقٍ، وبَالْعَكْسِ إِذَا كَانَا حَالَّيْنِ وَعُجِّلَ
هذه المسألة راجعة [539/ب] إلى صرف ما في الذمة، ومعنى كلامه أن من ادعى على رجل ذهباً فأقر به فإنه يجوز له أن يصالح عنه بورق معجَّل وبالعكس، ولا شك في اشتراط تعجيل العوض، وأما حلول ما في الذمة فهو جارٍ على المشهور من أن المعجَّل لما في الذمة يعد مسلَفا، وأما على الشاذ أن الذمة تبرأ فيجوز وإن كان مؤجلاً، وعلى قول أشهب بمنع صرف مافي الذمة تمتنع المصالحة هنا.
وَالصُّلْحُ عَلَى الإَنْكَارِ وَعَلَى الافْتِدَاءِ مِنَ الْيَمِينِ: جَائِزٌ حُكْمُهُ، وَلا يَحِلُّ لِلظَّالِمِ مِنْهُمَا ....
صورة الصلح على الإنكار أن يدعي عليه داراً أو عبداً أو غيرهما فينكره، ثم يصالحه على شيء، وصورة الافتداء من اليمين أن تتوجه اليمين على المدعى عليه فيفتدي منها
بمال، ثم ذكر المصنف أن الصلح على الأمرين جائز حكمه؛ أي جائز في ظاهر الحكم، ولا يحل للظالم فيما بينه وبين الله تعالى أن يأخذ ما لا يحل له، والمذهب جواز الصلح على الإنكار وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد لعموم الحديث المتقدم خلافاً للشافعي وابن الجهم من أصحابنا.
فقول المصنف: (جَائِزٌ) خبر عن قوله: (وَالصُّلْحُ)، وهو واضح.
ابن هشام: وإن علم المدعى عليه ببراءته وطلبت منه اليمين فليحلف، لا يصالح على شيء من ماله وإن صالح أثم من أربعة أوجه:
لأنه أذل نفسه، وقال عليه الصلاة والسلام:«أذل الله من أذل نفسه» . الثاني: أنه أطعمه ما لا يحل له. الثالث: أنه أضاع ماله، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك. الرابع: جرأه على غيره كما جرأه على نفسه.
ومراد المصنف أن الصلح على الإنكار جائز من حيث الجملة وإلا فلجوازه شروط، وقد أهملها المصنف، فشروطه عند مالك ثلاثة؛ وهي: أن يجوز على دعوى المدعي، وعلى إنكار المنكر، وعلى ظاهر الحكم، وابن القاسم يشترط الأولين فقط، وأصبغ يشترط شرطاً واحداً؛ وهو ألا تتفق دعواهما على فساد؛ فلو ادعي على رجل دراهم وطعام من بيع واعترف البائع بالطعام وأنكره الدراهم فصالحه على طعام مؤجل أكثر من طعامه، أو اعترف له بالدراهم فصالحه على دنانير مؤجلة أو دراهم أكثر من دراهمه، فحكى ابن رشد الاتفاق على فاسده وفسخه لما في ذلك من السلف بزيادة، والصرف المؤخر، وإن ادعى عليه غيره عشرة دنانير فأنكره، فأراد أن يصالحه عنها بدراهم إلى أجل فهذا ممتنع على دعوى المدعي؛ إذ لا يحل له أن يأخذ في دنانير دراهم إلى أجل، وجائز على دعوى المدعى عليه؛ إذ إنما صالح عن يمين وجبت عليه فيمتنع ذلك عند مالك وابن القاسم؛ لأن من شرطه عندهما أن يجوز على دعواهما معاً، وهذا لا يجوز على دعوى المدعي.
وأجازه أصبغ؛ إذ لم تتفق دعواهما على فساد، وكذلك لو ادعى عليه عشرة أرادب من قرض فقال المدعى عليه: بل لك عندي خمسة من سلم، فأراد أن يصالحه على دراهم ونحوها معجلة، فهو جائز على دعوى المدعي؛ لأن طعام القرض يجوز بيعه قبل قبضه، ولا يجوز على دعوى المدعى عليه؛ لأن طعام السلم لا يجوز بيعه قبل قبضه، فهذا أيضاً يجيزه أصبغ، ويمنعه مالك وابن القاسم، ولو ادعى عليه مائة درهم وأنكره فصالحه على خمسين إلى أجل، أو على تأخير جميعها فهذا جائز على دعوى كل منهما؛ لأن المدعي يقول: حططت وأخرت فأنا محسن، والمدعى عليه يقول: افتديت من يمين وجبت عليَّ، وظاهر الحكم أن فيه سلفاً جر منفعة فالسلف هو التأخير والمنفعة هي سقوط اليمين المنقلبة على المدعي بتقدير نكول المدعى عليه أو حلفه فيسقط جميع المال، فهذا ممنوع عند مالك لاشتراطه الجواز في ظاهر الحكم، وأجازه ابن القاسم؛ لأنه لم يعتبر هذا الشرط، ولا إشكال في جوازه على قول أصبغ.
ابن محرز: وإن وقع الصلح على السكوت من غير إقرار ولا إنكار فإنه يعتبر فيه حكم المعاوضة في الإقرار، ويعتبر فيه على مذهب مالك الوجوه الثلاثة التي بيناها في الإنكار.
اللخمي: واختلف في الصلح الحرام والمكروه إذا نزل، فقال مطرف في كتاب ابن حبيب: إذا كان الصلح حراماً صراحاً فسخ أبداً، فيرد إن كان قائماً والقيمة إن كان فائتاً، وإن كان من الأشياء المكروهة مضى، وقال ابن الماجشون: إن كان حراماً فسخ أبداً، وإن كان مكروهاً فسخ بحدثان وقوعه فإن طال أمره مضى، وقال أصبغ: يجوز حرامه ومكروهه وإن كان بحدثان وقوعه.
خليل: لعل المراد بالحرام الحرام المتفق على تحريمه وبالمكروه المختلف فيه.
فَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ نَقْضُهُ لأَنَّهُ مَغْلُوبٌ؟
يعني: لو ادعى عليه بمال فأنكره فصالحه على بعضه أو خلاف، ثم ثبت الحق بعد الصلح فإما أن يثبت بإقرار أو ببينة، وبدأ المصنف بالأول وذكر أن للمدعي نقض الصلح؛ لأنه كان كالمجبور عليه، ودل قوله:(فَلَهُ نَقْضُهُ) على أن له إمضاءه، ونص سحنون على ذلك.
فَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ لّمْ يَعْلَمْ بِهَا، فَفِيهَا: لَهُ نَقْضُهُ، وَقِيلَ: لا
لعله نسب المسألة للمدونة ليبين أن المشهور أن له النقض، ووجهه أنه مغلوب كالأول، والقول بأنه ليس له النقض رواه مطرف عن مالك، والفرق بين هذه وبين التي قبلها على هذا أن المدعي عليه في الأول مقر على نفسه بالظلم، وهذا مقيم على الإنكار، وأيضاً فإن المدعي في الثانية مفرط لعدم تثبته.
فَإِنْ كَانَ عَالِماً بِهَا وَصَرَّحَ بِإِسْقَاطِهَا لَمْ يَقُمْ بِهَا
أي: وصرح حين المصالحة بأن لا يقوم بها، لم يقم به لإسقاطه حقه، وهكذا في المدونة، وقيدها المازري بأن تكون حاضرة حين الصلح ويكون قادراً على القيام بها.
فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ، فَقَوْلانِ مُخْرَجَانِ مِنَ الْمُسْتَحْلِفِ مَعَ عِلْمِهِ بِبَيِّنَةٍ
أي: فإن لم يصرح المدعي العالم بالبينة ففي ذلك قولان مخرجان على القولين فيمن استحلف خصمه وهو عالم بالبينة، ومذهب المدونة في المسألة عدم القبول، [540/أ] أما الأولى فقال مالك فيمن ادعى قبل رجل مالاً فأنكره فصالحه على شيء أخذه ثم وجد بينة أو أقر المطلوب: فإن كان الطالب عالماً بالبينة فلا قيام له، وإن كانت له بينة غائبة فخاف موته أو إعدام الغريم إلى قدومهم فلا حجة له بذلك، ولو شاء تربص، وذكر ابن يونس فيها قولين: فقال: وإذا صالح وهو عالم بالبينة قيل: ليس له القيام بها، وقيل: ذلك له.
وأما المسألة الثانية ففيها وإن استحلفه بعد علمه بالبينة تاركاً لها وهي حاضرة أو غائبة فلا حق له. عياض: والأكثر أن معنى تاركاً؛ أي: تاركاً للقيام بها مع علمه، وقال آخرون: مصرحاً بترك القيام، ونقل ابن يونس عن ابن نافع أنه روى عن مالك أنه إذا حلفه وبينته حاضرة وهو عالم بها فله القيام بها بعد ذلك، وقاله أشهب في غير كتاب، وذكر المازري أن بعض المتأخرين خرج الخلاف في الصلح على الخلاف في مسألة الاستحلاف كما أشار إليه المصنف.
خليل: وقد ذكرنا القولين منصوصين فلا حاجة إلى التخريج.
وَلَوْ كَانَتْ غَائِبَةً وَشَرَطَ الْقِيَامَ بِهَا فَلَهُ ذَلِكَ
وفي بعض النسخ عوض (غَائِبَةً)(بعيدة)، وكذلك هو في المازري، وهو الأظهر؛ لأن القريبة في حكم الحاضرة؛ يعني إذا صالح لتعذر بينته وشرط القيام بها، وحكى المصنف الاتفاق تبعاً للمازري، وكذلك قال ابن يونس. وقال ابن يونس: لا ينبغي أن يختلف فيه.
فإن قيل: يعارض هذا القول ما وقع لابن القاسم فيمن أخر من له دين عليه بشرط أنه متى ادعى القضاء لم يستحلفه، واصطلح على ذلك أن هذا الصلح لا يلزم، ومتى ادعى المديان القضاء كان له استحلاف الطالب، وقيل: لا؛ فالفرق أن اشتراط إسقاط اليمين خلاف ما يوجبه الشرع فلم يوفِ له بشرطه، وذكروا في المذهب أن الخصمين لو اصطلحا على إسقاط البينة أو على أن المدعي عليه إن نكل عن اليمين غرم الحق من غير أن يرد اليمين على المدعي أن ذلك ماضٍ، فعارض المازري بين هذا وبين ما قبله؛ لأن كون النكول يوجب الغرامة من غير رد اليمين على المدعي خلاف الشرع. وأجاب ابن عبد السلام بأن إسقاط اليمين يئول إلى سلف جر منفعة، فلا يلزم بل ولا يجوز ابتداء،
وأما الصلح على إسقاط البينة فهو على إسقاط حق آدمي بعد وجوبه، وأيضاً فإسقاط البينة بعد علمه بها وبما شهدت به دليل على خلل عقد التسليم بها في شهادتها، وأما الصلح على أن المدعى عليه يغرم بالنكول من غير رد يمين فهو موافق لمقتضى الشرع على أنه رأي الحنفية وغيرهم، فلا يبعد إمضاؤه كغيره من مسائل الخلاف إذا وقع، واختلف المذهب إذا شرط من باع بثمن مؤجل أنه مصدق في عدم قبض الثمن ما لم تقم للمشتري بينة، هي يوفى بالشرط أم لا، أو يوفى للأفاضل فقط؟ على ثلاثة أقوال، المازري: وهذا إنما يحسن النظر فيه إذا وقع الصلح على معاوضة، وأما إن لم تكن معاوضة والتزم المدعى عليه ألا يرد اليمين وأسقط حقه في ردها فإن هذا لا يختلف في جوازه؛ لأنه إسقاط حق على غير عوض.
وَإِنْ أَشْهَدَ سِرّاً - فَقَوْلانِ
هذان القولان ذكرهما ابن يونس وغيره، ومذهب سحنون القبول، وقد قال في المقر سراً: يقول: أخرني سنة وأنا أقر لك؛ ففعل فصالحه على ذلك، ثم أقام بينة أنه إن كان أشهد سراً: أني إنما أؤخره لأنه جحدني، ولا أجد بينة، وإن وجدتها قمت بها فذلك له إن أشهد بذلك قبل الصلح، وههنا ثماني مسائل: أربع متفق عليها وأربع مختلف فيه، فأما المتفق عليها:
فالأولى: إن كان له بينة غائبة وأشهد وأعلن.
والثانية: إذا صالح على الإنكار ثم أقر.
والثالثة: إذا صالح على الإنكار، وذكر ضياع صكه؛ أي وثيقته ثم وجده بعد الصلح؛ فهذه الثلاثة اتفق فيها على القبول.
والرابعة: إذا ضاع صكه فقال له الغريم: حقك حق فَاتِ بالصك فامحه وخذ حقك، وقال: قد ضاع وأنا أصالحك. فيفعل ثم يجد ذكر الحق، فلا رجوع له باتفاق.
ابن يونس: والفرق بين هذه والتي قبلها أن غريمه في هذه معترف، وإنما طلبه بإحضار صكه ليمحو ما فيه، فقد رضي هذا بإسقاطه واستعجال حقه، والأول منكر للحق، وقد أشهد أنه إنما صالحه لضياع حقه فهو كشاهده أنه إنما يصالح لغيبة بينته.
وأما الأربع المختلف فهي: إذا كانت بينته غائبة وأشهد سراً كما ذكرنا، الثانية إذا صالح ولم يعلم ببينة ثم علم، والمشهور القبول كما تقدم، والثالثة: إذا صالح وهو عالم ببينته، وتقدم أن المشهور فيها عدم القبول، والرابعة: من يقر في السر ويجحد في العلانية فصالحه غريمه على أن يؤخره سنة، ولو شهد الطالب أنه إنما يؤخره لغيبة بينته، فإذا قدمت قام بها، فقيل: إن ذلك له إذا علم أنه كان يطلبه وهو يجحده، وقيل: ليس له ذلك.
خليل: وأفتى بعض أشياخ شيخي بأن ذلك له للضرورة، وهو قول سحنون، والآخر لمطرف، وهذه المسألة تسمى إيداع الشهادة، والله أعلم.
* * *