الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوَكَالَةُ
نِيَابَةٌ فِيمَا لا تَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُبَاشَرَةُ شَرْعاً
الوكالة لغة: الحفظ، وفيه:(وكَفَى بِاللَّهِ وكِيلاً)[النساء: 81] أو الكفالة والضمان، قال تعالى:(أَلَاّ تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وكِيلاً)[الإسراء: 2]. قيل: حافظاً. وقيل: كفيلاً، قاله عياض.
الجوهري: والاسم الوكالة. ورسمها المصنف اصطلاحاً: بأنها نيابة فيما لا تتعين فيه المباشرة. ويكون قريباً من قول صاحب التلقين: كل عقد جازت فيه النيابة جازت فيه الوكالة. وأجمعت الأمة على جواز الوكالة من حيث الجملة.
فَتَجُوزُ فِي الْوَكَالَة، وَالْكَفَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْجَعَالَةِ، وِالنِّكَاحِ، وَالطَّلاقِ، وَالْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ ....
عطف بالفاء لترتبه على ما قبله؛ إذ لا تتعين المباشرة في جميع الأشياء، يوكل من يوكل أن يعمل، وأن يوكل من يأخذ له كفيلاً، وأن يوكل من يحيل غريمه على مديانه. والجعالة: أن يوكل من يجاعل على عبده الابن جعلاً، وهو ظاهر.
وَفِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ، وَفِي الْحَجِّ خِلافٌ تَقَدَّمَ
أي: في الحج، ولا خلاف ما ذكره في العبادات المالية.
وَلا تَجُوزُ فِي مِثْلِ يَمِينٍ وَظِهَارٍ
لم تجز في اليمين لأنها لا تقبل النيابة؛ لأن اليمين من الأعمال البدنية ودخل في [557/أ] اليمين الإيلاء واللعان، وكذلك لا تجوز في الوضوء والصلاة. وإلى أن الأيمان من الأعمال البدنية أشار بقوله:(مِثْلِ يَمِينٍ).
وقوله: (وَظِهَارٍ) لأن الظهار يمين ولأنه منكر من القول وزور، فلا تجوز الوكالة فيه كسائر المعاصي وما لا يجوز للآمر فعله. وكذلك نص عليه المازري في التعليقة وصاحب الجواهر، وكذلك قرره ابن راشد وابن عبد السلام. والأقرب عندي أن الظهار كالطلاق؛ لأنه إذا قال الوكيل لزوجة موكله: أنت عليه كظهر أمه، فهو كقوله لامرأة موكله: أنت طالق.
وَيَجُوزُ فِي الإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ
وتجوز الوكالة بالإقرار عنه، أو على أنه يناكر عليه بما ادعى خصمه واليمين على الموكل بلا خلاف، ولا خلاف أنه لا يكون للوكيل الإقرار إلا بما قيده موكله عنه، وأما إن أطلق له الوكالة؛ فالمعروف من المذهب أن الوكالة على الخصام لا تستلزم الوكالة على الإقرار إذا لم يجعله إليه ولو أقر لم يلزمه. وروي عن مالك لزوم ما أقر به، وعلى الأول، فقال ابن العطار وجماعة من الأندلسيين وغيرهم: إن من حق الخصم ألا يخاصم الوكيل حتى يجعل له الإقرار. قال في البيان: ونزلت عندنا وقضى فيها بأنه لا يلزمه ما أقر به الوكيل. قال في الكافي: وبه جرى العمل عندنا. وزعم ابن خويز منداد أن تحصيل المذهب أنه لا يلزمه إقراره. قال في الكافي: وهذا في غير المفوض. قال: واتفق العلماء فيمن قال ما أقر به على فلان فهو لازم لي أنه لا يلزمه. واختلف أصحاب الشافعي إذا قال الموكل لوكيله: أقر عني لفلان بألف، هل يكون ذلك إقراراً لفلان بالألف؟ واختار المازري أنه أقرار، واستشهد بما لأصبغ في العتبية فيمن وكله رجل على خصام رجل في شيء أن إقرار الوكيل لا يلزم الموكل. قال: ولو شهد أنه جعله في الإقرار عنه كنفسه؛ فإن إقرار الوكيل يلزمه.
ابن عبد السلام: وليس فيه كبير شاهد.
ابن راشد: قال فقهاء طليطلة: من وكل رجلاً على طلب حقوقه والمخاصمة عنه والإقرار والإنكار فأقر الوكيل أن موكله وهب داره لزيد، أو قال: لفلان على موكلي مائة دينار أن ذلك لازم لموكله. وأنكر ذلك ابن عتاب وغيره، وقالا: إنما يلزمه فيما كان من معنى المخاصمة التي وكله عليها أبو الأصبغ. وهذا هو الصحيح عندي وهو في شفعة المدونة. قال ابن القاسم: من وكل رجلاً على قبض شفعته فأقر أن موكله سلمها فهو شاهد يحلف المشتري معه وتبطل الشفعة إلا أن يكون الشفيع المشهود عليه غائباً فيتهم موكله على الانتفاع بالمال وله بال فلا تبطل.
وَالْمُعْتَبَرُ الصِّيغَةُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا
المعتبر في صحة الوكالة مثل: وكلتك، وأنت وكيلي، أو ما يقوم مقامها من قول أو فعل؛ كقوله: تصرف في هذا، وكإشارة الأخرس ونحوه.
فَإِنْ تَرَاخَى الْقَبُولُ فَقَوْلانِ؛ تَخْرِيجاً عَلَى قَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ: اخْتَارِي
لما ذكر الصيغة أشار إلى أنه لا بد من القبول، ثم إن وقع على الفور فلا خلاف في الصحة، وإن تراخى بزمان طويل، فقال المازري: يتخرج عندي على الروايتين في قول الرجل لامرأته: اختاري، أو أمرك بيدك، فقامت من المجلس ولم تختر. قال: والتحقيق في هذا يرجع إلى اعتبار المقصود والعوائد، هل المراد الجواب بداراً فإن تأخر سقط حكم الخطاب، أو المراد استدعاء الجواب معجلاً أو مؤجلاً؟ ابن عبد السلام: وقد يفرق بين الوكالة والتخيير بأن الوكالة التي ليست بعوض غير لازمة من جانب الموكل؛ لأن الموكل إن رأى مصلحة أبقاه وإلا عزله، وأما الزوج فعليه ضرر في إبقاء الخيار لكونه لازماً له؛ فلذلك يقيد خيارها بالقرب، وسقط بطول المجلس على أحد القولين.
خليل: وهذا الفرق إنما يتم في الوكالة التي ليست بعوض، وأما التي بعوض للزومها، وعلى هذا فلعل المارزي لما رأى أن الغالب في الوكالة أن تكون بعوض لم يلتفت إلى الفرق المذكور، والله أعلم.
الْمُوَكَّلُ فِيهِ شَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُوماً بِالنَّصِّ أَوِ الْقَرِينَةِ أَوِ الْعَادَةِ
لما كان للوكالة حالتان، تفويض وخصوص، وكان الوكيل المخصوص إذا تصرف في غير ما أذن له فيه يكون متعدياً لزم من أجل ذلك أن يبين الشيء الموكل فيه بالنص عليه أو بقرينة تدل على أنه أراد شيئاً بعينه أو بعادة، كما إذا وكله على زواج امرأة، فإن العادة أنه إنما وكله على زواج من هي من نسائه.
فَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ لَمْ يُفِدْ حَتَّى يُقَيَّدَ بِالتَّفْوِيضِ أَوْ بِأَمْرٍ
عطفه بالفاء لترتبه على ما قبله، أي: ولاشتراطنا أن يكون الموكل معلوماً، لو قال الموكل: وكلتك، لم يفد لعدم حصول الشرط. فإن قيل: لم أبطلتم الوكالة المطلقة وصححتم الوصية المطلقة وجعلتم الوصي يتصرف في كل شيء؟ قيل: يتيم، لما كان محتاجاً أن يتصرف له في كل شيء ولو يوص عليه والده غير من أطلق الوصية له كان ذلك قرينة في تفويض الأمر للموصى، بخلاف الموكل فإنه قادر على التصرف فيما جعل للوكيل ولا بد له من أمر يستبد به في العادة احتاج إلى تقييد الوكالة بالتفويض أو بأمر مخصوص.
فَلَوْ قَالَ: بِمَا لِي مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مَضَى فِي جَمِيعِ الأَشْيِاءِ إِذَا كَانَ نَظَراً، إِلا أَنْ يَقُولَ: نَظَراً أو غَيْرَ نَظَرٍ ....
لما ذكر أن الوكالة لا تفيد حتى يقيد بالتفويض، أو بأمر مخصوص على أن الوكالة قسمان أخذ يتكلم على كل منهما وبدأ بالتفويض.
وقوله: (فِي جَمِيعِ الأَشْيِاءِ) نحوه لابن رشد، وصاحب الجواهر بشرط أن يكون نظراً؛ لأنه معزول عن غيره بالعادة، إلا أن يصرح له بذلك فيقول: نظراً أو غير نظر.
خليل: وفي نظر؛ إذ لا يأذن الشرع في السفه [557/ب]، وينبغي أن يضمن الوكيل؛ إذ لا يحل لهما، والله أعلم.
ابن راشد: وذكر غير المصنف، وابن شاس، وابن رشد أنه يستثنى من ذلك بيع دار السكنى، وبيع العبد، وزواج البكر، وطرق الزوجة؛ إذ العرف قاض بألا تتزوج تحت عموم التفويض، وإنما يفعله الوكيل إذا وقع النص عليه.
ابن عبد السلام: وقد جرى العمل عندنا في هذه الجهات في كل شيء مع وجود القيد الذي ذكره المصنف أنه يتصرف في كل شيء إلا في بيع دار سكنى الموكل وطلاق زوجته. قال في المقدمات: وإن سمى بيعاً، أو اشتراء، أو خصاماً، أو شيئاً من الأشياء؛ فلا يكون وكيلاً إلا فيما سمى، وإن قال في آخر الكلام: وكالة مفوضة أو لم يقله فذلك سواء؛ لأنه يرجع إلى ما سمى خاصة، وهذا مرادهم في أن الوكالة إذا طالت قصرت وإذا قصرت طالت.
ابن عبد السلام: قال بعض أشياخي: ولا يدخل في ذلك خلاف الأصوليين في العموم إذا جرى على سبب، هل يقتصر على ذلك السبب، أو يعم؟ وفي ذلك نظر.
فَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا تَقَيَّدَ بِهِ
هذا هو النوع الثاني من نوعي الوكالة وهو ظاهر.
وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي الإِبْرَاءِ جَازَ مَعَ جَهْلِ الثَّلاثَةِ بِمَبْلَغِ الدَّيْنِ
قوله: (فِي الإِبْرَاءِ) أي: من الدين. و (الثَّلاثَةِ) الوكيل، والموكل، ومن عليه الدين. و (أل) في الثلاثة للعهد، أما الوكيل والموكل فلتقدم ذكرهما، وأما الغريم فلوكالة الإبراء مما عليه بالالتزام، وإنما جاز ذلك؛ لأن ذلك هبة مجهول، وهي جائزة عندنا.
وَمُخَصَّصَاتُ الْمُوَكِّلِ مُتَعَيِّنَاتٌ كَالْمُشْتَرِي، وَالزَّمَانِ، وَالسُّوقِ
يعني: أنه يتعين على الوكيل ألا يتصرف إلا كما أذن له الموكل؛ لأنه إنما يتصرف له. قوله: (كالمشتري) يصح بكسر الراء ويكون المعنى: بعها من فلان، وهو الذي في الجواهر ومشاه عليه ابن راشد وابن عبد السلام، ويصح بفتح الراء؛ أي: لا تشتري إلا سلعة فلان. (وَالسُّوقِ) أي: لا تبع إلا في السوق الفلاني. (وَالزَّمَانِ) أي: لا تبع إلا في الشهر الفلاني.
فَإِنْ خَالَفَ؛ فَالْخِيَارُ لِلْمُوَكِّلِ إِلا أَنْ يَكُونَ رِبَوِيّاً بِرِبَوِيٍّ، فَفِي إِمْضَائِهِ بِرِضَاهُ قَوْلانِ ....
أي: فإن خالف الوكيل ما قيده له الموكل فللموكل الخيار في الإمضاء والرد، فإن أمضى وقد كان باع له سلعة أخذ الثمن، وإن فسخ وكانت السلعة قائمة أخذها، وهل له أن يطالبه بما سمى من الثمن؟ قولان. فإن كانت فائتة طالبه بالقيمة إن لم يسم ثمناً، فإن سمى، فهل له أن يطالبه بما سمى أو بالقيمة؟ قولان مبنيان على الخلاف فيمن أتلف سلعة وقفت على ثمن.
وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ رِبَوِيّاً بِرِبَوِيٍّ) كما لو قال: بعها بقمح فباعها بفول، أو بدراهم فباعها بذهب، فهل له الإمضاء كغيره أو لا بد من الفسخ لأن المبيعات الربوية لا يدخلها خيار، والقولان متأولان على المدونة. ولا شك أنهم هنا لم يدخلوا ابتداء على الخيار، ولكن آل الحكم إلى ثبوت الخيار للموكل، فهل يكون الخيار الحكمي كالشرطي أم لا؟ والمشهور من المذهب أنه لا ينافي فعله الإمضاء.
فَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ أَوْ نَقَصَ فِي الشِّرَاءِ فَلا كَلامَ
كما إذا قال: بعها بعشرة فباعها باثني عشر. أو قال: اشتر بعشرة فاشتراها بثمانية، فلا كلام للموكل. وإن كان ذلك مخالفة من الوكيل؛ لأن الموكل يرغب في هذا المعنى، ومن
هذا ما في المدونة: وإن أمرته يسلم لك في طعام ففعل فأخذ رهناً أو كفيلاً بغير أمرك جاز؛ لأنه زيادة توثق. اللخمي: إلا أن ينقص في الثمن لأجل الرهن أو الحميل فيكون حينئذ للموكل الخيار.
خليل: وينبغي أن يلاحظ هنا ما تقدم، هل للرهن حصة من الثمن، أم لا؟
وَيُغْتَفَرُ الْيَسِيرُ فِي الْعَكْسِ
المراد بالعكس: أن ينقص في البيع ويزيد في الشراء؛ يعني: فإن نقص في البيع اليسير، أو زاد في الشراء اليسير اغتفر، هذا ظاهر كلامه؛ أعني: عموم هذا الحكم في البيع والشراء، والذي في تهذيب الطالب، واللخمي، وابن يونس، والمتيطي، والجواهر، وابن رشد وغيرهم أن اليسير إنما يغتفر في الشراء لا في البيع؛ لأن الشأن في البيع طلب الزيادة، وفي الشراء استخفاف الزيادة اليسيرة عند حصول غرضه في تلك السلعة. لكن غمز ذلك ابن يونس ولم ينص في المدونة على اعتبار اليسير إلا في الشراء، وحد فيها اليسير بمثل الدينار والثلاثة في المائة، وكالدينار والدينارين في الأربعين، نعم يأتي كلام المصنف على ما ذكر أبو الحسن في أن الظاهر إذا باع السلعة بأقل مما سمى له بيسير أنه يجوز ذلك كما في الشراء. ونقله التلمساني عن بعض الأشياخ.
وقال المازري: وأشار بعض المتأخرين إلى أنه لا فرق بين البيع والشراء في أن الوكيل على البيع ينبغي أن يسامح له في أن يبيع بنقص يسير عما حد له. قال: والتحقيق يقتضي أنه لا يغتفر له في البيع والشراء ولا يكون له إلا ما حد له، وهو مذهب الشافعية. قال ابن محرز، وقال بعض المذاكرين: إنما له أن يزيد اليسير إذا كانت السلعة التي أمر بشرائها غير معينة، وأماالمعينة فلا يزيد فيها شيئاً وهو لا معنى له. والصواب: ألا فرق بين المعينة وغيرها ولا بين البيع والشراء؛ أي: في اغتفار الزيادة اليسيرة، وحيث ألزمنا الوكيل ما
خالف فيه الموكل فضمان المشتري من الموكل، قاله في المدونة، وهل يصدق الوكيل في دفعه الزيادة اليسيرة؟ تردد في التونسي، وخرجه اللخمي على الخلاف فيمن أخرج من ذمته إلى أمانته، وذكر في تهذيب الطالب عن ابن القاسم في رواية عيسى أنه قال: يقبل قول الوكيل أنه زاد لأنه مؤتمن ويحلف، وإن لم يذكر الزيادة حتى طال الزمان لم يقبل قوله بعد ذلك، إلا أن يشتغل عن ذكر ذلك بمثل ما يشتغل [558/أ] به الرجل في حوائجه، أو يكون في سفر فيقدم فيقبل قوله، وإذا أقام معه زماناً طويلاً يلقاه ولا يذكر ذلك فلا يقبل قوله.
فَلَوْ قَالَ: أَنَا أُتِمُّ فِي الْكَثِيرِ، فَفِي إَمْضَائِهِ قَوْلانِ
فالإمضاء لحصول غرض الأمر وعدمه؛ لأن الوكيل متعد في البيع فيجب الرد لحصول المنة، ونظيرتها إذا وكلته أن يزوجه بألف فزوجه بألفين، فقال الوكيل: أنا أغرم الزائد.
وَلَوْ قَالَ: بِعْ بِنَسِيئَةٍ بِكَذَا فَبَاعَ نَقْداً بِهِ، وَعَكْسُهُ فِي الشِّرَاءِ فَقَوْلانِ. وحَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِيهَا ابْنَ اللَّبَّادِ بِأَنَّ الْمُبْتَاعَ لَوْ عَجَّلَ الثَّمَنَ لِلْوَكِيلِ لَزِمَهُ قَبُولُهُ ....
إذا قال: ادفع بمائة نسيئة إلى أجل فباع بها نقداً، وعكسه في الشراء أن يقول: اشتر بمائة نقداً فيشترى بها مؤجلة، فقال ابن أبي زيد: ذلك لازم في الوجهين. قال: وخالفني فيها أبو بكر بن اللباد واحتججت عليه بأن المبتاع لو عجل الثمن المؤجل لزمه قبوله بغير مرجحة الوكيل إذا أمره بالبيع بمائة مؤجلة أن يقول: أنا لو بعت بمائة مؤجلة ثم دفعها لك المشتري لزمك قبولها، وكذلك يقال في الشراء: إن لم ترد بقاء الدين في ذمتك. وعلى هذا البحث فيقيد بما إذا باعها بالعين؛ لأنه هو الذي يجب قبوله، وقاله التونسي. ورأى بعض من يقول كقول ابن أبي زيد أن الطعام كالدنانير وكالدراهم وفيه نظر، ولابن اللباد أن
يقول من حجة الموكل أن يقول في مسألة البيع: إنما قلت لك بمائة مؤجلة لأني كنت أظن أن المائة ثمنها إلى أجل، فإذا ساوت مائة حالة فثمنها في التأجيل أكثر. ويقول في مسألة الشراء: إنما قلت لك اشترها بمائة معجلة ظاناً أنها تساوي أكثر من ذلك في التأجيل، فإذا باعها بمائة مؤجلة فهي تساوي أقل من مائة معجلة، وفيه نظر؛ لأنه لو عجل له ما قال لم يكن له مقال. قال في المدونة: وإن أمرته ببيعها إلى أجل فباعها نقداً فعليه الأكثر مما باعها به والقيمة لما تعدى. ابن القاسم: وسواء نسيت له ثمناً أم لا، فظاهر هذا الكلام مع ابن اللباد، وتأول ذلك بعضهم على الموكل إنما حد للوكيل أقل الثمن بحيث إنه إنما يبيعها بهذا العدد إذا لم يجد أكثر منه، ولما باعها بذلك العدد نقداً دل على أنه لم يبالغ في طلب الأثمان؛ لأن من اشترى بثمن نقداً، فالغالب أن يشتري ما كثر إلى أجل، ومهما بعد الأجل زاد الثمن، وقال بعضهم: لعل المسألة مفروضة في التوكيل على بيع السلعة بقيد العين. وقوله: (وحَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِيهَا ابْنَ اللَّبَّادِ) يحتمل أنه حاجه، ويحتمل أنه غلبه في الحجة وهو الأقرب.
تنبيه: ما ذكره المصنف عن ابن اللباد هو كذلك في الجواهر، فقوله فيما حكى عنه: وخالفني في ذلك أبو بكر بن اللباد، والذي في ابن عبد السلام: ابن التبان. وفيه نظر؛ لأن ابن التبان إنما كنيته أبو محمد على ما ذكره صاحب المدارك، وابن اللباد هو أبو بكر، والله أعلم.
وَاشْتَرِ بِعَيْنِهَا فَاشْتَرَى بِالذِّمَّةِ وَنَقَدَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ يَصِحُّ
يعني: إذا أعطاه مائة درهم أو مائة دينار وقال له: اشتر بعينها، فاشترى بمائة في الذمة ونقد ما دفعه الآمر، أو قال له: اشتر بمائة في الذمة، فاشترى بعينها؛ صح الشراء، ولا مقال للموكل في الوجهين؛ لأن ذلك كله سواء. وأعاد المصنف الضمير في نقدها وبعينها في غير الدراهم والدنانير كما ذكرنا اعتماداً على السياق.
خليل: وينبغي أن يخرج على القول بالوفاء بشرط ما لا يفيد أن يكون للموكل الخيار، وأما إن ظهر لاشتراط الموكل فائدة؛ فإنه يعمل على قوله:(ولا إشكال) وقد نص المازري عليه.
وَفِي: بِعْ بِالدَّنَانِيرِ، فَبَاعَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَكْسِ قَوْلانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا فِي الغَرَضِ سَوَاءٌ أَوْ لا ....
تصوره واضح، واستقرأ بعضهم القول بأنه لا مقال للموكل من المدونة، وهو اختيار اللخمي، قال: إلا أن يعلم أن ذلك لغرض الموكل.
وَاشْتَرِ شَاةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ. ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ قَادِراً عَلَى الإِفْرَادِ لَمْ يَلْزَمْ
قال في الجواهر: ولو سلم له ديناراً ليشتري به شاة فاشترى به شاتين وباع إحداهما بدينار ورد الدينار والشاة؛ صح عقد الشراء والبيع ولزما لإجارة المالك، وقد فعل ذلك عروة البارقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له. وشراء الشاة الأخرى ودفع أحدهما يخرج على إجازة المالك تصرف الغير في ملكه إذ رضي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمضاه، ولو أمر له أن يشتري جارية على صفة بثمن معين فاشترى جاريتين على الصفة المعينة بالثمن المحدود في الواحدة، فإن اشتراهما واحدة بعد أخرى، فقال أصبغ: يلزمان الموكل ولم يقيد جوابه، وقال ابن المواز: إن كان قادراً على الإفراد لم يلزم الآمر العقد، وإن كان غير قادر لزمه. وقال غيره: يثبت الخيار للموكل. ثم اختلف القائلون بذلك في محله، فقال ابن القاسم: محله الثانية فقط فيتخير في قبولها أو ردها.
وقال ابن الماجشون: يتخير في قبولها أو ردها. انتهى. وفهم منه أن القول الثالث لابن القاسم وابن الماجشون.
ابن عبد السلام: حكي في الجواهر عن محمد التفرقة، والذي في النوادر عن الموازية ظاهر فيها وليس بصريح.
خليل: وحكى اللخمي عن مالك التفرقة، وقال: إنه لا يختلف المذهب في اللزوم إذا لم يمكن الإفراد، وهو ظاهر، وعلى هذا فيتحصل في المسألة طريقان، وما حكى ابن شاس عن ابن الماجشون كذلك حكاه عنه في المبسوط، وحكى ابن حبيب عنه إذا أمره بشراء جارية بعينها، أو موصوفة بثمن فاشتراها به ومتاعاً معاً في صفقة؛ فالآمر مخير بين [558/ب] أن يرد الجميع ويأخذ الجارية بحصتها من الثمن، قال: وإن تملك الجميع قبل علمه؛ فمصيبة الجارية وحدها منه بحصتها من الثمن. وجه قول أصبغ أن الوكيل لم يزد لموكله إلا خيراً؛ إذ لو اشترى له جارية لزمه، ونظر في القول بعدم اللزوم للمخالفة، والتفرقة ظاهرة.
وَبِعْ إِلَى أَجَلٍ يُقَيِّدُهُ الْعُرْفُ
يعني: إذا قال له بع هذه السلعة إلى أجل؛ فإنه وإن كان مطلقاً يصلح لجميع الآجال لكن يقيد بالعرف، فإن باعها إلى أجل جرت العادة به المبيع لمثله مضى وإلا فلا.
ابن عبد السلام: وهذا صحيح، فإن المعتبر من الكلام إنما هو عرف التخاطب لا مقتضى اللغة، إلا إذا كان الآمر والمأمور عربيين، والله أعلم.
وَاشْتَرِ لِي عَبْداً فَاشْتَرَى مَا لا يَلِيقُ بِهِ، فَفِي خِيَارِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ
يعني: فإن وكله على شراء عبد وأطلق، فإن اشترى ما يليق به لزمه، فإن اشترى ما لا يليق بمثله، فقال ابن القاسم في المدونة: الموكل بالخيار. وقال أشهب: لا خيار له. والجاري على المسألة السابقة قول ابن القاسم، ولعل الخلاف مبني على الخلاف بين أهل الأصول، هل يجوز تخصيص العام وتقييد المطلق بالعرف، أم لا؟ فمن أجاز ذلك جعل للموكل الخيار، ومن لا فلا. وقيد بعض القرويين قول ابن القاسم بما إذا لم يسم الثمن، وأما إن سماه فاشترى به فلا يبالي بما اشترى له كان مما يشبه أم لا؛ لأنه قد أجاز له قدر ذلك. وقال غيره: ينبغي ألا يلزمه إلا إذا اشترى له ما يشبه وإن سمى الثمن.
وَكَذَلِكَ الْمُخَصَّصُ بِالْعُرْفِ
يعني: أن العرف كما قيد المطلق على ما قدمه في قوله: (وبع إلى أجل) يقيده العرف، فكذلك يخصص العام، كما لو قال له: اشتر لي ثوباً من أي الأثواب شئت. فإنه يتقيد بما لا يليق بالآمر، وهذا مثل ما في المدونة: إذا استعار دابة يركبها حيث شاء وهو بالفسطاط فركبها إلى الشام أو إفريقية، فإن كان العرف عاريته إلى مثل ذلك فلا شيء عليه وإلا ضمن. قال: والذي يسرح دابته لرجل يركبها في حاجة ويقول له اركبها حيث شئت يعلم الناس أنه لم يسرجها له إلى الشام.
وِلا يَبِيعُ بِعَرَضٍ ولا نَسِيئَةٍ ولا بِتَغَابُنٍ فَاحِشٍ إِلا بِإذْنٍ
لما ذكر أن العرف يقيد في جانب الشراء أشار إلى أنه يقيد أيضاً في البيع، فإذا قال له: بع هذه السلعة. فمحملح على البيع بالنقد المعتاد بثمن المثل إلا بإذن. واشتمل كلام المصنف على ثلاث مسائل فلنتكلم على كل بانفرادها:
الأولى: لا يبيع بعرض، بل ولا بغير نقد البلد، فإن فعل كان متعدياً. ففي السلم الثاني من المدونة: ويضمن حين باع بغير عين إلا أن يجيز الآمر فعله ويأخذ ما باع به. زاد في الوكالة، وقال غيره: إن باعها بعرض ولم يفت فليس له تضمينه، وخير الآمر في إجازة البيع وأخذ ما بيعت به، أو نقضه وأخذ سلعته، وإن فاتت خير فيما بيعت به من عرض، أو تضمين الوكيل قيمتها ويسلم ذلك العرض للوكيل.
عياض: وهو وفاق. وفي الموازية: إن فاتت بتغير البدن أو لسوق فكما ذكرنا، وإن لم تفت بأحدهما فيخير الآمر في إجازة البيع أو تباع السلعة المأخوذة، فإن كان فيها زيادة أخذها، وإن نقصت عن القيمة ضمن الوكيل تمامها.
التونسي: ومع عدم الفوات لا يكون بيع العرض في الأصوب من القولين وقيمتها كعينها؛ فإما يأخذها، أو العرض. واستشكل ما في الموازية من تضمين المأمور مع قيام السلعة، وينبغي ألا يكون له الخيار إلا في إجازة ما فعله الوكيل أو رده، وأما أن تباع به سلعته فلا، وحمل ابن يونس ما في الموازية على أن المشتري نازع في كون هذه السلعة المبيعة للموكل ولم يعلم أنها للآمر إلا بقول المأمور، فلذلك لم يكن سبيل إلى نقص صفقة، وضمن المأمور لإقراره بالتعدي، وأما لو علم بالبينة أنها للآمر؛ لم يكن له سبيل إلى تضمين المأمور، وليس له إلا أن يرد أو يجيز، وعلى هذا فيتفق ما في الموازية وفي كتاب الوكالات فاعلمه. وأما إن اشترى لموكله بغير العين فذلك لا يلزمه، وللموكل أن يجيز فعله ويدفع إليه ما وداه من الثمن، هكذا قاله في المدونة، وظاهرها أن المقوم في ذلك كالمثلي.
فرع: قال في المدونة: وإن اشترى لك أو باع بفلوس فهي كالعرض، إلا أن تكون سلعة خفيفة الثمن فإنها تباع بالفلوس وما أشبه ذلك، فالفلوس فيها بمنزلة العين، وأما المسألة الثانية وهي البيع بالدين فلا تجوز، فإن فعل؛ فإما أن يكون سمى له ثمناً، أم لا. فإن لم يسم له ثمناً، ففي الموازية يجوز للآمر أن يرضى بالثمن المؤجل إن كانت سلعته قائمة؛ لأنه لما كان قادراً على الرد صار ذلك كإنشاء عقدة، وإن فاتت فليس له الرضى بالمؤجل؛ لأن الغالب أن القيمة التي وجبت له أقل من الثمن المؤجل، فلو أجزنا له ذلك لزم منه بيع القيمة بأكثر منها إلى أجل، وهو عين الربا. ولهذا قال ابن القاسم في العتبية: لو كان الثمن المؤجل مثل قيمتها الآن أو أقل لجاز الرضى به للآمر؛ لأنه رضى منه بالتعدي إن فسخ، مثل ما وجب له في مثله أو أقل. قال في العتبية: وإن باعها بأكثر من القيمة ورضي المتعدي أن يعجل له القيمة ويقبض ذلك لنفسه عند الأجل ويدفع ما زاد على القيمة إلى الآمر على ذلك ولم يكن من بيع الدين، وأما إن سمى له الثمن فباع بأكثر منه إلى أجل، كما لو [559/أ] أمر له بعشرة نقداً فباع بخمسة عشر مؤجلة، فاختلف هل يعد
الوكيل بتعديه ملتزماً لما أمره به الموكل ونقل عن ابن القاسم، أم لا وهو المشهور.
اللخمي: وهو أحسن. فإن كانت السلعة قائمة فعلى الأول لا يلزم الوكيل غير العشرة، وعلى الثاني يخير الموكل في إجازته ورده، قاله المازري وغيره، فإن فاتت السلعة، فهل له مطالبة الوكيل بالتسمية إن سمى له ثمناً، أو قيمة السلعة إن لم يسم، أم له أن يجيز تعديه ويرضى بالثمن. المشهور من المذهب: منعه منهما.
أما الأول: فلإمكان أن يكون قد رضي بما فعله الوكيل، فيكون قد وجب له خمسة عشر فتعجل منها عشرة فيدخله ضع وتعجل، وظاهر ما في الواضحة تمكينه من ذلك.
وأما الثاني: فلاحتمال أن يكون عزم على مطالبة الوكيل بحكم التعدي، فيكون قد وجب له عليه عشرة وانتقل منه إلى أكثر منه إلى أجل، وظاهر ما في الواضحة أيضاً أن له ذلك. ولهذا كان المشهور: لا بد من يبع الدين؛ لأنه ليس للموكل وجه يأخذ به عوض سلعته سوى ثمن الدين، فإن بيع بمثل التسمية أو القيمة فلا كلام، وإن بيع بأزيد أخذ الموكل الجميع؛ إذ لا ربح للمتعدي، وإن بيع بأقل غرم للموكل تمام التسمية أو القيمة، ويؤخر بيع الدين حتى يحل الأجل فيأخذ ما دفعت للموكل وأعطيه ما زاد، فإن كانت الخمسة عشر لو بيعت الآن بيعت بعشرة جاز ذلك؛ لأن الذي يصح للآمر لو بيعت الخمسة عشر بعشرة نقداً عشرة،
فإذا دفعها المأمور إليه وزاد خمسة مؤجلة فقد أحسن ولا يقع له في ذلك، وإن ساوت لو بيعت أكثر من عشرة كاثني عشر مثلاً لم يجز؛ لأنه فسخ الدينارين في الخمسة التي بقيت.
وحكى بعضهم في هذه الصورة قولاً بالجواز، فإن ساوت أقل من عشرة جاز عند ابن القاسم خلافاً لأشهب. واختلف الشيوخ هل المختار قول ابن القاسم، أم قول أشهب؟ فاختار التونسي قول أشهب؛ لأنه يلزم هنا السلف بزيادة، لأن المأمور يغرم تمام العشرة، وكأنه قال: لا تبعها لتغرمني فأسلفه عشرة ليأخذ من الدين. واختار اللخمي
قول ابن القاسم وانفصل عما تقدم بما حاصله: أن الدين إنما يباح إذا كان للموكل بيعه فائدة، وإلا فلا فائدة للموكل في بيعه فلا يباع إلا بتراضيهما؛ لكونه متردداً بينهما؛ إن التفت إلى حكم التعدي كان البيع للوكيل، وإن التفت إلى حكم إجازة تعديه كان للموكل، وهذا يمنع من بيعه عنده إلا بتراضيهما، وإذا كان كذلك فلا يتحقق فيه السلف.
تنبيه: قال ابن يونس، كما راعوا في مسألة التسمية أن تكون قيمة الخمسة عشر أقل من العشرة المسماة أو أكثر، فقياسه أن يعتبر أيضاً مع ما وقع البيع به إذا لم يكن سمى بما يكون أكثر السلعة أو أقل، بخلاف ما تقدم عن العتبية أنه إذا باعها بأكثر من القيمة ورضي المتعدي أن يعجل القيمة ويقتضي ذلك عند الأجل ويدفع ما زاد أنه جائز. قال: والمسألتان يدخلهما القولان سمى أو لم يسم، فاعرفه.
وأما المسألة الثالثة، ففي المدونة: إن باع الوكيل أو ابتاع ما لا يشبه من الثمن أو بما لا يتغابن الناس بمثله لم يلزمك؛ كبيعه الأمة ذات الثمن الكثير بخمسة دنانير ونحوها، ويرد ذلك كله ما لم يفت فيلزم الوكيل القيمة، وإن باع بما يشبه جاز بيعه، وإن أمره بشراء سلعة بعينها فابتاعها بألف درهم وهي من ثمانمائة لم يلزمك إلا أن تشاء، وهي لازمة له، وإن كانت شيئاً يتغابن بمثله لم يلزمه.
وَلا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ وَلا وَلَدِهِ ولا يَتِيمِهِ، ولا يَشْتَرِي. وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ، ويَتَوَلَّى حِينَئِذٍ طَرَفَي الْعَقْدِ كَالْوَكِيلِ مِنْ كِلا الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ والنِّكَاحِ ....
المشهور من المذهب والمعروف: أن الوكيل على بيع سلعة لا يكون له بيعها من نفسه، فإن فعل فالموكل بالخيار في الرد والإمضاء، ولو أعتق هذا الوكيل العبد الموكل هو على بيعه، نص عليه غير ابن القاسم في القراض. وقال عبد الوهاب: إن باعه من نفسه من غير محاباة جاز؛ بناء على أن المخاطب هل يدخل تحت الخطاب أم لا؟ والظاهر وإن
قلنا: إنه يدخل فلا يمضي للتهمة ولا يقال تبين انتفاؤها بالبيع بالقيمة فأكثر؛ لأنا نقول يحتمل أنه إنما اشتراها بذلك لما رأى أن من الناس من يرغب في شرائها بأكثر، وعلى المذهب فإن فاتت السلعة فعليه الأكثر من الثمن والقيمة.
محمد: وهو بتغير الذات أو تغير السوق. وذكر يحيى بن عمر قولاً آخر بأن تغيير السوق لا يفيتها، وذكر ابن حبيب أن الوكيل على بيع سلعة فاشتراها ثم باعها بربح أن الربح للموكل، وكذلك الوصي إذا اشترى من مال الأيتام لنفسه وباعه بربح فإن الربح لهم، فرأى أن ذلك البيع الذي باعه من نفسه كأنه لم يكن لكونه معزولاً.
قوله: (وَلا وَلَدِهِ) أي: الصغير. في السلم الثاني من المدونة: ومن وكل رجلاً يسلم له في طعام فأسلمه إلى نفسه، أو ابنه الصغير، أو لشريك له مفاوض، أو شركة عنان، أو زوجته، أو مكاتبه، أو مدبره، أو أم ولده، أو عبده المأذون له في التجارة، أو عبد لولده الصغار، أو عبد أحد ممن ذكرنا، أو ذمي؛ فذلك كله جائز إن صح بغير محاباة، ما خلا نفسه وشريكه المفاوض، أو من يلي عليه من ولد، أو يتيم، أو سفه وشبهه. اللخمي: وإن أسلمه إلى ولده الكبير جاز. وقيد سحنون المفاوض بما إذا أسلم إليه في المال الذي فاوضه فيه، وأما غيره فيجوز، وجائز أن يسلم [559/ب] إلى ابنه الصغير ويتيمه. وقال: لأن العهدة في أموالهم. وإلى هذا القول وقول القاضي أشار بقوله: (وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ). وما ذكر في المدونة في المدبر وأم الولد فهموه في المأذون لهما في التجارة.
ابن عبد السلام: وفي فهمهم ذلك منها نظر. وقال يحيى بن عمر: لا يجوز أن يسلم لعبده المأذون.
قوله: (ويَتَوَلَّى حِينَئِذٍ) تفريع على الشاذ. وقوله: (كَالْوَكِيلِ مِنْ كِلا الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ) وذلك يتصور بأن يكون وكيلاً من شخصين، أو ناظراً على يتيمين ونحو ذلك، وكلاهما ظاهر.
وَلَوِ اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ عَالِماً ولَمْ يُعَيِّنْهُ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَعْتِقْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وفِي عِتْقِهِ عَلَى الْوَكِيلِ قَوْلانِ ....
(عَلَيْهِ) أي: على الموكل. و (عَالِماً) حال من الضمير في (اشْتَرَى) أي: الوكيل من يعتق على الموكل حالة كون الوكيل عالماً بذلك لم يعتق على الموكل، وأما إن لم يعلم؛ ففي المدونة وغيرها: أنه يعتق على الموكل. وخرج غير واحد خلافاً في عدم لزوم البيع إذا لم يكن الوكيل عالماً، ومنهم من استقرأه من كتاب الرهن من المدونة.
ابن عبد السلام: وفيه نظر. واستشكل ما ذكر من التفرقة؛ لأن عقد الوكالة أن تضمن قرابة الموكل صح مع علم الوكيل، وعتقوا على الأمر، وإن لم يتضمنهم لم يصح البيع مع عدم العلم ولم يلزم العتق. وأجيب بأنه تضمنهم بدليل أنهم يعتقدون مع علم الوكيل كونه قصد اضطراره فلم يمكن من ذلك. فقوله: ولم يعينه الموكل، بل قال: اشتر لي، فاشترى الوكيل أبا الموكل مثلاً؛ فالوكيل متعدِّ، لأن الموكل أخرج هذا بالعرف؛ إذ المقصود من العبد في العادة الاستخدام ولا يحصل هنا، ولهذا المعنى أتى المصنف بهذه المسألة هنا، فلذلك لم يعتق على الموكل لأنه لم يدخل في ملكه، ولزم الوكيل الشراء.
قال علماؤنا: إلا أن يبين أنه يشتريها لفلان، فإن بين فلم يجز الآمر نقض البيع، وإذا لم يجز الموكل الشراء، فاختلف هل يعتق عليه لأنه كالملتزم لعتقه وهو قول البرقي وابن العطار، أو لا لأنه لا قرابة بينه وبين الوكيل وهو قول ابن عمر؟ قال: وقاله أبو عبد الله بن معاوية، وهو قول مالك في رواية ابن أبي أويس. واختلف الشيوخ في أي المذهبين هو الجاري على قول ابن القاسم في المقارض يشتري من يعتق على رب المال، هل يقال: هو كالمقارض لأنه إنما قال ابن القاسم بالعتق على المقارض؛ لأنه عنده كالملتزم لعتقه على رب المال وإليه ذهب ابن يونس، أم لا لأن المقارض له شركة وهو قول جماعة من القرويين. قال بعض الشيوخ، المراد بالجهل: هو ألا يعلم أنه أبوه جملة، وأما لو علم به
وجهل الحكم فيه هو كما لو علم لا فرق بينهما، أما إن ادعى الموكل على الوكيل العلم؛ فالقول قول الوكيل، لأنه ادعى عليه عمارة ذمته، فيحلف الوكيل ويلزم الموكل الشراء والعتق، فإن نكل حلف الموكل وأغرمه الثمن وعتق على المأمور اتفاقاً لإقراره بحرية هذا العبد على الموكل بسبب أنه اشتراه له غير عالم.
اللخمي: وإن قال الوكيل: كنت أمرتني بشراء هذا العبد. وقال الآمر: بل بعبد آخر. وقال: أمرتني بتمر. وقال: لا بل بقمح. فقد اختلف في ذلك هل يكون القول قول الآمر، أو المأمور، والمشترى حق باتفاق.
وَعَلَى عِتْقِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرَاً بِيعَ أَوْ بَعْضُهُ وعَتَقَ مَا فَضَلَ، والْوَلاءُ لِلْمُوَكِّلِ
يعني: وعلى القول بأنه يعتق على المأمور، فإنما ذلك إذا كان موسراً، وإن كان معسراً بالكلية بيع جميعه، وإن كان معسراً ببعضه عتق ما فضل. وهذا فسره البرقي، والولاء للموكل لأنه عبده كأنه أعتقه.
الْعَاقِدَانِ ومَنْ جَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ، جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ ويُوَكَّلَ إِلا لِمَانِعٍ
العاقدان: هو الوكيل والموكل، وفي كلامه حذف في موضعين؛ في صلة المبتدأ إن عددت (من) موصولة، أو في غيرها إن عددتها شرطية. والمحذوف الثاني في الخبر، أو فعل الجزاء. التقدير: من جاز له أن يتصرف لنفسه في شيء جاز له أن يوكل أو يتوكل فيه إلا لمانع. وعلى هذا فيجوز للمحجور عليها أن توكل في ملازم عصمتها.
وقوله: (إِلا لِمَانِعٍ) أي: من الموانع المتقدمة في الحجر، وذلك لأن التوكل والتوكيل راجعان إلى الإجارة أو العارية. فإن قيل: يرد عليه ما في المدونة: من وكل عبداً مأذوناً له في التجارة أو غير مأذون يسلم له في طعام ففعل؛ فذلك جائز، لأنه لا يتصرف لنفسه. فالجواب: أن ذلك محمول على المأذون له بالاتفاق.
وَفِيهَا: لا يُوَكَّلُ الذِّمِّيُّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ يُبْضِعُ مَعَهُ. وَكَرِهَهُ ولَوْ كَانَ عَبْدَاً ....
لما قال: إلا لمانع. وكانت الموانع المتقدمة في باب الحجر معلومة أخذ يشير إلى زيادة على ذلك، والمانع هنا اختلاف الدين. وما نسبه للمدونة تبع فيه ابن شاس، قال، وقال المازري: وما ذاك إلا أنه قد يغلظ على المسلمين.
ابن عبد السلام: وليس فيما بين أيدينا من المختصرات هذا اللفظ على المدونة، تبع فيه ابن شاس في كراهته توكيل الذمي على المسلم، وإنما فيها أن يكون للمسلم على تقاضي ديونه بعضهم على نحو ما ذكره المصنف. انتهى.
وقوله: (وَكَرِهَهُ) المراد بالكراهة التحريم. ولفظ المدونة في السلم الثاني: ولا يجوز أن توكل ذمياً أن يسلم لك في طعام، ولا أن يشتري لك ولا يبيع، ولا تستأجره أن يتقاضى لك، ولا تبضع معه، وكذلك عبده النصراني. خليل: ومعنى المدونة كما نقله المصنف. والمصنف لم يلتزم نقل لفظ المدونة فاعلمه.
فائدة: قال في البيان في باب الرضاع: إجارة المسلم نفسه من اليهودي والنصراني على أربعة أقسام؛ جائزة، ومكروهة، ومحظورة، وحرام.
فالجائزة: أن يعمل له عملاً في بيت نفسه، أو في حانوته؛ كالصانع يعمل للناس فلا بأس له، كما [560/أ] يفعل للناس من غير أن يستبد بعمله.
والمكروه: أن يستبد بجميع عمله من غير أن يكون تحت يده، مثل: أن يكون مقارضاً أو مساقياً.
والمحظور: أن يؤاجر نفسه في عمل يكون فيه تحت يده؛ كأجير الخدمة في بيته وما أشبه ذلك، فهذا يفسخ إن عثر عليها، وإن فاتت مضت وللأجير الأجرة.
والحرام: أن يؤاجر منه نفسه بما لا يحل من عمل الخمر، أو رعي الخنازير؛ فهذا يفسخ إن عثر عليها قبل العمل، فإن فات العمل تصدق بالأجرة على المساكين. انتهى.
ولعله عبر بالمحظور في الثالث وفي الرابع بالحرام لتغاير الأحكام، وإلا فالحرام والمحظور مترادفان، وقيل في الوجه الأول بالكراهة وهو الذي اختاره فضل.
وَلا يُوَكِّلُ عَدُوٌّ عَلَى عَدُوِّهِ
لأنه يجيز بذلك السبيل إلى نصرته.
وَيَمْلِكُ الْوَكِيلُ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ وَقَبْضَهُ، وَقَبْضَ الْمَبِيعِ، وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ
يعني: أن التوكيل على البيع يستلزم أن يكون للوكيل المطالبة وقبض الثمن، ولذلك لو سلم إليه المبيع ولم يقبض ضمنه. وهذا مقيد بما إذا لم تكن العادة الترك، فقد نص أبو عمران على أنه لو كانت العادة في الرباع أن وكيل البيع لا يقبض، فإن المشتري لا يبرأ بالدفع إليه.
وقوله: (وَقَبْضَ الْمَبِيعِ) أي: والتوكيل أيضاً على الشراء يستلزم قبض ما اشتراه ويستلزم الرد بالعيب، ولهذا قال ابن الهندي: كل من نص له في الوكالة على شيء فلا يتعداه إلا هنا، أما لو وكله على البيع وصرح بأنه لا يقبض الثمن مثلاً فلا يكون له القبض.
وقوله: (وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ) يريد: ولم يعلم الوكيل بالعيب قبل شرائه ودخل على ذلك لقوله:
فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ كَانَ لَهُ وَلا رَدَّ إِلا فِي الْيَسِيرِ، وشِرَاؤُهُ نَظَرٌ
يعني: وأما لو علم الوكيل بالعيب قبل الشراء فالمشتري له ولا رد للوكيل إلا بشرطين أو شرط مركب من جزأين؛ أن يكون العيب يسيراً، وأن يكون شراؤه نظراً
للآمر؛ أي: مصلحة له. قال في المدونة: وإن اشترى الوكيل معيباً وكان عيباً خفيفاً يغتفر مثله، وكان شراؤه فرصة؛ لزم الموكل، وإن كان عيباً مفسداً لم يلزمه إلا أن يشاء، وهي لازمة للمأمور إلا أن يشاء، يبين لك أن م راد المصنف بقوله:(كَانَ لَهُ) إن شاء.
فَلَوْ عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ فَلا رَدَّ لِلْوَكِيلِ. وقَالَ أَشْهَبُ: لَهُ ذَلِكَ
يعني: أن ما قدمه من أن للوكيل الرد بالعيب إنما هو إذا لم يكن المأمور عين المشتري، وأما إن قال له: اشتر لي عبد فلان، فلا رد للوكيل؛ لاحتمال أن يكون الآمر قد علم بعيبه، أو يغتفر عند اطلاعه لغرضه فيه. وقال أشهب: له الرد كالأول. هذا ظاهر كلامه وفيه نظر؛ لأنه عكس المنقول.
ابن عبد السلام: وذلك أنه اتفق على أنه لا رد للوكيل إن كانت السلعة معينة، واختلف إذا لم تكن معينة، فقال ابن القاسم في المدونة: له أن يرد؛ لأنه ضامن لمخالفة الصفة. وقال أشهب: ليس له أن يرد، فإن رد؛ فللموكل ألا يجيز الرد ويضمنه قيمتها إن فاتت.
أبو عمران: وإذا كان يلزمه الضمان بإمساكه السلعة على قول ابن القاسم ويرد طالباً على قول أشهب بالحيلة في التخلص منه أن يرفع للحاكم فيحكم له بأحد المذهبين فيسقط عنه الضمان. وقيد اللخمي قول ابن القاسم بما إذا كان العيب ظاهراً، فقال ابن القاسم: للوكيل أن يرد لأنه ضامن إذا اشترى معيباً، ثم قال: وقول ابن القاسم بيِّنٌ إن كان العيب ظاهراً لأنه فرط.
اللخمي: وإن كان مما يخفى فلا شيء عليه، وإذا لم يكن عليه ضمان لم يكن له أن يرد.
تنبيه: ما ذكره إنما هو في الوكيل المخصوص، وأما المفوض فيجوز أن يرد ولو عين الآمر له المشتري، وكذلك له أن يقبل ونحو ذلك من غير محاباة، نص عليه في المدونة.
وَيُطَالَبُ بالثَّمَنِ والْمَثْمُونِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْبَرَاءَةِ
يعني: ويطالب الوكيل بثمن ما اشترى وبما باع، ولا ينجيه من هذه المطالبة على البائع في الأولى، أو على المشتري في الثانية أنه وكيل، ولا التصريح بالوكالة حتى يصرح أنه لا شيء عليه من دفع الثمن ولا من دفع المبيع، وإنما يدفع ذلك الموكل؛ لأن الأصل أن قابض العوض يلزمه دفع عوضه، فقابض المبيع يلزمه دفع الثمن، وقابض الثمن يلزمه دفع المبيع، وقد ذكر في المدونة في كتبا العيوب والمواز مثل ما ذكره المصنف سواء وهو أصل المذهب، لكن في السلم الثاني لمالك إن وكل رجلاً أن يأخذ له سلماً من آخر فإنه يلزمه. قال: فإن شرط عليه المبتاع أنه إن لم يرض الرجل فالسلم عليك جاز، وكذلك إن ابتعت لرجل سلعة بأمره من رجل يعرفه البائع على أن الرجل إن أقر له بالثمن وإلا فهو عليك نقداً أو إلى أجل؛ فلا بأس به، وظاهره أن المطالبة بالعوض في المسألتين إنما هي للموكل لا الوكيل إلا بشرط. وقد يقال: هاتان المسألتان راجعتان إلى اشتراط تقديم الموكل، والله أعلم.
وقال أشهب، وسحنون في مسألة السلم: إنها لا تجوز، ولقولهما وجه، وتركنا ما يتعلق بمسألة السلم لأنها دخيلة في هذا الباب.
فرع:
قال في الموازية: إن قال فلان بعثني إليك لتبيعه فهو كالشرط، ولا يبتع إلا فلاناً وإن أنكر فلان غرم الرسول رأس المال.
أشهب: وإن قال بعثني إليك لأشتري منك أو لتبيعني؛ فالثمن على الرسول ولو أقر بذلك الرسول فلا يبرأ وهو عليهما.
فرع: ولو أسلم رجل في شيء وقال له: هو لفلان. فأتى فلان في غيبة المسلم فطلبه، فهل يجبر على الدفع وهو قول بعض القرويين، أو لا لأنه يقول: إن دفعت لك قد يأتي المسلم وينكر فأغرم ثانية وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن سحنون.
وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْوَكَالَةِ أَوْ يَعْلَمْ
وعهدة العيب والاستحقاق على الوكيل، إلا أن يصرح بأنه وكيل أو يعلم المشتري [560/ب] بذلك، فحينئذ يطلب الموكل وهو إذاً مقيد بما إذا رد السلعة عليه ويكون الثمن على الموكل وإن لم يعلمه بأنه لفلان حلف الوكيل، وإلا ردت السلعة إليه.
وفي الموازية: لا يمين على الوكيل - أي: المفوض - وأما المخصوص فعليه اليمين ويبتع كما يبتع البائع إذا تولى المبايعة، وجعل الأمر في العهدة أخف من المطالبة بالثمن؛ لأن التصريح بالوكالة والعلم بها لا يكون مقتضياً لعدم المطالبة بالثمن؛ لأن المطالبة بالثمن أو المثمون لا بد منها، والأصل عدم الاستحقاق والعيب. ولأصبغ أن العهدة كالثمن؛ لأنه قال في خامس الثمانية: ما كان من رد بعيب فذلك على المتولي البيع، إلا أن يشترط عند البيع اشتراطاً بيناً أنه لا عهدة عليه ولا تباعة ولكن على ربها؛ فحينئذ لا يكون عليه من تباعة ذلك شيء. وقد تبين لك أن قوله:(فَيُطَالِبُهُ) مرفوع على قوله: (مَا لَمْ يُصَرِّحْ) أي: إذا صرح أو علم طولب حينئذٍ، وقد ذكرنا هذه المسألة في البيوع.
وَلَوْ تَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ رَجَعَ عَلَى مُوَكِّلِهِ
يعني: ولو تلف الثمن في يد الوكيل قبل أن يصل إلى يد البائع فإن الوكيل يرجع على موكله بالثمن ولو تلف مراراً، وهذا مقيد بما إذا لم يكن الموكل دفع الثمن أولاً، وأما إن دفع قبل الشراء فضاع؛ فإنه لا يلزم الآمر غرم الثمن ثانياً إن أبى، هكذا ذكر في المدونة الحكم في المسألتين وفرق بينهما بأنه في الثانية مال بعينه وقد ذهب، بخلاف الأولى فإنه إنما اشترى على ذمتك حتى يصل إلى ربه.
ابن المواز: وعليه الخلف، ولو تلفت السلعة التي اشتراها فلبعض المدنيين: لا يلزم الموكل غرم الثمن في الوجه الأول فأحرى الثاني، ذكره في المدونة في باب القراض.
وللمغيرة: يلزمه غرم الثمن في الثاني فأحرى الأول.
ابن يونس: وأبينها التفصيل. قال غيره: وهذا الخلاف إنما هو عند الإطلاق، وأما لو قال: اشتر على الذمة أو هذه على التعيين لنفع الشرط اتفاقاً، ويحتمل أن يريد المصنف أن الوكيل على البيع إذا باع وقبض الثمن ثم تلف منه من غير تعد ثم اطلع المشتري على عيب في المبيع أو استحق منه فإنه يرجع بما وجب له على الموكل، ويكون فاعل (رَجَعَ) ضميراً عائداً على المشتري المفهوم من السياق، أو يقرأ (رَجَعَ) مبنياً للمفعول وفي هذا بعد؛ لأنه يستغني عنه بما تقدم، وعلى هذا فالأول أظهر؛ لكنه قد أخل بأحد وجهي المسألة كما تبين لك.
ابن عبد السلام: والأقرب منهما مذهب المغيرة؛ لأن الثمن في ذمة الموكل أمينه، وإنما قلنا أنه في ذمة الموكل لأن الدراهم والدنانير إذا لم تتعين في حق المتبايعين على المعروف فأحرى ألا تتعين في حق الوكيل. وقال أبو الحسن، انظر قوله: لأن هذا مال بعينه فقد ذهب. فإنه يناقض مذهبه في غير موضع؛ في أن من باع سلعة بثمن أو استحق الثمن وكان عيناً أن البيع لا ينقض ويغرم الثمن، إلا أن يقال: ليست العلة مجرد التعيين بل العلة مركبة من وصفين؛ التعيين، وعدم المباشرة للمعاملة.
وَلَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ ولَمْ يَشْهَدْ فَجَحَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ ضَمِنَ
يعني: ولو أسلم الوكيل على البيع المبيع ولم يشهد على القبض فجحد المشتري الثمن؛ يريد: وأصل البيع، وإلا فلو أقر بالبيع وقبض السلعة وادعى دفع الثمن لكان مدعياً يلزمه الغريم إذا حلف الوكيل، ولو أخر المصنف لفظ (الثَّمَنَ) عن (ضَمِنَ) لكان حسناً، وكان يأتي على مذهب ابن شبلون في المدونة؛ لأن فيها: ولو وكله على بيع سلعة فباعها ولم يشهد على المشتري فهو ضامن؛ لأنه أتلف الثمن إذا لم يشهد. قال: وقد قال مالك فيمن أبضع معه بضاعة ليوصلها لرجل، فذكر أنه وصلها وأنكر المبعوث إليه أن
تكون قد وصلت إليه أن الوكيل ضامن إذا لم يشهد، فأبقاها ابن شبلون على ظاهرها أنه يضمن الثمن، وهو اختيار عبد الحق وابن يونس وغيرهما، ولأن في الموازية ما يدل عليه. قال ابن أبي زيد: يضمن قيمة السلعة. وقال بعض الأصحاب: يضمن الأقل من قيمة السلعة والثمن. وذهب ابن الماجشون إلى عدم الضمان في مسألة البضاعة التي استشهد لها في المدونة. وأشار اللخمي إلى تخريجه في مسألة المصنف من ضمان الوكيل لعدم الإشهاد؛ إنما هو إذا كانت العادة الإشهاد، وأما إذا كانت العادة تركه في بعض المبيعات ليسارتها، قال الشيخ أبو محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن: لا ضمان عليه. وهو اختيار اللخمي. وقال ابن التبان، والإبياني: عليه الضمان، والأول أظهر.
وَلَوْ أَقْبَضَ الدَّيْنَ فَكَذَكِكَ، وقِيلَ: إِلا أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ التَّرْكَ
أي: لو أقبض الوكيل الدين الذي على موكله لصاحبه فكذلك يضمن إذا جحد صاحب الدين القبض لتفريطه. وقوله: (وقِيلَ
…
إلخ). ابن عبد السلام: وهو قول ثالث ذكره غير واحد، وأشار بعضهم إلى أنه لا يختلف في سقوط الضمان إن كانت العادة ترك الإشهاد، وإنما يختلف إذا كانت العادة بالأمرين معاً الإشهاد وعدمه، أو لم تكن عادة بالمجلة حيث لم تضبط العادة بشيء.
ابن عبد السلام: وقيل في الوكيل على مطالبة غريمه يدفع بغير بينة أنه غير ضامن. وعد هذا بعضهم تقييداً للمشهور، ولعل هذا إن صح يكون حيث جرت العادة بترك الإشهاد. انتهى.
فرعان؛ أولهما: استثنى من الضمان ما إذا كان الدفع بحضرة رب المال، ففي قراض المدونة: وإن كان وكل على شراء سلعة معينة أو غير معينة فدفع الثمن وجحده البائع هو ضامن ولرب المالين تغريمه، وإن علم بقبض البائع الثمن بإقراره عنده ثم جحده، أو
بغير ذلك ويطيب له ما يقضي له به ذلك إلا أن يرجع الوكيل الثمن بحضرة رب المال فلا يضمن. انتهى.
ثانيهما: إذا شرط المأمور أنه لا يشهد [561/أ] عند دفع البضاعة ثم جحد القابض؛ جاز الشرط ونفع المأمور وحلف إذا كان غير أمين.
مطرف: ولو شرط المأمور ألا يمين عليه فشرطه باطل للتهمة.
وَلَوْ قَالَ: قَبَضْتُ الثَّمَنَ وتَلِفَ بَرِئَ ولَمْ يَبْرَأ الْغَرِيمُ إِلا بِبَيِّنَةٍ إِلا فِي الْوَكِيلِ الْمُفَوَّضِ ....
أي: لو قال الوكيل: قبضت ثمن ما بعته وتلف برئ؛ لأنه أمين، لكن لا يبرأ المشتري إلا ببينة تشهد بمعاينة الدفع، إلا في الوكيل المفوض فإن المبتاع يبرأ بإقراره، وفي معناه الوصي.
مطرف: وإذا ودى الغريم الثمن فله أن يرجع على الوكيل لأنه فرط في دفعه حتى ضاع. وقال ابن الماجشون: لا يرجع بشيء حتى يعلم من الوكيل تفريط، وهو اختيار ابن حبيب. وعن ابن القاسم في المأمور يدفع ثوباً إلى صباغ، فقال: دفعته إليه وأنكر الصباغ؛ فإن لم يقم الرسول بينة ضمن، ولو قال الصباغ: قبضته وضاع مني وهو عديم ولا بينة بالدفع إليه؛ فالصباغ ضامن ويبرأ المأمور.
وَلَوْ أنْكرَ الْوَكِيلُ قَبْضَ الثَّمَنِ فَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ، فَقَالَ: تَلِفَ أَوْ رَدَتْتُهُ لَمْ يُسْمَعْ ولا بَيِّنَتُهُ لأَنَّهُ كَذَّبَهَا ....
تصوره ظاهر. وقيل في هذا الأصل: أن البينة تقبل، ونظريتها ما أشار إليه بقوله:
وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ
وهو ظاهر. وكذلك لو أنكر المودع الوديعة فقامت عليه البينة، فقال: رددتها وأقام البينة على الرد أو التلف. وكذلك أيضاً الزوج يملك زوجته فتطلق نفسها ثلاثاً فينكر
التمليك فتقول بذلك البينة، فيقول: إنما قصدت واحدة، وكذلك إذا طولب بثمن سلعة اشتراها وأنكر الشراء فأقام المدعي البينة عليه وعلى قبض السلعة وأقام المدعى عليه بينته فدفع ثمنها، وكذلك إذا ادعت عليه زوجته أنه قذفها فأنكر فأثبتت أنه قذفها فأراد أن يلاعن، فقال ابن القاسم: له ذلك. وقال غيره: ليس له ذلك ويجلد.
وَقَيِّمُ الْيَتِيمِ لا يُصَدَّقُ فِي الدَّفْعِ
لأنه لو كان مصدقاً لم يحتج إلى إشهاد لكن يحتاج إليه لقوله تعالى: (فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ)[النساء: 6]. وجعل أهل المذهب هذه الآية أصلاً في كل من ادعى الدفع إلى غير اليد الذي ائتمنته أنه لا يصدق إلا ببينة، وعلى قول ابن الماجشون أنه بعث بضاعة مع رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها، وإن أنكر القابض كانت ديناً أو صلة يتخرج منه قبول دعوى الوصي الرد على الأيتام. ونقل بعضهم قول ابن الماجشون صريحاً في الأيتام وجعل منشأ الخلاف قوله تعالى:(فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) هل ذلك لئلا تغرموا ولا تحلفوا. وعلى المشهور من الغرم مع عدم الإشهاد فإنما ذلك إذا أقام اليتيم عليه بالقرب.
مالك في الموازية: وإن طال الزمان فيما بين رشدهم وقيامهم، مثل ثلاثين أو عشرين سنة لا يسألونه عن شيء؛ فإنما عليه اليمين لقد دفع إليهم أموالهم، ونحوه في العتبية. وقال ابن زرب: إذا قاموا بعد العشر أو الثماني لم يكن له قبله إلا اليمين.
وَالْمُصَدَّقُ فِي الرَّدِّ لَيْسَ لَهُ التَّاخِيرُ لِعُذْرِ الإِشْهَادِ
أي: والذي يصدق في دعوى الرد من وكيل أو مودع ليس له أن يؤخر الدفع ويعتذر بالإشهاد؛ إذ لا فائدة له لأنه مصدق في دعواه الرد من غير إشهاد. وذكر المصنف المسألة
في صورة القاعدة الكلية، وإن كان إنما تكلم فيؤخذ منه الحكم في الوديعة، وما ذكره من تصديق الوكيل في دعواه الرد هو مذهب المدونة.
وحكى ابن رشد في ذلك أربعة أقوال؛ الأول: هنا أنه يصدق مع يمينه، وهو قول مالك في العتبية ومذهب المدونة في آخر الوكالات.
والثاني: إن كان بقرب ذلك بالأيام اليسيرة فالقول قول الموكل أنه ما قبض منه شيئاً وعلى الوكيل إقامة البينة، وإن تباعد الأمر كالشهر ونحوه فالقول قول الوكيل مع يمينه، وإن طال الأمر جداً لم يكن على الوكيل يمين، رواه مطرف عن مالك.
والثالث لابن الماجشون، وابن عبد الحكم: إن كان بحضرة ذلك وقربه بالأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه، وإن طال الأمر جداً صدق الوكيل بلا يمين.
والرابع: التفرقة لأصبغ بين الوكيل على الشيء بعينه فيصدق إلا أن يقيم البينة وإن طال الأمر، وبين الوكيل المفوض إليه فيصدق في القرب مع يمينه؛ ففي البعد بغير اليمين، ابن الماجشون: ولو مات وكيل المرأة - زوجاً أو غيره - بحدثان القبض كان ذلك في مال الوكيل - زوجاً أو غيره - إذا عرف القبض وجهل الدفع، فإن كان مؤتمناً بغير حدثان ذلك، وما يكون في مثله الدفع فلا شيء في أموالهما، وإن لم يقر بالدفع، قال في البيان: ولا خلاف عندي في هذا الوجه. انتهى. ولو قيل إن للوكيل والمودع تأخير الدفع حتى يشهد لكان حسناً؛ لأنهما يقولان: إذا لم يشهدا توجه عليهما اليمين فكان لنا التأخير لتسقط عنا اليمين، لا سيما الوكيل لهذا الخلاف الذي فيه، وقاله بعضهم.
وَالْوَكِيلُ فِي التَّعْيِينِ لا يُوَكَّلُ إِلا فِيمَا لا يَلِيقُ بِهِ أَوْ لا يَسْتَقِلُّ لِكَثْرَتِهَا
احترز بالتعيين من المفوض فإن له أن يوكل على المعروف، وحكى في البيان قولاً بأنه لا يوكل، قال: والأظهر أن له ذلك؛ لأن الموكل أحله محل نفسه فكان كالوصي، ولم يكن
للوكيل توكيل غيره؛ لأن الموكل لم يرض إلا بأمانته، ولأنه تصرف في الوكالة على خلاف ما أذن له.
واستثنى المصنف موضعين؛ الأول: أن يكون الوكيل لا يليق به تولي الموكل فيه؛ كمن وكل رجلاً شريفاً معروفاً بالجلالة على بيع ثوب أو دابة، لأن الوكيل لما كان لا يتصرف في هذا لنفسه كان ذلك قرينة في إجازة توكيله غيره، فكان ذلك كالتصريح بإجازة التوكيل.
والموضع الثاني: أن يوكله على أمور كثيرة لا يمكن الوكيل أن يستقل بها؛ لأنه بالعادة قد أذن له في التوكيل، إلا أن الوكيل في الموضع الثاني يسوغ له أن يستعين بوكيل آخر ولا يجعل جميع ما إليه للوكيل، بخلاف الأول فإنه يوكل على جميع ما جعل له، ولا شك في الأول إذا علم الموكل بحال الوكيل، وأما إن لم يعلم؛ فقطع بعضهم بأنه لا التفات لعلمه.
قال التونسي: وانظر إن لم يعلم بذلك رد المال، فإن [561/ب] كان الوكيل مشهوراً فإنه لا يلي مثل ذلك فالأشبه ألا يضمن، وإن لم يكن مشهوراً بذلك فرضاه بالوكالة يدل على أنه هو المتولي حتى يعلم رب المال أنه لا يتولى.
وفي المقدمات: ليس له أن يوكل على ما وكل عليه غيره، ولا أن يوصي إلى أحد بذلك، إلا أن يجعل ذلك إليه الموصى، فإن فعل فتلف المال ضمن على مذهب ابن القاسم، وإن علم أنه لا يلي مثل ذلك لنفسه إذا لم يعلم بذلك الموكل الأول، وهذا نص رواية يحيى عن ابن القاسم، وفي ذلك نظر. وقال أشهب: إذا كان مثله في الكفالة فلا ضمان عليه. انتهى.
فرع: فإن وكل حيث لم يكن له ذلك؛ فالمعروف من المذهب أنه متعد. قال في المدونة: ومن وكل رجلاً ليسلم له في طعام فوكل الموكل غيره لم يجز. ولأصبغ وغيره: إذا فعل وكيله مثل ما فعل الوكيل الأعلى في النظر والصحة لزم، وإن كان على خلاف ذلك
لم يلزمه ولم يجز الرضى به. واختلف في قوله في الكتاب: لم يجز. فحمله بعضهم على أن للآمر فسخه وإجازته. وحمله ابن يونس على أن المعنى لم يجز رضى الآمر بما يعمل وكيل وكيله؛ إذ بتعديه صار الثمن عليه ديناً للآمر فلا يفسخه في سلم الوكيل الثاني، إلا أن يكون قد حل قبضه فيجوز لسلامته من الدين.
وروى ابن القاسم عن مالك في الواضحة: أن للموكل الخيار كالتأويل الأول. ابن حبيب: وأنكر ذلك أصبغ ومن لقيت من أصحاب مالك.
وَلا يُوَكِّلُ إِلا أَمِيناً
وحيث قلنا أن للوكيل التوكيل فلا يوكل إلا أميناً؛ لأن العادة إنما تدل على ذلك.
وَلا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِمَوْتِ الأَوَّلِ
لأنه صار كالوكيل عن الأصل، فإنا لا نجيز له الوكالة إلا إذا أمكن له في ذلك؛ إما بإذن صريح، أو بحسب العادة، وعلى هذا التقدير، فقال المازري: الأظهر أن الوكيل الثاني لا ينعزل بموت الوكيل الأول، بخلاف انعزال الأول بموت موكله.
وَيَنْعَزِلانِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ. وقِيلَ: لا يَنْعَزِلُ الْمُفَوَّضُ إِلا بِعَزْلِ الْوَرَثَةِ
أي: ينعزل الوكيل الأعلى والأسفل بموت الموكل على المشهور؛ لأنهما إنما كانا يتصرفان له وقد انتقل المال بعد الموت للوارث، وسواء كان كل واحد منهما مفوضاً إليه أم لا، والقول بأنه لا ينعزل المفوض إلا بعزل الورثة لمطرف وابن الماجشون. وجهه القياس على القاضي والأمير، فإنهما لا ينعزلان بموت الخليفة، والفرق للأول أن الوكيل إنما قدم لمصلحة الموكل، وقد حكى ابن الماجشون إجماع العلماء على مثل المشهور، ووقع لأصبغ أن الوكالة تنفسخ بموت الموكل، وإن كان رب المال هو البائع فلا يجوز له أن
يتقاضى الثمن إلا بتوكيل الورثة، بخلاف إذا كان الوكيل هو المتولي فهو على ولايته. ومراد المصنف بقوله:(يَنْعَزِلانِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ) إذا علما، ويدل على ذلك قوله:
وَفِي انْعِزَالِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ فِي الْمَوْتِ، وَفِي الْغَيْبَةِ قَوْلانِ
لأن حكايته الخلاف هنا فيما إذا لم يبلغه الخبر يدل على أن الأول محمول على العلم. ومذهب المدونة: أنه لا ينعزل قبل علمه في الموت، ففيها: إن اشترى بعد موت الآمر ولم يعلم بموته؛ فذلك لازم للورثة، ويؤخذ الثمن من التركة إن لم يكن الوكيل قبضه، وكذلك ما باع. وعلى حمل المدونة على هذا من الفرق بين العلم وعدمه عامة الشيوخ. والقول بأنه ينعزل بمجرد الموت لابن القاسم وأصبغ، وروي أيضاً عن مالك، وزعم اللخمي أنه ظاهر المذهب، وتأول ما في المدونة على أن البائع والمشتري غابا، ولو كانا حاضرين وبيَّنَ لهما الرجل أنه وكيل؛ كان للورثة رد ذلك.
وأما العزل وإليه أشار المصنف بقوله: (وَفِي الْغَيْبَةِ) فتأول أبو عمران أن المذهب في العزل كالموت يصح تصرفه قبل العلم، وهو قول ابن القاسم وأشهب، ورأى أن ما في المدونة في آخر كتاب الشركة: أن الوكيل له كان مفوضاً إليه إذا خلعه غرماؤه، فذلك أنه لا يبرأ غريم بما دفع إليه كان من ثمن أم لا خلافاً لهذا. وكذلك اعترض سحنون مسألة الشركة، وتأول بعضهم أنه لا فرق بين العزل والموت، وإلى التسوية ذهب التونسي وابن محرز وتأولوا مسألة الشركة أن العزل كان مشهوراً فلم يصدقه على أنه لم يعلم، وعلى هذا فيتحصل في مسألة الموت والعزل قبل العلم ثلاثة اقوال؛ ثالثها: يمضي تصرفه الموت دون العزل. ولعله في هذا القول الثالث لاحظ قول مطرف أن الوكيل لا ينعزل في الموت، وإلا ففي الفرق بينهما من حيث المعنى عسر، وذكر في المقدمات عن بعضهم أنه يقول: لا فرق بين المسألتين، ويجعل في كل منهما ثلاثة أقوال؛ أنه لا يبرأ من دفع إلى
الوكيل فيهما. وإن لم يعلم الدافع بذلك؛ علم الوكيل أو لم يعلم أنه يبرأ فيهما إذا دفع ولم يعلم بموت موكله أو عزله، ولا فرق بين أن يعلم الوكيل ذلك أم لا. والثالث: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم هو والوكيل، ولا يبرأ إن علم الدافع بالموت والعزل، ويتحصل في المسألة خمسة أقوال. والمصنف لم يتعرض لشيء من ذلك، فلذلك تركناها نحن أيضاً، والخلاف مبني في هذه المسألة على الخلاف في الفسخ من حين الوصول أو البلوغ، واختار جماعة القول بأنه لا ينعزل فيهما استصحاباً للحال، وإلا أدى إلى الشك في إنكاحه ومعاملته، وقياساً على أهل قباء، وأجيب عن القياس بأن المكلف إذا أمر بالتوجه إلى بيت المقدس حرم الإحرام لغيره وهو مضطر إلى الفعل فعذر، بخلاف تصرف الوكيل فإنه من المباحات، والله اعلم.
قال بعض الشافعية: وتنفسخ الوكالة بطروء الجنون على الوكيل والموكل؛ لأن الوكالة من [562/أ] العقود الجائزة فوجب أن تنفسخ بالجنون لطروئه على عقد غير لازم.
المازري: وفيه تفصيل عندي، فإن طرأ على الوكيل ثم عاد عليه عقله ثم أراد إبقاء على التصرف فإنه يمكن من ذلك إذا كان الموكل حاضراً أو لم يعزله، وإن كان غائباً ولم يعلم بجنونه فإن ذلك لا يمنعه من التصرف؛ لأن الموكل أذن له في التصرف مع جواز القواطع، وإن كان طروء الجنون على الموكل؛ فالأظهر أنه يمكن من التصرف كوديعة أودعها، لكن لو طال زمان جنونه طولاً يفتقر معه إلى نظر السلطان في ماله، فإنه مما ينظر فيه. وذكر خلافاً بين الحنفية في ردة الوكيل هل توجب عزله؟ قال: والأظهر عندي أنه لا ينعزل بذلك؛ إذ الحجر عليه إنما يكون لحق المسلمين في المال، إلا أن يعلم بمقتضى العادة أن الموكل لا يرضى بتصرفه في ماله إذا ارتد فيكون ذلك مما يوجب منعه من التصرف.
وَمَهْمَا شَرَعَ فِي الْخُصُومَةِ فَلا يَنْعَزِلُ ولَوْ بِحُضُورِهِمَا
لما ذكر العزل وأفهم كلامه أن للموكل العزل بشرط ألا يتعلق بالوكالة حق الغير، وظاهره أن مجرد الشروع مجب لعدم العزل، وقاله اللخمي وابن شاس، وزاد: إلا أن يخاف من غريمه استطالة بسبب ذلك.
وفي المقدمات: ليس له أن يعزله إذا قاعد خصمه المرتين والثلاث إلا من عذر. هذا هو المشهور في المذهب، ووقع لأصبغ في الواضحة ما يدل على أن له أن يعزله ما لم يشرف على تمام الخصام، وفي المحل الذي لا يكون للموكل عزله عن الخصام لا يكون له هو أن ينحل عن الوكالة إذا قبل الوكالة. انتهى. وإن أراد السفر بعد الثلاث مجالس حلف ما قصد السفر ليوكل، فإن نكل لم يكن له أن يوكل، نعم له بأن يعزله، وإن كانت وكالته بأجرة، أو قاعد الخسم ثلاث مرات إذا تبين منه تفريط، أو يقوم عليه دليل تهمة بينه وبين من وكل عليه.
فرع: واختلف إذا وكله على بيع سلعة أو شرائها أو سمى له شخصاً معيناً، هل له أن يعزله كما لو أطلق، أو لا؟ على قولين.
المازري - وعدها الأشياخ من مشكلات المسائل - قال: والأصح عندي في ذلك إن عين المشتري وسمى له الثمن وقال: شاورني، فهذا موضع الإشكال والاضطراب، هل له غرض في عين المشتري، أم لا؟ واختلف إذا وكله أن يملك زوجته أمرها، هل للموكل أن يعزله؟ فرأى اللخمي وعبد الحميد أنه ليس له ذلك، قالوا: بخلاف أن يوكله على أن يطلق زوجته فإن فيه قولين. ورأى غيرهم أنه يختلف في عزله كالطلاق. واستشكل المازري الطريقة الأولى بأنه لا منفعة للوكيل في هذه الوكالة، فكان الأولى أن يكون له عزله، إلا أن يقال: لما جعل له تمليك زوجته صار كالملتزم لذلك التزاماً لا يصح له الرجوع.
وَلا يَعْزِلُ نَفْسَهُ عَلَى الأَصَحِّ
هو عائد على وكيل الخصام، وسيأتي الكلام على غيره من الوكلاء؛ يعني: إذا امتنع الموكل من عزل وكيل الخصام فكذلك وكيل الخصام لا يعزل نفسه على الأصح، وظاهره بمجرد الشروع، وكلام صاحب المقدمات المتقدم يدل على أنه إنما يمتنع عزله إذا قاعد الخصم ثلاث مرات، ومقابل الأصح من كلام المصنف يحتمل أن يريد به المشهور، ويحتمل أن يريد به قول أصبغ.
وَلأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ الاسْتِبْدَادُ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ خِلافَهُ
وهذا بخلاف الوصيين، فإنه لا يكون لأحدهما الاستبداد؛ أي: الاستقلال إلا بإذن، والفرق أن الموصي يتعذر منه النظر في الرد، بخلاف الموكل إن ظهر منه على أمر عزله، ونص صاحب الجواهر على ما ذكره المصنف، وقرره ابن عبد السلام وغيره، وفي المدونة في باب التخيير: وإن ملك أمر امرأته رجلين لم يجز طلاق أحدهما دون الآخر كالوكيلين.
وهذا أيضاً مقتضى ما في النوادر؛ ففيها، قال يحيى عن ابن القاسم: إذا وكل رجلين على تقاضي دين فمات أحدهما، فليس للحي تقاضٍ إلا بإذن القاضي، وأحب إلي أن يوكل القاضي رجلاً يرضاه يقبض معه إن وجد من بلد المستخلف إن خاف القاضي أن يتلف ماله ورأى للتوكيل وجهاً، وإن كان مكان المستخلف قريباً وديونه مأمونة أمر الحي من الوكيلين أن يتوثق من الغرماء حتى يأمن من الدين التلف، ثم يستأني به حتى يحوله الآمر وكالة. انتهى.
وفي المدونة في باب العتق قريب مما ذكرناه عنها في باب التخيير، وأنه إذا قال لرجلين: اعتقا عبدي، لا يكون لأحدهما العتق. ونص اللخمي لما تكلم عليها: أنه لو وكل رجلين يبيعان له سلعة فباع أحدهما أن البيع لا يلزمه. وإن هذا من كلام المصنف وابن شاس فاعلمه.
وَالْوَكَالَةُ بِأُجْرَةٍ لازِمَةٌ كَالإجَارَةِ، ويَجِبُ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ بِجَعْلِ ثَالِثُهَا: تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وبِغَيْرِهِمَا جَائِزَةٌ، وقِيلَ: تَلْزَمُ الْوَكِيلَ كَالْهِبَةِ ....
لما ذكر أن وكيل الخصام ليس له عزل نفسه شرع في غيره، وذكر أنها إذا كانت بعوض على وجه الإجارة كانت لازمة لكل واحد منهما بالعقد كسائر الإجارات، ويجب العلم بالعمل؛ لأن الجهالة بالإجارة لا تجوز. وإن كان على وجه الجعالة فثلاثة أقوال، وفهمهما من كلامه ظاهر، وهي مبنية على الخلاف في لزوم الجعل وإن كانت بغير عوض، وأما الموكل فلا تلزمه بلا إشكال، وأما الوكيل فذكر أنها جائزة فليس له فسخها، وهو قول مالك وإليه ذهب ابن القصار وغيره من البغداديين. وقيل: يلزمه ذلك لأنه كواهب منفعة، والهبة لازمة بالقول على المعروف.
وظاهر كلام المصنف: أن هذا القول منصوص، وهي طريقة اللخمي، وتعلق بما لمالك في المبسوط فيمن أبضع مع رجل بضاعة يشتري له بها سلعة بعينها فذهب الوكيل فاشترى بها، ثم قال له بعد شرائها: إني لنفسي اشتريتها؛ أنه يقبل قوله ويحلف إن اتهم. وفي ثمانية أبي زيد لابن الماجشون [562/ب] أنها للآمر، إلا أن يكون أشهد حين الشراء أنه اشتراها له. وقال أصبغ: هي للموكل وإن أشهد. ورأى عبد الحق أن الخلاف إنما هو مخرج على الجعالة وعلى الخلاف في الهبة.
ابن عبد السلام: وهي طريقة غير واحد في نق المذهب. وابن رشد يرى أنه لا خلاف أن للوكيل أن ينحل عن الوكالة متى شاء إلا في وكالة الخصام.
تنبيه: وفهم من كلامه جواز الوكالة في الجعالة على معنى: إن فعلت فلك وإلا فلا، وهو أحد القولين في المدونة وغيرها.
وَإِذَا تَنَازَعَا فِي الإِذْنِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوِكِّلِ إِلا إِذَا فَاتَ الْمَبِيعُ الْمُخْتَلَفِ فِي ثَمَنِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَا لَمْ يَبِعْ بِمَا يُسْتَنْكَرُ
إذا تنازع الوكيل والموكل؛ بأن يقول الوكيل: وكلتني على بيع السلعة، ويقول ربها: لم أوكلك. فلا شك أن الوكيل مدع. وقوله: (أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ) مثل أن يقول: أمرتني ببيعها، ويقول الآخر: بل برهنها. ويشمل قوله: (أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ) الاختلاف في قدر الثمن، وفي جنسه، وفي صفته، وفي حلوله وتأجيله، وحكم بأن القول قول الموكل في هذه المسائل؛ لأنه مدعى عليه عمارة ذمته ما لم يبع بما يستنكر فيكون القول أيضاً للآمر. وهذا الفصل متسع في كلام الأشياخ، وبعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وتركنا ذلك خوف الإطالة، ويشكل كلام المصنف بمسألة المدونة إذا دفع إليه دراهم فاشترى بها تمراً، وقال: بذلك أمرتني. وقلت أنت: ما أمرتك إلا بحنطة. قال فيها: فالمأمور مصدق مع يمينه.
ابن القاسم: لأن الثمن مستهلك كفوات السلعة. نعم قال أصبغ: القول قول الآمر. ولعل المصنف إنما تكلم على غير هذه الصورة وترك هذه لاشتراطها مع الصورة التي ذكر أن القول فيها قول المأمور، وهي ما إذا اختلفا في قدر ثمن المبيع إذا فات.
* * *