الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشُّفْعَةُ:
أَخْذُ الشَّرِيكِ حِصَّةً جِبْراً بِشِرَاءٍ
عياض وغيره: وهي بتسكين الفاء، قيل: أصل ذلك من الشفع وهو ضد الوتر؛ لأن الشفيع يضم الحصة التي أخذها إلى حصته فتصير حصته حصتين، وقيل: من الزيادة؛ لأنه يزيد مال شريكه إلى ماله، ومنه قوله تعالى:(مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً)[النساء: 85]، قيل: يزيد عملاً صالحاً إلى عمله، وهو قريب من الأول، وقيل: من الشفاعة؛ لأنه يشفع بنصيبه إلى نصيب صاحبه.
وقيل: كانوا في الجاهلية إذا باع الرجل حصته أتى المجاور شافعا إلى المشتري ليوليه مشتراه.
وحدُّه اصطلاحاً ما ذكر فـ (أَخْذُ) جنس، وأخرج بإضافته إلى (الشَّرِيكِ) الجار فإنه لا شفعة له عندنا وبحصة ما يأخذ منه كاملاً مما لا شركة بينه وبينه فيه، وبالجبر ما يأخذه بالشراء الاختياري، وبالشراء ما يأخذه بالاستحقاق.
واعترُض عليه بأن هذا الحد غير مانع لدخول ما يأخذه الشريك من شريكه من الحصص جبراً شراء في العروض وغيرها إذا كانت لا تنقسم ودعا أحدهما صاحبه إلى البيه، فإنه يعرض المشترك بينهما للبيع، فإذا وقف على ثمن فمن شاء منهما أخذه بذلك، وأجيب: بأنا لا نسلم أنه أخذ الآن حصة شريكه خاصة، وإنما أخذ المبيع كله بثمنه غير أنه أسقط عنه حصته.
خليل: وأحسن من هذا أن يقال: لا نسلم أنه يأخذه هنا جبراً بل باختيار صاحبه؛ إذ له أن يزيد فوق ما أعْطَى شريكه، بخلاف الشفيع فإنه يأخذ الحصة بثمن المثل من غير زيادة ولا خيرة له بوجه.
ولما كانت حقيقة الشفعة ما ذكر استلزم ذلك: مأخوذاً وآخذاً ومأخوذاً منه ومأخوذاً به، فكانت هذه الأربعة هي أركان هذا الباب، وتكلم المصنف عليها أولاً فأولاً:
الْمَاخُوذُ إِنْ كَانَ عَقَاراً مُنْقَسِماً غَيْرَ مُنَاقَلٍ بِهِ وَلا تَابِعٍ أُخِذَ اتِّفَاقاً
يعني: إن كانت في المبيع المشترك هذه الشروط أخذ بالاتفاق.
والعقار: الأرض، وقد يطلق عليها وعلى ما يتصل بها من بناء وشجر، واحترز به من الحيوان والعروض، فلا شفعة في ذلك عندنا، وحكى الإسفرايني من الشافعية عن مالك الشفعة في ذلك.
عبد الوهاب وغيره: وهذا لا يعرفه أصحاب مالك.
عبد الحميد وابن زرقون: ولعله رأى أقوال مالك في الحائط يباع شقص منه وفيه الحيوان والرقيق، أن فيه الشفعة في جميع ذلك فظن أن الشفعة عند مالك في كل شيء، ورأى قوله في الثوب المشترك أو غيره من العروض إذا أراد أحدهما البيع، أن شريكه أحق به بما وقف عليه من الثمن، فظن أن ذلك شفعة.
المازري: ورأيت في مختصر ما ليس في المختصر ما يستقرأ منه أقوى مما قاله عبد الحميد؛ وذلك أنه إذا كان حائط بين الشريكين باع أحدهما نصيبه، وفي الحائط رقيق ودواب ليسوا لعمل الحائط، أن الشفعة في جميع ذلك، فأوجب الشفعة في الحيوان وإن لم يحتج إليه الحائط.
قوله: (مُنْقَسِماً) أي: قابلاً للقسمة، واستعمل المصنف كما ترى المنقسم في القابل وإن فعل إنما يستعمل في ما حصل لا في القابل، واحترز بذلك مما لا يقبل القسمة إلا بضرر كالحمام ونحوه؛ فإن في ذلك خلافاً كما سيأتي.
قوله: (وَلا تَابِعٍ): لا يريد إذا اشترى شقصاً مع سلع فإن هذه الصورة متفق على وجوب الشفعة فيها، وإنما احترز بذلك من الأنقاض في الأرض المحبَّسة أو المعارة كما سيأتي، ولا خلاف بين الأمة في وجوب الشفعة من حيث الجملة، وفي الموطأ مرسلاً:
مالك: وعلى ذلك السنة التي لااختلاف فيها عندنا، وسئل ابن المسيب عن الشفعة هل فيها من سنة؟ فقال: نعم الشفعة في الدور والأرضين، ولا تكون الشفعة إلا بين الشركاء، وقال سليمان بن يسار مثل ذلك، وهذا دليل على أنه لا شفعة في غير العقار؛ لأن ضرب الحدود إنما يكون فيها، وقول ابن المسيب يبين هذا وفيه دليل على أنه لا شفعة لجار؛ لأن الحدود إذا ضربت يبقى جاراً، وقد نص في الحديث على نفي الشفعة في ذلك، قال في الاستذكار: قال جابر رضي الله عنه: «إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم ينقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» .
أحمد بن حنبل رضي الله عنه: وهذا أصح حديث روي فيه، وقال ابن مَعِين: مرْسل مالكٍ أحبُّ إليَّ.
وَالشَّجَرُ وَالْبِنَاءُ وَالْبِئرُ وَفَحْلُ النَّخْلِ تَبَعٌ لَهُ
أي: (تَبَعٌ) للعقار؛ يعني أن هذه الأشياء وإن لم تكن من جنس الأرض، ولكنها لشدة اتصالها بها كالجزء منها، وأما (الْبِئرُ وَفَحْلُ النَّخْلِ) فلا يحتاج لهما هنا؛ لأن البئر جزء من الأرض، وفحل النخل من الشجر وإنما يختصان بحكم آخر وهو إذا قسمت وبقي الماء ثم يبيع فلا شفعة فيه، وفي العتبية: فيه الشفعة، واختلف هل هو اختلاف قول؟ وإليه ذهب الباجي، أو وفاق؟ وإليه ذهب سحنون وابن لبابة، ثم قال سحنون: معنى المدونة أنها بئر واحدة، ومعنى العتبية أنها آبار كثيرة.
وقال ابن لبابة: معنى المدونة أنها بئر لا فناء لها، ومعنى العتبية أنها بئر لها فناء وأرض مشتركة يكون فيها القِلْد.
وعلى الخلاف فرأى الباجي أن الخلاف مبني على الخلاف في الشفعة في ما لا ينقسم، قال في البيان والمقدمات: وكان من أدركنا من الشيوخ يحملون ذلك على الخلاف، ويرون الاختلاف في ذلك جار على اختلاف قول مالك فيما هو متعلق بالأرض ومتصل بها كالنقص والنخل، وهذا بين، والله أعلم.
وَفِي تَبَعِيَّةِ حَجَرِ الرَّحَاءِ: قَوْلانِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَحَجَرٍ مُلْقًى، وَقَالَ أَشْهَبُ: لَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: لا شُفْعَةَ فِيهِ ....
أي: (وَفِي تَبَعِيَّةِ حَجَرِ الرَّحَاءِ) للأرض، والقولان لمالك، ورواية ابن القاسم عنه في المدونة وهي التي قال بها ابن القاسم، وبقول أشهب قال عبد الملك وابن وهب وابن سحنون.
(وَقَالَ أَشْهَبُ: لَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: لا شُفْعَةَ فِيهِ) وهي عندنا في البنيان أثبت من الأبواب التي إذا شاء قلعها بغير هدم والشفعة تكون في حَديدِ الحائط ورقِيقِهِ، فكيف لا تكون في الرحى، قال في الموازية: وإن باع أحدهما مصابته فلشريكه الشفعة، وإن شاء فسخ بيعه إلا أن يدعوه البائع إلى المقاسمة فلا يفسخ حتى يقاسمه، فإن صار موضع الرحى للبائع جاز بيعه، وإن صار لشريكه انتقض بيعه أما لو نصبوا الرحى في غير أرضهم فلا شفعة فيها اتفاقاً.
ابن راشد: وكذلك لا خلاف في الرحى إذا لم تكن مبنية أنه لا شفعة فيها، وعلى ما في المدونة ففيها: إذا بيعت معها الأرض أو البناء الذي نصبت فيه ففيها الشفعة دون الرحى بحصة ذلك، وسواء في ذلك رحى الماء والدواب، وأشار الباجي إلى أن الآلة كالرحى على القولين، واختلف الشيوخ في كلامه في المدونة فحمله التونسي وغيره: أنه لا شفعة في العليا والسفلى.
عياض: وهو ظاهر كلامه، وهو تأويل أكثر الشيوخ، ويحتج لهذا الفهم بتشبيهها بالحجر الملقى، ورأى ابن وهب ذلك صريحاً.
وقال بعض القرويين: إنما نفى في المدونة الشفعة في العليا وأما السفلى ففيها الشفعة وهي من البناء كقدور الحمام.
ابن رشد في أكرية الدور: وهي تفرقة لا معنى لها؛ إذ لا ينتفع بأحد الحجرين دون الآخر.
عياض: وأما الدار إذا بيعت وفيها مطاحن فاتفقوا أنها إن كانت غير مبنية أنها للبائع، وإن كانت مبنية فالسفلى للمشتري، واختلف في العليا، وهذا يرد من جعلها كحجر ملقى، قال بعض الشيوخ: والخلاف مبني على الخلاف في الشفعة في ما لا ينقسم إلا بفساده كالحمام والأندر، وقد اختلف قول ابن القاسم في المدونة في هذا، وعلى هذا يختلف فيها وإن بيعت بأرضِها ومناصبها لأنها لا تنقسم كما روي عنه في العتبية في مناصب الرّحى، وهذا خلاف المدونة فإنه نص فيها على وجوب الشفعة في بيتها وأرضها، وكذلك قالوا: إنه يختلف في ما إذا بيع حجرها وهو مبني.
وقال صاحب المقدمات: إنما الخلاف إذا بيعت الرّحى مع غيرها وأمَّا إذا بِيعَت منفردة عن الأرض فلا شفعة فيها باتفاق، وخرج اللخمي وغيره على القول بنفي الشفعة في الرّحى قولاً بنفي الشفعة في رقيق الحائط ونحوه.
وَالثَّمَرُ تَبَعٌ لِلشَّجَرِ مَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِخِلافِ الزَّرْعِ
يعني: أن من اشترى نخلاً ثم قام الشفيع فإنه يأخذ النخل بثمرها وتكون الثمرة تابعة، ولم يفرق المصنف بين أن تكون الثمرة فيها حالة الشراء أو حدثت عنده، وفرض ابن عبد السلام المسألة على ما إذا لم تكن فيها في وقت الشراء ثمرة وليس بظاهر فإن هذه المسألة إما أن لا يكون فيها ثمرة أو ثمرة مأبورة أو مزهية، فإن لم تكن فيها ثمرة وقام الشفيع قبل الإبان فللشفيع الثمرة مع الأصل.
الباجي: باتِّفاق، وإن قام بعد الإبان فله أخذ الثمرة مع الأصل عند ابن القاسم، وقال أشهب: إن اشتراها مأبورة أو غير مأبورة ثم أبَّرها المبتاع فإنما يأخذ الشفيع الأصل فقط؛ لأن [585/أ] الثمرة تبع ومأبورة الثمرة للبائع، وأما إن كانت الثمرة يوم الشراء مأبورة أو مزهية فمذهب ابن القاسم أن فيها الشفعة ما لم تيبس أو تجذ، قيل: وليس في الأمهات ما لم تيبس، وقال فيها: فيما إذا بيعت الثمرة مفردة أن فيها الشفعة ما لم تيبس، وتأول بعضهم أن مذهبه فيها الفرق بين أن تباع مع الأصل ففيها الشفعة ما لم تجذ، وبين أن تباع مفردة ففيها الشفعة ما لم تيبس، والفرق قوة الشفعة في الأول؛ لأنها ثابتة بالإجماع، وقال مرة: هو اختلاف من قوله في الوجهين، وتأولها بعضهم على أن فيها ثلاثة أقوال: مالم تجذ، وما لم تيبس، والفرق، والذي تأوله عبد الحق وغيره أن مذهب المدونة ما لم تيبس مطلقاً، وعن مالك يأخذها الشفيع إذا كانت غير مأبورة يوم الشراء، وإن جذت أو يبست، وقال أشهب: إذا كانت مزهية فللشفيع أخذ الأصول دون الثمرة وهو مبني على أن الثمرة لا شفعة فيها.
الباجي: واختلف المذهب في ما إذا بيعت مزهية هل تفوت الثمرة أم لا؟ وترد المكيلة أو الثمرة أو القيمة على قولين وعلى الفوات، فقال مالك مرة: تفوت بالجذاذ أو اليبس، وقال مرة: لا تفوت إلا بأن تجذ ولا يعرف كيها أو تجذ قبل طيبها، وإذا فات فالمشهور أنه يحط عن الشفيع، واتفق أنه لا يوضع لها شيء إذا لم تؤبر حصة الثمرة المزهية والمأبورة، وقال ابن الماجشون: لا يحط عنه من الثمرة شيء، وفي نظر.
قوله: (بِخِلافِ الزَّرْعِ) أي: فلا يكون تبعاً للأرض، وهذا هو المشهور أنه لا شفعة فيه سواء بيع منفرداً أو مع الأصل.
فرع:
قال الباجي: وإن اشترى أرضاً مزروعة بزرعها وجاء الشفيع قبل ان ينبت أخذها بزرعها، فإن نبت أخذ الأرض دون الزرع، فإن أخذ الشفيع الأرض بزرعها؛ لأنه لم
ينبت فليأخذها بالثمن وبقيمة الزرع على الرجاء والخوف. وقال في الموازية: ولو قال قائل: يأخذها بالثمن وبما أنفق لم أُعبه، وهو أقيس واستحسن الأول، وقال محمد: يأخذها بالثمن وبقيمة ما أنفق من البذر والعلاج، وقال ابن القاسم: يأخذ الأرض والزرع بالثمن والنفقة، كمن اشترى نخلاً لم يؤبَّر فأخذه الشفيع بعد الإبار، وأما من اشترى أرضاً فزرعها فجاء الشفيع قبل أن ينبت الزرع فعلى مذهب ابن القاسم لا شفعةَ في الزَّرع جملة وعلى مذهب أشهب الشفعة في الأرض والزرع.
ويحتمل قول ابن القاسم وجهين:
أحدهما أنه يأخذ بالشفعة في الأرض، وإن لم ينبت الزرع على قول من أجرى الشفعة مجرى الاستحقاق.
والثاني: ليس له أن يأخذ الأرض بالشفعة حتى ينبت على قول من أجراها مجرى البيع فإذا جاء الشفيع وقد نبت الزرع فلا شفعة في الزرع عند ابن القاسم، وقال في الموازية: له الشفعة إذا قام والزرع أخضر في الأرض والزرع جميعاً بل ليس له إلا ذلك، وقال أيضاً في موضع آخر له: الشفعة في الأرض دون الزرع وأنكر سحنون قول أشهب في الزرع وقال بقول ابن القاسم.
وفي المقدمات: إذا طرأ الشفيع على الرجل في أرضه المبذورة قبل أن يطلع البذر مثل أن تكون الأرض بين الشريكين يبيع أحدهما نصيبه منها فيريد الشريك الأخذ بالشفعة وهي مبذورة قبل طلوع البذر فثلاثة أحوال: إمَّا أن يكون البذر للمشتري أو للبائع أو لأجنبي كمكتري الأرض ونحوه، فإن كان المشتري هو الباذر فيأخذها الشفيع، ويبقى البذر للمشتري على مذهب من يحمل الشفعة محمل البيع؛ إذ لا يصح للرجل أن يبيع أرضه وهي مبذورة، ويستثني بذره، وقيل: إنه يأخذه مع الأرض بقيمة البذر والعمل، وقيل: بقيمته على الرجاء والخوف بمنزلة العلاج في الثمرة وإن كان الباذر هو البائع
فيأخذها الشفيع مبذورة بجميع الثمن على القول الذي يرى في الزرع الشفعة، وعلى القول بنفي الشفعة فيه يأخذها بما ينوبها من الثمن بجميع الثمن على القول أن الشفعة كالاستحقاق، وعلى أنها كالبيع: فلا يأخذها حتى يبدو الزرع، وإن كان الباذر غيرهما فيأخذ الأرض بالشفعة دون البذر بجميع الثمن من غير إشكال، قال: وكذلك إن طرأ على الأرض والبذر قد نبت لا يخلو من الثلاثة الأحوال غير أن الوجهين يتسوي الحكم فيهما، وهو أن يكون البذر للمبتاع أو للأجنبي فيأخذ فيها الشفيع الأرض دون الزرع بما ينوبها من الثمن على القول الذي لا يبرأ الشفعة في الزرع، قال: وأما إن طرأ الشفيع بعد أن يبس الزرع فلا شفعة فيه ويأخذ الأرض بجميع الثمن، انتهى. ونص في البيان على أن المشهور من المذهب أن الشفعة تجري مجرى البيع لا الاستحقاق.
وَفِي قِيمَةِ سَقْيِهَا وَإِصْلاحِهَا قَوْلانِ
مذهب المدونة أنه يرجع بقيمة ما سقى وعالج.
ابن المواز: ولو زاد على قيمة الثمرة، وقال أشهب: يأخذ الثمرة بقيمتها على الرجاء والخوف، ولو قال قائل: له قيمة ما أنفق لم أر به بأساً.
قال عبد الملك وسحنون: ليس على الشفيع إلا الثمن؛ لن المنفق أنفق على مال نفسه فلا يرجع إلا بما له عين قائمة.
وَفِي الثِّمَارِ، وَالْكِتَابَةِ، وَإِجَارَةِ الأَرْضِ لِلزَّرْعِ قَوْلانِ
يعني: اختلف في قبوت الشفعة إذا بيعت الثمار مفردة، والقول بالشفعة لمالك وابن القاسم وأشهب ومعظم الأصحاب.
مالك: وهو شيء استحسنته ولا أعلم أحداً قال به قبلي. [585/ب]
أشهب: لأنها تنقسم بالحدود كالأرض، والقول بنفي الشفعة فيها لابن الماجشون قال: لا شفعة ولو بيعت مع أصولها، ولأشهب قول ثالث: إن بيعت مع الأصول ففيها الشفعة لا إن بيعت مفردة، واختلف إذا بيعت مفردة فلمالك في المجموعة أن الشفعة فيها مالم تزايد الأصل، ولابن القاسم في المدونة: ما لم تيبس، كما تقدم قول ابن القاسم في العتبية: والمقاثي كالثمار، وكذلك الباذنجان والقطن والقرع، ولا شفعة في البقول.
الباجي: يريد أن كلَّ ما له أصل تجنى ثمرته مع بقائه ففيه الشفعة.
قال في البيان: ويتخرج في البقول الشفعة من القول بوجوبها في الثمرة ما لم تجذ.
فائدة:
لم يقل مالك بالاستحسان إلا في أربع مسائل:
الأولى: هذه، والثانية: وجوب الشفعة من الأنقاض في الأرض المحبسة ونحوها.
الثالثة: القصاص بالشاهد واليمين
الرابعة: في كل أنملة من الإبهام خمس من الإبل.
وقوله: (وَالْكِتَابَةِ) ليست هذه المسألة من معنى الشفعة؛ إذ ليس المراد أن أحد الشريكين يدخل على الأجر، وإنما المراد أن السيد إذا باع كتابته هل يكون المكاتب أحق بذلك أم لا.
ابن راشد: والكتابة من ناحية الدَّين، والدين إذا بيع اختلف هل يكون من عليه هو أحق به أم لا؟ وظاهر المدونة أنه لا يكون أحق به، وعن مالك أراه حسناً، وما أرى أن يقضى به، وقال أشهب: يقضى به.
أشهب: وكذلك الكتابة، وقيِّد في سماع أشهب كون المكاتب أحق بكتابته بما إذا بيعت كلها؛ لأنه يعتق، قال: فأما ما لا يعتق به فلا يكون أحق به؛ لأنه لا يرجع إلى حرية، وليس هذا
حقيقة الشفعة، ومن هذا المعنى ما في الموازية والعتبية في من له امرأة ثلثها حر وباقيها رق، وولادها منه كذلك، فأراد المولى بيعها فطلب الزوج أخذها، فذلك له؛ لأنَّ فيه منفعة الابن فليُباعا عليه، وذكر ابن حبيب عن مالك في أمة تحت حر له منها أولاد وفي حامل فبيعت مع أولادها، أنَّ الزوج أحقُّ بهم إن شاء ذلك ما بلغوا وقاله أصبغ، ومثل هذا في العتبية.
ابن راشد: ولو لم يكن له منها ولد لكان المشتري أولى، والحامل مثل ذات الولد، وروى عبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قضى بالشفعة في الدين: وهو الرجل يكون له الدين على الرجل فيبيعه فيكون صاحب الدين أحق به» ، زاد في طريق آخر:«وإذا أدى مثل الذي أدى صاحبه» .
قوله: (وَإِجَارَةِ الأَرْضِ لِلزَّرْعِ) لا يريد خصوصية هذه المسألة بل كل كراء والقولان لمالك، ومذهب ابن القاسم في المدونة سقوطها، وهو قول عبد الملك والمغيرة، وبوجوبها قال مطرف وأشهب وأصبغ.
واختف أيضاً في المساقاة كالكراء والأقرب سقوطها في هذا الفرع؛ لأن الضرر فيها لا يساوي الضرر في العقار الذي وجبت الشفعة فيه.
وَفِي الْبِنَاءِ الْقَائِمِ فِي أَرْضِ الْحَبْسِ وَالْعَارِيَةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ - قَوْلانِ، ويُقَدَّمُ الْمُعِيرُ بِالأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ النَّقْضِ أَوِ الثَّمَنِ، فَإِنْ أَبَى فَلِلشَّرِيكِ بِالثَّمَنِ
يعني: أن البناء إذا كان بين شريكين مشاعاً ولا ملك لهما في العرصة كما كانت محبسة أو معارة فباع أحدهما، فهل للآخر الشفعة أم لا؟ قولان: المشهور وجوب الشفعة؛ وهي إحدى مسائل الاستحسان كما تقدم، وقال ابن المواز: لا شفعة في ذلك.
واعلم أنه اختلف أولاً، هل يجوز هذا البيع وهو المشهور أو لا؟ وهو الذي رواه أشهب، وقاله سحنون؛ لأن المعير يقدم عليه، وله أن يبقيه ويعطي قيمة نقضه، أو يأمر
بقلع بنائه، فلم يدر المبتاع ما اشترى نقضا أو ذهبا أو ورقا، وإلى هذا الخلاف أشار بقوله له: على جواز بيعه.
وعلى الجواز فقال المصنف: يقدم المعير إلى آخره، وهو كقوله في المدونة: وإذا بنى رجلان في عرصة رجل بإذنه ثم باع أحدهما نصيبه من النقض فلربِّ الأرض أخذ ذلك النقض بالأقل من قيمة النقض أو الثمن الذي باعه به، فإن أبى فلشريكه الشفعة بالضرر، والضرر أصل الشفعة، وقد علمت أن قول المصنف بالأقل من قيمة النقض أو الثمن، وهو مذهب المدونة، وزاد عياض وغيره قولين:
أحدهما أنه يأخذه بقيمته مقلوعاً فقط.
والثاني أنه يأخذه بالثمن فقط؛ ثم اختلف فقيل: يأخذه من المبتاع، وقيل من البائع بالأقل من قيمته أو الثمن، ويفسخ البيع بينه وبين المبتاع، فيرجع على البائع بما دفع له.
عياض: وجميع هذه الأقوال متألوة للشيوخ على المدونة.
أبو الحسن: وظاهر المدونة أنَّه لا يكون على المعير إلا قيمة النقض سواء مضى زمان تعار تلك الأرض في مثله أم لا، لكن قيدها أبو عمران بما إذا مضى زمان تعار فيه، وإلا فله قيمة بنائه قائماً.
أبو عمران: وهكذا وقع لسحنون.
أبو الحسن: وهو مشكل؛ لأنه وإن لم يمض أمد ما يُعار إلى مثله، فقد سقط حقه في بقية المدة إذا أراد الخروج فكان مثل ما إذا مضى أمد ما يعار إلى مثله، وهذا كله في العاريِّة المطلقة، وأما المقيدة بزمان ولم ينقض، فقال ابن رشد: إن باع قبل انقضاء أمد العارية على البقاء، فللشريك الشفعة، ولا مقال لرب الأرض ولو باعه على النقض قُدِّم رب الأرض كما تقدم.
خليل: وينبغي أن يتفق في الأحكام التي عندنا بمصر أن تجب الشفعة في البناء القائم فيه؛ لأن العادة عندنا أن [586/أ] رب الأرض لا يخرج صاحب البناء أصلاً، فكان ذلك بمنزلة مالك الأرض، وقاله شيخنا رحمه الله تعالى.
وَفِي غَيْرِ الْمُنْقَسِمِ كَالْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ قَوْلانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لِضَرَرِ الشَّركَةِ أَوْ لِضَرَرِ الْقِسْمَةِ ....
يعني: وفي الشفعة فيما لا يقبل القسمة إلا بضرر (قَوْلانِ) وهما لمالك.
ابن عبد السلام: وفي المدونة ما يدل على كل واحد منهما، انتهى.
وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرّف وابن الماجشون واصبغ.
صاحب الوجيز: وعدم الشفعة هو المشهور.
صاحب المعين: وبه القضاء وأفتى فقهاء قرطبة به لما جمعهم القاضي منذر بن سعيد؛ إذ كان به القضاء عندهم، فرفع الشفيع أمره إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد وقال: حكم علي بغير قول مالك، فوقع بخط يده إلى القاضي أن يحمله على قول مالك، ويقضي له به، فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء، وشاورهم فقالوا: مالك يرى في الحمَّام الشفعة، فقضى منذر بذلك وحكم له بها، وقال ابن حارث: وأخبرني من أثق به أنه جرى العمل عند الشيوخ بقرطبة بإيجاب الشفعة.
وقوله: (كَالْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ): أي من الأبرجة والآبار والعيون والشجرة الواحدة وشبه ذلك ومنشأهما ما أشار إليه المصنف وهو أن الشفعة إنما شرعت لدفع الضرر، وهل ذلك لدفع ضرر الشركة؟ فتجب الشفعة في ذلك حتى لا يضر بالشريك الداخل، أو إنما ذلك لدفع ضرر القسمة؛ لأن أخذ الشركاء له به طلب الباقين بالقسمة، فإذا اشترى أجنبي من أحدهم خشي الباقون أن يدعوهم المشتري إلى القسمة، وقد يكون
ذلك مضرّاً بهم؛ لأن كل واحد يحتاج إلى استحداث مرافق في نصيبه غالباً فشرعت الشفعة لرفع هذا الضرر، وعلى هذا فلا شفعة فيما لا ينقسم، لعدم حصول هذا الضرر فيه، والأول أظهر للاتفاق على وجوب الشفعة في ما ينقسم من حيث الجملة إلا أنه لا يمكن فيه القسم لكثرة الشركاء، وتنازعا في قوله عليه السلام:«الشفعة فيما لا ينقسم» هل المعنى عام فيما يقبل القسمة وما لم يقبلها؟ أو هو مقصور على ما يقبلها؛ لأن نفي الصفة عن الذات يستدعي قبولها، ولهذا لا يقال: الأعمى لا يبصر، ومن منع ذلك استدل بقوله تعالى (لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ) [البقرة: 255].
وفِي الْمُنَاقَل بِهِ - وَهو أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ بِحِصَّةٍ أَوْ دَارٍ وزِيَادَةٍ - ثَالِثُهَا: إِنْ عُلِمَ الْقَصْدُ للسُّكنَى فَلا شُفْعَةَ، ورَابِعُهَا: إِنْ نَاقَلَ بِحِصَّتِهِ حِصَّةً لِبَعْضِ شُرَكَائِهِ فَلا شُفْعَةَ ....
لم يختلف في وجوب الشفعة إذا بيع الشِّقص بعين أو عرَض، واختلف إذا بيع بحصة أخرى أو دارٍ كاملة لأجنبي أو بعض شركائه، فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وجوب الشفعة في ذلك.
ابن القاسم في العتبية: وهو الشأن
قال في البيان: وهو الصحيح؛ لأنه بيع فكان كغيره، والقول بعدم الشفعة مطلقاً لم أره، ولعلَّ صاحبه رأى أن المناقلة من باب المعروف.
والقول الثالث: هو الذي كان مالك يقول: إنه إن أراد بالمناقلة السُّكنى ولم يرد البيع لا شفعة في ذلك وقاله ربيعة.
والقول الرابع عده المصنف خلافاً، وهو أمر يحتمل؛ لأن الذي نقله العتبي وتبعه اللخمي وابن رشد وغيرهما أن مطرف وابن الماجشون قالا: إن المناقلة التي قال مالك:
لا شفعة فيها إنما هي إذا باع الرجل شقصه من شريكه بشقص له فيه شرك فيكون كل واحد إنما أراد التوسع في حصته بما صار إليه، فأنت ترى أنهما إنما ذكرا ذلك على وجه التقييد لكن يحتمل ألا يكون مالك قصد ذلك فيكون خلافاً، ولعل ما نقلاه من قول مالك بنفي الشفعة هو القول الثاني من كلام المصنف.
المتيطي: وبرواية مطرف القضاء، وكان ابن القاسم يقول: إنَّ مالكاً رجع عنه وهذا يدل على أن رواية مطرف خلاف في الوجهين، وفي المناقلة الشفعة سواء كانت بين الشركاء أو الأجانب، وقيل: ثابتة بين الأجانب ساقطة بين الشركاء، وهو المشهور، والله أعلم.
وَلا شُفْعَةَ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ حَيَوَانٍ وعَرُوضٍ، وَمَمَرٍّ، وَمَسِيلِ مَاءٍ
تصوره ظاهر، وحكى بعض الحنفية عن مالك وجوب الشفعة في السفن؛ لأنها تبشه الربع.
ابن عبد السلام: وهو لا يصح، نعم تجب الشفعة عند أهل المذهب في رقيق الحائط ودوابِّه على أن بعض الشيوخ خرَّج في ذلك خلافاً من الخلاف في حجر الرحى.
ابن عبد السلام: ولا يبعد أن يخرج في الممر والمسيل الخلاف في النخلة الواحدة وشبهها.
فرعان:
الأول: لا شفعة لذي علو على سفل ولا بالعكس.
الثاني: اختلف في الجدار المشترك بين الدارين، ففي المدونة: فيه الشفعة.
ابن شبلون: معناه إذا بيع مع شيء من الدار لا أن يبيع وحده.
اللخمي: وعلى أصل أشهب لا شفعة؛ لأنه منع أن يقسم وإن حمل القسم، وقال: يبقى مرتفقا لهما يحمل كل واحد منهما خشبة عليه.
المتيطي: وإذا قلنا بالشفعة فيه فإن الشفعة تكون فيه بحصته من الثمن بعد التقويم، قاله غير واحد من الموثقين، قال: إنْ كان الحائط لبائع الدارِ والجار حمل خشبة عليه فالشفعة له بذلك، وحمل غير ابن شبلون المدونة على ظاهرها من وجوب الشفعة في الجدار وإن بيع مفرداً وهو الظاهر، وقال ابن نافع: لا شفعة في الجدار.
وتَسْقُطُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْمُقَاسَمَةِ وَالسُّكُوتِ وَهُوَ يَبْنِي وَيَهْدِمُ وَيَغْرِسُ ....
(صَرِيحِ اللَّفْظِ) كما لو قال: أسقطت شفعتي أو: لا آخذ بها ونحو ذلك، قال في البيان: وإن سلم الشفيع بعد البيع فلا مقال له علم الثمن [586/ب] أو جهله.
ابن يونس: إلا أن يأتي من ذلك ما لا يكون ثمناً لقلته فلا يلزمه تسليمه.
قوله: (وَمَا فِي مَعْنَاهُ) ظاهر التصور، وصرح بعض الشيوخ بنفي الخلاف من المقاسمة، أعني مقاسمة الشفيع للمشتري وأما مقاسمة الشفيع لغيره ففي المدونة عن مالك: من اشترى شقصا من دار وله شفيع غائب فقاسم الشريك ثم جاء الشفيع فله نقض القسم وأخذه؛ إذ لو باعه المشتري كان للشريك رد بيعه، وقاله ابن القاسم وأشهب، وفي الموازية مثل ذلك وإن كانت المقاسمة من السلطان.
أشهب: وإنه ليأخذ بالغالب أن ليس له رد القسم؛ لأنهم قاسموا من يجوز قسمه، وقال سحنون: يمضي القسم وللشفيع أخذ ما وقع للمبتاع في القسمة بالشفعة، ومنع بعض الشيوخ من مقاسمة المشتري إذا كان الشريك غائباً؛ لدخول المشتري على أن للغائب حقا في الشفعة فكيف يقاسم؟ وأشار بعض الشيوخ إلى أن المذهب اختلف في دلالة الهدم والبناء والغرس على إسقاط الشفعة.
فرع:
وإن سلم على صفة ثم تبين خلافها فله الأخذ، ففي المدونة: وإذا أخبر الشفيع بالثمن فسلم ثم ظهر أن الثمن أقل فله الأخذ ويحلف لاحتمال أنه سلم كراهية في الأخذ، وقال أشهب: لا يمين عليه لظهور سبب تسليمها، وفيها: إذا قال له: وقد ابتاع فلان نصف نصيب شريكك ثم قال له: قد ابتاع الجميع فله الأخذ، ابن يونس: لأنه يقول: لم يكن لي غرض في أخذ النصف لبقاء الشركة، فلما علمت أنه أخذ الكل، أخذت لارتفاع الشركة، وقال أشهب وابن المواز: يلزم إسلام جميع النصف، وإنّما له أن يأخذ النصف الآخر، وفي المدونة: إن قيل له: قد اشترى فلان فسلم ثم ظهر أنه قد ابتاعه مع آخر فله القيام وأخذ حصتهما؛ لأنه يقول: إنما رضيت بشركة هذا، وقال أشهب: يلزمه التسليم للذي أسلم له، ويأخذ حصة الآخر إن شاء ثم تكون الحصة التي أسلمها أولا بين المشترين؛ لأنهما اشتركا في اشترائهما دفعة واحدة وإن رضيا بالتمسك بما سلم وإن شاء ألزماه أخذ ما سلم أو يسلم لهما جميعاً الشراء.
وَكَذَلِكَ شِرَاؤُهَا، ومُسَاوَمَتُهَا، ومُسَاقَاتُهَا، واسْتِئْجَارُهَا خِلافاً لأَشْهِبِ
لما ذكر ما يدل على إسقاط الشفعة باتفاق، أتبعه بما هو مختلف فيه، وكلامه يدل على أن أشهب يخالف في الجميع، وكذلك قال ابن شاس، وقال ابن عبد السلام: لا يتصور الخلاف في الشراء؛ لأنه إذا اشترى منه فإن شفع بالصفقة الأولى، فذلك يستلزم فسخ الثانية مع إبطال الصفقة الأولى، ودليل الرضا بها موجود، وإن شفع بالصفقة الثانية فقد أبطلها، ولا فائدة في الانتقال من الشراء الثاني إلى الشفعة بثمنه.
خليل: وانظر لو اشترى الشفيع الحصَّة جاهلاً بحكم الشفعة هل يعذر بذلك أم لا؟ ومذهب المدونة أن شفعته تسقط بالكراء والمساقاة والمساومة؛ لأنه ملك أخذه بغير كراء ولا مُساومة ولا مساقاة، وحكى ابن المواز عن أشهب ما حكاه المصنف عنه وهو ظاهر
في المساومة؛ لأن من حجة الشفيع أن يقول: إنما ساومته رجاء أن يبيعني بأقل وإلا فلي أن أرجع إلى الشفعة وإلى هذا أشار اللخمي، قال: ويحلف ثم يأخذ بالشفعة.
وقيد اللخمي هذا الخلاف بما إذا كان الكراء والمساقاة ينقضي أمدهما قبل السنة من يوم العقد، وأما إن كان لا ينقضي إلا بعدهما فلا شفعة بالاتفاق وهذا إذا انعقد الكراء مع الشفيع، فإن انعقد بين المشتري وغير الشفيع، فاختلف الأندلسيون هل للشفيع أن ينقض العقد أو لا؟ وهو الذي تدل عليه المدونة عندهم، أو يفرق بين الأجل القريب والبعيد، وعلى تقدير ألا ينقضي فالكراء للمشتري، ويؤخذ من إسقاطه في المدونة الشفعة بالكراء أن الشفيع إذا قاسم المبتاع الأرض للحرث أنه تسقط الشفعة؛ لأن كل واحد أكرى نصيبه من صاحبه، وقاله ابن عبد الغفور ولو قاسمه الغلة، فقال ابن القاسم: لا تسقط وقال أشهب: تسقط كما لو قاسمه بالخرص فيما يخرص للحاجة وأما إن جذت الثمرة فاقتسماها بالكيل فلا يقطع ذلك شفعته.
وفِي بَيْعِ الْحِصَّةِ الْمُسْتَشْفَعِ بِهَا قَوْلانِ
يعني: إذا وجبت الشفعة للشفيع فهل من شرط ذلك بقاء حصته بيده حين الأخذ وهو مراده بقوله: (الْمُسْتَشْفَعِ بِهَا) أو لا وله الأخذ وإن باع حصته (قَوْلانِ) وهما لمالك، واختار أشهب وغير واحد القول بسقوط الشفعة؛ لأنها إنما وجبت للضرر.
ابن عبد السلام: وظاهر قول ابن القاسم التفرقة بين أن يبيعه غير عالم فالشفعة له وبين أن يبيعه عالما فلا شفعة له، وفي البيان: ظاهر ما في المدونة أنه لا شفعة له إذا باع نصيبه، وإن باع غير عالم؛ لأنه قال في من باع شقصاً بخيَار ثم باع صاحبه بتلا أنَّ الشفعة لمشتري الخيار على مشتري البتل، ونسب التفرقة بين أن يعلم أو لا لابن القاسم في سماع عيسى، قال: وعلى الإسقاط فإن باع حين حطه فله الشفعة بقدر ما بقي من حظه، ووقع اختلاف
قول مالك في هذا في كتاب ابن عبدوس، وقال أشهب: أحب إلى ألا شفعة له بعد بيع نصيبه أو بعضه؛ لأنه إنما باع راغباً في البيع، وإنما الشفعة للضرر، فلم يكن له شفعة فهو قول رابع، ونص ابن ميسر على أنه إذا باع لا شفعة له إلا أن تبقى له بقية أخرى، قال في البيان: وقوله: إلا أن تبقى له بقية [587/أ] أخرى. يحتمل: فله الشفعة بقدرها ما بقي كأحد قولي مالك وظاهر ما في المدونة، ويحتمل أنيريد: إلا أن تبقى له بقية أخرى فله أخذ الجميع، فيكون قولاً خامساً.
قال: وأظهر هذه الأقوال كلها الفرق بين أن يبيع عالماً ببيع شريكه حظه أو غير عالم، وقال اللخمي: اختلف بعد القول: إن الشفعة تسقط إذا باع بعض نصيبه هل تسقط من الشفعة بقدر ما بع؟ والذي رأى أن يشتفع بالجميع؛ لأن الشفعة تجب بالجزء اليسير في الكثير المبيع.
وَفِي تَرْكِ الْقِيَامِ مَعَ عِلْمِهِ حَاضِراً ثَالِثُهَا: تَسْقُطُ بَعْدَ مُضِّي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، قِيلَ: سَنَةٌ، وقِيلَ: فَوْقَهَا، وقِيلَ: فَوْقَ ثَلاثٍ، وقِيلَ: فَوْقَ خَمْسٍ
أي: إذا ترك القيام مع علمه ولم يأخذ بالشفعة فهل يكون ذلك إسقاط الشفعة أم لا؟ والقول بالسقوط لابن وهب، ورأى أن الأخذ بالشفعة على الفور كالردِّ بالعيب، والقول بأنه لا يسقط حقه مطلقاً لمالك.
الأبهري: وهو القياس؛ لأنه حق ثبت له.
فلا يسقطه سكوته، والثالث هو المشهور تسقط بعد مضي مدة طويلة، واختلف في حدِّها، فروى أشهب: السنة ولا شفعة بعدها، وهو مذهب الرسالة.
المتيطي: وعليه العمل، وبالغ أشهب في هذا القول: فقال: إذا غربت الشمس من آخر أيام السنة فلا شفعة، ومذهب المدونة أن ما قارب السنة له حكمها.
قال في الوثائق: الشهر والشهران، وبه قال بن الهندي، وحكى العبدري ثلاثة أشهر، وقال ابن سهل: أربعة أشهر، وقال أصبغ في الواضحة: هو على الشفعة ثلاث سنين ونحوها.
وقال مطرف وابن الماجشون في شفيع حاضر قام بشفعته بعد خمس سنين، وربما قيل له أكثر من ذلك، فقال: لا أرى هذا طولاً ما لم يحدث المشتري بناء. ونحوه لعبد الملك في المبسوط أن العشر سنين لا تقطع الشفعة وإنما يقطعها ما زاد على ذلك كالحيازة، وروي عن أبي عمران ثلاثون سنة.
وقال بعضهم: خمس عشرة سنة؛ قال في المقدمات: وكان ابن الماجشون يقول بإيجاب الشفعة للحاضر إلى أربعين سنة ثم رجع إلى العشرة.
ابن عبد السلام: وهل يحلف ما كان وقوفه تركاً للشفعة في السنة؟
نقل الكافي عن مالك أنه إن قام عند رأس السنة فلا يحلف، وروي عنه أنه يحلف ولو قام بعد جمعة.
وفي المدونة: ولم ير مالك التسعة أشهر، وفي رواية لا السبعة أشهر كثير ولا السنة كثير، أي قاطعاً لحقِّه في الشفعة؛ لأنه إن تباعد هكذا يحلف ما كان وقوفه تركاً للشفعة، وفي الموازية عن مالك: يحلف في سبعة أشهر أو خمسة لا شهرين.
ابن العطار وابن الهندي وغيرهما من الموثقين: وظاهر المدونة أنه لا يحلف في السبعة أشهر، وحمل ابن رشد المدونة على أنه يحلف في السبعة.
تنبيه:
ما ذكرناه أن للشفيع القيام بالشفعة بعد سنة أو أكثر على الخلاف إنما هو إذا لم يحضر البيع، وأما إن حضر وكتب شهادته ثم قام بعد عشرة أيام، فروي عن مالك أنه يحلف ما كان ذلك منه تركا للشفعة ويأخذها.
المتيطي: قال غير واحد من الموثقين: ولم يصحب هذه الرواية عمل.
قال في البيان: وتحصيلها إن لم يكتب شهادته به، فإن أقام في القرب كالشهر والشهرين فله الشفعة بلا يمين، وإن لم يَقُمْ إلا بعد السبعة أو التسعة أو السنة فله الشفعة بيمين على ما في المدونة؛ وإن طال الأمدُ أكثر من السنة فليس له الشفعة، وإن كتب شهادته وقام بالقرب كلاعشرة أيام ونحوها فله الشفعة بيمين وإن لم يقم إلا بعد شهرين فلا شفعة.
خليل: وانظر هذا مع قوله في المدونة: وإذا علم بالاشتراء فلم يطلب شفعته سنة فلا يقطع ذلك شفعته، وإن كان قد كتب شهادته في الاشتراء، فلم يطلب شفعته سنة فلا يقطع ذلك شفعته، وإن كان قد كتب شهادته في الاشتراء، فإن ظاهره أنه لا فرق في ذلك بين أن يكتب شهادته أم لا، خلاف ما حصله ابن رشد.
فرعان:
أولهما: لو اختلف المبتاع والشفيع في مرور السنة، فالشفيع مصدق مع يمينه إذا لم تقم بينة.
الثاني: لو أنكر الشفيع العلم وهو حاضر فقال أبو الحسن عن ابن القاسم وأشهب: إنه يصدق وإن طال؛ لأن الأصل عدم العلم، المتيطي: وهو ظاهر المذهب وقاله غير واحد من الموثقين، ويحلف على ذلك.
محمد بن عبد الحكم وابن المواز: يصدق ولو بعد أربعة أعوام.
ابن المواز: فإن الأربعة كثير ولا يصدق في أكثر منها.
فائدة:
في المذهب مسائل حُدَّ فيها بالسنة: هذه، واللُّقَطَة، والمعترض لتمضي عليه الأزمنة، وكذلك المجنون، والأجذم، والأبرص، والمستحاضة عدتها سنة، وكذلك المرتابة، والمريضة،
والجُرح لا يحكم فيه إلا بعد السنة لتمضي عليه الفصول الأربعة، والبنت تقيم عند زوجها سنة ولم يصبها ثم تطلق فإنها لا تجبر بعد ذلك، واليتيمة تمكث في بيتها سنة فإنها تحمل على الرشد على قول، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: لا يجوز فعلها أبدا إلا بالبينة على الرشد والذي يوصي بشراء عبد ليعتق وأبى ربه البيع، فإنه يستأني سنة، وإذا قام شاهد بالطلاق فأبى أن يحبس سنة ثم يخلى مع امرأته وقيل: تطلق بالنُّكول والحيَازة إذا حاز الموهوب الهبة سنة صح الحوز فيها، وإن رجعت إلى الواهب على المشهور والزكاة والصوم لا يجبان إلى بعد السنة، والعمرة لا يباح فعلها على المشهور في السنة إلا مرة، وعهدة السنة والشاهد إذا تاب من فسقه قيل: لا بد من مضي ستة أشهر، وقيل: لا حدَّ لذلك إلا بحسب ما يعلم عنده. [587/ب]
والْغَائِبُ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ، فَإِذَا قَدِمَ فَكَالْحَاضِرِ مِنْ حِينِ قُدُومِهِ
يعني: أن الغائب على شفعته علم أو لم يعلم إلا أن يصرح بإسقاطها أو ما في معنى ذلك كما لو أمر بالمقاسمة معه ونحو ذلك، وقيد أشهب هذا إذا لم يكن موضعه قريباً، قال: وأما إن كان قريباً لا مؤنَة عليه بالنهوض، فطال زمانه بعد علمه بوجوب الشفعة، فهو كالحاضر.
وقال غيره في المجموعة: وليس المرأة الضعيفة ومن لا يستطيع النهوض في ذلك مثل غيرهم، وإنما فيه اجتهاد السلطان.
مطرف وابن الماجشون: والمريض والحاضر والصغيرة والبكر كالغائب، ولهم بعد زوال ذلك العذر ما للحاضر سواء كان المريض أو الغائب عالما بشفعته أو جاهلاً.
وقال أصبغ: المريض كالصحيح إلا أن يشهد في مرضه قبل مضي وقت الشفعة أنه على شفعته وأنه ترك التوكيل عجزاً عنه وإلا فلا شيء عليه بعد ذلك.
واختار ابن حبيب قول مطرف وابن الماجشون، وأخذ الباجي من قول أصبغ في المريض، أن الشفعة إنما تكون للغائب إذا لم يعلم وأما إن علم فلا يكون ذلك إلا بالإشهاد كالمريض، وحكى في الاستذكار عن جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم أنه ليس على الغائب إشهاد ولا يمين.
وقوله: (فَإِذَا قَدِمَ فَكَالْحَاضِرِ مِنْ حِينِ قُدُومِهِ) تصوره ظاهر، ولو قيد هذا بما إذا لم يتقدم له علم في غيبته، وأما إن علم فلا يوسع له في الأجل كالحاضر لما بعد.
وإِنْ عَلِمَ فَغَابَ فَكَالْحَاضِرِ
هذا فيه إطلاق يقيد بما في المدونة ففيها: إن سافر الشفيع بحدثان الشراء فأقام سنين كثيرة ثم قدم فطلب الشفعة، فإن كان سفره يعلم أنه لا يؤوب منه إلا بعد أجل تنقطع فيه الشفعة للحاضر بجوازه فلا شفعة له، وإن كان سفراً يؤوب منه قبل ذلك، فعاقه أمر يعذر به فهو على شفعته، ويحلف بالله ما كان تاركا لشفعته أشهد عند خروجه أنه على شفعته أم لا.
وقوله: بجوازه: كذا وقع في التهذيب، ونقله عبد الحق وغيره، ولا يسقط قبل المجاوزة لاحتمال أن يكون من يأخذ له ولو في طريقه.
وقال اللخمي: متى سافر السفر المذكور سقطت شفعته ولو عاد بالقرب.
وَوَلِيُّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ كَالشَّفِيعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَالغِائِبِ.
يعني وحكم ولي المحجور عليهم من أب أو وصي كالشفيع في الأخذ والإسقاط والسكوت.
المتيطي: ويلزمهما اليمين إذا قاما بعد شهرين من البيع كالأخذ لنفسه.
ابن عبد السلام: وهذا كالمتفق عليه في المذهب، إلا أن بعض الشيوخ حكى خلافاً في سقوط شفعة الموصى بسكوت الوصي عنها، فإن لم يكن له اب ولا وصي، نظر القاضي أو مقدمه فإن كان بموضع لا سلطان فيه، أو لم يرفع الأمر إلى السلطان فهو كالغائب، فيكون على شفعته إذا رشد ويمضي لذلك عام ونحوه على ما تقدم.
قال في المدونة: ولو سلم من ذكرنا من أب أو وصي أو سلطان شفعة الصغير لزمه ذلك ولا قيام له إن كبر.
أبو الحسن: وظاهرها كان الأخذ نظراً أو لا، وبه قال أبو عمران، وقال غير واحد من الموثقين: إن ثبت أن إسقاط الشفعة سوء نظر من الأب أو الوصي، وأن الأخذ بها كان نظراً فهو على شفعته، وفي الموازية: إذا علم من الوصي أنه ضيع من الأخذ بالشفعة وأن ذلك كان على غير حسن نظر، ومضى للبيع خمس سنين فلا شفعة للصغير إذا رشد.
أبو عمران: وإن سلم القاضي شفعة الصغير، وليس ذلك بنظر، فإن ذلك لا يقطع شفعته؛ لأنه إنما يصير كأنه رفع إليه فلم يحكم وليس هو كالأب والوصي يسلمان الشفعة، فإن شفعته تسقط.
المتيطي وابن راشد: وهو خلاف ما قاله مالك في الأب والوصي.
وَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالأخْذِ أَوْ الإِسْقَاطِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لا قَبْلَهُ
يعني: وللمشتري مطالبة الشفيع بأحد أمرين: إما أن يأخذ بالشفعة، وإما أن يسقط لما يلحقه من الضرر بترك التصرف فيما اشتراه، ولهذا لا تكون له المطالبة إلا بعد الشراء وأما قبله فلا لعدم الضرر حينئذ.
وَفِي إِمْهَالِهِ ثَلاثَةَ أَيَّامِ قَوْلانِ
أي: إذا طلب الشفيع الإمهال لينظر ويستشير لما وقفه المشتري فهل يمهل؟
قال في الموازية: ولا يمهل ولو ساعة واحدة.
وقال أشهب في المجموعة والمتيطي وابن راشد: وهو المشهور المعمول به قالا تبعا لصاحب البيان.
وظاهر المدونة أنه يؤخذ في النقد لا في الارتياء والقول بأنه يؤخر ثلاثة أيام لمالك في المختصر.
اللخمي: وهو أحسن إذا كان إيقافه فور الشراء، قال في البيان: وقاسه ابن عبد الحكم على استتابة المرتد، والأول كقول مالك في الولي أنه لا يؤخر لينظر، وفي الزوجين الجوسيين يسلم الزوج، فإن يعرض الإسلام عليها ولا تؤخر، وكذلك المملكة يوقفها فإنها لا تؤخر، إما أن تقضي أو ترد.
ولا يؤخذ المشهور من كلام المصنف، لأن قوله:(وَفِي إِمْهَالِهِ ثَلاثَةَ أَيَّامِ) لا يؤخذ منه أن القول الآخر لا يمهل البتة لاحتمال أن يمهل يوما أو يومين، ابن المواز: وهذا كله إذا أوقفه الحاكم وأما إذا أوقفه غير السلطان فهو على شفعته حتى يوقفه السلطان أو يترك، وإن أخذ الشفعة وسأل التأخير في دفع الثمن، فإن يؤجل ثلاثة ايام قاله في المدونة وبه العمل والقضاء، وقال عبد الملك في الثمانية: يؤخر عشرة أيام ونحوها مما يقرب ولا يكون على المشتري فيه ضرر، وقال أصبغ: يؤجل على قدر المال في القلة والكثرة، وحاله في اليسر والعسر فيؤجل خمسة عشر يوماً، وأقصى ذلك الشهر [588/أ] إذا رآه الحاكم، ولا أدري ما وراء ذلك.
فرع:
وإذا كان المشتري غائباً وطلب الشفيع التأخير حتى ينظر، فقال مالك: ليس ذلك له وإن كانت الغيبة قريبة كالساعة أخر.
وَلَوْ أُسْقِطَ بِعِوَضٍ جَازَ
أي: إذا وجبت الشفعة للشفيع فله أن يأخذ على ذلك العوض وهو ظاهر.
وَلَوْ أَسْقَطَ قَبْلَهُ لَمْ يَلْزَمْ وَلَوْ بِعِوَضٍ
أي: (لَوْ أَسْقَطَ) الشفيع الشفعة قبل شراء المشتري، فإن قال له: اشتر ولا شفعة لي عليك، لم يلزمه ذلك الإسقاط وكان له الأخذ بالشفعة بعد الشراء.
ابن يونس: لأن من وهب ما لا يملك لم تصح هبته.
أشهب وعبد الملك: كمن أذن له ورثته أن يوصي بأكثر من الثلث في صحته، فإن ذلك لا يلزمهم.
اللخمي: ويجري فيها قول بلزوم ما التزم ممن قال: إن اشتريت عبد فلان فهو حر، وإن تزوجت فلانة فهي طالق، وقد قالوا في من قاله لزوجته: إن تزوجت عليك فأمر التي أتزوجها بديك، فأسقطت ذلك الخيار قبل أن يتزوج، أن ذلك لازم لها وهي في الشفعة مثله؛ لأنه أدخل المشتري في الشراء لمكان الترك ولولا الترك لم يشتر.
قوله: (وَلَوْ بِعِوَضٍ) هو للمبالغة؛ لأنه إذا كان بعوض كان أقوى، وقد يقال: إذا كان بغير عوض يكون أقوى؛ لأن المعاوضة على ذلك قبل الشراء لا تجوز وما كان كذلك ففسخ بخلافه إذا كان بغير عوض، فإنه هبة وهي جائزة بالمجهول، وعلى هذا فلا يحسن قول المصنف:(وَلَوْ بِعِوَضٍ) نعم يحسن عكسه، وهو أن يقول: ولو كان بغير عوض، ونقل ابن بزيزة في اللزوم قبله قولين على لزوم الوفاء بالعهد.
خليل: وقد يقال: هما على الخلاف فيما جرى سببه دون شرطه؛ لأن الشركة سبب والبيع شرط، والله أعلم.
الآخِذُ: الشَّرِيكُ وَالْمُحبِّسُ إِنْ كَانَتْ تَرْجِعُ إِلَيْهِ وَإِلا فَلا، إِلا أَنْ يُرِيدَ الْمُحَبِّسُ أَوِ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ إِلْحَاقَهَا بِالْحَبْسِ فَقَوْلانِ ....
هذا شروع منه في الكلام على الركن الثاني، واحترز بالشريك من الجار فلا شفعة له عندنا، والمحبس إنما ترجع إليه الحصة المحبسة إذا حبسها بمعنى العمرى كما إذا قال: أعمرتك داري فإنها ترجع بعد موت المُعمِر، وأما لو حبس فلان وعقبه، أنها لا ترجع على المحبس على المشهور بل ترجع حبساً على أقرب الناس بالمحبس يوم المرجع، وقيل: ترجع ملاكاً له.
فعلى هذا القول الشاذ: للمحبس الشفعة، وعلى كل تقدير فكلامه ليس بظاهر؛ لأنه إن أراد المعمِّر فإطلاق المحبِّس مجازاً لا قرينة تدل على إرادته إلا أن يقول: القرينة ما ذكره في كتاب الحبس.
وإن أراد المحبس في الصورة المذكورة فيكون كلامه على خلاف المشهور.
(وَإِلا فَلا) أي: وإن لم يكن المحبس يرجع إليه فلا شفعة له باتفاق.
قوله: (إلا أن يريد المحبس أو المحبس عليه) إلحاق الحصة المبيعة بالحبس (فَقَوْلانِ) ومذهب المدونة أن الشفعة للمحبس دون المحبس عليهم.
اللخمي: لأنهم لا أصل لهم بخلاف المحبس.
وقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: للمحبس عليهم الأخذ بالشفعة إذا أرادوا إلحاق الحصة بالحبس، قال بعضهم: فعلى هذا لو أراد أجنبي أن يأخذ بالشفعة للمحبس كان له ذلك، وحكى اللخمي ثالثا أنه لا شفعة للمحبس وإن أراد الإلحاق واستحسنه؛ لأن المحبس أزال الملك، فكان كالأجنبي، وعلى هذا فلا شفعة للمحبس عليهم من باب أولى، واختلف في صاحب المواريث هل يأخذ الشفعة لبيت المال؟
فقال بعضهم: له الأخذ، ومنع ذلك ابن زرب، ورأى الأول خطأ، ورجح بمنعه في المدونة أنْ يكون للمحبس عليهم الشفعة، وليس لناظر وقف المسجد أنْ يأذنَ بالشُّفعة، واعترض كلام المصنف ابن زرب بما نص عليه سحنون في المرتد.
وقد وجبت له شفعة إذ للسلطان أن يأخذها لبيت المال أو يترك، وأجاب ابن رشد في أجوبته بأنه إما كان ذلك للسلطان لعموم نظره بخلاف صاحب المواريث إلا أن يجعل ذلك بيده فيكون كالسلطان.
فرع:
وهل يجوز لأحد الشريكين أن يحبس حصته بغير رضا شريكه؟
اللخمي: إن كانت تحمل القسمة جاز؛ لأنه لا ضرر على الشريك في ذلك فإن كره البقاء على الشركة قَاسَم، وإن كانت لا تنقسم كان له رد الحبس للضرر الذي يدخل عليه؛ لأنه لا يقدر على بيع جميعها، وإذا فسد منها شيء لم يجد من يُصلح معه، وحكى ابن سهل في تحبيس أحدهما نصيبه لا ينقسم قولين.
ولِلنَّاظِرِ أَخْذُ شِقْصٍ بَاعَهُ لِطِفْلٍ آخَرَ أَوْ لِنَفْسِهِ
عياض وغيره: الشِّقص بكسر الشين المعجمة: النصيب، يعني للموصي على يتيمين إذا باع نصيب أحدهما أن يأخذ بالشفعة ليتيمه الأخر (لِنَفْسِهِ) إن كان شريكاً لكن يدخل معه نظر القاضي إذا أخذه لنفسه؛ إذ يتهم أن يبيع منفرداً كما لو بيع نصيب يتيمه بثمن بخس ليأخذه بالشفعة، وكذلك إذا باع نصيب نفسه وأراد أخذه ليتيمه فلا بد من نظر القاضي، وقد تقدم في غير موضع بيع عقار اليتيم فلا بد من مراعاة ذلك هنا ولا بد أيضا أن يكون الشقص المبتاع لليتيم لا يقل ثمنه إذا بيع منفردا ما لو بيع الجميع، وأما لو كان - وهو الغالب - إذا بيع جميع ذلك أوجر لنصيب اليتيم فيباع الجميع.
ويَمْلِكُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوْ بِالإِشْهَادِ أَوْ بِالْقَضَاءِ
أي: (ويَمْلِكُ) الشفيع بأحد ثلاثة أوجه: إما بتسليم الثمن للمشتري وإن كان لم يرضَ أو بمجرد إشهاد بالأخذ أو بالحكم له بذلك، وهكذا في الجواهر، قال في البيان: وإذا وقف الشفيع فلا يخلو من ثلاثة أوجه:
أولها: أن يقول: أخذت، ويقول المشتري، سلمت ويؤجله الأيام في دفع الثمن، فإن لم يأت فليس لأحدهما الرجوع، وباع للمشتري من مال الشفيع حتى يفي.
ثانيها: أن يقول: أخذت، وسكت المشتري، ويؤجله في الثمن، فلا يأتي به، فهذا إن طلب المشتري أن يباع له في الثمن فله ذلك، وإن أحب أخذ شقصه فله ذلك ولا خيار للشفيع على المشتري، وهذا الوجه في المدونة.
وثالثها: أن يقول: إنا أخذنا أخذا، ولا يقول: أنا أخذت، [588/ب] ويؤجله المشتري الأيام في الثمن، فاختلف فيه إذا لم يأت بالثمن، فقيل: يرجع الشقص إلى المشتري إلا أن يتفقا على إمضاءه للشفيع، وقيل: إن أراد المشتري أن يلزم للشفيع الأخذ كان ذلك له وإن أراد الشفيع أن يرد الشقص لم يكن له ذلك، وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى، وقول أشهب، والأول أبين.
وَتُلْزِمُ إِنْ عُلِمَ الثَّمَنُ وَإِلا فَلا
(وَتُلْزِمُ) الشفعة الأخذ إن علم الثمن، وهذا كقوله في المدونة: فإن قال الشفيع بعد الشراء: اشهدوا أني أخذت بشفعتي ثم رجع، فإن علم بالثمن قبل الأخذ لزمه، وإن لم يعلم به فله أن يرجع، وقال أشهب: إن لم يعلم إلا بعد أخذه، ورضي لم يجز وفسخ ثم تكون له الشفعة بعد الفسخ.
وقال المازري: إن أخذ قبل علمه بالثمن ثم علم فقال: ظننت أقل، فإن كان أراد أن يرد فله ذلك اتفاقاً وإن أراد أن يتمسك به فالمشهور أن له ذلك، وقال ابن المواز: ليس له ذلك، وأخذ اللخمي مما في المدونة: أنه يجوز الأخذ بالشفعة قبل معرفة الثمن، خلاف ما قاله صاحب النكت: إذا ابتاع شقصاً وعرضاً في صفقة واحدة لا يجوز أن يأخذ الشِّقص بالحصة إلا بعد المعرفة بما يخصه من الثمن لئلا يكون ابتداءَ شراءٍ بثمن مجهول وأخذ اللخمي ظاهر.
وَهِيَ عَلَى أَنْصِبَائِهِمْ - وَخُرِّجَ: عَلَى عَدَدِهِمْ مِنَ الْمُعْتَقِينَ وحَصَصُهُمْ مُتَفَاوِتَةٌ
كما لو كانت دار بين ثلاثة: لأحدهم: نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر: سدسها، وباع صاحب النصف، وقام الشريكان بالشفعة فإنه يكون لصاحب الثلث: الثلث ولصاحب السدس: السدس وهذا هو المشهور، وحكى ابن الجهم عن بعض الأصحاب أنها على الرؤوس، وخرجه اللخمي من القول الشاذِّ من مسألة العتق، وخرَّجه غيره على أحد القولين في أجرة القاسم، وقد تقدمت نظائر هذه المسألة في النفقات، قيل: وهذا هو الظاهر؛ لأن الشفعة معللة بأصل الملك، إذ لو انفرد أقلهم نصيباً لكانَ له أخذ الجميع، ولهذا قال اللخمي: لو كانت الشفعة في ما لا ينقسم على القول بذلك لكانت على الرؤوس؛ لأنها هنا إنما تلحق من مضرة دعوى المشتري إلى البيع وذلك مما يستوي فيه قليل النصيب وكثيره.
خليل: وقد يقال: في التخريج نظر؛ إذ لا شك أن العلة في الشفعة الضرر ومتى كثر النصيب كثر الضرر، ومتى قل قلَّ بخلاف العتق فإن من قال بالتقويم فيه على الرؤوس يعلل بأنه حق الباري تعالى ولا تفاوت فيه، والله اعلم.
وإِذَا اتَّحَدَتِ الصَّفْقَةُ وَأَسْقَطَ بَعْضُهُمْ أَوْ غَابَ فَلَيْسَ لَهُ إِلا أَخْذُ الْجَمِيعِ
يعني: إذا انعقد البيع على صفقة واحدة في حصة واحدة من دار أو دور، وللحصة شفعاء، وأسقط أحدهم حقه من الشفعة أو غاب، فليس للباقي إلا أن يأخذ الجميع أو يدع لما يدخل على المشتري بالتشقيص.
وفي المدونة: إذا كان للشقص شفع وغابوا إلا واحداً حاضراً فأراد أخذ الجميع ومنعه المشتري أخذ نصيب الغياب.
أو قال له المبتاع: خذ الجميع، وقال الشفيع: لا آخذ إلا حقي، فإنما للشفيع أن يأخذ الجميع أو يترك، وكذلك إذا قال: أنا آخذ حصتي، فإذا قدم أصحابي، فإن أّخذوا وإلا أَخذتُ الباقي، لم يكن له ذلك إلا أن يأخذ الجميع أو يدع، فإن سلم له فلا آخذ له مع أصحابه إن قدموا ولهم أن يأخذوا الجميع أو يدعوا فإن سلموا إلا واحدا قيل له: خذ الجميع وإلا دع.
ولو أخذ الحاضر الجميع وقدموا؛ فلهم أن يأخذوا حصصهم منه، وإن أخذ بعضهم وابى البعض لم يكن لأحد أن يأخذ بقدر حصته فقط فيساوي الأخذ قبله فيما أخذ أو يدع، وحاصله أن القول قول من ادعى إلى عدم التشقيص من المشتري أو الشفيع إلا أن يصطلحا على أمرٍ فيجوز.
وقوله في المدونة: فإذا سلم فلا أخذ له مع أصحابه إن قدموا ولهم أن يأخذوا الجميع وهو المشهور، وقال أصبغ وابن حبيب: إذا كان تسليم أحد الشفعاء للمشتري على وجه الهبة أو الصدقة عليه فليس لمن أراد الأخذ إلا بقدر سهمه وللمبتاع سهم من سلم، وإن كان على ترك الشفعة وكراهة الأخذ فللمتمسك أخذ جميعها، وفي مختصر الوقار: ليسَ له إن لم يجز إلا مصابته خاصة.
اللخمي: وهو أقيس الأقوال؛ لأن الفاضل عن حصته لم يكن له وإنما كان لغيره، وجعل في البيان هذا الخلاف في ما إذا قال الشفيعُ التارك للمشتري: فقد أسلمت شفعتي لك، وأما لو أسلم أحد الشفعاء الشفعة بعد وجوبها ولم يقل لك فلا خلاف أنَّ لمن بقي من الشفعاء أن يأخذ الجميع، وقوله في المدونة: إذا أخذ الحاضر الجميع ثم قدموا فلهم إن بلغوا معه أن يدخلوا، قال صاحب النكت: يجب على أصل ابن القاسم أن تكون عهدتهم على المبتاع أو المأخوذ منه بالشفعة لا على صاحبهم ولو كان كذلك لكان يؤخذ من يديه الجميع وهم إنما يأخذون حصتهم، وتبقى له حصته، وليس كما قال أشهب: إنهم يجعلون عهدتهم إن شاءوا على صاحبهم الذي أخذ الجميع لغيبتهم، وإن شاءوا جعلوها على المبتاع، وقال صاحب المقدمات: قول أشهب تفسير لقول ابن القاسم قبل.
وقيل: إن قول أشهب خلاف لمذهب ابن القاسم، وأنه لا يكتب عهدته على مذهب ابن القاسم إلا على المشتري، وليس ذلك بصحيح، والصواب أن قول أشهب مفسر لقول ابن القاسم.
وَلَوْ تَعَدَّدَ الْبَائِعُ وَتَعَدَّدَتِ الْحِصَصُ فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَالشَّفِيعُ وَاحِدٌ فَكَذَلِكَ ....
يريد: والمشتري واحد كأن يكون لثلاثة شرك مع رابع هذا يشاركه في دار وهذا في بستان فباع الثلاثة أنصباءهم صفقة واحدة من رجل [589/أ] فقام الشريك، وأراد أن يشفع في الدار بمفردها فليس له ذلك إذا امتنع المشتري وليس له إلا أخذ الجميع أو تركه؛ لأنه تبعض على المشتري صفقته.
وإلى هذا أشار بقوله: (فَكَذَلِكَ) وهذا مذهب ابن القاسم المعروف، وفي الاستذكار عن أشهب: له أن يأخذ ممن شاء.
وَإِنْ تَعَدَّدَتْ هِيَ وَالْمُشْتَرُونَ فَلَهُ الشُفْعَةُ مِنْ أَحَدِهِمْ؛ ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ
ولو (تَعَدَّدَتْ) الحصص (وَالْمُشْتَرُونَ) واتحدت الصفقة ولم يفارق هذا الفرع الذي قبله إلا بتعدد المشتري هنا كما لو باع الثلاثة أنصباءهم من رجلين فللشفيع الأخذ بالشفعة من أحدهما، قاله ابن القاسم (ثُمَّ رَجَعَ) عنه نظراً إلى اتّحاد الصفقة، وبالأول قال أشهب وسحنون، وهو اختيار التونسي واللخمي.
ابن راشد: وهو الأصح: لأن المأخوذ من يده لم تتبعض عليه صفقته.
وَالشَّرِيكُ الأَخَصُّ أَوْلَى عَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنْ أَسْقَطَ فَالأَعَمُّ كَالْجِدَّتَيْنِ والأُخْتَيْنِ والزَّوْجَتَيْنِ، ثُمَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ثُمَّ الأَجَانِبِ
…
مثاله: إذا كانت دار بين اثنين ثم مات أحدهما وترك جدتين وأختين وزوجتين ثم باعت إحدى الجدتين، فإن الجدة الأخرى أولى؛ لأنها شركة أخص لاشتراكها معها وسهمهما واحد، هذا هو المشهور، وروي أن الجميع سواء.
ابن القصار: وهو القياس. ابن عبد السلام: وهو ظاهر ما في الموازية وظاهر قول ابن دينار والنفس أميل إليه؛ لأن الموجب للشفعة هو الشركة لا شركة مقيدة.
قوله: (فَإِنْ أَسْقَطَ) هو تفريع على المشهور، أي فيكون لبقية ذوي السهام.
(ثُمَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ) أي: العصبة إذا كان في الفريضة عصبة، فإن أسقط العصبة فالشفعة للشركاء الأجانب، وكذلك أيضاً لو حصلت شركة بوراثة عن وراثة لكان أهل الوراثة السفلى أولى، نص عليه في المدونة في ما إذا ورث ثلاثة بنين داراً ثم مات أحدهم وترك أولاداً فإن إذا باع أحد الأولاد، كانت إخوته أولى ثم الأعمام ثم الشركاء الأجانب، قال في المدونة: ولو باع الأعمام فالشفعة لأخيه ويدخل بنو الأخ لدخولهم مدخل أبيهم، فنص على أن الأخص يدخل على الأعم وإلى هذا أشار بقوله:
وَيَدْخُلُ الأَخَصُّ عَلَى الأَعَمِّ
تصوره ظاهر مما ذكرنا، ونقل ابن العطار عن أصبغ أنه قال: إن باع أحد أو هذا الولد فالشفعة لإخوته وأعمامه؛ لأنهم ليسوا أهل سهم وإنما هم عصبة، ولا يكون أهل سهم إلا أهل الفرائض، قال في المدونة: إذا ترك أختا شقيقة وأختين لأب فأخذت الشقيقة النصف والاثنان السدس تكملة الثلثين فباعت إحدى الأختين للأب، فالشفعة للشقيقة والتي للأب؛ إذ هما أهل سهم وعن أشهب أن الأخت للأب أولى.
اللخمي: وهو أحسن؛ قال فيها: وإن ترك ثلاث بنين: ابنان شقيقان وآخر لأب، وترك داراً فباع أحد الشقيقين، فالشفعة بين الشقيق والأخ للأب، إذ بالبنوة ورثوا.
وَفِي دُخُولِ ذَوِي السِّهَامِ عَلَى الْعَصَبَةِ قَوْلانِ
هكذا وقع في بعض النسخ وعليها تكلم ابن عبد السلام فقال: يعني اختلاف على قولين: هل ذوي السهام فيما بينهم وبين العصبة كالأخص مع الأعم فيدخل ذوي السهام على العصبة، ولا يدخل العصبة على ذوي السهام وهو مذهب المدونة واختاره ابن عبد الحكم وأصبغ وقال أشهب: إن بقية العصبة أحق كأهل السهام.
ابن عبد السلام: وهو الأقرب عندي، ولا يختلف أن العصبة لا يدخلوا على ذوي السهام؛ لأنه إذا لم يدخل ذو سهم على ذي سهم آخر فأحرى العصبة، ووقع في بعض النسخ: وفي دخلو ذوي السهام على العصبة أو العكس، ثالثها: يدخل ذوو السهام، وعليها تكلم ابن راشد فقال: الثالث هو المشهور، والقول بدخول بعضهم على بعض مبني على أن نسبتهم إلى الموروث نسبة واحدة، والقول بدخول بعضهم على بعض لأشهب وهو أقيس، انتهى.
وعلى هذا فقول ابن عبد السلام: ولا يختلف إلى آخره ليس بظاهر، وقد تقدم لنا قول بدخول الأعم على الأخص.
ابن المواز عن أشهب: ولو اشترى ثلاثة داراً أو ورثوها فباع أحدهم ما بقي وسلم الشريكان ثم باع أحد النفر المشتركين مصابته، فبقية النفر أشفع من شريكي البائع، ولو باع أحد شريكي البائع لدخل في الشفعة شريكه الذي لم يبع، وسائر النَّفر الذين اشتروا الثلث الأول فيصير لهم النصف ولشريكهم الذي لم يبع النصف، قال: وخالفهم ابن القاسم في هذا وقال: لا يكون الذين اشتروا الثلث الأول أشفع فما باع بعضهم من شركاء بايعهم بل هم كبائعهم يقومون مقامه إذا باع أحدهم فالشفعة لمن بقي منهم وسائر شركاء البائع منهم على الحصص بخلاف ورثة الوارث أو ورثة المشترين.
أصبغ: وهذا من الحق إن شاء الله، وهو الصواب.
والْمُوصَى لِهُمْ مَعَ الْوَرَثَةِ كَالعَصَبَة مَعَ ذَوِي السِّهَامِ
أي: فلا يدخل الموصى لهم على الورثة، واختلف هل يدخل الورثة معهم، فروى أشهب فيمن أوصى بثلث حائط أو سهم فباع أحدهما حصته أن شركاءه أحق بالشفعة فيما باع من الورثة.
محمد: وقاله أشهب وابن عبد الحكم، وقال ابن القاسم: للورثة الدخول معهم كأهل السهام مع العصبة، وسلم ابن المواز دخول ذوي السهام على العصبة ومنع دخولهم على الموصى لهم ورأى أن الجزء الذي اوصى به الميت كالجزء الذي يجب لذوي السهام بالميراث.
فرعان:
الأول: إذا أوصى الميت أن يباع نصيب من داره لرجل بعينه والثلث يحمله لم يكن للورثة عليه [589/ب] شفعة لئلا يبطل ما قصده الميت من تمليك الموصى له بذلك الجزء ولو كان شريك الميت أجنبياً لوجبت له قيمة الشفعة.
الثاني: لو أوصى بثلثه للمساكين فباع الوصي ثلث الوصية، فقال سحنون: لا شفعة فيه؛ لأن بيع الوصي كبيع الميت، وقال غيره: الشفعة في ذلك للورثة.
اللخمي: وهو القياس.
الباجي: وهو الأظهر، وقد بلغني ذلك عن ابن المواز.
ابن الهندي: وهو الأصح لدخول الضرر على الورثة.
الْمَاخُوذُ مِنْهُ: مَن تجَدَّدَ مِلْكُهُ اللازِمُ اخْتِيَاراً، وَقِيلَ: بِمُعَاوضَةٍ، فَفِي الصَّدَقَةِ وِالْهِبَةِ لِغَيْرِ ثَوَابٍ قَوْلانِ ....
احترز بقوله: (مَن تجَدَّدَ مِلْكُهُ) مما إذا اشترى اثنان داراً دفعةً واحدة فلا شفعة لأحدهما على صاحبه؛ لأن أحدهما لم يسبق ملكه ملك الآخر ولأنها لو وجبت لأحدهما لوجبت للآخر، ولو وجبت لهما لزم ألا تجب لهما وكل ما أدى ثبوته إلى نفيه فهو منتف، وباللازم من بيع الخيار فإنه لا شفعة فيه قبل لزومه كما سيأتي، وبالاختيار من الميراث فإنه وإن تجدد ملك الوارث للحصة لكن لا بطريق الاختيار بل بطريق اللزوم فلا شفعة عليه، هذا هو المشهور، وروي عن مالك أنه يشفع على الوارث لتجدد ملكه وهذه الصورة صادقة على الصدقة والهبة لغير ثواب.
(وَقِيلَ: بِمُعَاوضَةٍ) ليخرجها، وهذا هو مذهب المدونة والمشهور.
ابن يونس وغيره: وهو الأصح، والأول أيضاً لمالك، وتقديم المصنف للأول ليس كما ينبغي.
وقول المصنف: (بِمُعَاوضَةٍ) أحسن من الشراء؛ لأنه يدخل فيها هبة الثواب والكراء.
وقوله: (فَفِي الصَّدَقَةِ وِالْهِبَةِ لِغَيْرِ ثَوَابٍ قَوْلانِ) هو مأخوذ مما قدَّمه وإنما ذكرهُ زيادة في الإيضاح، وعلى مذهب المدونة: إن أثاب الموهوب له عن هبة لغير ثواب شيئاً فلا شفعة فيها كما إذا رأى أن الهبة لصلة الرحم أو صدقة قاله في المدونة؛ لأن هذا ليس
بعوض حقيقة إلا أن يقوم دليل على أنهما عملا عليه. فلو أراد الشريك أن يحلف الموهوب له أنهما لم يسيرا بيعا لم يحلف إلا أن يكون ممن يتهم بذلك مثل أن يكون محتاجاً وهب لغني فيحلف الموهوب له، وإن كانت على صغير حلف أبوه، وقال عبد الملك ومطرف: يحلف مجملا. المتيطي: والقضاء بالأول.
وَلا شُفْعَةَ فِي مِيراثٍ وَلا فِي خِيَارٍ إِلا بَعْدَ إِمْضَائِهِ
هذا هو الذي احترز عنه بالقيود أولاً، ولو عطف بالفاء ليكون كالنتيجة عما قبله لكان أحسن.
وَلَوْ بَاعَ نِصْفَيْنِ لاثْنَيْنِ خِيَاراً وبَتْلاً ثُمَّ أَمْضَى - فَفِي تَعْيِينِ الشُّفْعَةِ قَوْلانِ، بِنَاءً عَلَى الْبَيْعِ مِنَ الْعَقْدِ أو الإِمْضَاءِ ....
أشار بقوله: (مِنَ الْعَقْدِ أو الإِمْضَاءِ) إلى الخلاف المشهور هل بيع الخيار منحل أو منبرم؟
فعلى انعقاده الشفعة لمشتري الخيار؛ لأن مشتري البتل متجدد عليه إذ الفرض أنه باع لمشتري الخيار أولاً، ولهذا لو قال المصنف: خيارً ثم بتلا كما قال غيره لكان أحسن. وعلى أنه منحل فالشفعة لمشتري البتل، والمعروف من المذهب أن بيع الخيار منحل لكن المنقول هنا عن ابن القاسم أن الشفعة لمشتري الخيار.
وعَلَيْهِ وَعَلَى الْخِلافِ فِي بَيْعِ حِصَّةِ الْمُسْتَشْفَعِ بِهَا إِذَا بَاعَ حِصَّتَهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ بَاعَ شَرِيكُهُ الآخَرُ بَتْلاً، ثُمَّ أَمْضَى جَاءَتْ أَرْبَعَةٌ: مَاضٍ أَوَّلاً وَيَشْفَعُ - فَالشُّفْعَةُ لِبَائِعِ الْبَتْلِ ....
يعني: ويتنزل على هذا الخلاف في بيع الخيار هل هو منحل أو منبرم إذا ضممنا إليه الخلاف المتقدم في بيع الحصة المستشفع فها، هل تسقط الشفعة أم لا؟ إذا باع شريكان
حصتهما لرجلين باع أحدهما حصته خياراً ثم باع الآخر حصته بتلاً ثم أمضى الخيار أربعة أقوال، فعلى أنَّ بيع الخيار منعفد من يوم العقد وأن من باع الشقص لا تسقط شفعته فالشفعة لبائع البتل على مشتري الخيار؛ لأن بائع البتل يقول: بائع الخيار باع قبلي فقد وجبت الشفعة لي قبل بيعي حصتي وبيعي لحصتي ليس يُسقط لي حقي في الشفعة.
ومُقَابِلُهُ لِمُشْتَرِي الْبَتْلِ
أي: وإن قلنا: إنَّ بيع الخيار منحل وإن من باع حصته تسقط شفعته، فالشفعة لمشتري البتل؛ لأن مشتري الخيار إنما انبرمَ شراؤه بعد مشتري البتل، فكان مشتري الخيار متجدداً على مشتري البتل فكانت له الشفعة عليه، وعزا ابن يونس هذا القول لأشهب.
ابن عبد السلام: وكلام المصنف صحيح إلا أنَّه زاد في الأصل الذي بنى عليه هذا القول زيادة مستغنى عنها وهي أنه فرض أن بيع الحصة المستشفع بها لا يضر في طلب الشفعة، وهذا لا يحتاج إليه في هذا القول الثاني وإنما يحتاج إلى كون الخيار منحلاً، ولعله إنما ذكر بيع الحصة المستشفع بها يسقط لإسقاط حق بائع البتل.
الثَّالِثُ لِمُشْتَرِي الْخِيَارِ
أي: أنَّ القول الثالث مبني على الاحتمال الثالث، وقد قدَّمْنَا أنَّ المصنِّف إذا ذكر قسمة رباعية أن يبدأ بإثباتين ثم بنفيين ثم بإثبات الأول ونفي الثاني ثم بالعكس فيكون الثالث أن بيع الخيار منعقد، وأن من باع الحصة المستشفع بها تسقط شفعته، فالشفعة لمشتري الخيار؛ لأنه حصل له الملك يوم الشراء، فمشتري البتل متجدد عليه ولا شفعة لبائع البتل لحصته وهذا القول مذهب المدونة؛ لأن فيها: ومن باع شِقْصاً بالخيار وله شفيع فباع الشفيع شقصه قبل تمام الخيار بيع بتل فإن لم يبع بالخيار فالشفعة لمبتاعه.
خليل: وأجرى ابن القاسم على خلاف قاعدته؛ لأنَّ المشهور في غير مسألة أن بيع الخيار منحلّ.
[590/أ] الرَّابِعُ لِبَائِعِ الْخِيَارِ
أي: والقول الرابع مبني على الاحتمال الرابع: وهو أن يفرض أن بيع الخيار منحل، وأن بائع الحصة المستشفع بها يشفع فالشفعة لبائع الخيار؛ لأن مشتري البتل متجدد عليه ذلك الملك مستصحب حتى يمضي البيع فكان له الشفعة على مشتري البتل وليس بيعه شقصه مسقطاً لحقه في الشفعة، وهذا قول ابن المواز وأصبغ.
وتَثْبُتُ فِي الْمَهْرِ والْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وجَمِيعِ الْمُعَاوَضَاتِ
يعني: أن الشفعة تثبت في كل معاوضة سواء كانت المعاوضة بمال أو غيره: كالمهر والخلع والمصالح على خراج العمد والخطأ، قال في المدونة: والشفعة في هذا بقيمة الشقص.
ابن يونس: يريد ولا يجوز الاستشفاع إلا بعد المعرفة بالقيمة.
خليل: وهذا بخلاف ما أخذه اللخمي أنه يجوز الأخذ قبل معرفة الثمن وقد تقدم ذلك.
وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي
يعني: وعهدة الشفيع على المشتري وهي ضمان درك الثمن في العيب والاستحقاق وكانت عليه؛ لأنه الذي أخذ منه الثمن وأخذ الشفيع الشقص منه، وعن سحنون أن للشَّفِيع أن يكتب عهدته على من شاء من بائع أو مبتاع.
وَفِي عُهْدَةِ شُفْعَةِ الإقَالَةِ قَوْلانِ: يُخَيَّرُ، وعَلَى الْمُشْتَرِي
يعني: إذا تقايل المشتري والبائع فإن ذلك لا يسقط الشفعة، واختلف قول مالك في العهدة، فمذهب المدونة أنه لا خيار للشفيع وإنما عهدته على المشتري، وبه أخذ محمد وابن حبيب، وقال مرة: يخير فإن شاء جعله على المشتري أو البائع.
أشهب: وسواء كان المستقيل هو المشتري أو البائع، وقال مطرف وابن الماجشون: إن رأي أن التقايل بينهما كان لقطع الشفعة، فالإقالة باطلة وللشفيع الشفعة بعهدة الشراء، وأن رأى على وجه الصحة والإقالة فهو بيع حادث، وللشفيع الشفعة بأي البيعتين شاء واستشكل مذهب المدونة؛ لأن الإقالة إما حل بيع فيلزم منه بطلان الشفعة، وإما ابتداء بيع فيخير كما لو تعدد البيع من غير البائع، فلا وجه للحصر في المشتري وأجيب باختيار الأول، وإنما تثبت الشفعة وكانت العهدة على المشتري؛ لأنهما متهمان في قطع شفعة الشفيع واستحسن أشهب ما في المدونة والقياس عنده قول مالك الآخر وهذا إذا كانت الإقالة بمثل الثمن لا زيادة ولا نقصان، قال: ولو تقايلا بزيادة أو نقصان فله الشفعة على أيهما شاء اتفاقا، قاله عياض.
الباجي: الشركة والتولية كالإقالة.
وأَمَّا لَوْ سَلَّمَ قَبْلَهَا فَعَلَى الْبَائِعِ
يعني: أمَّا لو سلم الشفيع الشفعة وترك أخذها قبل الإقالة ثم تقايلا فإن للشفيع أن يأخذ بعهدة الإقالة من البائع.
ابن المواز: ويصير بيعاً حادثاً.
عياض: ولا خلاف فيه، وأما لو سلم بعدها فلا شفعة له أصلا.
وَلا يَضْمَنُ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ، وَلَهُ غَلَّتُهُ وَثَمَرَةٌ وَقَدِ اسْتَغْنَتْ قَبْلَهَا
يعني: لا يضمن المشتري ما نقص عنده سواء تغير بنقص في ذاته أو صفاته أو سوقه أو بفعل المشتري، نص عليه مالك في المدونة، ولو هدم المبتاع الدار ليبنيها أو ليوسعها ونحو ذلك، قال فيها: ويخير الشفيع فإما أخذ بجميع الثمن أو ترك، فإن قلت: لم لا يضمن المشتري إذا هدم؟ قيل: لأنه تصرف في ملكه، وقيد بعض الشيوخ ما ذكره في
المدونة في الهدم، فقال: إنما يصح إذا لم يعلم المشتري أن معه شفيعاً، وأما إن علم ثم هدم فحكمه حكم المتعدي والغاصب، وقد قال ابن زرب: في من بنى في حصة لها شفيع فقام بشفعته يأخذ قيمة بنائه منقوضاً؛ لأنه بنى في غير ماله، قال غيره: فهو كالمتعدي.
قوله: (وَلَهُ
…
إلى آخره) أي وللمشتري غلة المبيع؛ لأن الضمان منه، وله الثمرة التي قد استغنت قبل الشفعة، وقد تقدم الكلام في الثمرة تباع مع النخل، وعطف المصنف الثمرة على الغلة وإن كانت من الغلة ليرتب عليه قوله:(وَقَدِ اسْتَغْنَتْ).
فَإِنْ هَدَمَ وَبَنَى فَلَهُ قِيمَةُ مَا بَنَى يَوْمَ الْقِيَامِ، وَلِلشَّفِيعِ قِيمَةُ النَّقْضِ، وَتَصَوُّرُهَا فِي شَفِيعٍ غَائِبٍ قَاسَمَ الْقَاضِيَ أَوِ الْوَكِيلَ عَنْهُ، أَوْ تَارِكٍ لأَمْرٍ ثُمَّ ظَهَرَ فِيهِ كَذِبٌ كَالثَّمَنِ، أو دَعْوَى صَدَقَةٍ وَشِبْهِهَا ....
يعني: إذا هدم المشتري المبيع وبنى ثم قام الشفيع فله الأخذ بالشفعة ويغرم الشفيع للمشتري قيمة بنائه قائما يوم قيام الشفيع بالشفعة مع الثمن الأول.
فإن قلت: كيف يعطي جميع الثمن مع أن قيمة النقض جزء من المبيع؟ قيل: لا يريدون بالثمن جميع الثمن كما سألنا عنه، وإنما يريدون بالثمن ما ينوب العرصة منه بلا بناء، فما نابها منه، فهو المعبر عنه بالثمن، وفسر أشهب ذلك، فقال: يحسب كم قيمة العرصة بلا بناء وكم قيمة النقص مهدوما ثم يقسم الثمن على ذلك، فإن وقع منه النقص نصفه أو ثلثه، فهو الذي يحسب للشفيع ويحط عنه من الثمن، ويغرم ما بقي مع قيمة البناء قائما.
ابن المواز: وإنما يغرم الشفيع قيمة العمارة يوم القيام؛ لأن المبتاع هو الذي أحدث البناء، وهو غير متعد به، والأخذ بالشفعة كالاشتراء فعلى الشفيع قيمته يوم أخذ بشفعته، وإنما
حسب للشفيع على المبتاع قيمة النقص مهدوما يوم الشراء؛ لأنه لم يتعد في هدمه فكأنه اشتراه مع العرصة مهدوما ثم بنى به، وهو في ملكه وضمانه فوجب أن يأخذ العرصة بقيمتها من قيمة النقض من الثمن يوم الشراء؛ كما لو اشتراها مع عرض، مالك وإن لم يفعل فلا شفعة له.
قوله: (وَتَصَوُّرُهَا) هو جواب عن سؤال مورود هنا، وذلك لأنه قيل لابن المواز: كيف [590/ب] يمكن إحداث بناء في مشاع؟ أي لأنه إن كان بحضرة الشفيع فهو مسقط للشفعة، وإن كان في غيبته فالباني متعد، فلا تكون له قيمة البناء قائما، إلا بعد القسمة وبعد هذا لا تجب الشفعة وبالجملة فالحكم بوجوب الشفعة ينافي أخذ قيمة البناء قائماً، وأجيب بأوجه:
أولها: أن الشفيع غائب وكانت الدار للشركاء وسلم الحاضرون وطلبوا القسمة، فقاسم القاضي عن الغائب ثم هدم المشتري في غيبة الشفيع فالباني غير متعد والشفيع باق على شفعته وليس للقاضي أو الوكيل إسقاط شفعته؛ لأنه لم يوكل على ذلك.
ثالثها: أن يكون البائع والمبتاع أظهرا الصدقة أو الهبة بناءً على إحدىة الروايتين بمنع الشفعة في ذلك ثم انكشف أنه بيع بعد المقاسمة والبناء لأجل هذا الخلاف أخره المصنف عما قبله.
ورابعها: أن يشتري داراً فيهدم ويبني ثم يظهر مستحق لنصفها ويريد أن يأخذ بالشفعة وهذا الجواب لمحمد.
ابن عبد السلام: وعليه يعتمد أكثر الشيوخ لما يبنون عليه من كثرة الفوائد بسبب تركيب المسألة من الشفعة والاستحقاق، والمتكفل بذلك المدونة وشروحاتها.
خليل: وانظر لِمَ لمْ يجعل المشتري - إذا كذب في الثمن أو دعوى صدقة ونحوها ثم تبين خلافها - كالمتعدي؛ ولعله الأظهر، فلا يكون له إلا قيمة النقض ولعل كلامهم محمول على ما إذا كان إظهار أكثر من الثمن من غير المشتري، والله أعلم.
وَيَتْرُكُ لِلْمُشْتَرِي الشَّرِيكِ مَا يَخُصُّهُ
كما لو كانوا ثلاثة مشتركين في دار لكل واحد منهم الثلث فباع أحدهم نصيبه للآخر فلا يأخذ الباقي من يد المشتري جميع الثلث كالأجنبي بل نصف الثلث، ويترك له نصفه وهو الذي ينوبه؛ لأنه يقول: لو كان المشتري أجنبياً لم يكن لك إلا نصف الثلث، ولي النصف فأسوا أحوالي أن أكون كالأجنبي.
وَإِن تَنَازَعَا فِي سَبْقِ الْمِلْكِ تَحَالَفَا وَتَسَاقَطَا وَمَنْ نَكَلَ فَعَلَيْهِ الشُّفْعَةُ
أي: وإذا تنازعا الشريكان في قدر الملك، فقال كل منهم: ملكي سابق وأنت مجدد عليَّ وطلب الشفعة؛ فلكل تحليف صاحبه، فإن حلفا يريد أو نكلا سقطت دعواهما، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فالشفعة للحالف، أما إن أقاما بينتين فإن يقضي بأقدمهما تاريخاً.
وَيَشْفَعُ مِنَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدَاً بَعْدَ الْفَوْتِ لا قَبْلَهُ بِالْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ، فَإِنْ فَاتَ بِبَيْعٍ صَحِيحٍ فَبِالثَّمَنِ فِيهِ ....
البيع الفاسد يفسخ فإذا فات ملك المشتري بالقيمة فلذها إذا اشترى شِقْصاً شراءً فاسداً فإن اطَّلع على ذلك قبل الفوات فلا شفعة ويفسخ البيع، وإن اطَّلع على ذلك بعد أن فات الشقص عند المشتري بما يفوت البيع الفاسد فللشفيع أخذه بالقيمة الواجبة على المشتري؛ لأن الشقص قد انتقل إلى ملك المشتري، ويأتي على قول سحنون الذي يرى أنَّ البيع الفاسد لا ينقل الملك أصلاً، وإنما يلزم على قوله مع الفوات؛ لأنه كالاستهلاك تعدم الشفعة فيه.
فرع:
قال في المدونة: ولو علم به أي بالفساد بعد أخذ الشفيع فسخ بيع الشفعة والبيع الأول؛ لأنَّ الشفيع دخل مدخل المشتري.
ابن المواز: وإذا أجزنا له الأخذ بالشفعة بعد الفوت، فلا بد من معرفة الشفيع بيع الشفعة، والبيع الأول بالقيمة التي لزمت المشتري، فإن أوجبها على نفسه قبل معرفته فذلك باطل، وجعل ابن يونس قوله تفسيراً للمدونة.
قوله: (فَإِنْ فَاتَ بِبَيْعٍ صَحِيحٍ فَبِالثَّمَنِ فِيهِ) يعني: أن ما ذكرناه من أنَّ الشَّفِيع يأخذ مع الفوات بالقيمة، إنما هو فيما إذا فات بغير بيع صحيح، وأما إن فات به فللشفيع الأخذ بذلك الثمن لا بالقيمة إلا أن يكون المتبايعان ترداها قبل أخذ الشفيع فيصير كثمن سابق على الثمن في البيع الصحيح فيأخذ الشفيع بأيهما شاء كبيعتين صحيحتين، قال في المدونة:
وسواء ترداها بقيمة أو بغيرها وقد صح البيع بينهما بأخذ القيمة.
وقوله: (بِالبَيْعِ الصَّحِيحِ) احترز به من البيع الفاسد، قال في المدونة، وإذا باعها المشتري شراءً فاسداً ثم باع بيعاً فاسداً رد الأول والآخر جميعاً إلا أن يفوت، وتجب القيمة في ذلك فلا يرد.
وَيُنْقَضُ بِالشُّفْعَةِ وَقْفُهُ وَغَيْرُهُ
يعني: أنه لا يبطل حق الشفيع إذا وقف المشتري الشقص أو وَهَبهُ أو تصدق به، ولو نقض ذلك ولو هدم المشتري الشقص وبناه مسجداً فللشفيع هدمه، وفي المدونة: من اشترى شقصا له شفيع غائب فقاسم الشريك ثم قدم الغائب فله نقض القسم وأخذه، واستدل على ذلك بأن الشُّفعة قُصاراها أن تكون كالبيع فكما له الأخذ بالبيع الأول وإبطال ما بعده من
البياعات فكذلك له الأخذ بالبيع الأول وإبطال القسمة التي هي أضعف من البيع، وقاله ابن القاسم وأشهب في الموازية إلا أن أشهب أشار إلى تردد في المجموعة.
فقال: إنه ليأخذ بالقلب أن ليس له رد القسم؛ لأنهم قاسموا من تجوز قسمته، يعني من بقية الشركاء ووكيل الغائب، ولهذا قال سحنون: يمضي القسم وللشفيع أخذ ما وقع للمبتاع بالقسم بالشفعة، وظاهره وظاهر المدونة سواء كان القسم بحكم أو بغيره، لكن تأوله صاحب [591/أ] النكت على ما إذا لم يكن بحكم، قال فلذلك قال: إن له نقض القسم، قال: وأمَّا إذا رَفَعَ إلى الحاكم فالقسم ماض ويأخذ الشفيع ما يقع به القسم، وهذه التفرقة هكذا في مذهب أشهب، ويمكن أن يجمع بين قوله في المدونة وقول سحنون بهذا ولا يبقى في المسألة خلاف فيحمل قوله في المدونة على ما إذا لم يحكم وقول سحنون على ما إذا كان بحكم.
وَيَاخُذُ بِأَيِّ الْبُيُوعِ شَاءَ فَيُنْقَضُ مَا بَعْدَهُ
قال في الجلاب: وإذا بيع السهم الذي فيه الشفعة مراراً قبل أخذ الشفيع فله أن يأخذ بأي الصفقات شاء، فإن أخذ بالصفقة الأخيرة، صحت الصفقة التي قبلها، وإن أخذ بالصفقة الأولى بطلت الصفقة التي بعدها، اتفقت الأثمان أو اختلفت، والاختيار إليه في العهدة والثمن.
وإن أخذ بالصفقة الوسطى صح ما قبلها وبطل ما بعدها، وقيد اللخمي هذا إنما إذا لم يكن حاضراً، وأما الحاضر العالم فإنه تسقط شفعته في البيع الأول وتثبت في البيع الثاني، وكذلك إن كثرت البياعات إنما يكون له الأخذ بالأخير.
الْمَاخُوذُ بِهِ مِثْلُ الثَّمَنِ أَوْ قِيِمَتِهِ فِي الْمُقَوَّمِ
هذا هو الركن الرابع؛ يعني أن الشفيع يأخذ الشِّقص بمثل ما دفع فيه المشتري إن كان مثلياً أو بقيمته إن كان مقوماً وهو ظاهر، فإن لم يجد مثل المثلي غرم قيمته، قاله مالك في المجموعة فيمن اشترى بثمن فلم يجده الشفيع.
فرع:
وعلى الشَّفيع أجرةُ الدَّلَاّل وإن كانت من عقْدِ الشراء وثمن ما كتب فيه؛ لأنَّ بذلك وصل المبتاع إلى المبيع، وإن كان المبتاع دفع أكثر من المعتاد، لم يكن على الشفيع إلا دفع المعتاد، بذلك أفتى ابن عتاب وابن مالك وابن القطَّان.
المتيطي: ولا أعلم لهم مخالفاً.
ابن يونس: قال بعض الفقهاء: وانظر لو غرم على الشِّقص غرماً هل يأخذه الشفيع بالثمن أو بما غرم عليه؛ وقد اختلف في من اشترى من أيدي اللصوص هل يأخذه ربه بغرم أو بغيره.
فَإِنْ لَمْ يَتَقَوَّمْ كَالْمَهْرِ وَالْخُلْعِ، وَصُلْحِ الْعَمْدِ، وَدَرَاهِمَ جُزَافَاً فَقِيمَةُ الشِّقْصِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَقِيلَ: فِي الْمَهْرِ صَدَاقُ الْمِثْلِ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ فِي الدَّرَاهِمِ ....
أي: فإن لم يتقوم عوض الشقص غالباً كالمهر والخلع وصلح العمد، فإنه يرجع إلى قيمة الشقص، وقلنا: غالباً؛ لأنَّ المهر يتقوم بمهرِ المِثْلِ، وكَذلك الخلع، واحترز بصلح العمد من الصلح من الخطأ ففيه الشفعة بالدِّيَة، فإن كانت العاقلة أهل إبل، أخذه بقيمة الإبل وإن كانت ذهب أو ورق أخذه بذهب أو ورق يُنَجِّم ذلك على الشفيع كالتنجيم على العاقلة، قاله في المدونة، وقال سحنون في المصالِح عن جميع الدية على شِقص إن كان إعطاء ذلك والعاقلة أهل ذهب أو ورق فالصلح جائز ويرجعه ابن القاسم بالأقل من القيمة أو الدية، أو كان صلحه عليهم وإن كانوا أهل إبل، فإن كان القاتل يعطي الشقص ولا يرجع بذلك على العاقلة فهو جائز، وإن كان إنما صلح عنهم ليرجع عليهم لم يجز الصلح؛ لأنهم مخيرون.
ابن عبدوس: وكان سحنون يقول في هذا الأمر بقول عبد الملك أن الدين له حكم العروض، فإذا اشترى الشِّقص بالدية وهي دنيئة فإن كانت دنَانِير ودراهم قومت
بالعرض على أن تؤخذ في ثلاث سنين ثم يقوَّم العرض، وقال عبد الملك: يؤخذ ذلك بالعرض الذي قوِّم به الدَّيْن.
سحنون: وإن كانت الدية قومت بالنقد على أن تؤخذ في ثلاث سنين ثم يأخذ الشفيع بذلك أو يدع.
قوله: (أَوْ دَرَاهِمَ جُزَافَاً) نحوه في الجواهر، وقال ابن عبد السلام: في صحة فرضها نظر في المذهب؛ لأن الدنانير والدراهم لا يجوز بيعها جزافاً، فإن قيل: يحمل كلامه على ما إذا كان التعامل بالوزن، فإنه يجوز حينئذ التعامل بها جزافاً، قيل: لا يصح؛ لأنه لو كان كذلك لكان الحكم إذن هو قيمة الجزاف كما لو وقع بصبرة طعام.
خليل: ويمكن أن يقال: لا يلزم ما ذكره؛ لأنَّ الطعام إذا قُوِّم بالعين يقوَّم بما هو الأصل في التَّقوِيم بخلاف الدراهم؛ لأنك إما أن تقومها بعرض أو بعين موافق أو مخالف، ففي العرض يلزم منه البدل والصرف المستأخر، ولهذا قيل في العين: إن الشفعة تبطل، وهذا وإن كان ممكناً من جهة القيمة، إلا أن اللخمي نقل خلافه فقال: وإن كان ذهباً قوِّم بالفضة، أو فضة قوِّم بالذهب، يريد والقيمة في ذلك يوم الشراء لا يوم الأخذ بالشفعة، وكذلك كل ما اشترى به جزافاً فالقيمةُ يوم الشِّرَاء.
قوله (وَقِيلَ: فِي الْمَهْرِ صَدَاقُ الْمِثْلِ) أي: يشفع بصداق المثل، وهذا القول نقله اللخمي.
ابن عبد السلام: وهو الأقرب.
ابن راشد: ولم أر القول بالبطلان في الدراهم.
فَإِنِ اشْتُرِيَ مَعَ غَيْرِهِ فِيمَا يَخُصُّهُ، ويَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ بَاقِي الصفْقَةِ
يعني: (فَإِنِ اشْتُرِيَ) الشقص الذي فيه الشفعة (مَعَ) ما لا شفعة فيه فللشَّفيع أَخْذُ الشِّقص بما يخصه من الثمن، ويلزم المشتري باقي الصفقة فهكذا في المدونة وإنما لم يكن
للمشتري مقال بسبب تبعيض صفقة؛ لأنه دخل على ذلك وأشار ابن يونس إلى أن هذا جار على القول بأن الشفعة ابتداء بيع، وأما على القول بأنها كالاستحقاق، فإن ينظر فإن كانت قيمته الشقص النصف فأقل فكذلك، وإن كان جل الصفقة فيكون له رد الباقي.
خليل: إنما ينبغي أن يقال: على هذا يلزمه رد الباقي كما تقرَّر في عِلْمه.
وَإِلَى الأجَلِ إِنْ كَانَ مَلِيئاً أَوْ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ، وَإِلا عَجَّلَهُ
هكذا في المدونة وزاد فيها كون الضامن ثقة، ومعناه إنه إذا اشترى شِقْصاً إلى أجل أخذه الشفيع إلى مثل الأجل بمثل الثمن [591/ب] بشرط أن يكون الشفيع مليئاً أو يأتي بضمان ثقة، فإن أراد الشفيع تعجيل الثمن للمبتاع فذلك له، وليس له تعجليه للبائع، وإن رَضِيَ المبتاعُ، قال المتيطي: وإم لم يوجد أحدهما فلا يأخذ الشفيع الشفعة حتى يعجل الثمن، وظاهر المدونة وهو ظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون ملاء الشفيع كالمشتري أو أقل، وهو قول محمد وابن الماجشون، والمتيطي، وهو المشهور، وقال أشهب: إن لم يكن الشفيع كالمشتري في الملاء أتى بحميل مثل ثقة المشتري وملائه وإلا فلا. وظاهر قوله أيضاً هو ظاهر المدونة.
(وَإِلا عَجَّلَهُ) أي إذا لم يجد أحدهما يلزمه التعجيل، وإن كان عدم الشفيع مساويا لعدم المشتري وهو قول محمد، وفي اللخمي: إن استوى الشفيع والمشتري في الثقة والملاء لم يلزم الشفيع إعطاء حميل، وإن استويا في العدم فقولان بناء على مراعاة التساوي أو أن البائع قد يثق بالمبتاع، والمبتاع قد لا يثق بالشفيع، وصوب اللخمي الأول؛ لأن الشفيع موسر بالحصة، وكذلك حكى صاحب البيان قولين إذا استويا في العدمن قال: وإن استويا في الملاء لم يلزم حميل باتفاق، وإن كان الشفيع أقل ملاءً لزمه جميل باختلاف، وإن كان أشد عدماً لزمه باتفاق.
فروع:
الأول: قال أشهب: إذا اشتراه بحميل أو رهن فليس للشفيع، وإن كان أملأ منه أخذُه بحميل أو رهن ومثله، وقال أشهب أيضاً: إذا كان أملأ من الحميل ومن المشتري أخذه بلا رهن وبلا حميل، واختار محمد الأول.
الثاني: إذا تراخى قيام الشفيع حتى حلَّ الأجل ففي تأخير الشفيع إلى مثل ذلك الأجل ثولان: قال مالك ومطرف وابن الماشجون وابن حبيب: يؤخر، وقال أصبغ: لا يؤخر؛ لأن الأجل الأول مضروب لهما معاً.
ابن يونس وصاحب البيان وغيرهما: والأول أصوب؛ لأن الشفيع يجب أن ينتفع بتأخير الثمن كما انتفع به المشتري.
الثالث: إن أخذه عن دين في الذمة ففي المذهب ثلاثة أقوال:
الأول: وهو مذهب المدونة أنه يأخذه بمثل الدين.
الثاني: يأخذه بقيمته، قاله ابن الماجشون وسحنون، ورأيا أن ما في المدونة من الدراهم كالعروض.
الثالث: الفرق فإن كان كالصداق إن كان عينا أخذه بمثله، وإن كان عرضا أخذه بقيمته، قاله أشهب ومحمد، وهو غلط وعلى مذهب المدونة فقال مالك في الواضحة: إن كان الدَّين يوم قيام الشفيع حالّاً أخذ به حالاً، وإن بقي من الأجل شيء قال: مثل ما بقي هكذا نقل الباجي.
ابن زرقون: وهو غلط وإنما ينظر إلى ذلك يوم الشراء وكذلك هو في الموازية لا يوم قيام الشفيع.
ابن عبد السلام: وانظر لو كان الدين عرضاً وأراد الشفيع تعجيله للمشتري، وأبى المشتري وطلب التأخير إلى الأجل وأخذ الحميل ولم يجد الشفيع حميلاً كيف الحكم؟
فَلَوْ أَحَالَ الْبَائِعُ بِهِ لَمْ يَجُزْ
أي (فَلَوْ أَحَالَ) المشتري (الْبَائِعُ بِهِ) أي: بالثمن من المؤجل على الشفيع (لَمْ يَجُزْ) لأن الإحالة إنما تكون بما حل ولأن البائع قد ترتب له في ذمة المشتري دَيْن فباعه بدينٍ لهُ على الشَّفيع فيلزمه منه بيع الدَّيْنِ بالدَّيْنِ.
وَثَوابُ الْهِبَةِ كَالثَّمَنِ فَلا يَاخُذُ إِلا بَعْدَهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ فاَتَ قَبْلَهُ أَخَذَهُ بِالأَقَلِّ
هبة الثواب بيع فلذلك يأخذ الشفيع الموهوب بما وقع به الثواب من مثلي أو مقوَّم وهذا معنى قوله: (كَالثَّمَنِ) لكنه لا يأخذه حتى يدفع الثواب؛ لأن الموهوب له مخير في الرد وفي الثواب هذا هو المشهور، وهو مذهب المدونة، وقال أشهب: كذلك إن أتى به قبل فوات الموهوب، وإن أتى به بعده فللشفيع أن يأخذه بالأقل من الثواب والقيمة؛ لأن الثواب إن كان أقل فهو الذي دفع وإن كانت القيمة أقل فهو متبرع بالزائد عليها؛ لأنه لم يكن يلزمه غيرها وفيه نظر؛ لأن أشهب وافق على أنه لو أتى به أكثر من القيمة قبل الفوات فإنه لا يأخذه إلا بذلك، فكذلك إذا عوضه بعده؛ لأن للموهوب تعويض القيمة فيها، وقال اللخمي: القياس أن لا يستشفع إلا بأكثر من الثمن والقيمة سواء فات الموهوب أو لا؛ لأن قيمة الشقص إن كانت أكثر من الثواب فللموهوب أن يقول: إنما قبل مني هذا للصداقة بيني وبينه ونحو ذلك، وإن كان الثواب أكثر فإن ذلك العوض غالباً في هذا النوع.
تنبيه:
ما ذكرناه أنه لا شفعة إلا بعد دفع الثواب وهو نصُّ المدونة في باب الهِبات: فقال: إن وهب لرجل شِقْصاً من دارٍ على عوص سميَّاه أو لم يسمِّياه، أَنَّ لا يأخذه بالشفعة حتى يثاب، وفي كتاب الشفعة: إن سمَّيَا العوض ففيه الشفعة بقيمة العوض، فحمله سحنون
على الخلاف، فمرة جعل ذلك كالبيعِ يلزمه بالتسمية ومرة نفى ذلك، وقيل: ليس بخلاف واستظهر، ويتأول قوله في الشفعة سماه على معنى عينه، وفي الهبة على أنه شرط الثواب لا غير، وإليه ذهب أبو عمران وغيره.
وَمَا حُطَّ مِنَ الثَّمَنِ بِعَيْبٍ فَيُحَطُّ اتِّفَاقاً، وَلإِبْرَاءٍ قَالَ أَشْهَبُ: يُحَطُّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ مِثْلَهُ يُحَطُّ عَادَةً ....
يعني: أن ما حط من الثَّمَنِ بعد تقريره على المشتري لعيب فيحطّ اتفاقاً عن الشفيع، وإن حط لا لموجب بل لإرادة إصلاح البيع أو التبرع على المشتري، (فَقَالَ أَشْهَبُ: يُحَطُّ) وقال ابن القاسم: إنما يحط إذا كان مثله يحطُّ عادة، وهكذا في المدونة ففيها: ومن اشترى شِقْصاً بألفٍ ثم وضع عنه البائع تسعمائة درهم بعد أخذ الشفيع أو قبله نظر، فإن أشبه أن يكون ثمن الشِّقْص عند النَّاس مائة درهم إذا تَبَايعوا بينهم واشتروا بغير تغابن وضع ذلك عن الشفيع؛ لأن ما أظهر له من الثمنِ الأول إنما كانَ سبباً لقطع الشُّفْعَةِ وإنْ لم يشبه ثمنه أن يكون مائة لم يحط عن الشفيع، [592/أ] وإن كان لا يحط مثله عن الشَّفِيع شيئاً وكانت الوضيعة هبة للمبتاع، وقال في موضع آخر منها: إن يحط عن المبتاع ما يشبه أن يحط في البيوع، وضع ذلك عن الشفيع، وإنما لا يحط مثله، فهي هبة ولا يحط عن الشفيع شيئاً، وهذا الأخير هو الذي نقله المصنف على أنّ صاحبَ النُّكت وابن يونس قالا إن القولين ليسا بخلاف، وإنما هما راجعان إلى شيء واحد؛ لأن معنى قوله: وإن حط ما لا يحط في البيوع لا يوضع عنه شيء، يريد: وثمن الشقص أكثر من الباقي بعد الحطيطة، وأما إن كان ثمن الشقص مثل الباقي بعد الحطيطة فأقل فالأمر ما ذكر أولا.
عبد الحق: والحطيطة ثلاثة أقسام: منها ما يكون هبة للمبتاع لا يحط الشفيع، ومنها ما يشبه حطيطة البيع فيحط للشفيع، ومنها ما يظهراه لقطع الشفعة ثم يسقطاه ويكون الباقي مثل قيمة الشقص فهذا يحط للشفيع.
ولا تُنْقَضُ الشُّفْعَةُ بِرَدِّ الثَمَنِ الْمُقَوَّمِ بِعَيْبٍ أَوْ باسْتِحقَاقِهِ، وعَلَى الشَّفِيعِ قِيمَتُهُ عِندَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقيمَةُ الشِّقْصِ عِنْدَ سُحْنُونٍ، فَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ وَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الشِّقْصِ وَلَوْ وَقَعَ قَبْلَهَا امْتَنَعَتْ ....
يعني: إذا وقع البيع يقوَّم كعبد أو دار ثم استحق أورد بعيب، فإن كان ذلك قبل أخذ الشفيع بطلت الشفعة لانتقاض البيع قبلها إلا أن البائع يسترد البيع.
ابن عبد السلام: ولا أعلم في ذلك خلافاً، وإلى هذا أشار بقوله أخرى: ولو وقع قبلها امتنعت: أي وقع بأحدهما إما باستحقاق أو بالرد بالعيب، وإن كان بعد الأخذ بالشفعة انتقض ما بين البائع والمشتري ورجع البائع على المشتري بقيمة الشقص.
ابن القاسم: ولا ينتقض ما بين الشفيع والمشتري فلا يكون للشفيع على المشتري إلا قيمة المقوَّم المستحق أو المردود بعَيْب، وبه قال أشهب وأصبغ.
محمد: وهو أحبُّ إليَّ، وهذا معنى قوله:(وعَلَى الشَّفِيعِ قِيمَتُهُ عِندَ ابْنِ الْقَاسِمِ) أي قيمة المقوم، وقال عبد الملك وسحنون: ينتقض ما بين الشفيع والمشتري أيضاً ويكون على الشفيع قيمة الشِّقْص كما كانت على المشتري، وهو معنى قوله:(وَقيمَةُ الشِّقْصِ عِنْدَ سُحْنُونٍ، فَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ)، فإن شاء أخذ قيمة الشقص، وإن شاء ترك، فإن كانت قيمة الشقص أكثر أخذها إن شاء، وإن كانت أقل رجع على المشتري بما بقي عنده، والأول أصح؛ لأن الشفعة بيعُ حادث فلا يلزم من انتقاضه بين البائع والمشتري انتقاضه بين الشفيع والمشتري، فلو كانت قيمة العبد خمسين وقيمة الشَّقص خمسين فلا إشكال، وإن كانت قيمة العبد خمسين وقيمة الشِّقص ستين فلا يجوع للمشتري على الشفيع بالعشرة الزائدة عند ابن القاسم ويرجع بها عند سحنون وعبد الملك إن اختار الأخذ بالشفعة، وإن كانت قيمة الشِّقص أربعين فلا رجوع للشفيع عند ابن القاسم ويرجع عند سحنون وعبد الملك ويأخذ العشرة الزائدة.
وَأَمَّا النُّقُودُ فَبَدَلُهَا
يعني: ولو كان ثمن الشقص نقداً دراهم أو دنانير فاستُحِق أو اطُّلع على عيب بذلك الثمن، فلا أثر لذلك في إسقاط الشفعة سواء كان ذلك قبل الأخذ بالشفعة أو بعدها لوجوب القضاء بمثل ذلك العيب فإنها لا تتعين.
وَفِي غَيْرِهَا قَوْلانِ: بَدَلْهَا وَقِيمَةُ الشِّقْصِ، فَيَجِيءُ فِي الشَّفِيعِ الْقَوْلانِ
أي: في غير الثمن المقوم والنقود، وهو العَرَض المثلي، يعني وإن كان الثمن عرضاً مثلياً فاستحق أو رد بعيب فاختلف هل يرجع إلى بدل تلك العروض المثلية كالنقد أوإلى قيمة الشقص كما لو كان العرض مقوماً على قولين: والأول: في الموازية، والثاني: لسحنون ومحمد وغيرهما، وهو الصواب عند جماعة من الشيوخ؛ لأن القاعدة أن من باع عرضاً بعرض ثم استحق ما بيده يرجع بقيمة ما خرج من يده أولاً، لا بما استحق منها إلا في بعض مسائل شذت في المذهب، وإن رويت على القولين فقط غلط سحنون وغيره في روايتها على معنى الأول، وهذا الخلاف إنما هو إذا كان الاطلاع على العيب بعد أخذ الشفيع وأما إن كان قبله فيبطل البيع بالاتفاق، فتبطل الشفعة وعلى القول بأن على المشتري قيمة الشِّقْص، يختلف هل ينتقض ما بين الشفيع والمشتري أو لا على القولين السابقين، اي قول ابن القاسم وسحنون ولا روايتهما، قال المصنف:(الْقَوْلانِ) فأتى بأل الدالة على العهد.
وَلَوْ تَنَازَعَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يُشْبِهُ بِيَمِينٍ، وَإِلا فَقَوْلُ الشَّفِيعِ، وقَالَ أَشْهَبُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يُشْبِهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَفِي غَيْرِهِ بِيَمِينٍ ....
أي: إذا تنازع الشفيع والمشتري في قدر الثمن (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يُشْبِهُ بِيَمِينٍ) إن ادعى عليه الشفيع المعرفة.
صاحب البيان: ولا خلاف في هذا، واختلف إذا لم يدّع الشفيع المعرفة واتهم المشتري أن يكون اشتراه بأقل هل له تحليف المشتري أم لا على الخلاف في توجيه يمين التهمة؟
وظاهر المدونة في توجه هذه المسألة سقطوها، ونص المتيطي على أن الأشهر في المذهب سقوط اليمين، قال: وهو دليل المدونة، وقال أصبغ: يحلف المبتاع فيما لا يشبه ويصدق فيما يشبه، واختار اللخمي توجيهها قال: لأنه قد كثرت الحيل من الناس على إسقاط الشفعة إلا أن يكون المشتري من أهل الدين والأمانة، وظاهر قول المصنف أن القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه سواء أتى الشفيع بما يشبه أم لا.
قوله: (وَإِلا) أي: وإن لم يأتِ المشتري بما يشبه فقول الشفيع، يريد إذا أتى بما يشبه أما إن أتى بما لا يشبه، فقال اللخمي وصاحب البيان: حلفا جميعاً ورد إلى الوسط بما يشبه فيأخذه به أو يدع، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فالشفعة بما حلف عليه الحالف منهما، وحكى في البيان قولا آخر أن القول قول المشتري مع يمينه، وهذا هو قول أشهب الذي حكاه المنصف بقوله:(وقَالَ أَشْهَبُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي) أي: مطلقاً أتى بما يشبه أم لا، غير أنه إن أتى بما لا يشبه حلف على ذلك، وإن أتى بما يشبه لم يكن عليه يمين.
تنبيه:
ومن دعوى المشتري ألا شبه أن يكون هذا المشتري من الملوك وشبههم الذين يرغبون في الدار الملاصقة لهم، ويزيدون في ثمنها، فكيف بما لهم فيه شركة، قاله مالك في المدونة والعتبية وغيرهما، قال في العتبية: وإذا كان من هؤلاء الملوك، فلا يمين عليه إلا أن يأتي بما لا يشبه.
قال في البيان: والشيوخ يحملون ما في المدونة على الخلاف للمدونة؛ لأنه قال في المدونة: القول قول المشتري، فقال الشيوخ: يعني مع يمينه، قال: وليس ذلك عندي
صحيح؛ لأن رواية أشهب [592/ب] محمولة على ما إذا لم يتحقق الدعوى على المشتري وإنما اتهمه فلم يوجبها عليه إلا في الموضع الذي تظهر تهمته وهو إذا أتى بما لا يشبه، ومعنى المدونة محمول على ما إذا تحقق كل واحد منهما الدعوى على صاحبه، قال في المدونة: أقاما بينة وتكافأت في العدالة؛ كمن لا بينة له ويصدق المبتاع؛ لأن الدار في يده، قال سحنون: لا بطلان في التكافي والبينة بينة المبتاع ومثله لأشهب.
ابن يونس: وهذا إذا كانت الشهادتان بمجلس واحد، وفي الموازية: إن كانت الشهادتان عن مجلسين فالقول للشفيع وإن كانوا عدولاً وإن كانت ببينة الآخرون أعدل؛ لأنه إن كانت بينة الشفيع قبل فقد زاده في الثمن، وإن كانت بعد فقد أسقط عنه من الثمن واختلف عند عدم البينة هل تقبل شهادة البائع، فقال ابن المواز: لا يقبل قوله وإن كان عدلا، ويقرب منه في كتاب ابن مزين، وقال صاحب البيان: لا يمتنع عندي أن يكون شاهدا يحلف معه إذا كان لا يتهم في شهادته، وأما إن طال الزمان حتى نسي الثمن، وقال المشتري: لا أعلمه من طول الزمان في غيبة السفر؛ سقطت الشفعة.
وفي الموازية والمجموعة: إذا أتى المشتري بما لا يشبه وجهل الثمن أخذه الشفيع بقيمته يوم البيع؛ ونحوه لأصبغ.
فلو أنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ - وَالْبَائِعُ مُقِرٌّ - حَلَفَ وَسَقَطَتِ الْعُهْدِةُ، وِقِيلَ: يَاخُذُهُ لأَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ أَنَّ الشفيع أَحَقُّ، وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ ....
تجوَّز في إطلاق لفظتي البائع والمشتري مع أن البيع لم يثبت وهو نظير قوله تعالى: (ذُقْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ)[الدخان: 49]، فإذا أنكر المشتري شراء الشقص الذي فيه الشفعة وادعاه البائع، ففي المدونة: يتحالفان ويتفاسخان، وليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة بإقرار البائع؛ لأن عهدته على المشتري.
أبو محمد: قوله: تحالفا إنما يعني أن المبتاع وحده يحلف فإذا حلف برئ وعلى هذا فصواب قوله: (تحالفا) أن يقول: حلف المشتري، وقال عياض: يصح في هذا اللفظ التحالف، وعلى كل واحد منهما يمين في خاصته في وجه ما، ولكل واحد منهما تحليف صاحبه، أما المشتري فلجحده، وأما البائع فإذا نكل المشتري.
وقوله: (وِقِيلَ: يَاخُذُهُ لأَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ أَنَّهُ أَحَقُّ) أي أن الشفيع أحق بالشِّقص منه، وكلامه يوهم أن القول الثاني عام في الحاضر والغائب، وإنما في الموازية في من قال أنَّه باع من فلان وفلان منكر أو غائب أنه لا شفعة له إن أنكر، وإن كان غائبا؛ فإن كان بعيد الغيبة فالشفعة للشفيع؛ لأن البائع مقر أنه أولى منه، فإن قدم الغائب فأقر كانت العهدة عليه، وإن أنكر رجع الشقص إلى البائع.
محمد: وأحبُّ إليَّ أنه لا يرجع الشقص إلى البائع، وإن أنكر الغائب؛ لأن البائع مقرٌّ أنَّ الشفيع أحقُّ به بذلك الثمن، وتكتب عهدة الثمن على البائع.
اللخمي: وقول محمد صواب؛ فإن الحاضر مثله.
فانظر كيف فصل في هذا القول بين الغائب والحاضر، وإنما سوَّى بينهما اللخمي.
* * *
انتهى المجلد السادس
من كتاب التوضيح
للشيخ خليل بن إسحاق الجندي
ويليه المجلد السابع وأوله
كتاب القسمة