المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

[533/أ]‌ ‌ الحجر: أِسْبَابُهُ: الصِّبَا، والْجُنُونُ، والتَّبْذِيرُ، والرِّقُّ، والْفَلَسُ، والْمَرَضُ، والنِّكَاحُ - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٦

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: [533/أ]‌ ‌ الحجر: أِسْبَابُهُ: الصِّبَا، والْجُنُونُ، والتَّبْذِيرُ، والرِّقُّ، والْفَلَسُ، والْمَرَضُ، والنِّكَاحُ

[533/أ]

‌ الحجر:

أِسْبَابُهُ: الصِّبَا، والْجُنُونُ، والتَّبْذِيرُ، والرِّقُّ، والْفَلَسُ، والْمَرَضُ، والنِّكَاحُ فِي الزَّوْجَةِ ....

هذا مصدر حجر يحجر بضم الجيم وكسرها، وحقيقته لغةً: المنع، وشرعاً: منع المالك التصرف في ماله لمصلحة نفسه أو غيره، وذكر المصنف له سبعة أسباب.

ومفهوم العدد يقتضي الحصر فيها، وينتقض عليه بالحجر على الراهن لحق المرتهن، وبالحجر على المرتد.

وَيَنْقَطِعُ الصِّبَا بِالْبُلُوغِ والرُّشْدِ بَعْدَ الاخْتِبَارِ

وينقطع حجر الصبا على حذف مضاف بمجموع البلوغ والرشد؛ لقوله تعالى: (وابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)[النساء: 5].

ابن العربي: الابتلاء هو الاختبار والتحصيل لمعرفة ما غاب من علم العاقبة، والرشد لا يعرف إلا بالاختبار. ابن رشد والمازري: ويكون الاختبار بعد البلوغ على المشهور، وقال أبو جعفر الأبهري وغيره من البغداديين: يكتفى به قبله.

وقوله: (بَعْدَ الاخْتِبَارِ) في محل حال، فإن جعل حالاً من البلوغ لزم أن يكون كلام المصنف موافقاً لقول أبي جعفر، وإن جعل من الرشد أو منهما احتمل المشهور والشاذ.

ولا خلاف أنه لا يخرج من الحجر قبل البلوغ وإن ظهر رشده، فإذا بلغ فإما أن يكون أبوه قد حجر عليه وأشهد بذلك أم لا، فإن حجر عليه فحكمه كمن لزمته الولاية فإن لم يحجر عليه، فإما أن يعلم رشده أو سفهه، فإن علم أحدهما عمل عليه، وإن جهل فالمشهور أنه محمول على السفه، وروى زياد وابن غانم عن مالك أنه محمول على الرشد، وأخذ من قوله في نكاح المدونة: إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، لكن تأوله الشيخ أبو محمد على أن المراد بنفسه لا بماله.

ص: 226

وقال ابن العطار: هو على السفه إلى عام، فعلى هذا الحجر عليه ما لم يتم العام، وقال في المقدمات: وروي عن ابن العطار أيضاً أنه يجوز للرجل تسفيه ولده بعد البلوغ إلا أن يكون معروفاً بالرشد، ولم يفرق بين القرب والبعد.

وحكى غيره من الموثقين أن تسفيهه جائز، وإن لم يعلم سفهه، إذا كان بحداثة بلوغه قبل انقضاء عامين.

تنبيه: ما ذكره المصنف من انقطاع حجر الصبي بالبلوغ والرشد إنما هو في حق ذي الأب، وأما ذو الوصي أو مقدم القاضي فلا ينفك الحجر عنه إلا بإطلاقه من الحجر، ثم الوصي الذي من قبل الأب له الإطلاق ويصدق فيما يذكر من حاله، وإن لم يُعرف ذلك إلا من قوله، وقال ابن القاسم في العتبية: لا يجوز إطلاقه إلا أن يتبين حاله ويعرف رشده، وأما المقدم من جهة القاضي فالمشهور على ما قاله المازري وغيره أن كوصي الأب؛ لأن القاضي جبر به الخلل الكائن بترك الأب تقديم وصي لهذا الابن. وقال ابن زرب: هو كوكيل عن القاضي، فلا يكون له الإطلاق إلا بإذن من القاضي، إلا أن يكون معروفاً بالرشد، وحكى ابن رشد وغيره قولين - إذا قلنا إنه يطلقه دون إذن القاضي-:هل يشترط أن يعرف رشده أو لا [يشترط] ذلك؟

فإن قلت: لم جعلتم الوصي على المشهور أقوى من الأب وهو فرعه؟ قيل: لأن الأب لما أدخله في ولاية الوصي كان بمنزلة ما لو حجر عليه، وهو لو [حجر] عليه لم يخرجه إلا الإطلاق.

ويعرف الرشد بوجهين:

أحدهما: أن يتأمل أحوال يتيمه ويحصل له العلم بنجابته.

الثاني: أن يدفع إليه شيئاً من ماله يجربه به في التجارة، فإن نماه وحسن القيام به سلم إليه جميع ماله وإلا استمر عليه الحجر، قاله ان العربي.

ص: 227

وَفِي الأُنْثَى بِأَنْ تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُلَ بِهَا عَلَى المَشْهُورِ، ثُمَّ تُبْتَلَى بَعْدَهُ سَنَةً، وَقِيلَ: كَالذَّكَرِ ....

دل قوله: (وَفِي الأُنْثَى) أن الكلام المتقدم في الذكر تقديره: وينقطع في الذكر بكذا، وفي الأنثى بالرشد، وأن تتزوج ويدخل بها زوجها؛ لأن قبل ذلك محجوبة عن الناس والتصرف، ومراده بالأنثى ذات الأب.

و (عَلَى المَشْهُورِ) راجع إلى دخول الزوج.

(وَقِيلَ: كَالذَّكَرِ) يحتمل أن يريد به أنه ينقطع عنها بالبلوغ والرشد، وهو ظاهر كلامه وهو قول حكاه المازري واللخمي، وذكر أنه وقع لمالك في كتاب الحبس من المدونة، وقال ابن راشد: قوله: (وَقِيلَ: كَالذَّكَرِ) يريد أنها تخرج بمجرد البلوغ، وهي رواية ابن غانم وزياد عن مالك.

قال في المقدمات: ومعنى هذه الرواية عندي إذا علم رشدها أو جعل حالها، وأما إن علم سفهها فهي باقية في ولايته.

وقوله: (ثُمَّ تُبْتَلَى بَعْدَهُ)؛ أي بعد الدخول.

(سَنَةً): وظاهره أنه لا يكفي مضي العام بعد الدخول إذا لم يكن الاختبار مستوعباً فيه، وأنه لا بد من أن يكون الاختبار في مجموع السنة، وفي هذه المسألة - أعني في الحد الذي تخرج به ذات الأب من الحجر - أقوال:

أولها: ما ذكره المصنف أنها في ولاية أبيها حتى يمضي لها العام ونحوه بعد الدخول، وهو قول مطرف في الواضحة، فتكون أفعالها قبل العام مردودة ما لم يعلم رشدها، وبعده جائزة ما لم يعلم سفهها.

ثانيها: أنها في ولايته حتى يمر لها عامان، وهو قول ابن نافع.

ص: 228

ثالثها: حتى تمضي لها سبعة أعوام، [وعزي لابن القاسم، وبه جرى العمل عند أهل قرطبة، وقال ابن أبي زمنين: الذي أدركت عليه الشيوخ أنها تخرج من الولاية بمضي ستة أعوام] إلا أن يجدد الأب عليها سفها قبل ذلك، [وهو قول رابع.

خامسها]: [533/ب] وهو المشهور على ما في البيان أنها في ولايته حتى يشهد العدول على صلاح أمرها، وهي على هذه الرواية مردودة الأفعال قبل دخول زوجها وإن علم رشدها، فإذا دخل بها زوجها وعلم رشدها خرجت من ولاية أبيها، وإن كانت بقرب بنائه، قال: وهذا قول مالك في الموطأ والمدونة والواضحة، واستحب مالك في رواية مطرف أن تؤخر إلى العام من غير إيجاب، ونحوه لعياض في باب النكاح، ولكنه زاد بعد أن عين المشهور أنها لا تخرج إلا بالدخول ومعرفة صلاح حالها، فقال: ومعناه أنها لا يعرف سفهها. انتهى.

وعلى هذا فلا يشترط أن تشهد العدول بصلاح الحال [بل بعدم] السفه.

سادسها: أنها في ولاية أبيها ما لم تعنس أو يدخل بها زوجها أو يعرف من حالها، وسيأتي الخلاف في سن تعنيس ذات الأب إثر هذه حيث تكلم المصنف على المعنسة، وقال المازري: المشهور من المذهب أن الثيب من النسوان البالغ تحمل على الرشد.

واختلفت إشارات المذهب عند بعض أشياخي في مجرد الدخول، هل يقتصر عليه؟ أو لا بد من اختبار حالها بعد الدخول؟ وروى بعض أشياخي أن البدوية لا يوسع لها بعد الدخول كما يوسع في ذلك في بنات كبار التجار.

وعلى هذا فما قدمه المصنف خلاف المشهور. وقرأ بعضهم قول المصنف: (ثُمَّ تُبْتَلَى بَعْدَهُ سَنَةً) بالتاء لا بالنون ليوافق ما جرى به العمل على ما حكاه ابن أبي زمنين، وفي بعد.

تنبيه: قول ابن أبي زمنين: ما لم يجدد الأب الحجر عليها، يدل على أنه له أن يجدد الحجر عليها، وإليه ذهب ابن زرب وابن العطار، وقال الأصيلي وابن القطان: ليس له

ص: 229

ذلك إلا بإثبات سفهها، وعلى الأول فلو أوصى عليها حينئذٍ، ثم تراخى موته حتى بلغت الحد الذي تجوز فيه أفعالها فقولان:

أحدهما: أن إيصاءه عليها لازم كتجديد الحجر عليها الذي لا ينفك إلا بإثبات رشدها بالبينة العادلة.

وثانيهما: أن ذلك غير لازم بخلاف تجديد السفه، وقالوا: ذلك بمنزلة الأب يولي على ابنته وهي بكر ثم يزوجها، فتقيم مع زوجها سبع سنين أو أكثر فيموت، أن الإيصاء ساقط.

ابن راشد: لا أعلمهم اختلفوا في لزوم الولاية عليها إذا أوصى عليها بعد دخول زوجها، ثم مات بعد بلوغها الحد الذي هو وقت خروجها من ولايته، ولا يبعد دخول الاختلاف في ذلك بالمعنى، قال: وأما إن أوصى على ابنته وهي صغيرة أو بكر ثم مات وهي بكر قبل دخول زوجها بها قبل مضي المدة المؤقتة لخروجها من ولايته، فالولاية لها لازمة.

فَأَمَّا الْمُعْنِسَةُ فَالرُّشْدُ لا غَيْرُ، وَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: إِلا أَنْ تَكُونَ بِأَبٍ أَو وَصِيٍّ

يعني: أن الذي تقدم إنما هو في بكر لم تعنس، وأما المعنسة فيكتفي فيها بالرشد وجعلوا [علو السن] يقوم مقام التزويج، وسواء كانت ذات أبٍ أو وصي أو مهملة.

ولهذا قال: (ابْنُ القَاسِمِ

إلخ) أي إنما يكتفى بالرشد في المهملة، وأما ذات الأب والوصي فلا، وهذا هو المعروف من قول ابن القاسم، والذي في المدونة أنه يجوز فعل المعنسة إذا أنس منها الرشد، وإن لم يجزه أبوها، وقال مالك: يجوز إن أجازه الأب. وقال في رواية عبد الرحيم: يجوز بشرط التعنيس فقط، ولهذا قال بعضهم في المدونة في هذه الصورة ثلاثة أقوال:

الجواز بشرط التعنيس فقط، وهي رواية عبد الرحيم.

والجواز بشرطين التعنيس وإيناس الرشد، وهو قول ابن القاسم.

ص: 230

والجواز بثلاثة شروط، فيزاد إلى ذلك إجازة الأب، وكلام اللخمي وابن رشد ينافيه؛ لأنهما جعلا قول مالك أن إجازة الأب في من جهل حالها، قال في المقدمات: والمشهور المعمول به أنها إذا كانت يتيمة وهي ذات وصي من قبل الأب أو مقدم من جهة القاضي أنها لا تخرج من ولايته وإن عنست وتزوجت ودخل بها زوجها وحسن حالها ما لم تطلق من الحجر، قال ابن الماجشون: حالها مع الوصي كالأب في خروجها من ولايته بالتعنيس أو النكاح مع طول المدة وتبيين الرشد.

واختلف في حد التعنيس فقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون، وقيل: أربعون، وقيل: من الخمسين إلى الستين، والتعنيس مأخوذ من التكسيل والعجز؛ لأن الغصن الرطب إذا مر عليه الزمان ذهبت مائيته وانكسرت نعمته وحط لونه.

فرع: لم يتعرض المصنف للمهملة إلا إذا كانت معنسة، قال في المقدمات: واختلف في اليتيمة التي لم يولَّ عليها أب ولا وصي على قولين:

الأول: أن أفعالها جائزة إذا بلغت المحيض وهو قول سحنون في العتبية، وقول غير ابن القاسم في المدونة ورواية زياد عن مالك.

والثاني: أن أفعالها مردودة ما لم تعنس وهو مذهب المدونة؛ لأن فيها لا يجوز حتى تعنس وتقعد عن المحيض، أو ما لم تتزوج ويدخل بها زوجها وتقيم معه مدة يحمل أمرها فيها على الرشد، قيل: أقصاها العام وهو قول ابن الماجشون وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه، وقيل: ثلاثة أعوام ونحوها، وقال ابن أبي زمنين: الذي أدركت عليه العمل: لا يجوز فعلها حتى تمر بها السنتان والثلاث.

[وفي حد تعنيس اليتيمة خمسة أقوال:

الأول: لابن نافع أقل من ثلاثين.

ص: 231

الثاني: لابن الماجشون ثلاثون.

الثالث: لمالك في رواية مطرف وابن القاسم] في رواية أصبغ أربعون.

الرابع: لابن القاسم من رواية سحنون عنه من الخمسين إلى الستين.

الخامس: حتى تقعد عن المحيض، وهو قوله في المدونة. انتهى.

وَبُلُوغُ الذَّكَرِ: بِالاحْتِلامِ أَو بِالإنْبَاتِ، أَو بِالسِّنِّ - وَهِيَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ [534/أ] عَشْرَةَ - وَتَزِيدُ الأُنْثَى بِالْحَيْضِ وَالْحَمْلِ

حاصله أن للبلوغ خمس علامات، وقد تقدم الكلام عليها في النكاح، والمشهور أن ما ذكره أن الإنبات علامة، قاله المازري وغيره، ودليله حديث بني قريظة، ولمالك في كتاب القذف أنه ليس علامة على البلوغ، ونحوه لابن القاسم في كتاب القطع.

وجعل في المقدمات هذا الخلاف فيما بينه وبين الآدميين، قال: وأما فيما بينه وبين الله من وجوب الصلاة ونحوها فلا خلاف أنه ليس بعلامة.

وَيُصَدَّقُ فِي الاحْتِلامِ مَا لَمْ تَقُمْ رِيبَةٌ، وَالإِنْبَاتُ مِثْلُهُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: يُنْظَرُ فِي الْمِرْآةِ - غَرِيبٌ ....

لمَّا ذكر علامات البلوغ شرع في ذكر معرفتها قال في الجواهر: وأما السن فبالعدد، وأما الاحتلام فيصدق فيه ما لم تقم ريبة؛ إذ لا يعرف إلا من جهته، وسواء كان طالباً كما لو ادعى أنه بلغ ليأخذ سهمه في الجهاد، أو مطلوباً كما لو جنى جناية وادعيَّ عليه البلوغ ليقام عليه حدها وأنكر هو ذلك.

وأما الإنبات، فقال ابن العربي: يكشف عن عورته ويستدبره الناظر فينظر في المرآة، وأنكره ابن القطان المحدث المتأخر، وقال: لا يجوز النظر إلى العورة ولا إلى صورتها، ولعل المصنف أطلق الغرابة عليه لهذا الإنكار، وإن أراد لأنه لم يقله غيره وكثيراً ما يطلق

ص: 232

المحدثون على الحديث الغرابة لهذا المعنى، ففيه نظر؛ لأن عبد الوهاب حكاه عن بعض شيوخه في كتاب الأحكام له أنه قال بذلك في عيب المرأة في النكاح: أنه تجلس امرأتان خلف المرأة كما ذكرنا. خليل: ولو قيل: يجس على الثوب كما قيل في العنة ما بعد.

وَالرُّشْدُ: أَنْ يَكُونَ حَافِظاً لِمَالِهِ عَارِفاً بِوُجُوهِ أَخْذِهِ وَإِعْطَائِهِ، وَقِيلَ: وَجَائِزُ الشَّهَادَةِ

الظاهر أن قوله: (عَارِفاً بِوُجُوهِ أَخْذِهِ وَإِعْطَائِهِ) بيان لحفظ المال.

فإن قيل: لم لا تجعلوا قوله: (عَارِفاً بِوُجُوهِ أَخْذِهِ وَإِعْطَائِهِ) قيداً آخر ويكون المراد به تنمية المال؟ قيل: لأن اللخمي نقل الاتفاق على أن من لا يحسن التجر ويحسن الإمساك أنه لا يحجر عليه، لكن ذكر المازري خلافاً فيما ينفك به الحجر عن المحجور عليه ماله هل بمجرد حفظه فقط، أو بزيادة اشتراط حسن تنميته؟

ووجه الثاني بأنه إن لم يحسن ذلك كان ذلك مؤدياً إلى فناء ماله، والأول بأنه لما كان لا يلزم القابض من أب أو وصي أو مقدم أن يتجر له، وإنما يلزمه صيانته فمالكه أولى، قال: وينبغي عندي أن يلتفت إلى قلة المال وكثرته، وعلى هذا فيمكن أن يريد المصنف هذا ويكون قيداً ثانياً، ويكون مراده بيان الرشد الذي يخرج به من الحجر لا الرشد الذي لا يضرب معه الحجر، فإن ذلك متفق على أنه لا يراعى فيه القيد الثاني كما ذكره اللخمي، والمشهور أنه لا يشترط في الرشيد أن يكون جائز الشهادة إذا كان حافظاً لماله، وإن كان يشرب الخمر ونحوه وهو قول ابن القاسم وأصبغ، وقال المدنيون كابن كنانة ومطرف وابن الماجشون: يحجر على من يشرب الخمر، واختاره ابن المواز وأشار غير واحد إلى أن هذا الخلاف إنما هو فيما يخرج به السفيه من الحجر: هل بحفظ ماله وهو المشهور، أو بحفظه مع جواز الشهادة؟

ص: 233

ابن يونس: وأما ابتداء الحجر على السفيه فلا يبتدأ ذلك باتفاق، واعترضه ابن عبد السلام وقال: ليس متفقاً عليه، فقد حكى ابن شعبان في التحجير على الفاسق لفسقه قولين، غير أن الظواهر دالة على عدم الحجر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام والخلفاء بعده أقاموا الحدود على من وجبت عليه، ولم يحجروا عليه، وحكى اللخمي في الحجر على من يخدع في البيوع قولين:

أولهما: لا يحجر عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمن كان يخدع فيها: «إذا بعت فقل لا خلابة» .

والثاني: لابن شعبان: يحجر عليه، ما لم يتبين رشد اليتيم بدخوله الأسواق ومخالطته لغيره في الشراء والبيع، فيعرف رشده بأن ينكر على المغبون [ويغبط] الحافظ لماله ويصوب فعله.

اللخمي: واختلف هل يبتلى بشيء من ماله فيدفع إليه، وظاهر ما في المدونة في كتاب المديان المنع؛ لأنه قال: إذا فعل ذلك الولي فلحقه دين لم يلحق ذلك الدين المال الذي في يده ولا الذي في يد وصيه. وأجاز ذلك غيره، وقال: يلحق ذلك الدين في المال الذي في يده، وقاله الشيخ أبو محمد وعبد الوهاب.

عياض: وعلى قوله: (إنه لا يعطى الصغير) لا يعطى البالغ السفيه أيضاً؛ لأن العلة كونه مولى عليه، هذا معنى كلامه، وفي كتاب الوصايا من المدونة مثل قول الشيخ أبي محمد؛ لقوله:(وإذا أذن للصبي أن يتجر جاز)، وعليه فالبالغ السفيه أولى، وفي المسألة ثالث بالجواز في السفيه البالغ دون الصغير، وقال أبو عمران: إنما يجوز في الصغير بشرط أن يطلع الوصي عليه من يعنيه في تصرفه وإلا فهو ضامن، ابن الهندي: وإنما يختبره إذا علم منه خيراً، قيل: الشرط أن يختبره باليسير كالخمسين ديناراً أو الستين؛ أي في حق من يليق به ذلك.

ص: 234

وَصِفَةُ السَّفِيهِ أِنْ يِكُونُ ذَا سَرَفٍ فِي اللَّذَّاتِ الْمُحَرَّمَةِ بِحَيْثُ لا يَرَى الْمَالَ عِنْدَهَا شَيْئاً ....

ولو قال: (والسفه السرف في اللذات

إلخ) لكان أحسن لكونه أخصر، ولأنه مقابل للرشد، واشتراطه أن تكون اللذات محرمة، قال ابن عبد السلام وغيره: هو خلاف ظاهر المدونة، ولا يقال: قوله جارٍ على قول من يرى أن الفسق موجب للحجر؛ لأن هذا القائل يرى أن مجرد الفسق يوجب الحجر، والمصنف [534/ب] قد اشترط أن يكون ذات سرف فيها، ويكفي في السفه كونه مسرفاً في اللذات المباحة والمكروهة، وفي المدونة والجواهر: وصفة من يحجر عليه من الأحرار أن يكون يبذر ماله مسرفاً في لذاته من الشرب والفسق وغيره، فقوله:(وغيره) يبين لك ذلك، وأيضاً فإن قوله في حد الرشد: أن يكون حافظاً لماله، يدل على أن من يسرف في اللذات المباحة وغيرها سفيه؛ إذ لا واسطة بين السفه والرشد، وقال المازري: وقولنا: إن التبذير في غير الفسوق يوجب الحجر فكيف بالتبذير في الفسوق، فظاهره أن التبذير في المباحات يوجب الحجر، لكن قال بعد ذلك: وأما أنفاقه في الملاذِّ والشهوات وجمع الجماعات لأكل الكثير من الطيبات في المبيتات والمؤانسات، ففيه إشكال، وقال بعض أصحاب الشافعي: إنه يوجب الحجر، وعن ابن القصار كذلك، ولكن شرطه بشرط وهو أن يكون ما فضل عنه من ذلك لا يتصدق به ولا يطعمه [فقال: وقوله: (ولا يطعمه)] بعد ذكره الصدقة الظاهر أنه أراد إطعامه لإخوانه وهذا [قدر يسير إلا] أنه [لا] يرى ما ذكرناه عن بعض أصحاب الشافعي أنه يوجب الحجر وعلى هذا فيكون كلام ابن القصار يوافق ظاهر كلام المصنف، وانظر لو كان السفيه المبذر لماله في شهواته يتجر بما في يده تجارة تصير إنفاقه في شهواته من الربح ورأس المال محفوظ؛ أي المال الذي بيده، وفي الحجر على هذا إشكال.

ص: 235

وَتَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَى الرَّدِّ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى الأَصَحِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّدَّ لِلسَّفَهِ لا لَلْحَجْرِ ....

أي: المال إذا تصرف السفيه فيه، وأما مجهول الحال فأفعاله جائزة لا يرد شيء منها بالاتفاق، وحكاه في المقدمات وهذا هو السفيه المهمل، والأصح لابن القاسم على ما في اللخمي والمازري والمقدمات وغيرها، ومقابله نقله اللخمي عن ابن كنانة وابن نافع، وعزاه في المقدمات [لمالك وكبار] أصحابه، وصرح في المقدمات في موضع آخر بمشهورية هذا القول، وذكر أيضاً في البيان في باب النكاح أن ما صححه المصنف هو المشهور من قول ابن القاسم، وأن المشهور من مذهب مالك خلافه، وقد روى زياد القرطبي عن مالك أنه سأله عن سفيه عندهم يكسر قوارير البللور على ناصية فرسه ويشتري البازي والكلب بالضيعة الخطيرة، فقال: تمضي أفعاله، ثم سأله بعد زمان فقال: تمضي أفعاله، ولو كان مثل سفيهكم، وصحح المصنف الأول لما قاله المازري أنه اختيار المحققين من أشياخه؛ لأن السفه هو العلة في حجر الحاكم، ورأى مقابل الأصح أن العلة في رد أفعاله الحجر؛ لأن ثبوت السفه يحتاج إلى اجتهاد وكشف، وهو مما اختلف فيه، وقال مطرف وابن الماجشون بالتفصيل، فإن اتصل سفهه من حين بلوغه لم يجز شيء من أفعاله، وإن سفه بعد أن أنس منه الرشد فأفعاله جائزة ولازمة ما لم يكن بيعه بيع سفه وخديعة، مثل أن يبيع ما قيمته ألف دينار بمائة دينار ونحوه فلا يجوز ذلك عليه، وكذلك هبته، والثاني لأصبغ: إن لم يكن معلناً بالسفه مضت أفعاله، وإلا فلا، ومن الشيوخ من رأى أن السفه الظاهر البين يوجب رد أفعاله بخلاف السفه الخفي.

فإن قلت: لم جعلت هذه الأقوال زيادة على كلام المصنف؟ وهلَاّ جعلت الجميع مقابلاً للأصح، قيل: لثلاثة أوجه:

ص: 236

الأول: أن المنطوق به إنما يدل على مقابلة الإجازة، وأما القولان بالتفصيل فلا [دلالة له عليهما].

الثاني: أن عادة المصنف أن يجعل مقابل الأصح والمشهور ونحوهما قولاً واحداً.

الثالث: أن قوله: بإثره (وعليهما) يبين أنه لم يرد إلا قولين، والله أعلم.

تنبيه: [قال في المدونة] ومن أراد أن يحجر على ولده أتى به الإمام ليحجر عليه، ويشهر ذلك في الجامع وفي الأسواق ويشهد على ذلك، فمن باعه أو ابتاع منه بعد ذلك فهو مردود وأخذ من هذا غير واحد أن مذهب المدونة موافق [لمالك] وكبار أصحابه، مخالف لابن القاسم، قال في المدونة: ولا لتولى الحجر إلى القاضي، قيل: فصاحب الشرطة؟ قال: القاضي أحب إليَّ.

عياض: و (أحب) هنا على الوجوب، وقال شيوخنا: إن الحجر مما يختص به القضاة دون سائر الحكام، وذكر ابن سهل أن ثمانية أشياء لا يحكم فيها إلا القاضي: التسفيه، والترشيد، والنظر في الوصايا، والنظر في الأحباس المعقبة، والنظر في مال الأيتام، والنظر في أمر الغائب، والنظر في الأنساب، [والنظر في الولاء، زاد أبو محمد صالح]: والنظر في الحدود والقصاص، وإذا أجزنا الحجر على السفيه الكبير فمذهب ابن القاسم أن السفه الذي يمنع أن يعطى ماله إذا بلغ يوجب استئناف الحجر عليه، وإن كان كبيراً مهملاً، ومذهب أشهب أن استئناف الحجر لا يجوز إلا بثبوت سفه ظاهر بين.

وَعَلَيْهِمَا الْعَكْسُ فِي تَصَرُّفِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ إِذَا رَشَدَ

أي: القولين بسببهما ينعكس الحكم في المحجور عليه إذا رشد، ولم يحكم القاضي بإطلاقه، فعلى قول ابن القاسم تمضي أفعاله؛ لأن المعتبر عنده إنما هو حال التصرف لا حكم الحاكم، وعلى قول مالك لا تمضي؛ لأنه محجور عليه، ولم يفكه القاضي.

ص: 237

خليل: وقد يقال: وإن قلنا: إن الحجر لأجل حجر القاضي، لكن هو معلل في الأصل بالسفه ويلزم من زوال العلة زوال المعلول.

فإن قلت: مقتضى كلام المصنف أن ابن القاسم يقول بالإمضاء هنا، ونقل في المقدمات أن زونان روى عن ابن القاسم أن من ثبتت عليه ولاية فلا تجوز أفعاله حتى يطلق منها، قيل: المشهور عنه خلاف هذا، فقد قال في المقدمات أيضاً قبل هذا ومتصلاً به: وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية لا يعتبر ثبوتها إذا علم الرشد ولا سقوطها إذا علم السفه.

وَفَائِدَةُ الْحَجْرِ رَدُّ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، [535/أ] وَبِإتْلافِ الْمَالِ وَالتَّوْكِيلِ إِلا وَصِيَّةَ الصَّغِيرِ إِذَ لَمْ يُخَلِّمْ فِيهَا كَالسَّفِيهِ

(أل) في (الْحَجْرِ) للعهد؛ أي الحجر الذي هو أقرب مذكور وهو حجر السفيه، ويحتمل الحجر في أول الكلام؛ أعني الذي عدد أسبابه وإن كان مراده هذا الثاني فهو مخصوص؛ إذ المريض لا يمنع من البيع والشراء إذا لم يحابِ أو حابى بدون الثلث، ولا يمنع من الإقرار بالدين لمن لا يتهم عليه، وكذلك الزوجة لا تمنع من التصرف في الثلث ويكون المصنف أطلق هنا لم سيأتي.

فإن قلت: لا يصح أن يريد الثاني؛ لأن قوله: (كَالسَّفِيهِ) يرده؛ إذ السفيه أحد أنواعه، قيل: قوله: (كَالسَّفِيهِ) إنما هو راجع إلى الوصية فقط، وقصد المصنف بذلك بيان حكم وصية الصغير والسفيه، وهو الجواز وإلا فهو لم يقدم حكم وصية السفيه.

وقوله: (كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ) قال في المدونة: وأما شراؤه ما لا بد منه مثل الدرهم يبتاع به لحماً ومثل خبز وبقل ونحوه يشتري ذلك لنفسه مما يُدفع إليه من نفقته فجائز، وأخذ منه ابن الهندي أن الوصي لا يدفع لمحجوره إلا نفقة نفسه خاصة، وقال ابن العطار: يدفع إليه نفقة نفسه ورقيقه وأمهات أولاده، وأما الزوجة فهي تقبض لنفسها، قال في البيان: وإن باع اليتيم دون إذن وصيه أو الصغير من عقاره وأصوله بوجه السداد

ص: 238

في نفقته التي لا بد له منها ولا شيء له غير المبيع وهو أحق ما يباع من أمواله فاختلف فيه على ثلاثة أقوال:

أحدهما: أن البيع يرد على كل حال، ولا يتبع بشيء من الثمن، وهو قول ابن القاسم، وهو أضعف الأقوال.

الثاني: أن البيع يرد إذا رأى ذلك الوصي ولا يبطل الثمن عن اليتيم، ويؤخذ من ماله، وهو قول أصبغ.

الثالث: أن البيع يمضي ولا يرد وأما إن باع بأقل من القيمة أو باع ما ليس هو الأحق بالبيع [فلا خلاف أن البيع يرد وإن لم يبطل الثمن على اليتيم] لإدخاله إياه فيما لا بد له منه، وأما ما باع اليتيم من ماله وأنفقه في شهواته التي يستغني عنها فلا خلاف أنه يرد ولا يتبع بشيء من الثمن كان المبيع يسيراً أو كثيراً، أصلاً أو عرضاً، وهو محمول فيما باعه وقبض ثمنه على أنه أنفقه فيما لا بد له منه حتى يثبت أنه أنفقه فيما له عنه بد، وفي المقدمات: وأما بيعه وشراؤه ونكاحه وشبهه مما يخرج عن عوض ولا يقصد به قصد المعروف، فإنهه موقوف على نظر وليه، فله أن يجيز أو يرد بحسب النظر وإن لم يكن له ولي قدم القاضي له من ينظر في ماله، فإن لم يفعل حتى ملك أمره، فهو مخير في رد ذلك وإجازته، فإن رد بيعه وابتياعه وكان قد أتلف الثمن الذي باع به أو السلعة التي ابتاعها لم يتبع في ماله بشيء.

واختلف إذا كانت أمة فأولدها فقيل: كذلك فلا ترد، وقيل: ليس بفوت كالعتق، ولا يكون عليه من قيمة الولد شيء، واختلف إذا كان أنفق الثمن فيما لا بد له منه هل يتبع ماله بذلك أم لا؟ على قولين، وإن كان الذي اشترى المشتري منه أمة فأولدها أو عتقها، أو غنماً فتناسلت، أو بقعة فبناها، أو شيئاً له غلة فاغتله، فالحكم في ذلك كمن اشترى من مالك فيما يرى فاستحق من يده بعد أن أحدث فيه ما ذكر، هذا إن لم يعلم أنه مولى عليه،

ص: 239

وأما إن علم أنه مولى عليه متعدِّ في البيع بغير إذن وليه لسفه يقصده فحكمه كالغاصب، واختلف فيما فوت السفيه من ماله بهبة ونحوها، فلم يعلم به حتى مات هل ترد بعد الموت أو لا؟ على قولين. انتهى.

وقول المصنف: (وَالإِقْرَارِ)؛ أي بالمال. ابن كنانة إلا أن يقر به في مرضه فيكون في ثلث ماله، واستحسن ذلك أصبغ ما لم يكثر، وإن حمله الثلث.

وقوله: (وَالتَّوْكِيلِ)؛ أي على الحقوق المالية، وهو ظاهر.

وَلا حَجْرَ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ فِي الطَّلاقِ، وَاسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَنَفْيِهِ، وَعِتْقِ أُمِّ وَلَدِهِ، وَالإِقْرَارُ بِمُوجِبِ الْعُقُوبَاتِ بِخِلافِ الْمَجْنُونِ ....

هذا هو الذي احترز عنه بالتصرفات المالية، واحترز بالعاقل من المجنون، وبالبالغ من الصبي، فلا تمضي تصرفاتهما مطلقاً.

ونبه بقوله: (فِي الطَّلاقِ) على خلاف ابن أبي ليلى، في قوله: أنه لا يلزمه؛ لأنه قد يحتاج إلى امرأة أخرى فيؤدي ذلك إلى هلاك ماله، وخرجه بعضهم على قول المغيرة أنه لا يمضي عتق أم ولده، ورده المازري بأن أم الولد يترقب فيها المال بالجناية عليها، وكذلك يلزمه عندنا الطلاق والظهار واستلحاق النسب ونفيه؛ أي باللعان في الزوجة أو بدعواه في الأمة.

فإن قلت: في الاستلحاق إثبات وارث ففيه إتلاف مال. قيل: وإن سلم فلا يضر؛ لأنه بعد موته فكان كوصية.

وقوله: (وَعِتْقِ أُمِّ وَلَدِهِ) خالف في ذلك المغيرة وابن نافع، وهل يتبعها مالها؟ ثلاثة أقوال حكاها في المقدمات: روى أشهب عن مالك: أنه يتبعها، وروى يحيى عن ابن القاسم: أنه لا يتبعها. والثالث: إن كان مالها يسيراً أتبعها، وإلا فلا. قال: وأراه قول

ص: 240

أصبغ: وقوله: (وَالإِقْرَارُ بِمُوجِبِ الْعُقُوبَاتِ) كالزنى والسرقة، وهو ظاهر. قال في المقدمات: ويلزم السفيه البالغ جميع حقوق الله تعالى التي أوجبها على عباده في بدنه وماله، فيلزمه في بدنه ما وجب من حد أو قصاص ويلزمه في ماله ما أفسد أو كسر ما لم يؤتمن عليه باتفاق، وما اؤتمن عليه ففيه اختلاف ولا تلحقه يمين فيما ادعى عليه في ماله، وأما إن ادعى عليه [535/ب] فيما يجوز إقراره فيه فتلحقه اليمين فيه. انتهى.

وهل يجوز عفوه عما دون النفس من قصاص وجب له أو حد قذف وإليه ذهب ابن القاسم أم لا؟ وإليه ذهب مطرف وابن الماجشون، ولا خلاف أنه لا يصح عفوه عن جراح الخطأ لأنها مال، فإن أدى جرح الخطأ إلى إتلاف نفسه وعفا عن ذلك عند موته، كان ذلك في ثلثه كالوصايا، وإن وجب له قصاص في نفس كما لو قُتل أبوه أو ابنه عمداً صح عفوه على مذهب ابن القاسم الذي يرى أن الواجب في العمد قود كله. ابن عبد السلام: وفيه نظر على مذهب مطرف وابن الماجشون المتقدم، وتردد المازري على مذهب أشهب الذي يرى أن الولي بالخيار بين القتل وأخذ المال، وأجراه على أن من ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟

وَوَلِيُّ الصَّبِيِّ: أَبُوهُ ثُمَّ الوَصِيُّ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْحَاكِمُ وَلا وِلايَةَ لِجَدِّ وِلا غَيْرِهِ

(ثُمَّ وَصِيُّهُ)؛ أي وإن بعد، والسفيه مشارك للصبي في هذا، فلو قال:(وولي الصبي والسفيه أبوه) كان أولى.

وقوله: (أَبُوهُ) يريد إذا كان الأب رشيداً وإذا كان سفيهاً فهل ينظر وليه على بنيه؟

ابن عتاب وابن القطان: جرى العمل أنه لا ينظر على بنيه إلا بتقديم مستأنف.

ابن سهل: ودليل الروايات أنه ينظر إليهم.

قوله: (وَلا وِلايَةَ لِجَدِّ وِلا غَيْرِهِ)؛ أي من أخ أو عم.

ص: 241

وَلا يُبَاعُ عَقَارُهُ إِلا لِحَاجَةِ الإِنْفَاقِ أَو لِغِبْطَةٍ أَو لِسُقُوطِهِ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ الْبَيْعُ عِنْدَهُ أَوْلَى وَيَسْتَبْدِلُ بِثَمَنِهِ أَصْلَحَ ....

ما ذكره من جواز البيع لحاجة الإنفاق عليه ظاهر؛ لأنه إنما حفظ ماله من أجله النفقة عليه أو لغبطة؛ أي لزيادة في ثمنها، فقد أجاز في المدونة والعتبية بيع دار اليتيم إذا بذل فيها أضعاف ثمنها لسحنون، وذلك إذا كان المالك مثل عمر بن عبد العزيز؛ يعني في طيب مكسبه.

أبو عمران: وإن علم الوصي بخبث مكسبه ضمن، وإن لم يعلم كان له أن يلزمه مالاً حلالاً أو تباع الدار فيه، واشترط الغرناطي في وثائقه في الزيادة التي يباع عقار اليتيم لها أن تزيد على الثلث.

وقوله: (أَو لِسُقُوطِهِ) هو كقوله في الجواهر: أو لخشية سقوطه إن لم ينفق عليه من المال ما يكون معه بيعه وابتياع غيره بثمنه أفضل.

ابن عبد السلام: فـ (ما) من قوله: (ما يكون البيع) موصلة منصوبة انتصاب المفعول به، والعامل فيها (يُنْفِقْ) من قوله:(إِنْ لَمْ يُنْفِقْ)؛ أي خشية سقوطه ما لم ينفق عليه نفقة كثيرة، فيكون البيع بسببها أولى، فبيعها حينئذٍ سائغ، ويستبدل بثمنها ما هو أصلح للمحجور، وقال ابن راشد: في كلامه أضمار تقديره: أو لسقوطه إن لم ينفق عليه سقوطاً يكون البيع عنده أولى، فأقام (ما) مقام المصدر المحذوف، ويحتمل أن تكون بمعنى المصدر، والمعنى سقوط ما يكون البيع عنده أولى، وكلام ابن عبد السلام أحسن، وزاد الموثقون وجوهاً أخر يباع عقار اليتيم لها.

الأول: ألا يعود عليه شيء منه فيبيعه ليعوض عنه ما يعود منه.

الثاني: أن يبيعه ليعوض ما هو أجود منه.

الثالث: لضرر الشركة، فيبيعه ليعوضه داراً كاملة.

ص: 242

الرابع: إذا أراد شريك البيع، وهو لا ينقسم ولا مال له يشتري به حصة شريكه.

الخامس: أن تكون الدار واهية يخشى عليها الخراب، وليس له مال يصلح منه.

السادس: أن يكون بين أهل الذمة.

السابع: أن يكون ملكاً موظفاً فيستبدل حراً.

الثامن: أن يكون بين جيران سوء، فيبيعها ليأخذ أجود، قاله ابن المواز، حكاه في الطراز.

التاسع: أن يتقي عليها من السلطان وغيره، ذكره صاحب الطراز.

العاشر: إذا خشي انتقال العمارة من موضعه، قاله في الجواهر وأورد ابن عبد السلام: أن ظاهر قوله: (لا يُبَاعُ عَقَارُهُ) أن ذلك في حق الأب بالنسبة إلى ولده الصغير والوصي، وظاهر المذهب أن الأب يبيع مال ولده الصغير والسفيه الذي في حجره، الربع وغيره؛ لأحد هذه الوجوه أو غيرها. وفعله في ربع ولده كغيره من السلع محمول على الصلاح، وإنما يحتاج إلى أحد هذه الوجوه الوصي وحده، وكذلك قال ابن راشد: إن المتولي للبيع على المحجور من أب أو وصي أو كافل أو حاكم؛ فالأب له أن يبيع لولده ويشتري، وفعله محمول على السداد حتى يثبت خلافه، [ولا يشترط في بيعه ما يذكر بعدُ في الوصي لمزيد شفقته، إلا أن يشتري لولده من نفسه فيحمل على غير النظر حتى يثبت خلاله]، ولو باع من نفسه ولم يذكر أنه باع لولده فالبيع ماضٍ ولا اعتراض فيه للابن إذا رشد، قاله ابن القاسم في الواضحة، والثمانية.

فإن باع لمنفعة نفسه فسخ عند أصبغ بعد أن كان يمضيه ثم رجع إلى مذهب ابن القاسم وغيره: أنه إذا تحقق أنه باع لمنفعة نفسه فسخ. حكاه عن أصبغ ابن حبيب.

وأما الوصي فهو أخفض رتبة من الأب؛ لأن الأب يبيع من غير ذكر سبب، بخلاف الوصي، فإنه لا يبيع إلا بعد ذكر سببه، ولا يجوز له أن يهب مال محجوره للثواب

ص: 243

بخلاف الأب، وفعل الوصي محمول على السداد حتى يثبت خلافه، قاله جماعة من الأندلسيين وغيرهم، وقال أبو عمران وغيره من القرويين: فعله في الرباع محمول على عدم النظر حتى يثبت خلافه، قال: وهو معنى ما في الموازية، قال: وإنما فرقنا بينه وبين الأب؛ لأنه في الكتاب كلما سئل عن الأب أطلق القول بجواز بيعه، إلا أن يكون على غير وجه النظر، وإذا سئل عن الوصي قال: لا يجوز بيعه إلا أن يكون نظراً، وحيث قلنا بجواز بيعه أو منعه فذلك ما لم يبين السبب الذي لأجله بيع، فإن بينه فلا يختلف في جواز بيعه ويضمن العقد معرفة الشهود لذلك، وإذا اقتصر على ذلك ولم يضمنه فقد لا يختلف في الجواز أيضاً وهو ظاهر [536/أ] ما حكاه ابن القاسم الموثق، ونص كلامه: ومن تمام العقد أن يُضَمَّنَ معرفة الشهود السداد في البيع وأنه أولى ما بيع عليه إن كان له سواه، وإن سقط هذا من العقد كان فعل الوصي محمولاً على السداد حتى يثبت خلافه، هذا هو المشهور، وقيل: لا يجوز بيع الوصي حتى يبين الوجه الذي لأجله وجب البيع. فقوله: (حتى يبين الوجه) يقتضي أنه إذا بينه لا يختلف في جواز بيعه، وظاهره أنه يكتفي فيه بذكره من غير احتياج إلى إثباته، وقد نص في الطرر على أن بيعه جائز، وإن لم يعرف ذلك إلا من قوله وعلى ما قاله أبو عمران: لا يتم البيع حتى يشهد الشهود بمعرفة السداد، وأن الوصي باع لغبطة أو لحاجة فيتم له الشراء، [ويؤيده ما حكاه ابن زياد في أحكامه أنه إذا أقيم فيما باعه الوصي فعلى المشتري أن يثبت أنه اشترى شراء صحيحاً، وأن الوصي باع لغبطة أو لحاجة ويتم له الشراء]، وفي الطراز قال ابن المواز: إذا باع الوصي عقار اليتيم مضى فعله وجاز، ما لم يكن فيه غبن في الثمن مما لا يتغابن الناس فيه، وإن لم يكن شيء من الوجوه المذكورة، فإذا باع نفذ بيعه، وهو قول الشيوخ قديماً وبه العمل، وقال ابن عبد الغفور: هذا خلاف ما تدل عليه أقاويلهم، ثم عدَّد الأسباب التي يبيع الوصي العقار لها، ثم قال: ولو أوصى رجل لابنته وأوصى أن يبيع عليها مالها وأصولها جاز ذلك وإن لم تكن حاجة، إذا كان ذلك نظراً كالنكاح.

ص: 244

وأما الكافل ففي بيعه عن مكفوله أربعة أقوال:

أحدها: المنع مطلقاً، قاله مالك في كتاب القسم من المدونة في مسألة من كفل ابناً صغيراً أو ابن أخ، قال: لا يجوز بيعه عليه ولا قسمه له.

ثانيها: الجواز مطلقاً، قال ابن الماجشون في الواضحة: أجاز مالك وغيره من العلماء نظر العم وغيره [كالأم] والأخ وابنه الرشيد لليتيم دون تقديم السلطان أو إيصاء من الأب، وأجازوا له ما يجوز للوصي إذا أحسن النظر ولم يتهم، ويؤيده أن مالكاً أجاز لملتقط الطفل أن يحوز له ما وهب له دون أن يجعل السلطان له ذلك، وأجاز في النكاح إنكاحه لمكفولته وقال: من أنظر لها منه؟!

أبو كبر بن عبد الرحمن وغيره: وإذا جاز إنكاحه فبيعه أولى.

وثالثها: الجواز في بلد لا سلطان فيه، والمنع في بلد في السلطان، قاله ابن الهندي.

رابعها: الجواز في اليسير: قاله في العتبية: وبه قال أصبغ، وبه جرى العمل، واختلف في حد اليسير، فقال ابن زرب: ثلاثون ديناراً ونحوها، وقال ابن العطار: عشرون ديناراً ونحوها، وقال ابن الهندي: عشرة ونحوها، وإذا أقيم على المبتاع فيما باعه الكافل فعليه أن يثبت حضانة البائع وحاجة المبيع عليه والسداد في الثمن، وأنه أنفق الثمن عليه وأدخله في مصالحه، وأنه ليس له مال غيره، وأنه أولى ما بيع عليه من عقاره، وأنه يضمن ذلك عقد البيع آخراً، ولو رفع ذلك الكافل إلى القاضي لم يأمره بالبيع حتى يثبت عنده يُتْم المبيع عليه وملكه لما يباع عليه وحاجته للبيع والسداد في الثمن والاشتراك إذا كان المبيع مشتركاً.

ولما رأى الفقهاء أن اليتيم ربما ضاع قبل إثبات ذلك عند القاضي أجازوا للكفيل البيع دون مطالعته حسب ما قدمناه وإلى هذا المعنى أشار ابن العطار، وأما القاضي فله أن بيبع على اليتيم إذا ثبت عنده يتمه [وإهماله] وملكه لما باع عليه، وأنه لا شيء عنده يباع

ص: 245

غير ذلك، وأنه أولى ما يبيع عليه، وحازه الشهود على من شهد عنده بالملكية وقبول من يقدمه للبيع لما كفله من ذلك، وتسويق المُقَدم للبيع وأنه لم يُلْف على ما أعطى زائداً والسداد في الثمن، واختلف هل عليه أن يصرح باسم الشهود الذين ثبت بهم عنده ما أوجب البيع أم لا على قولين. انتهى كلام ابن راشد.

وَلِلْوَلِيِّ النَّظَرُ فِي قِصَاصِ الصَّغِيرِ أَوِ الدِّيَةِ وِلا يَعْفُو

لولي الصغير أباً أو غيره أن ينظر في القصاص الذي وجب للصبي، إما بجناية عليه أو على وليه في القصاص أو أخذ الدية، فإن كان غنياً ولا حاجة له بالمال فالقصاص أولى، وإلا فالعكس. قال في المدونة: وليس للأب أن يعفو إلا أن يعوضه من ماله.

(وِلا يَعْفُو) أي في العمد والخطأ.

وَلا يُعْتِقُ وِلا يُطَلِّقُ إِلا بِعِوَضٍ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ

يعني: وليس لولي الصغير أباً أو غيره أن يطلق عليه إلا بعوض، ولا أن يعتق عبداً من عبيده، ويرد العتق إلا أن يكون الأب موسراً فيجوز ذلك على الأب، ويضمن قيمته في ماله، قاله مالك في كتاب الشفعة.

وَللأبِ ذَلِكَ فِي الأُنْثَى الْمُجْبَرَةِ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِنَّ، وَفِي الْبَالِغِ السَّفِيهِ: قَوْلانِ ....

أي: للأب أن يخالع عن الأنثى المجبرة. (وَفِي غَيْرِهَا

إلخ) تقدم ذلك في الخلع، وعين هنالك في السفيه: المشهور أنه لا يخالع عليه.

ص: 246

وَيَعْفُو عَنْ شُفْعَةٍ لِمَصْلَحَةٍ فَتَسْقُطُ

أي: لأن الأخذ بالشفعة شراء، وقد يكون لمصلحة وقد لا يكون، فإذا رأى الإسقاط ملصحة لا يكون للصبي أن يأخذ بالشفعة إذا رشد، وإن كان الأخذ هو المصلحة وترك ذلك كان له الأخذ إذا رشد، وستأتي هذه المسألة في الشفعة.

وَلِسَّيِّدَ الْحَجْرُ عَلَى رَقِيقِهِ مُضَيِّعاً أَوْ حَافِظاً

لما انقضى كلامه على الأسباب الثلاثة؛ يعني الصبا والجنون والتبذير شرع في الرابع، وذكر أن للسيد أن يحجر على رقيقه، وإن كان العبد حافظاً؛ لأن له حقاً في ماله انتزاعاً.

(وحافظاً ومضيعاً) منتصبان على الحال من رقيقه؛ لأن الرقيق على ما ذكره الجوهري للواحد والجمع، فلذلك جاء حاله مفرداً.

وَحُكْمُ مَنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي التِّجَارَةِ حُكْمُ الْوَكِيلِ الْمُفَوَّضِ لَهُ فِيهَا

أحال حكم العبد المأذون له في التجارة على حكم الوكيل المفوض، اعتماداً على ما سيأتي، [536/ب]- وقد يشبه المصنف في كتابه بما سيأتي وقد تقدم تنبيهنا على ذلك -[أو لقيد] الحكم في الجميع.

واعلم أنه إن أذن له في التجارة من غير تقييد كان كالمفوض فيها بلا إشكال، وإن خصه بنوع فالمشهور وهو مذهب المدونة أنه كذلك، وبه قال أصبغ، وقال سحنون: ليس له أن يتجر بالدين إذا حجر عليه في التجارة به، قال في المقدمات: وكذلك يلزم من قوله: (إذا حجر عليه في التجارة) في نوع من الأنواع، وعلى المشهور فقيد ذلك بعض الصقليين بأن لا يشهر ذلك ويعلنه، وأما إن أشهره فلا يلزمه.

ابن رشد: وهو صحيح في المعنى قائم من المدونة والعتبية. وعارض اللخمي مذهب ابن القاسم بما قاله ابن القاسم في المقارض يدفع له المال على أن يتجر في صنف: أنه إن تجر في

ص: 247

غيره كان متعديا؛ وعلى هذا فيحمل قول المصنف: (أذن في التجارة) على أن المراد جنسها، وسواء أذن له إذناً مطلقاً أو مقيداً ليوافق المشهور. قال في المدونة: وإن أقعده ذا صنعة مثل قصارة ونحوها فلا يكون ذلك إذناً في التجارة ولا في المداينة، وكذلك إن قال لعبده: أدِّ لي الغلة، فليس بمأذون في التجارة.

وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ أَوْ يُؤَخِّرَ أِوْ يَعْمَلَ طَعَاماً إِلا اسْتِئْلافاً لِلتِّجَارَةِ

أي: ليس للمأذون أن يضع من الدين أو يؤخره أو يعمل طعاماً يدعو الناس إليه ولو كان عقيقة لولده، قاله في المدونة: والاستثناء عائد على الجمل المتقدمة، صرح بذلك في المدونة، وذهب سحنون إلى أنه لا يجوز التأخير بالثمن؛ لأنه إن لم يكن لمنفعة فواضح، وإلا فهو سلف جر نفعاً، وأجيب باختيار ابن القاسم الثاني ولا يلزم عليه المنع؛ لأنها منفعة غير محققة، وأيضاً فإنه منقوض بالحر، فإنه يجوز له التأخير بالأثمان طلباً لمحمدة الثناء، وقيد اللخمي جواز التأخير بما إذا لم يبعد الأجل، والوضيعة بما إذا لم تكثر، قال في المدونة: ولا يجوز للعبد أن يعير من ماله جارية مأذوناً كان أو غير مأذون، وكذلك العطية. ابن المواز: وقال غيره لا بأس أن يعير دابته إلى المكان القريب ويعطي السائل الكسرة والقبضة.

وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْوَصِيَّةِ لَهُ، وَالْهِبَةِ، وَنَحْوِهِمَا، وَيَقْبَلُهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ

أي: فللمأذون أن يتصرف فيما أوصى له به أو وهب له ونحوهما: كالصدقة، وله أن يقبل ذلك بغير إذن سيده، وأقيم من المدونة أنه ليس للسيد أن يمنعه من قبول الهبة؛ لأن فيها: وما وهب للمأذون وقد اغترقه دين فغرماؤه أحق به من سيده ولا يكون لغرمائه من عمل يده شيء، ولا من خراجه، وإنما يكون ذلك في مال وهب للعبد أو تصدق به عليه أو أوصى له به، فقبله العبد.

ص: 248

عياض: وهذا ظاهر في أن السيد لا يمنعه من قبوله، وظاهره أن الغرماء لا يجبرونه على قبوله، أبو محمد صالح: وظاهره سواء وهب لأجل الدين أم لا.

خليل: ولو قيل: إن لسيد أن يمنعه من قبول الهبة ونحوها كان حسناً للمنة التي تحصل على [السيد].

تنبيه: واختلف الشيخان في قوله: (وإنما يكون ذلك في مال وهب للعبد)، فقال ابن القابسي: هذا بشرط أن يوهب له لأجل وفاء الدين، وأما إن لم يوهب له لذلك فهو كالخراج يكون السيد أحق به، وقال أبو محمد: الغرماء أحق سواء وهب له بشرط الوفاء أم لا.

وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمَاذُونِ

التشبيه راجع للقبول فقط؛ لأن التصرف إنما يكون للمأذون إلا أن يكون الواهب أو الوصي شرط في هبته أو وصيته ألا حجر عليه فيها، فينبغي أن يمضي ذلك على شرطه كما قال بعضهم في السفيه والصغير. قاله ابن عبد السلام.

وَفِي إَمْضَاءِ أَخْذِ الْمَاذُونِ الْقِرَاضَ وَإِعْطَائِهِ: قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ

لا يدل قوله: (وَفِي إَمْضَاءِ) على الجواز ابتداء، وفي المدونة في باب القراض: وللمأذون دفع القراض وأخذه. ووافق سحنون أشهب على أنه ليس له ذلك، وسبب القولين: هل ذلك من باب التجارة فيجوز للإذن فيها أو الإجارة فيمتنع؟ وإنما يظهر التعليل في التجارة في أخذه، وأما في إعطائه فعلل اللخمي منع أشهب بأنه إيداع للمال ولم يؤذن فيه، والمساقاة كالقراض، قيل: وإن أخذ المأذون له القراض فربح فيه فما أخذ من الربح فهو مثل خراجه لا يقضى منه دينه ولا يتبعه إن عتق؛ لأنه إنما باع منافع نفسه بذلك فأشبه أن لو استعمل نفسه في الإجارة.

ص: 249

وَيَتَعَلَّقُ دِينَهُ بِمَا فِي يَدِهِ ثُمَّ بِذِمَّتِهِ إِذَا عُتِقَ لا بِرَقَبَتِهِ وَلا بِسَيِّدِهِ

يعني: ويتعلق الدين الواجب على المأذون بسبب التجارة أو ما في معناه من وديعة استهلكها بالمال الذي في يده، فإن فضل شيء تعلق بذمته إذا عتق، وإتيان المصنف بـ (ثُمَّ) الدالة على التراخي يدل على أنه لا يتعلق بذمته قبل العتق، وفيه نظر؛ لأنه لو كان كما قال المصنف أنه لا يتعلق بذمته قبل العتق لما كان للغرماء أخذ الهبة بشرط أن يوهب له لأجل وفاء الدين، وقلما يوجد ذلك، فلا يتأتى الطلب إلا بعد العتق وفيه تسليم إمكانه، وإن قل لهو وارد عليه، وأيضاً فإن الأخذ هو القليل، وأما الدين فهو متعلق بالذمة، والله أعلم.

وقوله: (لا بِرَقَبَتِهِ) تنبيهاً منه على مذهب أبي حنيفة أنه يتعلق برقبته، وحكي عن سحنون.

وَتُبَاعُ أُمُّ وَلَدِهِ

واعلم أن أم ولد المأذون ليس فيها طرف حرية، وإلا لكانت أرفع حالاً من سيدها؛ إذ ليس فيه هو طرف من حرية فلذلك بيعت في الدين وجاز بيعها في غيره، بشرط أن يأذن سيده. أبو محمد وغيره: والعلة في أنه لا يبيع المأذون له أم ولده إلا بإذن سيده؛ لأنها قد تكون حاملاً وحملها للسيد، ويكون قد باع عبداً للسيد بغير أمره، وعلل ذلك بعضهم بأن العبد إذا عتق تكون له أم ولد بالولد الذي ولدته في حال رق سيدها على قول؛ فلذلك [537/أ] لم يبعها بذلك إلا بإذن سيده وهذا مبنى على مراعاة الخلاف، وهذا لو كان كما ذكرنا لما جاز له البيع ولو أذن له سيده، وأورد على الأول أنه يلزم منه عدم جواز بيع المأذون الأمة الموطوءة، وإن لم تحمل لاحتمال أن تكون حاملاً، وأجيب بأن أم الولد قد صارت خزانة للمأذون بإيلادها المتقدم بخلاف إذا لم تلد.

فرع: وإذا قام الغرماء على المأذون وأمته ظاهرة الحمل فقال اللخمي: يؤخر بيعها حتى تضع ويكون ولدها للسيد، وتباع بولده، ويقوم كل واحد بانفراده قبل البيع ليعلم

ص: 250

كل واحد منهما ما يبيع به ملكه، وإن لم تكون ظاهرة الحمل وبيعت في الدين ثم ظهر حمل، فهل للسيد فسخ البيع لحقه في الولد أم لا؟ قولان، وأما إن باعها بغير إذن سيده ولم يظهر حمل لا ينتقض البيع، ولم يذكروا في ذلك خلافاً، وأما إن باع المأذون من أقاربه من يعتق على الحر فباعه بغير إذن سيده، فاختلف الشيوخ في نقض ذلك البيع، فقال بعض من سلم أن بيع أم الولد لا ينقض: إنه ينقض هذا البيع، وقال غيره: لا ينقض.

دُونَ وَلَدِهِ إِلا أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ

أي: دون ولده، فإنه لا يباع في دينه؛ لأنه مال للسيد إلا أن يشتريه وعليه دين، فإنه يباع حينئذٍ للغرماء؛ لأنه أتلف أموالهم.

وَهُوَ فِي قِيَامِ الْغُرَمَاءِ وَالْحَجْرِ كَالْحُرِّ، وَقِيلَ: يَحْجُرُ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: مَا لَمْ يَطُلْ تَجْرُهُ ....

يعني: والمأذون في قيام غرمائه وحجرهم عليه كالحر فلا يكون ذلك للسيد، وإنما يكون لحاكم، ولهذا قابله بقوله:(وَقِيلَ: يَحْجُرُ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ).

ومقتضى كلام المصنف أن الأول هو المشهور لتصديره به وعطفه عليه بـ (قِيلَ)، وهو قول ابن القاسم، فقد نقل عنه ابن حارث أنه لو أراد السيد الحجر عليه لا يجوز له ذلك إلا بإذن السلطان، وفي المدونة لا ينبغي لسيد المأذون أن يحجر عليه إلا عند السلطان فيوقفه السلطان للناس ويؤمر به فيطاف به حتى يعلم ذلك منه، ثم قال: وليس للغرماء أن يحجروا عليه إلا عند السلطان، وإنما لهم أن يقوموا عليه فيفلسوه وهو كالحر في هذا، فانظر قوله:(ينبغي) هل معناه الوجوب، بدليل آخر كلامه وما نقله ابن حارث، وعلى هذا حمل المدونة من تكلم على هذا الموضع من كلام المصنف أو هو على بابه، وإليه ذهب أبو الحسن؟

ص: 251

وقوله: (وَقِيلَ: يَحْجُرُ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ) هذا القول نقله ابن شاس، وظاهر كلامه أن قول اللخمي ثالث، وإنما ذكره على أنه المذهب. ابن عبد السلام: ولا ينبغي أن يعدل عنه.

وَأَمَّا الانْتِزَاعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ غُرَمَاءُ فَكَغَيْرِهِ

أي: كغير المأذون في الانتزاع إلا أن يتعلق حق الغرماء بما في يد العبد فلا يكون للسيد حينئذٍ الانتزاع.

وَإِذَا كَانَ تَجْرُهُ لِلسَّيِّدِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ لِمْ يَجُزْ لِسَيِّدِهِ تَمْكِينُهُ مِنْ تَجْرٍ فِي خَمْرٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ كَانَ لِنَفْسِهِ فَفِي جَوَازِ تَمْكِينِهِ: قَوْلانِ

لأنه إذا تجر لسيده فهو كوكيل له فلذلك لا يجوز لسيده أن يمكنه من شراء خمر ونحوه، وأم إن تجر لنفسه وعامل أهل الذمة فقولان أجراهما اللخمي، على أنهم: هل هم مخاطبون بفروع الشريعة فلا يمكَّن، أم ليسوا بمخاطبين فيمكَّن؟ وقد يجريان على أن من ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟ اللخمي: وكان لابن عمر رضي الله عنهما عبد نصراني يبيع الخمر فمات فورثه.

فرع: وأما العبد غير المأذون فروى أشهب عن مالك لا يُشترى من العبد الذي لم يؤذن له في البيع والشراء، وإن قل مثل الخف وشبهه، ولا يقبل قوله أنَّ أهله أذنوا له حتى يسألهم.

خليل: ولعل هذا لأن العبيد لا يبيعون ولا يشترون في عادتهم، وأما عندنا فالعبد يبيع ويشتري، لا سيما الشيء القليل، فينبغي أن يقبل قوله كما قبلوه في الهدية والاستئذان إذا قال: سيدي أهدي لك لهذا، أو أذن لك في الدخول، قال القرافي في قواعده: ويجوز تقليد الصبي والأنثى والكافر الواحد في الهدية والاستئذان، وهو مستثنى من الشهادة؛ لما يحتف به من القرائن والضرورة.

ص: 252

وَيُحجَرُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ فِيمَا زَادَ عَلَى حَاجَتِهِ مِنْ أَكْلِهِ وَكِسْوَتِهِ وَتَدَاوِيهِ ....

لما في الصحيحين أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض وقال: إنه لا يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» . فقلت: بالشطر، فقال:«لا» ، ثم قال:«الثلث والثلث كثير» ، والمخوف الذي يخاف على صاحبه الموت، واحترز به مما دونه، فلا حجر على صاحبه، وسيأتي، وقيد الحجر بما زاد على حاجته، وأما حاجته فلا يحجر عليه فيها.

و (مِن) في قوله: (مِنْ أَكْلِهِ) لبيان الجنس، وحاصله أنه لا حجر عليه فيما يأكله ويتداوى به ويكتسي به، وإنما يحجر عليه فيما زاد على الثلث بالنسبة إلى العطايا، فإن فعل فقال المصنف:

وَيُوقَفُ كُلُّ تَبَرُّعٍ فَإِنْ مَاتَ فَفِي الثُّلُثِ وَإِلا فَكَإِنْشَاءِ الصِّحَّةِ

(كُلُّ تَبَرُّعٍ)؛ أي عتقاً كان أو غيره، وظاهره كان له مال مأمون أم لا. وهو قول مالك الأول، والذي رجع إليه في المأمون أنه ينفذ ما بتل من عتق أو غيره في المرض، قال في كتاب العتق: وليس المال المأمون عند مالك إلا في الدور والأرضين والنخل والعقار، فإن مات؛ أي بعد إيقافه، فتبرعه خارج من الثلث كالوصايا. (وَإِلا)؛ أي وإن لم يمت.

(فَكَإِنْشَاءِ الصِّحَّةِ) فيكون ذلك بمنزلة ما لو أنشأ ذلك التبرع في الصحة فيلزمه ذلك. وفي بعض النسخ: (وإلا استأنينا الصحة)، وهو ظاهر.

وَلا يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَةِ، [537/ب] وَالْمُحَابَاةُ فِيهَا مِنَ الثُّلُثِ

أطلق المعاوضة ليتناول البيع والشراء، والإجارة والقراض والمساقاة.

ص: 253

ابن عبد السلام: لكن يدخل تحته النكاح والخلع؛ لأنهما من عقود المعاوضة، وليس للمريض فعلهما، فلو قيدها، فقال:(في المعاوضة المالية) لكان أحسن.

خليل: ولعله اعتمد على ما قدمه في النكاح والطلاق.

(وَالْمُحَابَاةُ فِيهَا مِنَ الثُّلُثِ) مثاله: لو باع سلعة بعشرين وهي تساوي أربعين، فإنه يجعل العشرين المتروكة في الثلث، وظاهر قوله:(والمحاباة في الثلث) أن ما عدا المحاباة يمضي، ولو كان مما تطلب فيه المناجزة كالصرف وهو مذهب أصبغ خلافاً لسحنون والهاء في قوله:(فِيهَا) للمعاوضات.

وَالْمَخُوفُ مَا يَحْكُمُ الطِّبَّ بِأنَّ الْهِلاكَ بِهِ كَثِيرٌ

مراده بالكثير أن يكون الموت من هذه الأشياء شهيراً لا يتعجب من حصول الموت معه، لا أنه يكون الغالب من حال ذلك المرض الموت منه، كما هو ظاهر كلام المازري، وهو الذي يدل عليه كلامهم في الفالج ونحوه، والمراد بالطب أهله.

كَالْحُمَّى الْحَادَّةِ وَالسُّلِّ وَالْقُولَنْجِ وَذَاتِ الْجَنْبِ وَالإِسْهَالِ بِالدَّمِ وَالْحَامِلِ تَبْلُغُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ....

هذه أمثلة للمرض المخوف. (والْحُمَّى الْحَادَّةِ)؛ أي الشديدة التي يكثر معها شرب الماء، (السُّلِّ) بكسر السين: سعال يابس، (وَالْقُولَنْجِ): انقلاب المعدة حتى يتغوط من فيه.

وذات الجنب هي قرحة تصيب الإنسان داخل جنبه، واختلف: هل يحجر بمجرد دخول الحامل الشهر السادس أو حتى تكمله، ورأى المازري أنه لا يحكم لها في الستة ولا بعدها بحكم المريض؟ قال: وحكى بعضهم الإجماع على أنها في حالة الطلق كالمريض، فإن صح الإجماع، وإلا فمقتضى النظر أن لا يحكم لها بذلك؛ لأنه لو كان الموت عن هذا المرض غالباً ألا تلد المرأة إلا مرة واحدة، والمعلوم خلافه، وهذا أيضاً يدل على أنه

ص: 254

اعتبر في المخوف كون الموت عنده أكثر، ابن القاسم: ويعلم بلوغها الستة بقولها، ولا يسأل عن ذلك النساء.

وَالْمَحْبُوسِ لِلْقَتْلِ أَوْ قَطْعِ يِدٍ أَوْ رِجْلٍ إِنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ

أي: لقتل وجب عليه ببينة عادلة أو اعتراف، وأما إذا ادعى عليه القتل فحبس ليستبرئ أمره فلا، وحكى ابن عبد البر الإجماع على أن من قدم للقتل في قصاص أو رجم كالمريض.

وقوله: (أَوْ قَطْعِ يِدٍ أَوْ رِجْلٍ) ظاهره أنه معطوف على ما تقدم، فيكون محبوساً لقطع يد أو رجل، وإنما ذكر في المدونة إذا قُرِّب لقطع يد أو رجل، ولا يلزم مما ذكره في المدونة ما ذكره المصنف؛ لأن الخوف فيمن قرب أكثر.

واعترضت هذه المسألة بأنه لو خيف عليه الموت بالقطع لم يقم عليه الحد، وأجاب بعضهم بأنه لم يقصد الكلام عليه، وإنما أجاب عن الفصل الذي سئل عنه، ولو سئل: هل يقام الحد على من هذا حاله؟ لقال: لا، وقيل: لعله مفروض فيمن كان من الحكام يرى قتله حينئذٍ صواباً ويجهل ذلك، وأجاب القابسي بأن الخوف طرأ بعد إقامة الحد، وهو إحالة للمسألة لوجهين:

أحدهما: أنه قال في السؤال: قرب لضرب الحد.

والثاني: قياس ابن القاسم لها على حاضر الزحف الصحيح، ولو كان كما قال لكان مريضاً لا يختلف في فعله، وأجاب ابن أبي زيد بأن الخوف إنما حدث منه أو أدركه من الجزع ما يدرك حاضر الزحف، فحكم له بحكمه، وهذا أشبه وأولى، ولو كان القطع لحرابة لم ينبغِ أن يلتفت إلى الخوف عليه وأقيم الحد عليه على كل حال، وإن أدى حده للقتل.

ص: 255

وَحَاضِرِ الزَّحْفِ

هكذا قال الباجي أنه لا يحكم له بحكم المريض إلا إذا كان في صف المقاتلين وجملتهم، وأما إذا كان في النظَّارة أو متوجهاً للقتال قبل وصول الصف فلا، ولم أرَ في صف الرد نصاً، وأرى ألا يثبت له هذا الحكم إلا بالكون في صف المقاتلة.

بِخِلافِ الْمُلَجَّجِ فِي الْبَحْرِ وَالنِّيلِ وَقْتَ الْهَوْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ

القولان لمالك في المدونة، ففيها وراكب البحر والنيل حين الخوف والهول، قال مالك، أفعاله من رأس ماله، وروى عنه أنها من الثلث، ونص المسألة عند ابن يونس: فمن طلق زوجته وهو في سفينة أو في لجج البحر أو النيل أو الفرات أو بالدجلة أو بطائح البصرة، قال: قال مالك: إذا أصاب أهل البحر النوء والريح الشديد، فخافوا الغرق فأعتق أحدهم عبداً في تلك الحال فهو من رأس المال، ولا يشبه هذا الخوف، وقد روي عن مالك أن أمر راكب البحر في الثلث.

ابن المواز: والطلاق على نحوه هذا من الاختلاف، وقد علمت أن المراد بقول المصنف:(وَقْتَ الْهَوْلِ) وقت حصوله لا وقت زمانه.

وذكر في البيان في راكب البحر في الوصايا ثلاثة أقوال:

الأول: إجازة أفعاله على كل حال، قال: وهي رواية ابن القاسم عنه في المدونة.

والثاني: أن فعله لا يجوز على كل حال وهو ظاهر ما حكاه سحنون عن مالك في المدونة.

الثالث: الفرق بين حال الهول فيه وحال غير الهول، وهو دليل قول غير ابن القاسم في العتبية قال: وهو أشهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن راكب البحر حال الهول أخوف على نفسه من المريض.

ص: 256

ابن عبد السلام: واختلف فيمن جمحت به دابته، فظاهر قول مالك وأشهب وابن وهب أن حكمه كالمريض، وقال ابن القاسم: حكمه كالصحيح.

بِخِلافِ الْجَرَبِ، وَالضِّرْسِ، وَحُمَّى يَوْمٍ وَحُمَّى الرُّبُعِ وَالرَّمّدِ، وَالْبَرَصِ، وَالْجُذَامِ، وَالْفَالِجِ ....

لأن الغالب على أصحاب هذه الأمراض السلامة، والموت منها نادر، وينبغي أن يرجع في هذا إلى ما يقوله ثقات الأطباء، فربما أزمنت حمى الربع وخيف منها الموت [538/أ]، ولهذا قال في المدونة: وأما المفلوج وصاحب حمى الربع والأجذم والأبرص وذو القروح والجراح، فما أقعده وأضناه وبلغ فيه حد الخوف عليه فحكمه حكم المريض، وما لم يبلغ فيه ذلك فحكمه حكم الصحيح، وكأن المصنف إنما تكلم على هذه الأمراض بمجردها، من غير أن تُقعد وتُضني، والله أعلم.

وَيَحْجُرُ الزَّوْجُ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِهَا بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِمُعَاوضَةٍ

هذا هو السبب السابع وخالفنا فيه أبو حنيفة والشافعي، ودليلنا ما رواه أبو داود والنسائي عن دواد بن أبي هند وحبيب المعلِّم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها» .

وفي النسائي أيضاً عن حبيب المعلِّم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام خطيباً فقال في خطبته: «لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها» قال يحيى القطان: إذا روي عن عمرو بن شعيب فهو ثقة، وداود وحبيب ثقتان خرَّج لهما الأئمة، ولأن للزوج حقاً في التجمل بمالها، ولذلك تزوجها، فلو كان لها أن تتصرف فيه وتهب بغير إذنه لأضر ذلك به.

ص: 257

وقوله: (فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ)؛ يعني: وأما الثلث فما دونه فلا حجر عليها في ذلك، إما لأنها لما كانت محجوراً عليها لغيرها كانت كالمريض، فيكون من باب تخصيص الخبر بالقياس، وإما لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم عيد وأتى النساء فقال:«تصدقن» فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطهن وخواتمهن.

فيجمع بين الحديثين بجواز اليسير دون الكثير، والثلث هو اليسير المأذون فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«الثلث والثلث كثير» لاسيما وقد روى ابن حبيب أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجوز لامرأة أن تعطي من مالها شيئاً له بال بغير إذن زوجها"، وشمل الزوج العبد، وهو ظاهر المذهب، ورواه أشهب وابن نافع عن مالك، وقال ابن وهب في العتبية: العبد بخلاف الحر لزوجته الحرة أن تتصدق بجميع مالها. أصبغ: وليس بشيء وله من الحق ما للحر. محمد: ولولي السفيه أن يحجر على زوجته، ومفوم كلام المصنف أنه لا يمنعها من الثلث فأقل، ولو قصدت به الضرر، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في الواضحة، وقال مطرف وابن الماجشون وأشهب عن مالك: إذا تصدقت بالثلث فأقل على وجه الضرر بالزوج فله رده. واختاره ابن حبيب، وقيل: إن ضرت بالثلث رد لا بأقل.

قوله: (أَوْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ) يدخل فيه التدبير، وهو قول ابن الماجشون، ولمالك في رواية ابن القاسم ومطرف أنه يمضي وإن زاد على الثلث، واختلف أيضاً إذا أعتقت ثلث عبد لا تملك غيره، فقال ابن القاسم وابن أبي حازم: ذلك ماضٍ، وقال ابن الماجشون: هو مردود.

واحترز (بِمَا لَيْسَ بِمُعَاوضَةٍ) من البيع والشراء ونحوهما فلا حجر عليها في ذلك، واختلف: هل لها أن تقرض كالبيع - وهو قول ابن دحون؛ لأنها تقتضيه - أم لا كهبتها، وهو قول ابن الشقاق؟ ومنع في المدونة كفالتها؛ أي في أكثر من الثلث، واحتج به من منع قرضها، وفرق بأن في القرض هي الطالبة وفي الحمالة هي المطلوبة.

ص: 258

وَهُوَ جَائِزٌ حَتَّى يَرُدَّهُ الزَّوْجُ، وَقِيلَ: مَرْدُودٌ إِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِذْنُهُ

ضمير (هو) عائد على (ما) في قوله: (فِيمَا زَادَ) والقول الأول هو قول ابن القاسم رواه عن مالك، وقاسه على عتق المديان وبه قال أصبغ، قال في المقدمات: وهو المعلوم من قول مالك وأصحابه. والقول الثاني لمطرف وابن الماجشون وفرق بينها وبين المديان بأن الغرماء لا يصح لهم رد إلا بثبوت الدين واغتراق الذمة بالبينة، وهذا زوج لا يكلف البينة.

ومن ثمرة هذا الخلاف ما قاله ابن رشد لو اختلف الزوجان فيما أعطته: هل هو الثلث أو أزيد؟ فمن جعل عطيتها على الرد قال: القول للزوج ومن جعل عطيتها على الإجازة قال: القول للمرأة.

وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى تَأيَّمَتْ مَضَى اتِّفَاقاً

يعني: فإن لم يعلم الزوج بعطيتها أكثر من الثلث حتى تأيمت الزوجة بطلاق الزوج أو بموته مضى ما أعطته، ولم يكن للزوج ولا لورثته مقال باتفاق، أما على القول بأن فعلها على الجواز حتى يرد فظاهر، وأما على الآخر فلأن الزوجية معتبرة شرطاً في الرد وقد فقدت، ورد ابن يونس قول مطرف وابن الماجشون إن فعلها على الرد بالاتفاق في هذه المسألة، قال: لأنه إذا كان على قولهما على الرد فينبغي إذا تأيمت أن يكون لها الرجوع فيه؛ لأنه لم يزل مردوداً. ابن عبد السلام: وظاهر كلام ابن حبيب وجود الخلاف في موت الزوج هل لورثته مقال؟ والخلاف موجود فيما إذا رد الزوج فعلها ولم يخرج من يدها حتى تأيمت.

وَحَتَّى مَاتَتْ: فقَوْلانِ

أي: وإن لم يعلم الزوج بعطيتها حتى ماتت، فقال ابن القاسم: ذلك ماضٍ كتأيُّمها، وقال ابن حبيب: إذا لم يعلم الزوج بما فعلت من عتق وعطية حتى ماتت هي: أو لم يعلم

ص: 259

السيد بفعل العبد حتى مات، فذلك مردود لأن لهما الميراث، ولعل القولين مبنيان على أن فعلها هل هو على الإجازة أو على الرد؟

وَإِذَا تَبَرَّعَتْ بِمَا زَادَ فَلَهُ أَنْ يُجِيزَ الْجَمِيعَ أَوْ يَرُدَّهُ، وَقِيلَ: أَوْ يَرُدَّ مَا زَادَ خَاصَّةً كَالْمَرِيضِ، سِوَى الْعِتْقِ لأَنَّهُ لا يَتَبَعَّضُ ....

(بما زاد) ظاهره قلَّت الزيادة أو كثرت، وهو قول ابن نافع وقال ابن القاسم في المدونة: إذا زاد كالدينار ونحوه نفذ الجميع.

قوله: (أَوْ يَرُدَّهُ)؛ أي الجميع، وهذا قول ابن القاسم في المدونة والقول بأنه لا يرد إذا زادت إلا ما زاد على الثلث هو للمغيرة، وشبه ذلك بالوصايا وبقوله [538/ب] قال ابن الماجشون وزاد فقال: وأما العبد فيعتق جميعه أو يرده؛ لئلا يعتق المالك للجميع بعض عبده بلا استتمام، ونقله ابن يونس عن مالك وابن القاسم وابن أبي حازم ومطرف وابن دينار والمغيرة وغيرهم.

وهذا هو قصد المصنف بقوله: (سِوَى الْعِتْقِ)؛ لأنه لا يتبعض. ابن راشد: وقال ابن القاسم: يعتق ثلثه فقط، وإن كره الزوج، ورواه عن مالك، وعلى هذا فقوله:(سِوَى الْعِتْقِ) ليس متفقاً عليه.

وقول المصنف في القول الثاني: (وَقِيلَ: أَوْ يَرُدَّ) صوابه إسقاط (أَوْ).

فإن قلت: فما الفرق على المشهور هنا في أن للزوج رد الجميع وبين المريض والموصي، فإنه لا يرد لهما إلا ما زاد على الثلث، قيل: لأن الأصل إبطال الجميع في الثلاث مسائل؛ لكونه وقع على وجه الممنوع، وأبطلناه في حق الزوجة؛ لأنها يمكنها استدراك غرضها بإنشاء الثلث ثانياً بخلاف المريض والموصي، فإنا لو أبطلنا الجميع لم يمكن استدراك الغرض بموت المعطي، والله أعلم.

ص: 260

وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ التَّبَرُّعِ بِالثُّلُثِ التَّبَرُّعُ بِبَقِيَّتِهِ إِلا فِي مَالٍ آخَرَ

ظاهره سواء كان بين التبرعين زمان قريب أو بعيد، وهو قول عبد الوهاب.

اللخمي: وهو أحسن. ابن راشد: وهو أصح. ووجهه المازري ها هنا بأنها لو أجيز لها بعد إخراج الثلث من هذا المال بعينه للزم أن تفنيه في كرَّات وهو خلاف المقصود، لكن فإن المعروف من المذهب أنه لا يمنعها مطلقاً، فقد قال ابن المواز: إذا تصدقت بثلث مالها ثم بثلث ما بقي، وبَعُدَ ما بين العطيتين تمضي الصدقتان، وحدَّه ابن سهل بالسنة فما فوقها، وفصل أصبغ فقال: إذا أعتقت رأساً ثم رأساً والزوج غائب ثم قدم، فإن كان بين ذلك ستة أشهر فكل واحد عتق مؤتنف ينظر فيه: هل يحمله الثلث أم لا؟ وإن كان بين ذلك اليوم واليومان فإن حمل جميعهم الثلث وإلا رد جميعهم، كعتقها لهم في كلمة وإن كان بين ذلك مثل الشهر والشهرين مضى الأول إن حمله الثلث ورد ما بعده، وإن حمله الثلث؛ لأن مخرجه للضرورة، ورده ابن يونس وغيره بأنه إذا كان مجموعهما الثلث فينبغي أن يجوز، كما لو كان بكلمة واحدة إلا أن يعلم أنها قصدت الضرر فيدخله الخلاف المتقدم.

ابن عبد السلام: الأقرب ما قاله المؤلف، لكن طرده يقتضي أنها لو تصدقت بسدس مالها أو بربعه، ثم أرادت بعد ذلك بزمان طويل أن تتصدق لم يكن لها إلا تمام الثلث إن لم يتزايد مالها.

* * *

ص: 261