المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحوالة: نَقْلُ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةٍ تَبْرَأ بِهَا الأُولَى عياض وغيره: مأخوذة - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٦

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌الحوالة: نَقْلُ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةٍ تَبْرَأ بِهَا الأُولَى عياض وغيره: مأخوذة

‌الحوالة:

نَقْلُ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةٍ تَبْرَأ بِهَا الأُولَى

عياض وغيره: مأخوذة من التحول من شيء إلى شيء لأن الطالب تحول من طلبه لغريمه إلى غريم غريمه، وهي محمولة على الندب عند أكثر شيوخنا، وحملها بعضهم على الإباحة لما أشبهت بيع الدين بالدين، وعند أكثر مشايخنا مستثناة من الدين بالدين وبيع العين بالعين من غير يد بيد، كما خصت الشركة والتولية والإقالة من بيع الطعام قبل قبضه، وكما خصت العارية من بيع الطعام بالطعام نسيئة ومتفاضلاً، [540/ب] لما كان سبيل هذه التخصيصات المعروف، وذهب الباجي إلى أنها ليست حكمها حكم البيع، ولا هي من هذا الباب، بل هي عنده من باب النقد، وذهب أهل الظاهر إلى وجوب القبول في الحوالة، لما رواه مالك وغيره «مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» .

وأجيب بعد التسليم أن الأمر حقيقة في الوجوب لا الندب بأن هنا دليلاً يمنع من الوجوب؛ لأن صاحب الدين إنما عامل صاحب هذه الذمة: «والمؤمنون عند شروطهم» ولأن الحوالة مترددة بين البيع وفعل المعروف، وكلاهما غير واجب، ولأنه لو وجب لكان لكل من أحلت عليه أن يحيلك إلى ما لا نهاية له، أويحيلك على مليء ظالم، والأول مؤد للضرر، والثاني مؤد إلى إبطال الحق.

وأجيب عن هذا الوجه بأن المحال يلزمه قبول الحوالة، ما لم يكثر ذلك فتخرج صورة الضرر بالدلائل الدالة على نفي الضرر، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار» وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» .

عياض: الصواب فيه تسكين التاء، وبعض المحدثين والرواة يشددها، يقال: تبعت فلاناً فأنا أتبعه، ساكن التاء، ولا يقال: اتبعه بفتح التاء وتشديدها إلا من المشي خلفه.

ص: 273

فرع: وإذا مطل الغني ردت شهادته عند أصبغ، وسحنون؛ لأنه ظالم لا عند محمد ابن عبد الحكم.

خليل: والظاهر أن من علم من صاحب الدين الاستحياء من المطالبة أن ذلك كالمطل، والله أعلم.

وقول المصنف: (نَقْلُ الدَّيْنِ) كقوله في التلقين: تحويل الحق عن ذمة إلى ذمة تبرأ بها الأولى؛ لأن رسم القاضي أحسن، لأنه أبقى لفظ التحويل، وإذا أمكن في الحد إبقاء الألفاظ في معناها اللغوي كان أحسن؛ لأن الخروج عن مقتضى اللغة خلاف الأصل لأن قول القاضي:(الحق) أحسن أيضاً من قوله: (الدَّيْنِ)، لأن المتبادر من الدين ما قابل المنافع بخلاف لفظ الحق، فإنه يشمل المنافع وغيرها. واعترضه ابن راشد بأن النقل حقيقة في الأجسام مجاز في المعاني، والدين لم ينتقل، وإنما يأخذ مثله من ذمة أخرى.

وقول المصنف: (نَقْلُ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةٍ) فيه حذف مضاف؛ أي من ذمة إلى ذمة.

وقوله: (تَبْرَأُ بِهَا الأُولَى) هو على جهة البيان، قاله ابن راشد. واعترض ابن عبد السلام قوله:(تَبْرَأُ بِهَا الأُولَى) لأن البراءة إنما هي مرتبة على الحوالة، لأنك تقول: برأت ذمة فلان من دينه لأنه أحالني على فلان، فلا يصلح أن يدخل ذلك في الحد لأن العلة غير المعلول.

خليل: ولعله احترز به من الحمالة، فإن فيها شغل ذمة أخرى بالحق ولا تبرأ به الأولى، قيل: وقوله: (نَقْلُ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةٍ) أعم من أن يكون في الثانية دين أم لا، وإذا لم يكن في الذمة دين فإما أن تكون حوالة أم لا، فإن لم تكن فالتعريف غير مانع لصدقة عليه، وإن كانت حوالة بطل قوله في شروطها:(ومنها أن يكون على المحال عليه دين).

ص: 274

وَلَهُ شُرُوطٌ - مِنْهَا: رِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ دُونَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ

أي: لنقل الدين.

وفي بعض النسخ (ولها) فيعود على الحوالة، وحاصل ما ذكره المصنف أربعة شروط:

الأول: رضا المحيل والمحال ولا خلاف في اشتراط رضا المحيل؛ لأن الحق متعلق بذمته، فلا يجبر على أن يعطيه من ذمة أخرى، وأما رضا المحال فهو مبني على مذهب الجمهور في عدم وجوب قبول الحوالة، وأما على مذهب أهل الظاهر فلا؛ لوجوب ذلك عليه، وأما رضا المحال عليه فلا يشترط على المشهور، وحكى ابن شعبان قولاً باشتراط رضاه والأول أظهر للاتفاق أن لصاحب الحق أن يوكل من شاء على قبض دينه، وليس لمن عليه الدين كلام، وعلى المشهور فيشترط في ذلك السلامة من العداوة، قاله مالك. المازري: وإنما يعترض الإشكال لو استدان رجل من آخر ديناً ثم حدث بينهما عداوة بعد الاستدانة، هل يمنع من له الدين من اقتضاء دينه لئلا يبالغ في اقتضاء دينه ويؤذي عدوه، فيؤمر بأن يوكل غيره أو لا يمنع؛ لأنها ضرورة سبقت وقد وقعت المعاملة على أن صاحب الحق يقتضي دينه؟ تردد فيها ابن القصار، وإشارته تقتضي الميل إلى أنه لا يمكن من الاقتضاء بنفسه، وعلى المشهور فهل يشترط حضور المحال عليه وأقراره كما في بيع الدين، وهو قول ابن القاسم أو لا وهو قول ابن الماجشون؟

وللموثقين من الأندلسيين أيضاً القولان، وفي المتيطية عن مالك إجازة الحوالة مع الجهل بذمة المحال عليه، ولعل الخلاف منه على الخلاف الذي بين الشيوخ: هل الحوالة مستثناة من بيع الدين بالدين فيسلك بها مسلك البيوع أو هي أصل بنفسها؟

ص: 275

وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِلْمُحِيلِ

لأن حقيقة الحوالة تقتضي أن تكون على دين، لأنها نقل دين من ذمة إلى ذمة.

الباجي: فإن لم يكن على المحال عليه دين فهي حمالة عند جميع أصحابنا، كانت بلفظ الحمالة أو الحوالة، إلا ما قاله ابن الماجشون أنها إذا كانت بلفظ الحوالة تكون حوالة، الباجي: ويلزمه على قوله أن يعتبر رضا المحال عليه. ويقع في بعض النسخ التنبيه على هذا القول بزيادة (على المشهور) بعد الكلام المتقدم.

فَلَوْ أَحَالَهُ عَلَى مَنْ لا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ فَعدِمَ رَجَعَ إِلا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ وَيَشْتَرِطَ الْبَرَاءَةَ فَلا رُجُوعَ لَهُ ....

هذا تفريع على المشهور، فلو أحاله على غير أصل دين رجع المحال على المحيل إلا أن يعلم المحال أن المحيل لا شيء له على المحال عليه، واشترط المحيل على المحال البراءة، وهكذا قال ابن القاسم في المدونة، وحصل ابن زرقون فيها خمسة أقوال:

الأول؛ لابن القاسم، لا رجوع له على المحيل. الثاني: رواية ابن وهب في المدونة لا رجوع له إلا في الموت [541/أ] والفلس. الثالث: رواية مطرف بالخيار، وهو مثل رواية عيسى عن ابن القاسم. الرابعك قول أشهب وابن الماجشون: الشرط باطل وهي حمالة لا يطالبه إلا في غيبة المحيل أو عدمه حتى يسمى الحوالة. والخامس: لمالك وابن القاسم أن الشرط لا ينفعه إلا في ذي سلطان أو سيئ القضاء، هذا إذا اشترط البراءة.

وإن لم يشترطها ولكنه شرط أن يتبع أيهما شاء فثلاثة أقوال:

الأول: لابن القاسم له شرطه.

الثاني: أنه أيضاً لا ينتفع المشترط إلا لمعنى، مثل أن يكون الغريم ذا سلطان أو سيئ القضاء.

ص: 276

الثالث: لمالك من رواية أشهب، وبه قال أشهب وابن الماجشون: الشرط باطل وهي حمالة لا يطالب إلا في غيبة الغريم أو عدمه.

تنبيهات:

الأول: قول ابن زرقون الثاني: رواية ابن وهب في المدونة؛ يدل على أنه حمل رواية ابن وهب على الخلاف، وأن مذهب ابن القاسم عدم الرجوع مطلقاً ولو فلس أو مات، وهو تأويل سحنون وابن رشد وتأوله أبو محمد على الوفاق، وحمل قول ابن القاسم: لا رجوع له على المحيل على ما إذا لم يمت المحال عليه أو فلس وجمع بينهما أيضاً أبو عمران، قال: لأن في جواب ابن القاسم اشتراط البراءة، وليس ذلك في رواية ابن وهب، قال: فابن القاسم يوافق رواية ابن وهب، وابن وهب يوافق قول ابن القاسم.

الثاني: قال التونسي وابن يونس وغيرهما: وقع في المدونة لفظان في الحوالة على أصل دين، فمرة جعل ذلك حمالة يبدأ بالذي عليه الدين فإن لم يوجد عنده شيء رجع على الذي تحول عليه، ومرة يبدأ بالمحال عليه فإن فلس رجع على المحيل.

الثالث: ابن عبد السلام: وقع في بعض النسخ بإثر قول المصنف: (فَلا رُجُوعَ) ما نصه على القولين وليست بصحيحة لوجهين:

أما أولاً: فلأنه لم يقع في المسألة خلاف، وأما ثانياً: فلأن هذه النسخة تشعر بأن المسألة متفق عليها، وفيها خمسة أقوال كما تقدم.

خليل: وقد يقال: لا نسلم قوله على القولين يشعر باتفاق.

وقد ذكرنا أنه وقع في بعض النسخ زيادة (على المشهور) فتصح هذه النسخة عليها.

ص: 277

وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالاًّ، وَلا يُشْتَرَطُ حُلُولُ مَا على الْمُحَالِ عَلَيْهِ

هذا هو الشرط الثالث: أن يكون الدين أي المحال به حالاً، واستقرأه غير واحد من قوله عليه الصلاة والسلام:«مطل الغني ظلم» ؛ فإن المطل لا يكون إلا بالحال، والحوالة رخصة فيقتصر بها على موردها، ولا يشترط حلول ما على المحال عليه، لأنه إذا احتال على من لم يحل كان ذلك زيادة في المعروف.

إِلا أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ اشْتَرَطَهُ فِي نُجُومِ الْكِتَابَةِ

ظاهر كلامه أن الاستثناء عائد على الجملة الأخيرة، وهي قوله:(وَلا يُشْتَرَطُ حُلُولُ مَا على الْمُحَالِ عَلَيْهِ). ابن عبد السلام: ويحتمل أن يعود عليها وعلى التي قبلها، ويكون الضمير في (اشْتَرَطَهُ) عائد على مطلق الدين الذي هو قدر مشترك بين الدين المحال به والمحال عليه، ويعضد هذا أنه في الجواهر ذكر الخلاف فيهما، ونصه: وتجوز الحوالة على نجوم الكتابة إن كانت الكتابة حالة، ولم يشترط غير ابن القاسم حلولها وكذلك الحوالة بالنجوم، واشترط ابن القاسم حلولها أيضاً، ولم يشترطه غيره انتهى.

ولكن اعترض ما حكاه ابن شاس والمصنف في الكتابة المحال عليها، وأما الكتابة المحال بها فاشترط ابن القاسم في المدونة حلولها، قال: وإلا فهي فسخ دين في دين، وقاص ذلك ابن القاسم على ما سمعه من مالك من منع بيع كتابة المكاتب لأجنبي بما لا يجوز قاله في المدونة، وقال غيره: يجوز ويعتق مكانه، لأن ما على المكاتب ليس ديناً ثابتاً، وهو كمن قال لعبده: إن جئتني بمائة دينار فأنت حر، ثم قال: إن جئتني بألف درهم فأنت حر واشترط ابن القاسم الحلول لما تقدم أن من شرط الد=ين المحال به الحلول، ورأي الغير أن ذلك ليس ديناً ثابتاً كالديون، وإلى ذلك أشار الغير بالتشبيه بقوله: وهو كمن قال لعبده

إلخ، وعارض الأشياخ تشبيه ابن القاسم هذه المسألة بما حكاه عن

ص: 278

مالك من منع الأجنبي أن يشتري كتابه مكاتب بما لا يجوز، فإن الحوالة أمر بين السيد وبين مكاتبه أسقط عنه الكتابة، واعتاض ماله في ذمة الأجنبي، فلم تقع بين السيد وبين الأجنبي مبايعة، وأما بيع الكتابة من أجنبي فهي مبايعة بينه وبين الأجنبي لا بينه وبين مكاتبه، وهذا مفترق، ولهذا اختار سحنون وابن يونس وغيرهما قول الغير هنا، وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه أنه يختلف ابن القاسم وغيره إذا سكتا عن شرط تعجيل العتق وعن بقائه مكاتباً، فقال ابن القاسم: يفسخ ما لم يفت بالأداء، وعند غيره يحكم بتعجيل العتق، وأما لو أحال بشرط تعجيل العتق فلا يختلفان في الجواز ولا في عدمه بشرط عدمه.

وأما كتابة المحال عليها فلا يشترط ابن القاسم ولا غيره فيها الحلول ولا يعرف فيها من قال به، ونصها في المدونة. ابن القاسم: وإن أحالك مكاتب بالكتابة على مكاتب له وله عليه مقدار ما على الأعلى فلا يجوز لك إلا أن تبتل أنت عتق الأعلى فيجوز. ابن يونس: يريد وإن لم تحل كتابة الأعلى فيجوز بشرط تعجيل العتق، كما لا تجوز الحمالة بالكتابة إلا على شرط تعجيل العتق، قال في المدونة: ثم إن عجز الأسفل كان ذلك رقاً، ولا ترجع على المكاتب الأعلى بشيء، لأن الحوالة كالبيع، وقد تمت حرمته، هذا كله بشرط أن يكون المحال السيد لا الأجنبي.

التونسي: والمكاتب جائز له أن يحيل لسيده بما حل من كتابته [541/ب] على ما لم يحل، وإن كان المحال أجبنياً لم يجز. قال: وهي لو حلت لم تجز للأجنبي، لأن الحوالة إنما أجيزت في الأجنبي إذا أحيل على مثل الدين، وههنا قد يعجز المكاتب المحال عليه، فتصير الحوالة قد وقعت على جنس غير الدين، كما لو كان على رجل دين لأجنبي فأراد أن يحيله بذلك على مكاتبه ما جاز ذلك، لأنه قد يعجز فتصير الحوالة قد خالفت ما رخص فيه منها، وهو أن يكون المحال عليه من جنس المحال به.

ص: 279

فإن قيل: فأنتم تجيزون بيع الكتابة مع إمكان أن يشتري كتابته تارة ورقبته أخرى، قيل: أصل الحوالة رخصة، لأنها مستثناة من بيع الدين بالدين، فلا يتعدى بها ما خفف منها انتهى.

والاعتراض على ابن شاس أقوى منه على المصنف، لأن ابن شاس صرح بالخلاف فيها.

فإن قلت: لا يلزم من عدم الاطلاع على الخلاف ألا يكون، قيل: قال ابن عبد السلام: إنما أنكرنا على المصنف وابن شاس ذكر الخلاف بعد طول البحث عنه في مظانه ولم نجده مع الاستعانة في ذلك بمن يظن حفظه، فإن قلت: لم لا تجعل الاستثناء في قوله: (إِلا أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ اشْتَرَطَهُ فِي نُجُومِ الْكِتَابَةِ) راجعاً إلى الجملة الأولى ليوافق المنقول، ولا يكون حينئذ على كلام المصنف اعتراض. قيل: لم يقل أحد بعوده إلى الجملة الأولى فقط، وإنما اختلاف هل يعود للأخيرة فقط، أو للجميع؟ نعم، قد يعود إلى الأولى بقرينة، ولا قرينة.

تنبيه: عارض الأشياخ اشتراطه في المسألة الثانية في الجواز أن يعجل عتق الأعلى وقالوا: لا معنى لهذا الشرط، ورأوا أن لفظ الحوالة كاف في ذلك، لأنها تستلزم براءة ذمة المحيل بنفس عقد الحوالة. المازري: وعندي أن هذا الشرط ليس ملغى، والقدر فيه عندي أن السيد إذا أحيل على كتابة مكاتب لمكاتبه فإنه لم يتعجل قبض الكتابة، فيكون ذلك كما لو قبض من مكاتبه جميع الكتابة، فيكون حراً بقبض جميعها، وهذه هنا لم يقبض، فيمكن أن يكون القصد بها أن يوقف العتق حتى يعلم ما يحصل للسيد الأعلى أو يقصدان بذلك أن يتمادى السيد الأعلى على نجوم كتابة الأسفل، وإن عجز قام له المكاتب الأعلى ببقية الكتابة التي كانت له عليه ولو قصد ذلك لكان ذلك ممنوعاً في أحد القولين، لأن المعاوضة التي لا تجوز بين الأجنبيين يسامح بها بين المكاتب وسيده إذا اشترطا تعجيل العتق، لكون السادات يندبون إلى عتق عبيدهم، ولهم أن يعتقوا بغير

ص: 280

عوض، وندبوا أيضاً إلى أن يضعوا شيئاً من آخر الكتابة استعجالاً للعتق، وإن فعلوا ذلك من غير اشتراط العتق أجروا مجرى الأجانب في التعاوض، هذا أحد القولين: وقيل بالجواز وإن لم يشترط تعجيل العتق التفاتاً إلى أن ما يأخذه السيد وما سلمه كأنه في حكم ملكه.

وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَا مُتَجَانِسْينِ، وَلا يِفْتَقِرُ إِلَى الرِّضَا لَوْ أُعْطِيَهُ فَيَجُوزُ بِالأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى ....

هذا هو الشرط الرابع: (مُتَجَانِسْينِ) كذهب وذهب وفضة بفضة، فلا تجوز الإحالة بذهب على فضة ولا بالعكس.

(وَلا يِفْتَقِرُ إِلَى الرِّضَا لَوْ أُعْطِيَهُ) فيكونان متماثلين في القدر والصفة، هذا ظاهر كلامه، لكن قوله بإثره:(فَيَجُوزُ بِالأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى) يدل على أنه إنما أراد السلامة من السلف بزيادة، وقد صرح بالجواز فيما إذا تحول من الأعلى عن الأدنى، ولا شك أن إعطاءه الأدنى عن الأعلى مفتقر إلى الرضا، وتقدير كلامه: فيجوز أن يحتال بالأعلى عن الأدنى، كما لو كان له فضة محمدية، فأحيل على يزيدية.

وفي بعض النسخ (على) موضع (عن)، وقد وقع ذلك في كلام العرب، ولا يصح أن تكون (عن) باقية على معناها؛ لأنه يكون المعنى حينئذٍ: فيجوز أخذ الأعلى عن الأدنى، وذلك لا يجوز، صرح بذلك غير واحد، ومقتضى كلامه: إذا أعطى من له أدنى على أنه يجبر على قبوله، وهو مثل ماله في السلم، وقد نبهنا هناك على أن ظاهر المذهب خلافه، وما ذكره المصنف من جواز التحول بالأعلى عن الأدنى موافق للّخمي والمازري وابن شاس، ووجهه أنه أقوى في المعروف، فكان جوازه أجدر، كما لو احتال بدين حالٍّ على من لم يحل، وفي المقدمات والتنبيهات: اشتراط أن يكون الدين الذي تحول به مثل الذي تحول عليه في القدر والصفة لا أقل ولا أكثر، ولا أدنى، ولا أفضل؛ لأنه إذا كان

ص: 281

أقل أو أكثر أو مخالفاً في الجنس والصفة لم تكن حوالة وكان بيعاً على وجه المكايسة، وحيث حكم بالمنع في هذا الفصل فإنما ذلك إذا لم يقع التقابض في الحال، وأما لو قبضه لجاز، ففي المدونة: إذا اختلفا في الصنف أو في الجودة والنصف واحد، وهما طعام أو عين أو عرض من بيع أو قرض أو أحدهما من بيع والآخر من قرض فلا تصح الحوالة وإن حلَاّ.

محمد: إلا أن يقبضه قبل أن يفترقا فيجوز إلا في الطعام من بيع فلا يصح أن يقبضه إلا صاحبه، قال: وكذلك إن كان أحدهما ذهباً والآخر ورقاً فلا يحيله به، وإن حلَاّ، إلا أن يقبضه مكانه قبل افتراق الثلاث وقبل طول المجلس، وهذا مما يؤيد ما قاله ابن رشد والقاضي.

وقوله: (لا يِفْتَقِرُ إِلَى الرِّضَا) يحتمل أن يبني للفاعل، وضمير الفاعل فيه عائد على المحيل، وضمير المفعول في (أُعْطِيَهُ) عائد على ما في ذمة المحال عليه؛ أي لا يتوقف على رضا المحيل لو أعطي ما في ذمة المحال عليه؛ أي لا يتوقف على رضا المحيل لو أعطى ما في ذمة المحال عليه، ولا يجوز أن يعود على [542/أ] المحال؛ لأنه يلزم منه أن المحال إذا أعطيه الأعلى جاز، وليس كذلك، ويحتمل أن يكون مبنياً للمفعول، ويكون مفعوله عائداً على ما فهم من الكلام وهو الدين، وضمير (أُعْطِيَهُ) عائد على الدين المحال به؛ أي لا يفتقر إلى الرضا في أخذ الدين المحال به لو أعطيه من له دين.

تنبيه: زاد صاحب المقدمات وصاحب التنبيهات شرطاً آخر، وهو ألا يكون الدينان طعاماً من سلم، سواء حلا أو لم يحلا؛ لئلا يدخلا بيع طعام قبل قبضه، وسواء كان الطعامان متفقين أم لا، استوت رءوس الأموال أم لا. وأجاز أشهب إذا اتفقت رءوس الأموال واتفق الطعامان تشبيهاً بالتولية، فإن كان الطعامان من قرض جاز، وإن كان أحدهما من بيع والآخر من قرض جازت الحوالة عند ابن القاسم بشرط حلول الطعامين معاً، وحكى ابن حبيب عن مالك وأصحابه إلا ابن القاسم جواز الحوالة بشرط حلول المحال به خاصة.

ص: 282

فَلَوْ أُفْلِسَ أَوْ جُحِدَ فَعَلَى الْمُحَالِ إِلا أَنْ يِكُونَ الْمُحِيلُ عَالِماً بِالإفْلاسِ دُونَهُ

يعني: فلو أفلس المحال عليه أو جحد الحق بعد تمام الحوالة فالمصيبة على المحال، ولا رجوع له على المحيل لحصول البراءة، إلا أن يكون المحيل عالماً بإفلاس المحال عليه دونه؛ أي دون المحال، فللمحال حينئذٍ الرجوع على المحيل؛ لأنه غرَّه.

وقوله: (يعلم دونه) هو ظاهر إذا كان المحال عليه ظاهر الملاء، وأما لو شكل المحال في ملائه، وكان المحيل عالماً بالإفلاس.

المازري: الأظهر عندي أن يكون له الرجوع كالأول، ومسألة الفلس صحيحة في المدونة وغيرها، وقيدها المغيرة فقال: إلا أن يشترط المحال الرجوع على المحيل إذا فلس المحال عليه، فيمكن من شرطه، وأما مسألة الجحود فتبع المصنف فيها ابن شاس، وذكر المازري أنه لا يعلم لمالك فيها نصاً، لكنه أشار في تعليل المذهب إلى مثل ما قاله المصنف؛ لأنه قال: وما يشير إليه من أن الحوالة كالقبض يصحح أن الجحود لا يوجب الرجوع على المحيل، وكذلك قال بعض أشياخه: إن الجحود لا يوجب الرجوع على المحيل؛ لأن المحال فرط إذ لم يشهد وعلى هذا عوَّل ابن شاس والمصنف، والله أعلم.

وتردد التونسي في هذه المسألة، واختار عدم الرجوع إذا كانت الحوالة على حاضر مقر بالدين، والرجوع إذا كان غائباً، فقال: انظر لو أحاله ثم أنكر المحال عليه أن يكون عليه دين هل يكون ذلك عيباً في الحوالة لقول المحال: لو علمت أنه ليس عليه بينة ما قبلت الحوالة. أو يقال: أنت مفرط حين أحالك عليه، وهو حاضر مقر ولم تشهد عليه، وهذا هو الأظهر، ولكن لو لم يحضر فقبل الحوالة، فلما حضر أنكر لا ينبغي أن يكون للمحال في ذلك حجة.

ص: 283

المازري: وعندي أن النظر يقتضي فيما قاله تفصيلاً، فإن كان الغالب في الديون الإشهاد عليها وترك ذلك نادر، وقال المحال حين جحود المحال عليه: إنما لم أشهد ليقيني بأن المحيل قد كان أشهد عليه على ما تقتضيه العادة، فلما كتمني أنه لم يشهد عليه صار ذلك كالتغرير منه فوجب لي الرجوع عليه، كما لو علم بفقر المحال عليه فكتمه، وأما إطلاقه القول بأن الحوالة إذا كانت على غائب أن يرجع فصحيح، بشرط أن يكون المحال لم يصدق المحيل في كونه يستحق ديناً على الغائب، وأما لو صدقه في ذلك وقبل الحوالة وهو يعلم ألا بينة على الغائب، فهذا مما ينظر فيه.

وقد اختلف المذهب الاختلاف المشهور في رجل أتى لمن عنده وديعة لإنسان فقال: أرسلني من أودعكها لإقباضها، فصدقه فيما ذكر ودفعها له، ثم قدم صاحب الوديعة وأنكر الإرسال، وحكم على دافعها بغرامتها؛ هل له أن يستردها ممن قبضها ويكون إنما صدقه بشرط أن يأتي صاحب الوديعة ويصدقه فيسترد منه ما أعطاه، أو يكون تصديقه له يمنع من الرجوع على الرسول لاعتقاده أن صاحب الوديعة ظلمه في طلبه بالغرامة وقد أخذها منه؟ وهذا يلاحظ ما نحن فيه من اعتبار كون المحال إنما صدق المحيل بشرط أن يأتي الغائب فيقر بالدين أو صدقه على الإطلاق، واعتقد أنه لم يكذب. انتهى.

ويقع في بعض النسخ عوض (جحد)(حجر) من الحجر، لكن الظاهر هي النسخة الأولى؛ لأنه يستغني عن الحجر بالفلس، ونقل المازري وغير واحد أنه لا يلزم المحال عند ذلك الكشف عن ذمة المحال عليه هل هو غني أو فقير، بخلاف شراء الدين فإنه لا يجوز إلا بعد أن يكون من عليه الدين حاضراً مقراً يعرف غناه من عدمه، وفرق المازري بينهما بأن الدين المشترى يختلف مقدار عوضه باختلاف حال المديان من فقير أو غني، والمبيع لا يصح أن يكون مجهولاً فإذا لم يعلم حال المديان صار مشترياً بالمجهول، والحوالة ليست ببيع على أحد الطريقين عندنا؛ بل طريقها المعروف.

ص: 284

وعورض ما ذكره المصنف وهو المذهب من أن علم المحيل بإفلاس المحال عليه يوجب للمحال الرجوع إلى ذمة المحيل إن كان غره بما في كتاب المساقاة من المدونة: أن من باع بثمن إلى أجل والمشتري مفلس ولم يعلم البائع بذلك فقد لزمه البيع ولا مقال له. وفرق التونسي والمازري بينهما بأن البياعات تتكرر كثيراً لشدة الحاجة إليها وعدم الغنى عنها، فصار الكشف عن ذمة المشتري مما يشق، فلو لم يجز البيع للبائع إلا بعد الكشف عن ذمة المشتري والبحث عنها لتوقف أكثر البياعات بخلاف الحوالة فإنها لا تتكرر، فلا يعسر الكشف عن ذمة المحال عليه، وزاد المازري فرقاً آخر وهو أن البائع يدفع للمشتري سلعة تقارب الثمن الذي يحل في ذمته فاستغنى بذلك عن الكشف بخلاف الحوالة.

ابن عبد السلام: وأشبه [542/ب] ما قيل في الفرق أن الحوالة بيع ذمة بذمة، وفلس الذمة عيب فيها فيوجب أن يثبت الخيار للمحال بسبب ظهوره على ذلك العيب، والعوض في مسألة المدونة المذكورة إنما هو الدين لا الذمة، قال: وهو ضعيف من وجهين: أحدهما: لا معنى لكونه الذمة هي العوض في الحوالة إلا أن الدين تعلق بها، وهذا مثله في مسألة المدونة قطعاً.

الثاني: سلمنا أن فلس الذمة عيب في الحوالة، لكن العيوب لا يشترط في القيام بها علم البائع وتدليسه؛ بل لمن اطلع على العيب القيام به، سواء علم به البائع أم لا.

وهكذا اعترض غير واحد هذه المسألة بأن فلس المحال عليه حين الحوالة إما أن يكون عيباً أم لا؛ فالأول: أن يكون للمحال الرجوع على المحيل سواء علم المحيل بفلس المحال عليه أم لا كغيره من العيوب، والثاني: لا يكون له الرجوع مطلقاً.

وأجيب بأنه عيب مع علم المحيل لغرره، وأجاب عبد الحق بأن البيع مبني على المكايسة، فغلظ على البائع فيه، والحوالة طريقها المعروف فسهل على المحيل إلا أن يغر. وأجاب الباجي بأن العيب في السلعة عيب في نفس العوض، وفلس المحال عليه عيب في محل العوض لا في نفسه، وبأن الحوالة بمنزلة بيع البراءة فلا يرجع إلا بما علمه البائع،

ص: 285

وبأن الذمم مما يخفى ظاهرها فصارت كالمبيع الذي لا يعلم باطنه فلا يرد إلا أن يعلم أن البائع دلس بعيب.

فرع:

فإن جهل أمر المحيل هل علم بفلس المحال عليه أم لا؟ فقال مالك: ينظر في ذلك، فإن كان يتهم أحلف. الباجي: أي يكون ممن يظن به أنه يرضى بمثل هذا حلف.

فَلَوْ أَحَالَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ ثُمَّ رَدَّ بِعَيْبٍ أَوِ اسْتُحِقَّ انْفَسَخَتِ الْحَوَالَةُ عِنْدَ أَشْهَبَ، وَاخْتَارَهُ الأَئِمَّةُ، وَمَضَتْ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَالْمَعْرُوفِ أَوْ كَالْبَيْعِ ....

يعني: فلو باع رجل سلعة من رجل، ثم أحال البائع على ثمنها من له عنده دين، ثم استحق المبيع من يد المشتري أو رد بعيب، فلأشهب في الموازية تنفسخ الحوالة، واختاره محمد وأكثر المتأخرين. محمد: وبه قال أصحاب مالك كلهم، وهذا معنى قوله:(وَاخْتَارَهُ الأَئِمَّةُ). وقاسه محمد على ما اتفق عليه أصحاب مالك من أن المفلس إذا بيع متاعه في دين وجب عليه، وأخذ ذلك غرماؤه ثم استحق المبيع فإن المشتري يرجع الثمن على من قبضه، ورده المازري بأن الغرماء لهم الدين كأنهم باعوا بأنفسهم، فعليهم أن يردوا الثمن إذا استحق المشتري منه، ومسألة الحوالة وقعت فيها يد ثالثة؛ وهي يد المحال، فصار ذلك كفوت الثمن، وقال ابن القاسم: وهو المنقول عن مالك: تمضي الحوالة.

قوله: (وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي) هو من تمام قول ابن القاسم: إذا قلنا بإمضاء الحوالة فإن المشتري يدفع الثمن للمحال، ثم يرجع به على البائع بناء على أن الحوالة هل هي كالبيع، أو إنما طريقها الإرفاق والمعروف؟ وقول أشهب مبني على أن الحوالة كالمعروف والصدقة فينتقض بانتقاض ما بنيت عليه، كما إذا تصدق البائع بثمن سلعة أو وهبة، ثم استحقت السلعة فإن الهبة والصدقة تبطل إذا لم يقبضها على قول أشهب والمعروف من

ص: 286

قول ابن القاسم، وسيأتي آخر المسألة ما في ذلك، وقول ابن القاسم مبني على أن الحوالة كالبيع؛ أي كبيع وقع بعد بيع، فيكون بمنزلة من باع عبداً بمائة دينار ثم اشترى بالمائة من المشتري ثوباً ثم استحق، فإن البيع في الثوب لا يبطل ببطلان ما يبنى عليه، وهو بيع العبد. المازري: وأشار بعض الأشياخ إلى أن الخلاف مبني في مسألة الحوالة على أنه هل تقدر الحوالة كالفوت لما وقعت فيه فيكون الأمر كما قال بن القاسم، أو ليس كالفوت فيكون الأمر كما قال أشهب؟

واعلم أن قول أشهب مبني على أن رد السلعة بعيب نقض للبيع من أصله، وعلى قوله إن لم يكن دفع الثمن للمحال فلا يلزمه، وإن كان قد دفعه إليه استرجعه، فإن فات عنده على مذهبه مضى له، ورجع المشتري بالثمن على البائع. قال في البيان: وقيل لا يلزمه أن يدفعه إليه فإن دفعه إيه لم يكن له أن يأخذه منه ورجع على البائع، وقيل: لا يلزمه أن يدفعه إليه، وكان له أن يرجع به عليه وإن فات من يده، وإن شاء رجع على البائع؛ لأن الغيب قد كشف أنه أحاله بما لم يملك، قال: وأما على القول بأنه ابتداء بيع فيلزمه أن يدفع إلى المحال الثمن قولاً واحداً.

واعلم أن الخلاف الذي ذكره المصنف مقيد بما إذا كان البائع قد باع ما ظن أنه يملكه، وأما لو باع ما ظن أنه لا يملكه مثل أن يبيع سلعة لرجل ثم باعها من ثانٍ وأحال على الثاني بدين، فلا يختلف أن الحوالة، ويرجع المحال على غريمه، ووقع في المذهب مسألة اضطرب النقل فيها أشار بعضهم إلى إجراء ما فيها من الخلاف في مسألة الحوالة، قالوا: إن أصبغ وأبا زيد رويا عن ابن القاسم في العتبية فيمن باع عبداً بمائة، ثم تصدق بها على رجل وأحاله بها وأشهد له بذلك ثم استحق العبد أو رد بعيب: أنه إن كان المتصدق عليه قبض الثمن وفات عنده لم يرجع عليه بشيء، وإن لم يفت بيد المعطي أخذها منه المشتري، ولا شيء للمعطي.

ص: 287

ابن زرقون: كذا نقله صاحب النوادر وهو هم، والذي في سماع أصبغ وأبي زيد في العتبية أنها تفوت بمجرد القبض فإذا قبضها الموهوب له لم يتبع بها إلا الواهب، بمنزله ما لو قبضها الواهب ثم تصدق بها، وقال ابن القاسم في الموازية مثل ما حكاه أبو محمد عن العتبية، وروى عيسى عن ابن القاسم في المدونة أن نفس الهبة فوت، ويلزم المبتاع أن يدفعه إلى المتصدق عليه والموهوب إذا كان قد جمع بينهما فأقر له، ويرجع بالثمن على الواهب وهو قول بعض الرواة [543/أ] في المدونة في النكاح الثاني في المرأة تهب صداقها لرجل، ثم تطلق قبل الدخول: أنه يلزمه أن يدفع جميعه إلى الموهوب له ويرجع بنصفه على المرأة، قال: ويأتي على ما حكاه محمد عن ابن القاسم في المرأة تأخذ صداقها فتتصدق به وتطلق قبل الدخول أنه يرجع عليها بنصف الصداق، وترجع هي به على المتصدق عليه؛ لأنها تصدقت عليه بما لا يصح لها ملكه ألا يفوت ذلك في مسألة الحوالة بحال، وإن قبضه الموهوب له واستهلكه لأنه وهب ما لم يملك، قال: ويجري فيها قول خامس أنه إن كان البائع الواهب عديماً كان للمشتري أن يمسك الثمن إن كان لم يدفعه، وإن كان مليئاً لزمه أن يدفعه إلى الموهوب له ويتبع به الواهب، وهو قول ابن القاسم في المدونة في مسألة هبة الصداق المذكورة، وهذا إنما هو إذا بنينا مسألة الحوالة على المعروف لا على البيع فاعلمه.

وَإِذَا جَرَى لَفْظُ الْحَوَالَةِ وَتَنَازَعَا فَقَالَ الْمُحِيلُ: وَكَالَةٌ أَوْ سَلَفٌ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الأَصَحِّ ....

يعني: إذا صدر لفظ الحوالة بين رجلين، فقال له مثلاً: أحلتك على فلان، فقبضه المحال، فقال المحيل: إنما أردت بذلك التوكيل أو التسلف، وقال المحال: بل قبضته من دين لي عليك، فالأصح أنه لا يقبل قول المحيل تغليباً للفظ الحوالة، وقيل: القول قوله؛ لأنه لا تدرى إرادة نفسه ولا يعلم ذلك إلا من قوله، وأراد بالأصح قول ابن الماجشون في المبسوط في مسألة الوكالة، قال فيمن تحول بدين له على رجل، فقال المحيل: ادفعه لي

ص: 288

لأني إنما وكلتك في قبضه وتسليمه إليَّ، وقال المحال: بل كنت استحققه عليك ديناً قبل الحوالة، فإن كان القابض ممن يشبه أن يكون له قبل المحيل سبب حلف وسقط عنه قول المحيل، وإن لم يشبه فإنما هو وكيل، ويحلف ما أدخله إلا وكيلاً.

اللخمي: وأرى أنه حوالة حتى يقوم دليل على الوكالة؛ مثل أن يكون هذا ممن يتصرف لصاحب الدين أو تكون عادته التوكيل على التقاضي، وهذا ممن يتوكل في مثل هذا المال، وغير الأصح هو قول ابن القاسم في العتبية في السلف، قال في من أحال رجلاً بدين له على رجل: فقال المحيل: إنما أحلتك على دين لي ليكون ذلك سلفاً عندك، وقال القابض: أخذته عن دين كان لي عليك وإحالتي إقرار منك بحقي، أن القول قول المحيل وهو سلف.

اللخمي: بعد قول ابن الماجشون وابن القاسم والمسألتان سواء.

وعلى هذا فإن في كل واحدة قول، وخرج فيها قول آخر من الأخرى، وعلى هذا اعتمد المصنف، لكن قدح المازري فيما أخذه من قول ابن القاسم، قال: لأن قول المحيل إنما قبضته ليكون سلفاً لي عليك، يشبه الحوالة على الدين؛ لأنه لما التزم له أن يسلف مائة صار ذلك كدين له عليك لمن سألك في التسلف، فصارت الحوالة ههنا بدين على دين باتفاقهما جميعاً، وإنما تنتقل المسألة إلى أصل آخر وهو أن من قال: قبضت من زيد مائة كانت لي عليه ديناً، وقال زيد: إنما دفعتها إليك لتكون لي سلفاً، فإن في المسألة قولين: قيل: يصدق القابض؛ لأنه ما أقر بعمارة ذمته ولا أقر إلا بقبض شرط فيه أنه يستحقه، فلا يؤخذ بأكثر مما أقر به، والقول الآخر أن القول قول الدافع في أنه إنما دفع ذلك سلفاً؛ لأن القابض لو أتاه قبل أن يقبض منه شيئاً فقال: لي عليك دين، فأنكر المدعى عليه، فإن الإجماع على أن القول قول المدعى عليه، فكذلك يجب أن يكون القول قوله في صفة ما دفع وأنه دفعه سلفاً لا قضاء، ثم قال: وإذا تقرر هذا فإذا قضى القاضي، بأن القول قول

ص: 289

المحال في أنه قبض ما استحق فلا تفريق، وإن حكم بأن القول قول المحيل فهل للمحال أن يرجع على المحيل؟

اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إذا رفع أمره إلى القاضي لم يحكم له على المحيل بشيء؛ لأنه قد اعترف المحيل ببراءة ذمته بالحوالة، فليس له أن يطالب ذمته بدين وهو معترف ببراءتها منه، ولا يصح أن يحكم له القاضي بما يعرف أن الحكم به باطل، ومنهم من ذهب إلى أنه يحكم له القاضي؛ لأن الذي حكم به القاضي من تصديق المحيل في أنه وكل وكالة على القبض لا يقتضي سقوط دعوى المحال، قال: وهذا القول إنما يتصور عندي لو كان المحيل معترفاً بدين المحال، ولكن المنازعة إنما وقعت في المقبوض.

خليل: وانظر على هذا لو ادعى رب الدين على المديان أنه أحاله، وأنكره المديان فتوجهت اليمين عليه وحلف هو: هل يجوز له إذا أنكر المحال عليه الحق أن يطالب المديان؛ لأن مقتضى دعواه أنه لم يبق له قبله شيء، وإنما المحال عليه هو الذي ظلمه، أو يقال: من حُجة صاحب الدين أن يقول للمديان: أنت لما أنكرت الحوالة فأنت معترف ببقاء حقي في ذمتك، ونظير هذه المسألة لو ادعى الزوج الدخول وأنكرت ثم طلقها، فهل لها أن تطلبه بجميع الصداق لاعترافه، أو ليس لها؛ لاعترافها أنها لا تستحق إلا النصف؟ في ذلك خلاف.

وقوله: (جَرَى لَفْظُ الْحَوَالَةِ) يقتضي أن الحوالة تفتقر إلى اللفظ، وهو صحيح، ففي العتبية عن ابن القاسم في المطلوب يذهب بالطالب إلى غريم له فيأمره بالأخذ منه ويأمره الآخر بالدفع، فيتقاضاه فيعطيه بعض الحق أو لا يعطيه شيئاً؛ لأن للطالب أن يرجع على الأول؛ لأنه يقول: ليس هذا حوالة بالحق، وإنما أردت أن أكفيك التقاضي، وإنما وجه التحول أن يقول: أحيلك بحقك على هذا وأبرأ إليك، وكذلك أيضاً لو قال: خذ من هذا حقك وأنا بريء من دينك. وما أشبه ذلك، قاله في البيان. قال بعض الشيوخ: وكذلك لو قال: اتبع فلاناً بحقك على الحوالة [543/ب] فاختلف قول مالك

ص: 290

إذا قال: اتبع فلاناً، ولعله رأى في القول بأن ذلك حوالة أن قوله عليه الصلاة والسلام:«إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» يدل على ذلك، وهذا معنى ما ذكره في البيان.

فرع: إذا مات المحال عليه، فقال المحال: أحلتني على غير أصل دين فأرجع عليك، وقال المحيل: بل على دين فالقول قول المحيل.

* * *

ص: 291