الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشِّرْكَةُ:
إِذْنٌ في التَّصَرُّفِ لَهُمَا مَعَ أَنْفُسِهِما
هي بكسرِ الشين وسكونِ الراءِ، والإجماعُ على جوازِها مِنْ حيثُ الجملةِ، ورَسَمها المصنفُ بقوله:(إِذْنٌ في التَّصَرُّفِ) أي: أُذِنَ لصاحبهِ أن يتصرَّفَ مع نفسِه، فقولُه:(إِذْنٌ في التَّصَرُّفِ لَهُمَا) كالجِنْسِ.
(مَعَ أَنْفُسِهِما) فَصْلٌ أَخْرَجَ به الوِكالَةَ، قال في المقدمات، وهي مِن العُقُودِ الجائِزَةِ، لكلٍّ منهما أن ينفصلَ متى شاءَ إلا الشركةَ في الزَّرْعِ، ففي لزومِها خلافٌ؛ لتَرَدُّدِها بين الإجارَةِ والشركةِ، وسيأتي ذلك، ونحوهُ للَّخْمِيِّ، وخَرَّجَ قولاً - بلزومِها لأَوَّلِ نَضَّةٍ - من الشاذ في كراء المشاهرة أنه يلزم شهراً. قال: وأما إن أخرجا مالاً لأن يشتريا به شيئاً معيناً - فإنه يلزم إن لم يمكن كل واحد بانفراد شراؤه، أو أمكنه، ولكن اشتراؤهما أرخص، وإلا فقولان، وهما على الخلاف في شرط ما لا يفيد. وفي معين الحكام، الشركة تنعقد بالقول على المشهور من قول مالك وأصحابه، وكذلك قال ابن يونس: إنها تلزم بالعقد كالبيع، لا رجوع لأحدهما فيها كالبيع، بخلاف الجعل والقراض. ولعياض وابن عبد السلام نحوه.
ابن عبد السلام: الظاهر أنه لا مخالفة بينهم، ومراد ابن يونس وغيره أنها تلزم بالعقد باعتبار الضمان؛ أي: إذا هلك شيء بعد العقد يكون ضمانه منها، خلافاً لمن يقول: إنها لا تنعقد إلا بالخلط.
فإن قلت: يلزم من هذا مخالفة المدونة؛ لقوله: وإن بقيت كل صرة بيد صاحبها حتى ابتاع بها أمة على الشركة، فالأمة بينهما، والصرة من ربها. وقال غيره، لا تنعقد بينهما شركة حتى يخلطا. قيل: قد قيد اللخمي ذلك بما إذا كان في الصرة حق توفية وزن أو انتقاد، قال: وأما إن وزنت وانتقدت وبقيت عند صاحبها على وجه الشركة فضاعت - لكانت
مصيبتها منهما؛ لأن الخلط عنده ليس بشرط في الصحة. هذا نصه، وهو يدل لما قلناه، وأيضاً فلجعله الأمة بينهما، فاعلمه.
الْعَاقِدانِ كَالْوَكِيلِ والْمُوَكِّلِ
هذا شروع منه في بيان أركانها، يعني أن من جاز له أن يتصرف لنفسه - جاز له أن يوكل ويشارك؛ فلا يشارك العبد إلا أن يكون مأذوناً له، وكذلك غيره من المحجور عليهم، وشبهه المصنف بالوكيل والموكل؛ لأنه قد يشبه بما سيأتي، ويقرب من هذا هنا أن تأتي الوكالة أثر الشركة، واعلم أن كل واحد وكيل عن صاحبه، موكل له، وعلى هذا فيكون المصنف شبه كلا منهما بمجموع الوكيل والموكل.
فإن قيل: فقد قالوا: إن الذمي لا يوكل على المسلم فهل يتأتى هنا؟
قيل: لا يبعد؛ وقد قال ابن حبيب: لا ينبغي للحافظ لدينه أن يشارك إلا أهل الدين والأمانة، والتوقي للخيانة والربا والتخليط في التجارة، ولا يشارك يهودياً ولا نصرانياً ولا مسلماً فاجراً إلا أن يكون هو الذي يتولى البيع والشراء، وإنما للآخر البطش والعمل.
الصِّيغَةُ ما يِدُلُّ لَفْظاً أَوْ عُرْفاً
ابن عبد السلام: يعني أن الشركة لا تختص بلفظ معين، بل كل ما يدل عليها لغة أو عرفاً، أو ما يقوم مقام ذلك من الأفعال. وفي كلامه مسامحة؛ لأنه قابل اللفظ بالعرف، فإن أراد باللفظ ما هو أعم من اللغة والعرف، فكيف يجعل العرف قسيماً له، وإن كان مراده باللفظ ما أفاد في اللغة، وبالعرف ما أفاد من الألفاظ العرفية - فقريب، إلا [550/ب] أنه يخرج عنه الفعل، وإن أراد بالعرف ما أفاد عرفاً أعم من أن يكون لفظاً أو غيره - ففيه من الإشكال أنه يكون قد فسر الصيغة بما هو أعم منها.
ومثال الفعل الدال كما لو خلطا ماليهما وباعا.
مَحَلُّهَا: الْمَالُ والْعَمَلُ، فَفِي الْمَالِ: بَيْعٌ مِنْ غَيْرِ مُنَاجَزَةٍ لِبَقَاءِ الْيَدِ
كلامه ظاهر التصور؛ وذلك لأنه إذا أخرج أحدهما مائة دينار، والأخر مثلها - فكأن كل واحد منهما باع نصف ما أخرجه بنصف ما أخرجه الآخر، لكنهما لم يتناجزا لبقاء يد كل واحد منهما.
وقلنا: (من غير مناجزة) لأن ذلك لو كان مناجزة لاكتفى به في الصرف، ولهذا - الذي أشار إليه المصنف - كان الأصل منعها في المال الذي ذكرنا لولا الإجمال الذي نبه عليه المصنف بقوله:
والإِجْمَاعُ عَلَى إِجَازَتِهَا بِالدَّنَانِيرِ والدَّرَاهِمِ مِنْ كِلا الْجَانِبَيْنِ
(كِلا الْجَانِبَيْنِ) أي: أن يخرج كل واحد منهما ذهباً، أو كل واحد ورقاً.
واحترز به مما لو أخرج أحدهما ذهباً والآخر ورقاً؛ لأنه ممنوع كما سيأتي، وعلى كلام المصنف يكون الإجماع على غير قياس، وأشار ابن عبد السلام إلى أن بقاء اليد لا يمنع من التناجز لاختلاف وجوه الضمان في ذلك بالجزء المبيع، ألا ترى أنه كام مضموناً قبل الشركة من البائع، وضمانه بعدها منهما، فيكون الإجماع منعقداً على مقتضى القياس، وإنما لم يكتف بهذا القدر في الصرف احتياطاً.
خليل: وفيه نظر؛ لأن بيع العين بالعين مصارفة بلا إشكال، والإجماع هنا جار على غير قياس. وقد صرح صاحب المقدمات وغيره بأن هذا الإجماع ليس بجار على قياس.
فَقَاسَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَلَيْهِ الطَّعَامَ الْمُتَّفِقَ فِي نَوْعِهِ وصِفَتِهِ، ومَنَعَهُ مَالِكٌ، فَقِيلَ: لأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ ....
يعني: أن ابن القاسم قاس الطعامين المتفقين في الصفة على الدنانير والدراهم، والجامع حصول المناجزة حكماً لا حساً، فكما اغتفر هذا في الدنانير والدراهم - فكذلك يغتفر في الطعامين، ومنع ذلك مالك، ولأصحابه في الفرق أوجه:
أولها: ذكره عبد الحق عن شيوخه: أن في الطعامين يدخله بيع الطعام قبل قبضه؛ لأن كل واحد منهما باع نصف طعامه بنصف طعام صاحبه، ولم يحصل قبض لبقاء يد كل واحد منهما على ما باع، فإذا باع يكون كل واحد منهما بائعاً للطعام قبل استيفائه، وهذا هو الذي ذكره المصنف.
ثانيها: ما أشار إليه ابن المواز أن ذلك لما يدخله من خلط الطعام الجيد بالدنيء.
ثالثها: لأنه إجماع خرج من غير قياس كما تقدم، وما كان كذلك لا يصح القياس عليه على الصحيح.
رابعها لإسماعيل القاضي: أن الشركة في الطعام مشروطة بالمساواة في القدر والصفة، وذلك متعذر عادة، قال: ولا ينقض هذا بجواز بيع الطعام بعضه ببعض؛ لأن المطلوب في البيع حصول المساواة في القدر فقط، ورده ابن يونس بأنه تفريع على خلاف أصل مالك وابن القاسم، وذلك لأن طرده يقتضي جواز الشركة بالطعامين المخلتفي النوع إذا حصلت المساواة في القيمة.
ابن عبد السلام: قد يقال إذا كان التساوي في القيمة مع اتحاد النوع متعذراً عادة - فأحرى أن يكون متعذراً مع اختلافه.
وذكر بعضهم خامساً: أن الطعام مما تختلف فيه الأغراض، ولعله راجع إلى قول إسماعيل.
وسادسها: أن علل الطعام كثيرة بخلاف الدنانير والدراهم، ولعله يرجع إلى ما ذكره عبد الحق.
خليل: وقد يقال: في قول إسماعيل القاضي نظر؛ لأنه لولا حصول المساواة لم يكن من ذوات الأمثال، وكذلك أيضاً فيما ذكره عبد الحق نظر؛ لأنه أجاز في المدونة الشركة بالطعام والنقد، ولو كان كما ذكر من العلة لمنع ذلك.
واحترز المصنف بقوله: (وصفته) مما لو اختلفت الصفة كسمراء ومحمولة، فإنه ممتنع عند ابن القاسم أيضاً، قال في المدونة: وسواء اتفقت القيمة أم لا، وحكى عبد الحق عن بعض القرويين أنه يجوز - على مذهب ابن القاسم - الشركة بالطعام المختلف اختلافاً يسيرا؛ كما يجوز في اليزيدية والمحمدية. قال في المقدمات: وهو محتمل. وظاهر قول ابن القاسم في المدونة أنه لا يجيز التفاضل في الطعامين المتفقين في الصفة؛ لأنه قال في غير موضع: إن ذلك لا يجوز حتى يتفقا في الكيل والجودة. وأطلق. قال: وهذا أظهر مما حكاه عبد الحق.
وتُمْنَعُ فِي الدَّنَانِيرِمَعَ الدَّرَاهِمِ والطَّعَامَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا
يعني: فإن أخرج هذا ذهباً والآخر دراهم - امتنع، وعلل ذلك في المدونة بأنه صرف وشركة، والصرف لا يجوز مع الشركة، وإذا لم يجز البيع مع الشركة فالصرف أولى، وأجاز ذلك أشهب وسحنون، وقالا: إنما يمنع الصرف والشركة إذا كان الصرف خارجاً عن الشركة، وأما الداخل فيها فيجوز، ورواه ابن القاسم عن مالك في الموازية.
ابن المواز: وهو غلط، وما علمت من أجازه؛ لأنه صرف لا يبين به صاحبه لبقاء يد كل واحد منهما، وروى ابن وهب عن مالك الكراهة، وبذلك أخذ محمد، وقيد اللخمي ما في الموازية بما إذا تناجزا في الحضرة.
فرع: ولو أخرج هذا ذهباً وورقاً والآخر مثله ذهباً وورقاً، فإنه يجوز.
ابن عبد السلام: لا أعلم فيه خلافاً، ولهذا رجح جماعة قول سحنون؛ لأن التعليل الذي ذكره في المدونة في الدراهم مع الدنانير جار في هذه، وهي جائزة، قال في المدونة مفرعاً على المشهور في الشركة في الدنانير والدراهم: فإن عملا فلكل واحد رأس ماله، ويقتسمان الربح: لكل عشرة دنانير دينار، ولكل عشرة دراهم درهم، وكذلك الوضيعة،
قال: وإن عرف كل واحد السلعة التي اشتريت بماله فإن السلعة تباع، ويقسم الثمن كله. كما ذكرنا، وقال غيره: لكل واحد السلعة التي اشتريت بماله إن عرفت، ولا شركة له في سلعة الآخر.
وأما الشركة بالطعامين المختلفين فالمشهور - وهو مذهب المدونة - المنع، ففيها: وإن أخرج أحدهما محمولة والآخر سمراء، أو أخرج هذا [551/أ] قمحاً والآخر شعيراً، وقيمة ذلك متفقة أو مختلفة، وباع هذا نصف طعامه بنصف الآخر - لم يجز على حال كيفما شرط، كما لا أجيز الشركة بدنانير ودراهم متفقة قيمتهما، والقول بالجواز لسحنون بشرط أن تتفق القيمة. اللخمي: يريد: والكيل.
وقول المصنف: (فِيهِمَا) أي: في صورتي الدنانير والدراهم والطعامين المختلفين، وقد بينا ذلك، وفي المقدمات والبيان عن مالك قول بالجواز في مسألة الطعامين المختلفين كقول سحنون.
وتَجُوزُ بِالْعَرْضَيْنِ مُطْلَقاً، ورَاسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مَا قُوِّمَ بِهِ عَرْضُهُ
تجوز الشركة بالعرضين مطلقاً، أي: سواء كانا من جنس أو من جنسين، قال في المدونة: ولا بأس أن يشتركا بعرضين متفقين أو مختلفين، أو طعام وعرض على قيمة ما أخرج كل واحد.
وروي عن مالك في الموازية أنه قال في الشركة بالعرضين المختلفين: ما هو من عمل الناس، وأرجو ألا يكون فيه بأس. وينبغي حمل هذا على الوفاق؛ لقوله: أرجو ألا يكون بذلك بأس. وإن كان ابن رشد حمله على الخلاف.
وقوله: (ورَاسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مَا قُوِّمَ بِهِ عَرْضُهُ)؛ أي إلى يوم الإحضار.
فَلَوْ وَقَعَتْ فَاسِدَةً فَرَاسُ مَالِهِ مَا بِيعَ بِهِ عَرْضُهُ لا قِيمَتُهُ يَوْمَ أَحْضَرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ
يعني: فلو وقعت الشركة بالعرضين فاسدة - كما لو وقعت على تفاضل الربح أو العمل - فاختلف فيما يكون رأس مال كل واحد منهما، فالمشهور أنه ما بيع به عرضه؛ لأن العرض في الشركة الفاسدة لم يزل على ملك ربه وفي ضمانه إلى يوم البيع، وهذا كما قلنا في البيع الفاسد أنه ينتقل إلى ملك المشتري بالفوات، فيضمن قيمته يوم القبض، والشاذ الذي حكاه المصنف باعتبار القيمة يوم الإحضار.
ابن راشد وابن عبد السلام: ليس بمنصوص وإنما خرجه التونسي على قول من يرى أن التمكين في البيع الفاسد يوجب الضمان، على أنه لم يجزم هذا القروي به، بل جعله مما يمكن أن يقال، والأقرب أنه لا يتخرج؛ لأن التمكين في البيع الفاسد تمكين تام؛ إذ لا شركة لأحد معه فيه، بخلافه هنا، فلا يلزم من انتقال الضمان بالتمكين التام انتقاله بالتمكين غير التام.
وأشار التونسي أيضاً إلى تخريجه ما إذا أخرج أحدهما ذهباً والآخر ورقاً، فإن المشهور - وهو مذهب ابن القاسم - فسادها، مع أنه قال: إذا اشترى كل سلعة وعرفت يقتسمان الربح على حسب رأس مالهما.
خليل: وقد يخرج على أن المستثنى من أصل إذا فسد، هل يلحق بصحيح أصله أو بصحيح نفسه؟ وذلك أن الشركة مستثناة من البيع؛ إذ جوز فيها من بيع النقد بالنقد والطعام بمثله ما لم يجوز في البيع، فإذا فسد فهل ترد إلى صحيح أصلها - وهو البيع - فيجيء منه المشهور، أو إلى صحيح نفسها - وهو الشركة - فتكون القيمة يوم الإحضار كما قلنا؟
عبد الحق وابن يونس: فإن لم يعرفا ما بيعت به سلعة كل منهما فلكل واحد منهما قيمة عرضه يوم البيع؛ لأن سلعة كل واحد منهما كانت من ضمانه إلى أن بيعت، فالبيع أفاتها، كما قال في الطعامين إذا خلطا: إن رأس مال كل واحد منهما ما بيعت به سلعته.
تنبيه: قوله: (فَلَوْ وَقَعَتْ فَاسِدَةً
…
إلخ) يقتضي أن القيمة في الشركة الصحيحة يوم الإحضار كما قلنا، وكذلك هو في المدونة.
فَلَوْ خَلَطَا الطَّعَامَيْنِ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ الْخَلْطِ مُتَّفِقَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْمُسَاوِي، ورُويَ: يُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي ....
يعني: لو خلطا الطعامين في الشركة الفاسدة، أما على قول مالك فلأن الشركة في الطعامين لا تقع إلا فاسدة، وأما على قول ابن القاسم فكما لو وقعت على تفاضل الربح والعمل، أو في نوعين مختلفين كقمح وشعير، فالمشهور أنه تعتبر قيمة كل طعام منهما يوم الخلط، ولهذا التقدير الذي ذكرناه أفرد المصنف الضمير في (قِيمَتُهُ).
وقوله: (ورُويَ: يُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) هو لمالك في الموازية، وفهم اللخمي هذه الرواية على أن كل واحد يضمن لصاحبه مثل نصف طعامه، وإنما اقتسما على المساواة لأنهما على ذلك دخلا، وهو حسن، وأبقاها التونسي على ظاهرها؛ أي: من غير غرم، وقال في توجيهها: لأن كل واحد لم يكن متعدياً في خلطه، ودخل على أنه لا فضل له على صاحبه، ثم استشكل ذلك فقال: وقد تكون قيمة الشعير مفرداً عشرة، وقيمة القمح مفرداً عشرين، فإذا اختلطا صارت قيمة الشعير خمسة عشر، فكيف يصح أن يقتسماه نصفين؟ وإنما زادت قيمة الشعير بالقمح؛ فيجب أن يكون الزائد لرب القمح.
وتَصِحُّ بِالْعَرْضِ مِنْ جَانِبٍ والنَّقْدِ مِنْ جِانِبٍ عَلَى الْمَشْهُورِ
المشهور مذهب المدونة، ولم أقف على الشاذ، ولعله منع لاجتماع البيع والشركة، وإنما أجاز في المشهور هنا، ومنع في التأخير الدنانير والدراهم؛ لأنه ليس في العين والعرض إلا مانع واحد، وهو البيع والشركة، وهو مغتفر في أصل الشركة بخلاف الدراهم مع الدنانير، فإن في ذلك علتين: البيع والشركة والصرف من غير مناجزة، والله أعلم.
ويُشْتَرَطُ فِي الذَّهَبَيْنِ اتِّفَاقُ صَرْفِهِمَا لا غَيْرُ
يعني: ولا ينظر إلى اختلاف الشكل، قال في المدونة: وإن أخرج أحدهما دنانير هاشمية، والآخر مثل وزنها دمشقية، أو أخرج هذا دراهم يزيدية، والآخر مثل وزنها محمدية - وصرفها مختلف - لم يجز إلا في اختلاف يسير لا بال له.
اللخمي: والقياس أن لا يجوز؛ لأن الترك لموضع الشركة، كما قالوا في الإقالة والشركة في الطعام أنها جائزة على وجه المعروف، ولو قال: لا أقيلك إلا أن تقيلني ولا أشاركك إلا أن تشاركني. لم يجز؛ لأنهما أخرجا ذلك عن وجه المعروف، إلا أن يكونا عقدا الشركة على سكة واحدة ثم جاء أحدهما بأفضل.
محمد: وإن أخرج هذا عشرة دنانير قائمة، والآخر عشرة تنقص حبتين، واشتركا على ترك الفضل - لم يجز.
اللخمي: يريد لأن الترك للشركة.
وإن أخرج أحدهما مائة مسكوكة والآخر مائة تبراً، وتساوى الذهبان - نظرت إلى فضل السكة، فإن كان كثيراً لم تجز الشركة، وإن كان يسيراً جازت إذا ألغيا ذلك الفضل على قول ابن القاسم.
تنبيه: وتقدم أن عبد الحق قاس التفاوت [551/ب] اليسير في النقدين على الطعامين، وأن ابن رشد أبى ذلك، وهو مما يدل على أن الطعام يمتنع فيه ما لا يمتنع في النقدين، والله أعلم.
فِي جَوَازِ غَيْبَةِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ: قَوْلانِ
الجواز لمالك وابن القاسم في المدونة، والمنع لسحنون.
ابن عبد السلام: وكأنه الأقرب؛ لأن الشركة تستدعي صحة التصرف في المالين لكل من الشريكين، وذلك منتف مع غيبة أحد المالين. وقال اللخمي: والمشهور أحسن. وقيد المشهور بقيدين:
أحدهما: ألا يتجرا إلا بعد قبض المال الغائب.
ثانيهما: ألا تكون الغيبة بعيدة جداً.
فرع: وعلى المشهور ففي المدونة: إن أخرج أحدهما ألفاً، والآخر ألفاً منها خمسمائة غائبة، ثم خرج ربها ليأتي بها وخرج بجميع المال الحاضر معه فلم يجدها، واشترى بجميع ما معه تجارة - فإن له ثلث الفضل.
ابن القاسم: ولا يرجع بأجر فضل العمل كشريكين طاع أحدهما بالعمل، وقال سحنون: له أجر عمله فيما زاد. وقال محمد: إن خدعه فله ربح ماله، وإن لم يخدعه فله النصف، ولا أجر له.
ابن يونس: وإنما يصح قول ابن المواز إذا اشترى بالمال الحاضر قبل علمه بضياع المال الغائب؛ لأنه اشترى على أن ذلك بينهما نصفين، وأما لو اشترى بعد علمه بضياع المال الغائب، وإن كان لم يغر، فكيف يجب أن تكون الشركة بينهما، والشركة لم تقع بعد؟ ألا ترى أن ضمان الدنانير الغائبة - ما لم تقبض - من ربها، وأنه لو اشترى بها شيئاً لكان ضمانها من بائعها فكيف في الشركة؟ وقاله التونسي، قال: وظاهر الرواية أنه اشترى بعد علمه بذهاب المال، وللخمي زيادة في هذه المسألة.
ولا بُدَّ مِنْ خَلْطِ الْمَالَيْنِ تَحْتَ أَيْدِيهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْ يَشْتَرِيَانِ بِهِمَا
إن وقع الاختلاط بحيث لا يتميز أحد المالين من الآخر - فاتفق على أن الضمان منهما، وإن تميز ذلك ففي المدونة: وإن صر هذا ذهبه في صرة، والآخر في أخرى على
حدة، وجعلا الصرتين في يد أحدهما أو في تابوته أو في خرجه فضاعت واحدة، فالذاهبة بينهما، وإن بقيت صرة كل منهما على يده - فضياعها منه حتى يخلطا أو يجعلا الصرتين عند أحدهما، وكذلك إن كانا مختلفي السكة إلا أن الصرف واحد، ولو تفاضل الصرف - فسدت الشركة، وكانت الذاهبة من ربها، وإن بقيت صرة كل بيد ربها حتى ابتاع أحدهما بها أمة على الشركة، وتلفت الصرة الأخرى والمالان متفقان - فالأمة بينهما، والصرة من ربها.
وقال غيره: لا تنعقد بينهما شركة حتى يخلطا. أي: الخلط الحسي بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، وهو قول سحنون.
المتيطي: ولم يختلف ابن القاسم وغيره أن الضائعة من ربها. وقوله في المدونة: والأمة بينهما.
ابن يونس: يريد بعد أن يدفع لشريكه نصف ثمنها.
وبما في المدونة يعلم أن الصواب هنا (وَيَشْتَرِيَانِ) بالواو، لا ما في بعض النسخ (أَوْ يَشْتَرِيَانِ) بـ (أو)، لأن ذلك يقتضي أنهما لو اشتركا وبقيت صرة كل واحد بيده وذهبا ليشتريا - أن تصح شركتهما، وقد نص في المدونة على خلافه، لكن قال اللخمي: يحمل قوله في الضائعة قبل الشراء وقبل الجمع: إن مصيبتها من صاحبها دون شريكه. على أنه بقي فيها وجه من التوفية وزناً أو انتقاداً. ولو وزن كل واحد وقلبت ثم خليت عند صاحبها على وجه الشركة فضاعت لكانت مصيبتها منهما كالجارية؛ لأن الخلط عنده ليس بشرط في الصحة، ولو كان ذلك لكانت مصيبة الجارية - التي اشتريت بمال أحدهما قبل الجمع - من صاحبه دون شريكه؛ يعني فإن لم يحمل على ما ذكر، وإلا تعارض مع قوله: إن مصيبة الجارية منهما.
فَإِنْ شَرَطَا نَفْيَ الاسْتِبْدَادِ لَزِمَ وتُسَمَّى: شَرِكَةَ الْعِنَانِ
الشركة ثلاثة أضرب: شركة أموال وشركة أبدان وشركة وجوه، وسيأتي الكلام على الأخيرين، وشركة الأموال تنقسم ثلاثة أقسام:
الأولى: شركة مضاربة: وهي القراض، مأخوذة من الضرب في الأرض.
والثانية: شركة مفاوضة: وهي أن يجوز فعل كل واحد على صاحبه ويشتركان في جميع ما يستفيدان، واتفق على جوازها، ولا يفسدها عندنا وجود المال لأحدهما على حدة خلافاً لأبي حنيفة، وسميت مفاوضة لتفويض كل واحد منهما لمال لصاحبه، وقيل: لاستوائهما في الربح والضمان، من قولهم: تفاوض الرجلان في الحديث. إذا شرعا فيه، وقيل: المفاوضة المشاورة. كأنهما تشاورا في جميع أمورهما.
الثالثة: شركة العنان: وفسرها المصنف وابن شاس بأن يشترط كل منهما نفي الاستبداد؛ أي لا يفعل أحدهما شيئاً حتى يشاركه الآخر، وفسرها صاحب المقدمات وعياض بأنه الاشتراك في شيء خاص، وحكى الاتفاق على جوازها، ونحوه لابن عبد الحكم، وقيل: هي الشركة في كل شيء من الأشياء بعينه.
وعلى أنها الشركة في شيء بعينه - قيل: المعنى في نوع خاص، كنوه البز، أو فرد خاص كثوب، وحكى ابن عبد السلام في ذلك قولين، فيتحصل في تفسيرها أربعة أقوال.
ويقال: (عنان) بالكسر، وهو الأكثر لمن جعلها مشتقة من عنان الدابة، و (عنان) بالفتح لمن جعلها من عن يعن إذا عرض، أو من عنان السحاب لظهوره، ثم أشار إلى شركة المفاوضة بقوله:
وإِنْ أَطْلَقَا التَّصَرُّفَ فِي الْغَيْبَةِ والْحُضُورِ فِي الْبَيْعِ والشِّرَاءِ وغَيْرِهِ مِمَّا يَعُودُ عَلَى التِّجَارَةِ لَزِمَ ....
هو ظاهر التصور، قال في المدونة: والمفاوضة على وجهين: إما في جميع الأشياء، وإما في نوع واحد من المتاجر- كشراء الرقيق -يتفاوضان فيه.
فَلَوْ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى نَسِيئَةً مَضَى
يعني: لو باع أحد المتفاوضين أو اشترى بالنسيئة - مضى فعله ولزم ذلك شريكه.
ولما كان قوله: (مَضَى) لا يؤخذ منه الحكم ابتداء - صرح بجواز ذلك بقوله:
(وله ذلك ما لم يحجر) أي: عليه شريكه، بأن يقول: لا تبع بالنسيئة. وما ذكره في البيع هو في المدونة والمشهور، وفي الموازية: لا يجوز لأحدهما البيع بالدين إلا بإذن صاحبه، رواه أصبغ عن ابن القاسم، وأما [552/أ] ما ذكره في الشراء فنحوه في الجواهر، وفي كلامهما نظر؛ لأنه خلاف المنصوص في المذهب، ففي المدونة: أكره أن يخرجا مالاً على أن يتجرا فيه وبالدين مفاوضة، فإن فعلا فما اشترى به كل واحد منهما فبينهما، وإن جاوز رأس ماليهما، والشراء بالدين راجع إلى شركة الذمم.
أصبغ: وإذا وقعت بالذمم فما اشترياه بينهما على ما عقدا، وتفسخ الشركة من الآن.
أبو الحسن: والفسخ دليل على أن المراد بالكراهة المنع.
بعض القرويين: والأشبه - على قول ابن القاسم - أن يكون لكل واحد منهما ما اشترى، وهكذا ذكر فضل أن سحنوناً طرح قول ابن القاسم، وقال: بل لكل واحد ما اشترى.
ووجه قول ابن القاسم أن المشتري بينهما - ما قاله حمديس أن ابن القاسم حمل ذلك على الوكالة، وأين هذا كله من كلام ابن شاس والمصنف، نعم أجاز اللخمي الشراء على أن ينقد اليومين والثلاثة، قال: وهو مما لا بد للناس منه. قال: ولا يشتري بثمن مؤجل،
فإن فعل بغير إذن شريكه فالشريك بالخيار بين القبول والرد، فيكون الثمن على المشتري خاصة، وإن كان بإذن في سلعة معينة جاز ذلك، وإن لم يعين لم يجز ذلك ابتداء، فإن فعل فما اشتراه مشترك بينهما على المستحسن من القولين في شركة الذمم، وعلى هذا فيحمل كلام المصنف على الشيء المعين لا غيره، وإلا تناقض كلامه، فإنه في غير المعين شركة الذمم، وسيذكر المصنف أنها ممنوعة.
وتَبَرُّعُهُ لا يَلْزَمُ مَا لَمْ يَكُنِ اسْتِئْلافاً لِلتِّجَارَةِ
لأن التبرع خلاف ما عقدا عليه الشركة، فلذلك لا يلزم إلا ما دلت عليه أو عاد بنفع. قال في المدونة: وإن أخر أحدهما غريماً بدين أو وضع له منه - نظراً، أو استئلافاً للتجارة ليشتري منه في المستقبل - جاز ذلك. وكذلك الوكيل على البيع إذا كان مفوضاً إليه، وقيل: لا يجوز التأخير إرادة الاستئلاف؛ لأنه من السلف بزيادة.
اللخمي: والأول أحسن. وفي المدونة: ليس لأحد المتفاوضين أن يعير من مال الشركة إلا أن يوسع له في ذلك شريكه، أو يكون شيئاً خفيفاً كعارية غلام ليسقي دابة ونحوه، وأرجو ألا يكون به بأس.
والعارية من المعروف الذي لا يجوز لأحدهما أن يفعله إلا لإرادة الاستئلاف، ومما يجوز له - مما دلت عليه العادة لخفته - إعارة الماعون، وإعطاؤه الكسرة ونحوها.
ويُطَالَبُ كُلُّ واحِدٍ بِتَوَابِعِ مُعَامَلَةِ الآخَرِ
كما لو استحقت السلعة من يد المشتري.
ويَرُدُّ بِعَيْبٍ وغَيْرِهِ
قوله: (ويَرُدُّ) أي: ويرد أحد الشريكين المشترى بعيب اطلع عليه، سواء اشتراه هو أو شريكه، أما ما اشتراه هو فواضح، وأما ما اشتراه شريكه فلأنه وكيل عنه.
وقوله: (وغَيْرِهِ) أي: من استحقاق جزء السلعة، والرد بسبب فساد البيع، وإمضاء بيع الخيار أو رده.
ويُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ عَلَى العُهْدَةِ مِنْ شَرِيكِهِ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْغَيْبَةِ انْتُظِرَ ....
قوله: (ويُرَدُّ عَلَيْهِ) يعني: أن من اشترى سلعة من أحد المتفاوضين ثم اطلع على عيب وأراد ردها، فإن كان البائع حاضراً فكلامه معه؛ لأن البائع أقعد بحال المبيع، وإن كان غائباً قريب الغيبة - قال في المدونة: كاليوم ونحوه - انتظر، وترك المصنف التصريح بالكلام على الحاضر؛ لأن ذلك يؤخذ مما ذكره؛ لأنه إذا انتظر قريب الغريبة ليقع الكلام معه - فالحاضر أولى.
وإن كان بعيد الغيبة، قيل: كالعشرة أيام. رد على شريكه الحاضر إذا أقام المشتري بينة أنه اشتراه على بيع الإسلام وعهدته، وله أخذ الثمن إن قالت البينة: إنه نقد الثمن، وإنه كذا.
قيل: ويحتاج إذا أراد أخذ الثمن إلى إثبات أمور: بينة الشراء، ونقد الثمن، وأنه كذا، وإثبات العيب، وأنه غاب غيبة بعيدة أو بحيث لا يعلم أمد التبايع لاحتمال أن يكون قديماً والعيب حادث وبالعكس.
ويحلف على ثلاثة أمور: أنه اشترى شراء صحيحاً على عهدة الإسلام، وأنه ما تبرأ إليه منه، ولا أعلمه به، وأنه لما اطلع عليه لم يرض بعد علمه. قال في المدونة: وإذا أقام المبتاع بينة أنه ابتاع على عهدة الإسلام - نظر في العيب، فإن كان قديماً لا يحدث مثله رد العبد على الشريك الآخر، وإن كان يحدث مثله - فعلى المبتاع البينة أن العيب كان عند البائع، وإلا حلف الشريك بالله ما يعلم أن هذا العيب كان عنده.
ابن يونس: يريد كان ظاهراً أو خفياً؛ لأن غيره تولى البيع كالوارث، ولو حضر البائع - حلف على البت في الظاهر، وعلى العلم في الخفي على قول ابن القاسم. قال في المدونة: وإن نكل الشريك الذي لم يبع - حلف المبتاع على البت أنه ما حدث عنده، ثم يرده عليه. وفي الموازية: أن المبتاع إنما يحلف كما كان يحلف بائعه: في الظاهر على البت، وفي الخفي على العلم.
اللخمي: وإن لم تقم البينة للمشتري أنه ابتاع على عهدة الإسلام - يعني في العيب القديم - وكانت العادة البيع على البراءة - لم يعد بهذا العيب، وإن اختلفت العادة - حلف أنه اشترى على العهدة، ورده إن كان العيب مشكوكاً في قدمه وكان اشتراء البائع لذلك العبد وبيعه في غيبة الحاضر الآن، أو في حضوره وباعه في الحضرة قبل علم الآخر - لم يكن على الحاضر يمين، وإن كان اشتراه بحضرته وغاب عليه إذا كان هذا هو المتولي للشراء - أحلف على ذلك العيب، فإن حلف ثم قدم الغائب حلف أيضاً، فإن نكل حلف المشتري ورد جميعه؛ لأنه لو كان حاضراً لحلفهما جميعاً، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر - حلف ورد جميعه؛ لأنه لو أقر أحدهما وأنكر الآخر - رد جميعه [552/ب] بإقرار المقر منهما، وإن نكل الحاضر حلف المشتري، ثم لا يكون للغائب في ذلك مقال إلا أن يثبت أنه كان بين ذلك للمشتري، فإن نكل المشتري عن اليمين - سقط مقاله في الرد الآن وبعد أن يقدم الغائب؛ لأنه لو كان حاضراً ونكلا عن اليمين ثم نكل المشتري بعد نكولهما - لم يكن له شيء. انتهى.
ابن يونس: ولو جاء الغائب فأقر أنه كان عالماً لانبغى أن يرده، ويلزم ذلك الشريك الحالف، ولو أنكر الغائب لحلف.
فإن نكل فهل يرد عليه جميعها أو نصفها ليمين شريكه؟
ابن يونس: والذي ظهر لي أن يرد عليه جميعها؛ لأن نكوله كإقراره لأنه المعامل له، ولا يضره يمين الشريك الحاضر؛ لأنه إنما حلف على أنه لم يعلم أن به عيباً، وهو لم يعامله.
التونسي: انظر لو نكل الشريك الحاضر ولا علم عنده من العيب فحلف المبتاع وردها، ثم قدم البائع فقال: أنا أحلف وأنقض الرد على شريكي. فيشبه أن يكون ذلك له؛ لأن صاحبه إنما توقف عن اليمين إذ لا حقيقة عنده، وقد يكون له ذلك في نصفه، وأما نصف الناكل فقد نكل عن اليمين فيه، فهل يمضي الرد فيه؛ لأن من وكل على بيع عبد فاليمين في العيب إذا وجد على الموكل في الذمة، لا على الوكيل، ونصفه الذي يخص صاحبه إنما باعه بالوكالة، وقد نكل عن اليمين، فانظر هذا.
فَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الافْتِرَاقِ بِذَلِكَ لَزِمَ الْمُقِرَّ حِصَّتُهُ
هذا قول ابن القاسم. ابن يونس: ومراده إذا لم يحلف المشهود له، قال: وقال سحنون: يلزمهما ما أقر به أحدهما في أموالهما. وظاهره أنه خلاف سحنون ولو مع الطول. وفي اللخمي: إن أقر بعد طول الافتراق لم يقبل. ويختلف إذا أقر بقرب ذلك وادعى أنه نسي، فقد اختلف في العامل في القراض يدعي بعد المقاسمة أنه أنفق من القراض، ونسي المحاسبة بها، فقال في المدونة: لا يقبل قوله. وقال في الموازية: يحلف ويكون ذل له، والشريك مثله.
وفهم من قوله: (بَعْدَ الافْتِرَاقِ) أنه لو أقر قبله قبل، وكذلك نص عليه في المدونة بشرط أن يقر لأجنبي لا يتهم عليه، وأما المتهم عليه فلا، قال في المدونة: وإن أقر بدين من شركتهما لأبويه أو ولده أو جده أو جدته أو زوجته أو صديقه أو من يتهم عليه - لم يجز ذلك على شريكه، وخرج اللخمي قولاً بصحة الإقرار لمن يتهم عليه من أحد القولين في إقرار من تبين فلسه لمن يتهم عليه. قال: والمفلس أبين في التهمة؛ لأنه ينزع ماله ويبقى
مفلساً لا شيء له، فيعطي ماله لمثل هؤلاء ليعيده إليه فيعيش به، وليس للتفرقة بأن هذا يبقى في ذمته ديناً وجه.
فرع: واختلف إذا أقر أحدهما بعد موت الآخر، فجعله ابن القاسم في المدونة شاهداً، ولم يقبل قوله، وقال: إذا قال الحي: رهنا متاع الشركة عند فلان، وقال الورثة: بل أودعتها أنت إياه بعد موت ولينا. فهو شاهد، وللمرتهن أن يحلف معه ويستحق. وقال سحنون: القول قول الشريك، ويلزم الورثة ما أقر به.
اللخمي: وهو أصوب، وليس الموت كالافتراق: لأن الافتراق يكون عن محاسبة ومفاصلة وقطع الدعاوى، والموت أمر طرأ قبل ذلك.
وَلَوْ أَقَامَ الْحَيُّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّ مِائَةً مِنَ الْمَالِ كَانَتْ بِيَدِ الْمَيِّتِ فَلَمْ تُوجَدْ ولا عُلِمَ مُسْقِطُهَا، فَإِنْ قَرُبَ مَوْتُهُ مِنْ قَبْضِهَا بِحَيْثُ لا يُظَنُّ بِهِ إِشْغَالُهَا فِي الْمَالِ فَهِيَ فِي حِصَّتِهِ، وإِلا فَلا ....
أي: الميت.
وقوله: (وإِلا فَلا) أي: فلا يلزمه شيء؛ لأن الغالب أنه أدخله في مال التجارة، وهذه المسألة تدل على أن الغالب مقدم على الأصل، وهي كالتي بعدها، أي قوله:
ولَوْ أَقَرَّ الشَّرِيكُ أَنَّ بِيَدِهِ مِائَةً مِنَ الْمَالَ فَفَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَيْنَ طُولِ الْمُدَّةِ وقِصَرِهَا، وأَمَّا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَخَذَهَا لَمْ يَبْرَا إِلا بِالإِشْهَادِ أَنَّهُ رَدَّهَا ....
قوله: (أَقَرَّ) ظاهره والآخر حي، والذي في المدونة: وإن مات أحد الشركاء فأقام صاحبه بينة أن مائة دينار من الشركة كانت عند الميت فلم توجد ولا علم مسقطها، فإن كان موته قريباً من أخذها فيما يظن أنه لم يشغلها في تجارة - فهي في حصته، وما تطاول وقته لم يلزمه، أرأيت لو قالت البينة: قبضها منذ سنة. وهما يتجران أيلزمه أو لا شيء عليه؟ انتهى.
وقوله: (أَمَّا
…
إلخ) هذا ذكره ابن المواز مقيداً للمدونة، وحاصله أن كلامه في المدونة مقيد بما إذا لم يشهدوا، وأما إذا أشهد على نفسه بأخذ المائة فلا يبرأ إلا بالإشهاد أنه ردها، طال ذلك أو قصر، والظاهر أن مراد محمد بقوله:(أشهد) أن تكون البينة قصد بها التوثق كما قالوا في البينة التي لا يقبل دعوى المودع الرد معها، وهو أن يأتي بشهود يشهدهم على دفع الوديعة للمودع، وأما لو دفع بحضرة قوم ولم يقصد التوثق بشهادتهم - فلا، ولأنه الذي يفهم من قول محمد، وأما إن كان إقراره من غير قصد إشهاد - فكما ذكر ابن القاسم.
فرع: كتب شجرة إلى سحنون فيمن دفع عن أخيه - وهما مشتركان مفاوضة - صداق امرأته، ولم يذكر من ماله ولا من مال أخيه، فمات الدافع، فقام ورثته، فكتب إليه: إن دفع وهما متفاوضان، ثم أقام سنين كثيرة ولا يطلب أخاه، فهذا ضعيف، وإن كان بحضرة ذلك - فذلك بينهما شطران، ويحاسب به.
والرِّبْحُ عَلَى الْمَالِ، والْعَمَلُ عَلَى نِسْبَتِهِ
يعني: يشترط أن يكون الربح والعمل على نسبة المال، فإذا كان لأحدهما الثلث - كان له من الربح الثلث، ولا يجوز أن يزاد أو ينقص، وكذلك العمل.
وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى تَفَاضُلِ الرِّبْحِ أَوِ الْعَمَلِ فَسَدَتْ ولَزِمَ التَّرَادُّ فِي الرِّبْحِ، وفِي [553/أ] الْعَمَلِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي نِصْفِ الزِّيَادَةِ ....
قوله: (فَسَدَتْ) أي: الشركة.
(ولَزِمَ التَّرَادُّ) أي: التراجع، فإذا دفع هذا ألفاً وهذا ألفين، ودخلا على أن الربح والعمل متساويان، فإن اطلع على ذلك قبل العمل فسخ، وإلا رجع صاحب الألفين بفاضل الربح فيأخذ ثلثي الربح، ويرجع صاحب الألف على صاحب الألفين بفاضل
عمله، فيأخذ سدس أجرة المجموع، وهذا معنى قوله:(نِصْفِ الزِّيَادَةِ)؛ لأن الذي يزيد به صاحب الثلثين الثلث.
ابن عبد السلام: وقيل: لا أجر لصاحب الثلث في الزيادة، واختار اللخمي التفصيل: إن خسر فلا شيء له، وإن ربح فله الأقل من أجرة المثل وما ينوب ذلك من الربح.
وأَمَّا لَوْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ فَجَائِزٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ
يعني: أن زيادة أحدهما على الآخر في الربح أو العمل إنما تفسد إذا وقع اشتراط ذلك في عقدة الشركة، وأما لو تبرع أحدهما للآخر بعده فلا محذور؛ لأنه محض هبة لا ترد لأج الشركة.
خليل: وانظر هذا مع قولهم: إنه إذا باع بمال ثم قال له: أخذت ذلك مني رخيصاً. فزاده - أن الزيادة تلحق بالثمن، أي: فيلزمه ردها إذا رد عليه المبيع بعيب، ولأن لنا مسائل يعد فيها اللاحق للعقد كأنه واقع فيه.
وكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَفَهُ أَوْ وَهَبَهُ
أي: في منع ذلك إن وقع في العقد وجوازه إن وقع بعده، وانظر كيف عدى المصنف (وَهَبَ) بنفسه، والمستعمل في كلام العرب إنما هو تعديته باللام؛ كقوله تعالى:(لِأَهَبَ لَكِ)[مريم: 19]، وقوله:(هَبْ لِي)[آل عمران: 38] إلى غير ذلك.
والْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي التَّلَفَ والْخُسْرَانَ ومَا يَشْتَرِيهَ لِنَفْسِهِ
لأن يد كل واحد منهما يد أمانة، فلذلك كان القول قوله في التلف والخسران، قال في الجواهر: ما لم يظهر كذبه. وإن اتهم استحلف، وإن قال: ابتعت منه سلعة وهلكت. صدق، وينبغي أن يقيد قوله بعدم المعارض.
وقد نقل الباجي عن بعض أصحابنا في العامل في القراض يدعي الخسارة ولم يبين وجهه - أنه يضمن.
وقوله: (ومَا يَشْتَرِيهَ لِنَفْسِهِ) مأكولاً وملبوساً إذا كان يشبه ذلك حاله فيما يأكله ويكتسيه، وهذا إنما هو في الأكل والكسوة.
ابن القاسم: وذلك بخلاف شرائه لنفسه شيئاً من العروض والرقيق، هذا له أن يدخل معه فيه، قال في الجواهر: وإن قال: هذا المال من مال الشركة، وخلص لي بالقسمة. فالقول قول شريكه؛ لأن الأصل عدم القسمة.
وَنَفَقَتُهُمَا وكِسْوَتُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ مُلْغَاةٌ فِي بَلَدٍ كَانَا أَوْ فِي بَلَدَيْنِ، والسِّعْرُ واحِدٌ أَوْ مُخْتَلِفٌ، وقِيلَ: إِنَّمَا تُلْغَى فِي غَيْرِ أَوْطَانِهِمَا، كَانَا بِعِيَالٍ أَوْ بِغَيْرِ عِيَالٍ
أي: نفقة الشريكين المتفاوضين، والأول هو مذهب المدونة. و (المعروف) ما لا سرف فيها.
وقوله: (كَانَا بِعِيَالٍ أَوْ بِغَيْرِ عِيَالٍ) من تمامه لإتمام القول الثاني، ومعناه أن النفقة إنما تلغى إذا كانا معاً بعيال أو كانا معاً بغير عيال، وهذا إنما هو في شركة المفاوضة، وبقي عليه شرطان:
الأول: أن تكون الشركة بينهما على النصف، وإن كان لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث - لم ينفق صاحب الثلث من المال إلا بقدر جزئه، ولم يجز أن ينفق بقدر عياله فيحاسب بذلك في المستقبل؛ لأنه يأخذ من المال أكثر مما يأخذه صاحبه.
الثاني: أن تكون العيال متساوية أو متقاربة، قاله ابن القاسم في رواية سليمان، واكتفى المصنف عن هذا الشرط اعتماداً على ما يقوله بعد.
فإن كان لأحدهما عيال دون الآخر حسب كل واحد نفقته، فإنه لا فرق بينهما.
وقوله: (وكِسْوَتُهُمَا) لأنها تبع للنفقة، ولهذا وقع في وصايا ابن شعبان فيمن أوصى لرجل بنفقته - أن له الكسوة.
وقوله: (والسِّعْرُ واحِدٌ أَوْ مُخْتَلِفٌ) نحوه في المدونة، ولعل الموجب لذلك العادة وصعوبة ضبط مقدار النفقة كل يوم.
وقوله: (وقِيلَ) نحوه في الجواهر.
ابن عبد السلام: ولا أذكر قائله في المذهب، ووجهه إن ثبت القياس على نفقة العامل في القراض، ويلزم على هذا ألا تجب لهم الكسوة إلا في المال الكثير كالقراض.
ابن يونس: وينبغي إذا كان لكل واحد عيال واختلفت أسعار البلدين اختلافاً بيناً أن يحسب النفقة؛ إذ نفقة العيال ليست من التجارة، وقال اللخمي: ظاهر المذهب أنه لا التفات إلى اختلاف السعرين، والقياس - إذا كان البلدان قراراً لهما -: أن يحاسب من كان في البلد الغالي بما بين السعرين، فإن لم يكن واحد منهما في قراره لم يحاسب بما بين السعرين، وإن كان أحدهما ببلده - وهو أغلى - حوسب، وإن كان الذي بغير لديه أغلى لم يحاسب.
وينبغي أن يقيد هذا بما إذا كان الشريكان متقاربين في النفقة والكسوة، وأما إن كان أحدهما يقنع بالحرش من الطعام والغليظ من الثياب فيحسب كل واحد نفقته، قاله ابن عبد السلام.
فَإِنْ كَانَ لأَحَدِهِمَا عِيَالٌ دُونَ الآخَرِ حَسَبَ كُلُّ واحِدٍ نَفَقَتَهُ
تصوره ظاهر.
ويَنْقَطِعُ التَّصَرُّفُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا
لأن المال بعد الموت للورثة، وهذا ظاهر إن علم الحي بموت شريكه، وأما إن لم يعلم فينبغي أن يجرى ذلك على الخلاف إذا مات الموكل، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وإِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِ الْمَالَيْنِ حُمِلَ عَلَى النِّصْفِ
ابن عبد السلام: هذا قول أشهب في الموازية بشرط أن يحلف؛ لأنه الغالب ولأنهما تساويا في الحيازة واليمين. وقال بن القاسم في الموازية أيضاً: إذا قال أحدهما: لك الثلث ولي الثلثان. وقال الآخر: المال بيننا نصفين. وليس المال بيد أحدهما - فلمدعي الثلثين النصف، ولمدعي النصف الثلث، ويقسم السدس بينهما نصفين، وفي قول أشهب نظر؛ لأن حلف مدعي [553/ب] الثلثين وأخذه النصف لا تحتمله الأصول.
وفِي شَيْءٍ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ لِلشَّرِكَةِ
يعني: إذا تنازعا في شيء بيد أحدهما، هل هو من مال الشركة أم لا؟ فهو للشركة، وهذه مسألة المدونة لكنها مفروضة فيها في قيام البينة بالمفاوضة لا في الإقرار، لكن الظاهر أنه لا فرق بين البينة والإقرار، ونص فيها على أن القول لمدعي الدخول إلى أن تقوم البينة للآخر.
بعض القرويين: وكذلك يجب إذا أقام أحدهما البينة أن الآخر شريكه في جميع ما بأيديهما إلا ما قامت البينة أن ذلك لأحدهما كالمفاوضة، ولا فرق بين اسم الشركة والمفاوضة، إلا أن المفاوضة فيها إجازة بيع كل واحد منهما على صاحبه، ونحوه لسحنون، وظاهره أن الشهادة بمطلق الشركة مقتضية لذلك.
اللخمي: إن أقام رجل البينة على رجل أنه شريكه - لم يقض بالشركة في جميع أملاكهما؛ لأن ذلك يقع على بعض المال وعلى جميعه. وفي كتاب ابن سحنون: من أقر أنه شريك فلان في القليل والكثير - كانا كالمتفاوضين في كل ما بأيديهما من التجارة، ولا يدخل في ذلك مسكن ولا خادم ولا طعام، فإن قال أحدهما: هذا المال الذي بيدي ليس من الشركة، وإنما أصبته من ميراث أو جائزة أو بضاعة لرجل أو وديعة - صدق مع يمينه،
إلا أن يقيم الآخر البينة أنه من الشركة، وأنه كان في يديه يوم أقر بالشركة - كان بينهما؛ لأن العين من التجارة، ولو كان بيده متاع من متاع التجارة وقال: ليس هو منها ولم يزل في يدي قبل الشركة. كان بينهما ولم يصدق. وقال: وإن قال: فلان شريكي. ولم يزد، ثم قال: إنما عنيت في هذه الدار أو الخادم. صدق مع يمينه.
وإن قال في حانوت في يده: فلان شريكي فيما فيه. ثم أدخل فيه عدلين وقال: ليس هما من الشركة. وقال الآخر: قد كانا في الحانوت يوم إقراره. كان القول قوله، أنهما كانا فيه، إلا أن يقيم الآخر بينة، وقال سحنون أيضاً وأشهب: لا يكون بينهما، ويصدق من قال أنه أدخله بعد الإقرار؛ لأن ما في الحانوت غير معلوم. انتهى.
واختلف إذا شهد الشهود بالمفاوضة: هل يكتفي بذلك - وإليه ذهب ابن سهل - أو لا بد أن يقول الشهود: أقر عندنا بالمفاوضة، أو أشهد بها. وإليه ذهب ابن العطار وابن دحون وابن الشقاق؟ والأول أظهر إذا كان الشهود عالمين بما يشهدون به.
فرع: وإن قالت البينة: نعلم أنه ورثه ولا نعلم هل قبل المفاوضة أو بعدها. فذلك له، ولا يدخل في المفاوضة؛ لأن الأصل عدم خروج الأملاك عن يد أربابها، فلا ينتقل إلا بيقين.
ولَوِ اشْتَرَى مِنَ الْمَالِ جَارِيَةً لِنَفْسِهِ خُيِّرَ الأخَرُ فِي رَدِّهَا شَرِكَةً كَالْمُقَارِضِ لا كَالْمُودِعِ ....
أي: ولو اشترى أحد الشريكين من المال جارية لنفسه للوطء أو للخدمة، قال في المدونة: وأشهد على ذلك. ابن يونس: يريد: ولم يطأها. خير شريكه بين أن يجيز له ذلك أو يردها في الشركة. قال في المدونة: وليس من فعل ذلك من المتفاوضين كغاصب الثمن أو متعد في وديعة اشترى بها سلعة، أو مقارض أو وكيل تعدى، فرب المال مخير فيما
اشترى: إن شاء أخذه أو تركه؛ لأن هؤلاء أذن لهم في تحريك المال، ولكن متعد سنة يحمل عليها.
ولَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ الشَّرِكَةِ فَلِلآخَرَ تَقْوِيمُهَا أَوْ إِبْقَاؤُهَا، وقِيلَ: تَتَعَيَّنُ مُقَاوَمَتُهُمَا لَهَا، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَتَعَيَّنُ إِنْ كَانَ فِي شَرِكَةِ مُفَاوَضَةٍ، أَمَّا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ ....
لشراء الجارية ثلاثة أوجه:
الأول: أن يشتريه لنفسه، وهو الوجه المتقدم.
الثاني: أن يشتريها للوطء بإذن شريكه، فلا شكل أن شريكه أسلفه نصف ثمنها، وأن ربحه له وعليه نقصها.
الثالث: أن يشتريها للتجارة ثم يطأها، فإن وطئها بإذن شريكه فكالأمة المحللة وإليه أشار بقوله آخراً:(أَمَّا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ) وإن لم يأذن ولم تحمل، فذكر المصنف ثلاثة أقوال، وتصورها من كلامه ظاهر:
الأول: أن الشريك بالخيار إن شاء قومها وإن شاء أبقاها على الشركة، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، لكن في نقله نظر؛ لأن مقتضى المدونة إنما هو التخيير في إبقائها على الشركة أو إمضائها بالثمن لا بالقيمة.
والقول الثاني: أنهما يتقاويانها خاصة؛ أي: يتزايدان فيها إلى أن تقف على أحدهما، وهو ظاهر قول مالك في المدونة.
ابن القاسم متمماً له: وإن شاء الشريك نقدها لشريكه الذي وطئها بالثمن الذي اشتراها به، فإن لم ينقدها بالثمن الذي اشتراها به وقال: لا أقاويها، ولك أردها في الشركة، لم يكن له ذلك، وعلى هذا يقيد كلام المصنف بما إذا لم يرد الشريك إمضاءها بالثمن، ويحتمل أن يريد بالقول الثاني ما نقله ابن يونس وغيره عن ابن المواز أن المقاواة إنما تكون
بين الشريكين في هذه الأمة إذا أراد المقاواة قبل الوطء، فأما إذا وطئ أحدهما فقد لزمته القيمة إن شاء شريكه، وأما إن حملت فلا بد من القيمة في يسر، شاء شريكه أو أبى. ولم أقف على القول الثالث.
واختار اللحمي التفرقة بين أن يكون الشريك فعل ذلك جهلاً معتقداً للجواز - فيجوز بقاؤها على الشركة وتحت أيديهما، وبين أن يكون وطؤه لها وهو عالم بتحريم فعله - فلا يجوز إبقاؤها على الشركة إلا أن تكون بيد الشريك الآخر، بشرط أن يكون مأموناً، واحتج بما قاله ابن القاسم في كتاب المدنيين فيمن وطئ أخته من الرضاع بملك اليمين: أنها تباع عليه إن كان عالماً، وإن ظن جواز ذلك ولم يتهم على العودة لم تبع، وتعقب التونسي قول ابن المواز المتقدم: (إنما تكون المقاواة في هذه الأمة
…
إلخ) فقال: وقوله: (إنما تكون المقاواة قبل الوطء) صواب.
وقوله: (إذا وطئ فقد لزمته القيمة [554/أ] إن شاء شريكه) إن كان مراده أن الشريك قد أذن له في الوطء - فتجب القيمة من غير توقف على مشيئة الشريك الآخر، كالأمة المحللة، وإن كان بغير إذنه فهو متعد إنشاء صاحبه أمضاها وإن شاء قاواه فيها.
واعلم أن الأمة المشتراة للتجارة ثم يطؤها على ضربين:
أحدهما: أن يشتريها للتجارة من غير قصد وطء، ثم يطؤها.
والثاني: أن يشتريها ليطأها على أن الخسارة والربح فيها على المال، وهذه الثانية هي التي ذكر فيها في المدونة الخلاف، وأما الأولى فيخير شريكه بين مطالبته بالقيمة أو تركها بينهما إن لم تحمل، هكذا قاله جماعة من علمائنا رضي الله عنهم.
وفي قوله: (أَمَّا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ) الإتيان بجواب أما من غير فاء، وهو لا يكون إلا نادراً: كقوله صلى الله عليه وسلم: «أما بعد: ما بال رجال» وقد كثر هذا في كلام المصنف فتتبعه.
فَلَوْ حَمَلَتْ قُوِّمَتْ
يعني: أن ما تقدم إنما هو إذا وطئت ولم تحمل، وأما إن حملت فإنها تقوم، وهذا صحيح إن كان الشراء للوطء بإذن الشريك، أو اشتريت للتجارة خاصة ووطئها أحدهما بإذن الآخر، وأما إن وطئها بغير إذن فيفصل فيها - على ما علم من المشهور - بين أن يكون الواطئ مليئاً أو معدما.
ولَوِ اشْتَرَى مِنَ الْمَالِ مُؤنَةً أَوْ كِسْوَةً مُعْتَادَةً لِنَفْسِهِ فَهِيَ لَهُ إِذْ عَلَى ذَلِكَ دَخَلا بِخِلافِ نَفِيسِهِمَا ....
يعني: لو اشترى أحد المتفاوضين من المال مؤنة أو كسوة له أو لعياله مما يليق به، وهو مراده بقوله:(مُعْتَادَةً) فذلك له، ولا كلام لشريكه فيه؛ لأن كلاً منهما دخل على ذلك، قال في المدونة بعد أن ذكر كسوة العيال: تلغى إلا كسوة لا يبتذلها العيال كوشي ونحوه، فهذا لا يلغى. ابن المواز: ولا يلزم ذلك إلا من اشتراه. وقال سحنون: تكون الثياب بينهما. ابن يونس: يريد إن شاء ذلك شريكه لرجاء فضل الثياب أو غير ذلك.
قوله: (نَفِيسِهِمَا) أي: أجودهما.
وشَرْطُ شَرِكَةِ الْعَمَلِ الاتِّحَادُ فِيهِ وفِي الْمَكَانِ
لما انقضى كلامه على شركة الأموال أتبعه بشركة الأبدان، ولا خلاف عندنا في جوازها.
ولجوازها شروط:
أولها: أن يتحد العمل، فلا يجوز أن يشترك مختلفا الصنعة كصباغ ونجار؛ لما في ذلك من الغرر؛ إذ قد تنفق صنعة أحدهما دون الآخر، فيأخذ من لم تنفق صنعته من غير عمل. أبو عبد الله الذكي: ولو كان المعلمان أحدهما قارئ والآخر حاسب واشتركا على أن
يقتسما على قدر عمليهما فيجري ذلك مجرى جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وعلى هذا تجوز الشركة بين مختلفي الصنعة إذا كانت الصنعتان متلازمتين، ونص اللخمي على الجواز فيما إذا تشاركا وأحدهما يحيك والآخر يخدم ويتولى ما سوى النسج إذا تقاربت قيمة ذلك، قال: وليس ذلك كالصنعتين المختلفتين؛ لأنهما هنا إما أن يعملا جميعاً أو يعطلا جميعاً، ولم يكن هذا غرراً. وعلى مثل هذا أجيزت الشركة في طلب اللؤلؤ، أحدهما يطلب الغوص والآخر يقذف أو يمسك عليه إذا كانت الأجرة سواء.
ثانيها: أن يتحد المكان، والعلة فيه كالأولى؛ لأنه يحتمل أن ينفق أحد المكانين دون الآخر، وأجاز في العتبية كونهما في مكانين إذا اتحدت الصنعة.
عياض: وتأوله شيوخنا على أنهما يتعاونان في الموضعين، وأن نفاق صنعتهما في الموضعين سواء، وعلى هذا فيكون الخلاف وفاقاً للمدونة؛ إذ ليس المقصود الجلوس في موضع إلا لتقارب استوائهما. وحمل اللخمي العتبية على الخلاف، وهذان الشرطان هما اللذان ذكرهما المصنف.
والثالث: أن يتساويا في الصنعة أو يتقاربا، وإلا فلا تجوز الشركة إلا على قدر التقارب، كما لو كان أحدهما يعمل قدر الآخر مرتين، ويكون بينهما على الثلثين والثلث.
اللخمي: ولو تباينا في الجودة والرداءة وكان أكثر ما يصنعانه الأدنى - جازت شركتهما؛ لأن صاحب الأعلى يعمل الأدنى، ولا حكم للقليل، وإن كان الأكثر هو الأعلى أو كان كل واحد كثيراً - لم يجز؛ لأنه غرر وتفاضل.
الشرط الرابع: أن يكون في اشتراكهما تعاون؛ ففي العتبية سئل عن صيادين معهم شباك، فقال بعضهم لبعض: تعالوا نشترك فما أصبنا فهنو بيننا. فضرب أحدهم شبكة فأخرج صيداً وأبى أن يعطي الآخرين، فقال: ذلك له، وليس لهما فيما أصاب شيء؛ لأنها
شركة لا تحل. قال في البيان: لأن شركة الأبدان لا تجوز إلا فيما يحتاج الاشتراك فيه إلى التعاون؛ لأنهم متى اشتركوا على أن يعمل كل واحد منهم على حدة - من الغرر البين.
الخامس: أن تكون قسمتهما على قدر عملهما.
فَإِنْ كَانَتِ الأَدَاةُ لأَحَدِهِمَا فَلَهُ الأُجْرَةُ، ويَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِالتَّافِهِ مِنْهَا
يعني: أن ما قدمه إنما هو في الصنعة التي لا آله لها، أو لها آلة ولكن لا قدر لها كالخياطة، وأما إن كانت تحتاج إلى آلة كالصباغة والنجارة والصيد بالجوارح، فيزاد اشتراط أن يشتركا في الآلة بالملك أو الإجارة من غيرهما، وهل يجوز أن يؤاجر أحدهما نصف الآلة من صاحبه؟ عياض وغيره: وهو ظاهر الكتاب. ابن عبد السلام: وهو المشهور، وعليه اقتصر المصنف، وهو معنى قوله:(فَإِنْ كَانَتِ الأَدَاةُ لأَحَدِهِمَا فَلَهُ الأُجْرَةُ) ولابن القاسم وغيره المنع إلا بالتساوي في الملك والكراء من غيرهما.
واختلف إذا أخرج كل واحد منهما آلة مساوية لآلة الآخر، هي يكتفى بذلك وهو قول سحنون، أو لا بد أن يشتركا في الآلة ليضمناها، لكن إن وقع مضى، وهو ظاهر المدونة؟ واختلف في تأوليها على ذلك.
وقوله: (ويَجُوزُ [554/ب] التَّطَوُّعُ بِالتَّافِهِ مِنْهَا)، قال في المدونة: كقصرية ومدقة يتطوع بها أحد القصارين على الآخر، والأداة هي الآلة، وهي الواسطة بين الفاعل والمنفعل.
ولا تَصِحُّ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وفُسِّرَتْ بِأَنْ يَبِيْعَ الْوَجِيهُ مَالَ الْخَامِلِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ، وقِيلَ: هِيَ شَرِكَةُ الذِّمَمِ - يِشْتَرِيَانِ ويَبِيعَانِ والرِّبْحُ بِيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ مَالٍ، وكِلْتَاهُمَا فَاسِدَةٌ، وتُفْسَخُ ....
يعني: أن شركة الوجوه اتفق على منعها، واختلف في تفسيرها، والتفسير الأول نسبه في الجواهر لبعض العلماء، والثاني لعبد الوهاب، وفسدت في التفسير الأول لما في ذلك
من الإجارة المجهولة والتدليس على الغير؛ وذلك لأن كثيراً من الناس يرغب في الشراء من أملياء السوق لاعتقادهم أن الأملياء إنما يتجرون في جيد السلع، وأن فقراءهم على العكس، فإذا دفع الفقير سلعته للوجيه بجزء من الربح - كان إجارة بشيء مجهول، وأما التدليس فهو إيهام المشتري.
ابن عبد السلام: وقد كره جماعة من أهل المذهب خلط البلدي من السلع بالمجلوب، وإن كانت صفتهما واحدة، وكذلك منع أهل المذهب أيضاً خلط سلعة من غير التركة بها، ومنعوا أن يخرج التاجر من أهل السوق سلعة من حانوته فيبيعها على أنها ليست من سلع تجار السوق.
وفسدت في التفسير الثاني؛ لأن ذلك من باب: تحمل عني وأتحمل عنك. وأسلفني وأسلفك. فيكون من باب الضمان بجعل، والسلف بزيادة.
وقوله: (يِشْتَرِيَانِ ويَبِيعَانِ) يشترط ألا يكون ذلك في معين، وأما الاشتراك في سلعة معينة فهو جائز كما تقدم.
وقوله: (وكِلْتَاهُمَا فَاسِدَةٌ، وتُفْسَخُ) ظاهر، وهو كالتأكيد لقوله:(ولا تَصِحُّ).
ومَا اشْتَرَيَاهُ فَبَيْنَهُمَا عَلَى الأَشْهَرِ
يعني: وما اشترياه أو أحدهما في شركة الذمم -فهو بينهما على الأشهر، يريد: قبل أن يعثر على ذلك، وقيل: بل من اشترى شيئاً فهو له. والأشهر لابن القاسم في المدونة، وبه قال أصبغ وغيره، ومقابله لسحنون، والأشهر أظهر؛ لأن كلا منهما وكيل عن صاحبه، لكن بعوض فاسد، وفساد العوض في الوكالة لا يوجب للوكيل ملك ما اشتراه باتفاق، وقاله اللخمي.
وأَمَّا اشْتَرِ هَذِهِ السِّلْعَةَ لِي ولَكَ فَوَكَالَةٌ مَقْصُورِةٌ وإِنْ حَصَلَتْ الشَرِكَةُ كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ جُزْءَهَا أَوْ وَرِثَاهَا ....
قوله: (فَوَكَالَةٌ مَقْصُورِةٌ) أي: فلا يكون له البيع إلا بإذنه، كما لو اشترى منه جزء سلعة أو ورثها عن أب أو غيره، وهو ظاهر.
وانظر كيف أولى المصنف (أَمَّا) فعلاً، وإنما يليها اسم أو حرف، ولعله على إضمار اسم، تقديره:(وأما قوله: اشتر).
فرع: فلو قال: اشتر لي ولك بشرط أن تنقد عني، لكانت شركة مستلزمة للسلف، لكن لمالك في الموطأ - في الرجل يقول لآخر: اشتر هذه السلعة بين وبينك، وانقد عني وأنا أبيعها لك -: إن ذلك لا يصح حين قال: انقد عني وأنا أبيعها لك. وإنما ذلك سلف يسلفه إياه على أن يبيعها له. وظاهره أنه لولا قوله: أبيعها لك. لجازت المسألة؛ لأنه معروف صنعه أحدهما مع صاحبه من غير عوض، وهو سلفه له الثمن مع تولي الشراء عنه، وإنما دخل الفساد لمقابلة البيع بالسلف.
وإذا وقعت مسألة مثل هذه فقال الباجي: تكون السلعة بينهما، وليس له بيع حظ المسلف من السلعة إلا أن يستأجره بعد ذلك استئجاراً صحيحاً وعليه ما أسلف نقداً، وإن كان قد باع فله جعل مثله في نصيب المسلف، ولو ظهر عليه قبل النقد لأمسك المسلف ولم ينقد، وهما في السلعة شريكان يبيع كل واحد منهما نصيبه إن شاء أو يستأجر عليه إن كان السلف من جانب متولي الشراء، وأما إذا كان السلف من جانب من لم يتوله، فقال ابن عبد الحكم: اختلف قول مالك في الذي يسلف رجلاً سلفاً ليشاركه وذلك منه على وجه الرفق والمعروف، قال ابن القاسم: فأجازه مالك مرة وكرهه مرة، واختار ابن القاسم جوازه.
وإن كان سلفه لبصيرته في التجارة وتشاركا على ذلك - لم يجز؛ لأنه سلف جر نفعاً. قال في البيان: ولا خلاف في الجواز إذا صحت النية في ذلك، ولا في عدمه إذا قصد منفعة نفسه، وإنما الخلاف إذا لم يقصد.
وكَمَا لَوِ اشْتَرَى سِلْعَةً فِي سُوقِهَا لِلْبَيْعِ لا لِلْقِنْيَةِ ولا لِسَفَرٍ، وغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا حَاضِرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ لَهُ إِنْ شَاءَ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا لَهُ خَاصَّةً ....
هذه المسألة تلقب بشركة الجبر، واتفق مالك وأصحابه على القول بها، وقضى بها عمر رضي الله عنه.
وقوله: (سِلْعَةً) ظاهره سواء كانت طعاماً أو غيره، وهو قول ابن القاسم وغيره، ورأى أشهب أن ذلك في الطعام فقط.
وظاهر قوله: (فِي سُوقِهَا) أنه لو اشتراها في الأزقة لا يكون الحكم كذلك، وهو قول أصبغ وغيره، وقال ابن حبيب: لا فرق بين السوق والزقاق. وقال في البيان: وأما لو ابتاعه الرجل في داره أو حانوته فلا شركة لأحد معه فيه ممن حضر الشراء باتفاق.
وقوله: (لِلْبَيْعِ) أي: ليبيعها أو ليتجر فيها في البلد نفسه، وأما لو اشتراها للقنية أو ليسافر بها إلى غير البلد - فلا شركة لغيره معه فيها، وإذا زعم أنه لم يشتر للتجارة صدق مع يمينه، إلا أن يتبين كذبه لكثرة ما اشتراه أو غير ذلك.
وقوله: (وغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا) هي جملة في موضع الحال، وظاهر كلامه إنما يكون ذلك لتجار تلك السلعة، وهو قول أصبغ وابن حبيب، وقال ابن الماجشون: ذلك لجميع التجار.
وقوله: (فَإِنَّهُ يُجْبَرُ)؛ أي فإن المشتري يجبر لغيره على الشركة إن شاء الغير ذلك، إلا أن يبين الآخذ أنه إنما أخذها له فقط. فلو قال التجار لمتولي الشراء: أشركنا في هذا.
فقال: نعم. أو سكت - فيقضى لهم عليه إن طلبوا بعد ذلك الدخول [555/أ] عليه وامتنع، ويقضى له هو عليهم إن طلب منهم الدخول معه لظهور الخسارة، وإن قالوا له - وهو يسوم -: أشركنا واشتر علينا. فسكت وذهبوا، فاشترى بعد ذهابهم ثم سألوه - لم يلزمه ويحلف: ما اشترى عليهم. فلو طلبهم هو لزمهم بسؤالهم، وإن زعم فيما اشتراه أنه لم يشتره للتجارة فهو مصدق في ذلك مع يمينه، إلا أن يتبين كذبه لكثرة ما اشتراه أو غير ذلك.
والْمُشْتَرَكُ مِمَّا لا يِنْقَسِمُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَمِّرَ أَوْ يَبِيعَ وإِلا بَاعَ الْحَاكِمُ بِقَدْرِ مَا يُعَمِّرُ
يعني: إن كان بين شريكين من الربع ما لاحكم بقسمته، واحتاج ذلك الربع إلى إصلاح وشبهه، فيلزم من أبى العمارة أن يعمر أو يبيع لمن يعمر، فإن فعل وإلا باع الحاكم عليه بقدر ما يعمر.
ابن عبد السلام: وظاهر إطلاقاتهم أن للقاضي بيع جميع نصيب الآبي مع شريكه، ويترجح هذا بأن فيه تقليل الشركاء؛ إذ يلزم مما قاله المصنف كثرة الضرر لكثرة الشركاء؛ لأنه إذا بيع بعض نصيب الآبي من ثالث صاروا ثلاثة شركاء بعد أن كانوا اثنين إلا أن يقال: فإنه إنما أبيح البيع للضرر الحاصل، وذلك يرتفع بقدر الحاجة.
قوله: (والمنقسم) هو قسيم قوله: (مِمَّا لا يِنْقَسِمُ) أي: وإن كان مما يقبل القسمة قسم، وهو ظاهر.
ويُجْبَرُ الْعُلْوُ السُّفْلَ عَلَى الْبِنَاءِ أَوِ الْبَيْعِ
يعني: ويجبر صاحب العلو صاحب السفل أن يبني سفله أو يبيعه لمن يبنيه إذا خاف صاحب العلو على علوه السقوط.
ابن عبد السلام: وقوله: (أَوِ الْبَيْعِ) يحتمل أن تكون (ال) للتعريف؛ أي: لتعريف الحقيقة، ويكون المعنى كما ذكرنا أنه ظاهر إطلاقاتهم في المسألة السابقة، وكذلك ظاهر إطلاقاتهم هنا.
ويحتمل أن تكون للعهد؛ أعني البيع السابق في كلامه.
ابن القاسم: ويخير صاحب السفل بين أن يبني أو يبيعه ممن يبني.
وقال سحنون: إنما يجوز البيع على هذا للضرورة إذا كان البائع لا مال له، ولو كان له مال لم يجز البيع بشرط البناء. يريد ويجبر على أن يبني.
ابن العطار: يجبر صاحب السفل على البناء إلا أن يختار صاحب العلو أن يبنيه من ماله، ويمنع صاحب السفل من الانتفاع به حتى يعطيه ما أنفق.
ويُعِلَّقُ السُّفْلُ الْعُلْوَ
يعني: إذا وهى الأسفل واحتاج العلو إلى تعليق فهو على صاحب السفل؛ لأن التعليق كالبناء، وبناء الأسفل على صاحبه، فكذلك ما يتنزل منزلته؛ لكونه قد وجب عليه حمله، وهذا هو المعروف، وهو مذهب الرسالة.
وحكى اللخمي قولاً أنه على صاحب العلو، واستحسنه.
والسَّقْفُ عَلَيْهِ ويُحْكَمُ لَهُ بِهِ لَوْ تَنَازَعَاهُ
يعني: والسقف على صاحب السفل، ولذلك لو تنازعاه حكم له به، وحكى الإجماع عليه، واستأنس لذلك بقوله تعالى:(لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا)[الزخرف: 33]، فأضاف السقف إلى البيت، والبيت لصاحب السفل، فالسقف له.
أشهب: وكذلك الباب على صاحب السفل.
فرع: وأما إن كان سبب الانهدام وهاء العلو فإن كان صاحب السفل حاضراً عالماً ولم يتكلم على ذلك - لم يضمن، واختلف إذا كان صاحب السفل غائباً، وكان وهاء العلو مما يخشى سقوطه، فهل يضمن، أو لا يضمن لأنه لم يتقدم إليه؟
اللخمي: والأول أحسن، وإن تقدم إليه ولم يفعل - ضمن بالاتفاق، وكذلك إذا كان سبب الانهدام وهاء السفل، وصاحب العلو حاضر، ولم يتقدم إليه، أو كان غائباً.
وتَعْلِيقُ الأَعْلَى عَلَى الأَوْسَطِ
لأن الأعلى مع الأوسط كالعلو مع السفل.
والسُّلَّمِ عَلَى الأَعْلَى مِنَ الأَوْسَطِ، ويُخَرَّجُ عَلَيْهِ عَلَى الأَوْسَطِ، مِنَ السُّفْلِ، وقِيلَ: كَالسَّقْفِ ....
السلم الأدراج التي يصعد بها صاحب العلو إلى علوه، وكان على الأعلى من الأوسط؛ لأن السلم إنما ينتفع به صاحب الأعلى، وهذا القول لابن القاسم في مختصر ابن عبد الحكم، وخرج عليه على الأوسط من السفل، وهو تخريج صحيح.
وقوله: (وقِيلَ: كَالسَّقْفِ)؛ أي فيكون السلم للأوسط على صاحب السفل، وللأعلى على صاحب الأوسط بمنزلة السقف، وهذا القول حكاه ابن أبي زيد عن بعض القرويين.
ولَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَزِيدَ
أشهب: إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر، وكذلك أيضاً إذا انكسرت خشبة من العلو، فليس له أن يعمل خشبة أثقل من الأولى ثقلاً يضر بالجدار.
وكَنْسُ مِرْحَاضِ السُّفْلِ قِيلَ: عَلَى السُّفْلِ، وقِيلَ: عَلَى الجَمِيعِ عَلَى عَدَدِ الجَمَاجِمِ ....
والأول لابن القاسم وأشهب، ووجهه أنها لصاحب السفل، وإنما لصاحب العلو الاتفاق بها كالسقف.
والقول الثاني لابن وهب وأصبغ، وهو أظهر.
ابن أبي زيد: وأخذ بعض من ولي الحكم من متأخري أصحابنا بقول ابن وهب إذا كانت البئر محفورة في الفناء، وبالأول إذا كانت البئر محفورة في رقبة الدار.
قال: ويجري القول في المرحاض بين الدارين على القول في العلو والسفل فيمن له رقبة البئر أو ليست له على الاختلاف في ذلك.
وإِذَا انْهَدَمَتِ الرَّحَى الْمُشْتَرَكَةُ فَأَقَامَهَا أَحَدُهُمْ إِذَا أَبَى الْبَاقُونَ فَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: الْغَلَّةُ كُلُّهَا لِمُقِيمِهَا وعَلَيْهِ أُجْرَةُ نَصِيبِهِمْ خَرَاباً، وعَنْهُ أَيْضاً: يَكُونُ شَرِيكاً في الْغَلَّةِ بِمَا زَادَ بِعِمَارَتِهِ، فَإذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا عَشَرَةً وبَعْدَ الْعِمَارَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَلَهُ ثُلُثُ الْغَلَّةِ بِعِمَارَتِهِ، والْبَاقِي بَيْنَهُمْ ثُمَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ دَفَعَ مَا يَنُوبُهُ مِنْ قِيمَةِ ذَلِكَ يَوْمَ دَفَعَهُ، وقِيلَ: الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ ويَسْتَوفِي مِنْهَا مَا أَنْفَقَ ....
الباء في قوله: (بِعِمَارَتِهِ) للسببية، والقول الثالث يروى عن ابن القاسم أيضاً، وهو قول ابن الماجشون، وبالقول الثاني قال ابن دينار.
ابن عبد السلام: والثالث أقوى الأقوال عندي. والثاني ضعيف للشراء بغير اختيارهم، أو ينفرد بأكثر الغلة عنهم، وهو أقوى من الأول الذي حجر عنهم ملكهم، ولم يجعل لهم فيه إلا أجرة الخراب.
فإن قيل: والثالث أيضاً ضعيف؛ لأن متولي النفقة [555/ب] أخرج من يده ما أنفق دفعة واحدة ويأخذه مقطعاً من الغلة.
قيل: هو الذي أدخل نفسه في ذلك اختياراً، ولو شاء لرفعهم إلى القاضي فحكم عليهم بما قاله عيسى بن دينار عن مالك: إما أن يبيعوا، أو يصلحوا، أو يبيعوا ممن يصلح.
ولِكُلٍّ الْمَنْعُ فِي الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ
يعني: لكل واحد من الشريكين منع شريكه من التصرف في الجدار المشترك حتى يأذن له شريكه كسائر الشركات.
وفي جَبْرِ مَنْ أَبَى القِسْمَةَ قولان
الجبر لابن القاسم في المدونة بشرط عدم الضرر في ذلك، قيل له: فإن كان لكل واحد جذوع، قال: إذا كان جذوع هذا من هنا، وهذا من هنا لم يستطع قسمته، ولكن يتقاوياه، بمنزلة ما لا ينقسم من العروض والحيوان. والقول بعدم الجبر نسبه اللخمي لأشهب، قال ابن القاسم: لأن قسمته ضرر على من أبى، وليس منه شيء إلا وله فيه مرفق يضع فيه خشبه، ويضرب فيه وتده، ويربط فيه دابته. انتهى.
ونسبه غيره لمطرف وابن الماجشون قالا: لا يقسم إلا عن تراض، مجرداً كان أو حاملاً.
واستشكل اللخمي قول ابن القاسم إذا كان لكل منهما عليه جذوع لا تمكن قسمته. قال: لأن الحمل عليه لا يمنع القسم كما لا يمنع قسمة العلو والسفل، وحمل العلو على السفل، ورأى أن يقسم طائفتين على أن من صارت إليه طائفة كانت له، وللآخر عليه الحمل، وقد أجاز ابن القاسم المقاواة، وإنما تصح المقاواة على أن من صار إليه الحائط كان ملكه له وللآخر عليه الحمل، وإذا جازت المقاواة على هذه الصورة والصفة - كانت القسمة أولى.
ابن العطار: اختلف في صفة قسمته، فعند ابن القاسم: يمد الحبل بينهما فيه طولاً لا ارتفاعاً من أوله إلى آخره، ويرسم موقف نصف الحبل، ويقرع بينهما، ويكون لكل منهما الجانب الذي تقع عليه قرعته. وقال عيسى بن دينار: يقسم بينهما عرضاً فيأخذ كل منهما نصفه مما يليه.
وإِذَا انْهَدَمَ فَفِي جَبْرِ مَنْ أَبَى عِمَارَتَهُ: قَوْلانِ
حكى ابن الجلاب القولين روايتين. فقال: وإذا انهدم الحائط المشترك، وكان شركة بين اثنين، فأراد أحدهما بناءه وأبى الآخر، ففيها روايتان:
إحدهما: أنه يجبر الذي أبى على بنائه مع شريكه.
والأخرى: أنه لا يجبر عليه، ولكن يقتسمان عرصة الحائط ونقضه، ثم يبني من شاء منهما لنفسه.
فَلَوْ هَدَمَهُ أَحَدُهُمَا ضَرَرَاً رَدَّهُ كَمَا كَانَ، ولإِصْلاحٍ قَوْلانِ
حاصله أنه إن هدمه أحدهما ضرراً لزمته إعادته كما كان اتفاقاً، واختلف إذا كان على غير وجه الضرر، وهو معنى قوله:(ولإِصْلاحٍ قَوْلانِ) ومقتضى كلامه أنه في الجدار المشترك، وهو ظاهر كلامه في الجواهر، ولم ينقل ابن يونس هذا إلا فيما إذا كان الحائط لأحدهما، فإنه قال في العتبية: وإن كان لأحدهما فهدمه ربه أو انهدم من غير فعله - وهو قادر على رده - فتركه ضرراً، أجبر على رده، وإن كان ضعف عن إعادته عذر، وقيل للآخر: استر على نفسك إن شئت.
ابن القاسم: وإن انهدم بأمر الله تعالى لم يجبر على إعادته، وكذلك لو هدمه هو لوجه منفعة ثم عجز عن ذلك أو استغنى عنه، فإنه لا يجبر على رده، ولو هدمه لضرر جبر على رده. وقال ابن سحنون عن أبيه: لا يجبر ربه على بنائه إذا انهدم في قول ابن القاسم.
ابن يونس: وإذا كان لأحدهما فطلب هدمه لم يكن له ذلك إلا أن يعلم أنه لم يرد به الضرر. فإن خيف سقوطه فهدمه - لم يجبر على دره، فإن انهدم بغير فعله لم يجبر على بنائه.
ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: وليس لربه هدمه، وإن فعل لزمه إعادته؛ لأنه مضر. ولو قال: أنا محتاج إلى هدمه. نظر في ذلك، فإن تبين صدقه ترك ليصلح على نفسه
وأمر بإعادته للسترة التي قد لزمته. وقال أصبغ: له أن يهدمه لمنفعة أو لغير منفعة، ويفعل ما أحب. ولا أقول به.
وعَلَى الْجَارِ أَنْ يَاذَنَ فِي الدُّخُولِ لإِصْلاحِ حَائِطٍ وشِبْهِهِ
إنما كان ذلك عليه ارتكاباً لأخف الضررين.
بعض أصحابنا: وليس لصاحب هذا الجدار أن يطينه من دار جاره؛ لأن ذلك يزيد في غلظ الجدار، وعد بعض العلماء من غير أهل المذهب هذا من باب الورع.
سحنون: وإن وقع ثوب لك في دار جارك فعله أن يأذن لك في الدخول لتأخذه أو يخرج لك به.
ويُنْدَبُ إِلَى إِعَارَةِ الْجِدَارِ
لما في الصحيحين والموطأ: «لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره» قال: ثم يقول أبو هريرة: (ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم). بالتاء، والنون، روايتان، وكذلك روي: خشبة بالإفراد، وخشبه بالجمع.
والمشهور ما ذكره المصنف أن ذلك مندوب، ولا يقضى عليه إن امتنع. وقال ابن كنانة: هو واجب، ويقضى عليه إن امتنع لظاهر الحديث. قال في الاستذكار: وإنما حمل على الندب لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلى برضى نفسه» ، وهل لجار المسجد أن يغرز خشبة في جدار المسجد؟ للشيوخ فيه قولان.
فَإِنْ أَعَارَ لَمْ يَرْجِعْ مُطْلَقاً، وقِيلَ: إِلا أَنْ يَعْرِضَ مُحْوِجٌ غَيْرُ الضَّرَرِ
قوله: (مُطْلَقاً)؛ أي طال الزمن أو قصر، عاش أو مات، باع أو ورث، احتاج إلى جداره أو لا، وهو قول مطرف وابن الماجشون - وروياه عن مالك - قالا: إلا أن ينهدم الجدار ثم يعيده صاحبه، فليس للمعار له أن يعديه إلا بعارية مبتدأة.
وقوله: (وقِيلَ) هو لابن القاسم ومالك: إذا أذن له فليس له أن يرجع إلا لحاجة تنزل به، له - بها - عذر، ولم يرد الضرر لما ماج بينه وبينه، فليس له ذلك، وقال أصبغ: إذا مضى من [556/أ] الزمن ما يعار مثله إلى مثل ذلك الزمان - فله منعه.
وحصل ابن زرقون في هذه المسألة ومسألة عارية العرصة للبناء والغرس ستة أقوال: هذه الثلاثة، والرابع نسبه للمدونة: له أن يرجع وإن لم يحتج. من قوله في عارية العرصة: ويدفع له ما أنفق أو قيمته قائماً أو منقوضاً على الاختلاف فيه.
والخامس لأشهب وابن نافع: الفرق بين ما تكلف فيه نفقة - فلا يرجع، وبين ما لا يتكلف فيه نفقة - فيرجع.
والسادس لسحنون: الفرق بين غرز الخشبة في الجدار - فلا يرجع، وبين الإذن في العرصة - فيرجع.
سحنون: لأن من أهل العلم من يرى القضاء بغرز الخشبة وإن لم يأذن صاحب الجدار، فكيف إذا أذن؟
الباجي: وهل يلزم ذلك بمجرد الإذن أم لا؟
الظاهر من قول مطرف وابن الماجشون أنه إن أذن فلا رجوع له.
ابن عبد السلام: وهذا معنى ما حكاه المؤلف، وهو الذي نقله غير واحد.
ومِثْلُهُ فَتْحُ بِابٍ أَوْ إِرْفَاقٌ بِمَاءٍ
هذا معطوف على الجدار؛ أي يندب إلى إعارة الجدار، ويندب إلى مثل فتح باب أو إرفاق بماء، وهو ظاهر.
وفي بعض النسخ: (مثل) بإسقاط حرف العطف، فيكون شبه لإفادة الحكم، والأول أحسن.
وإِذَا تَنَازَعَا جِدَارَاً - فَصَاحِبُ الْيَدِ: صَاحِبُ الْوَجْهِ والْقُمُطِ والطَّاقَاتِ والْجُذُوعِ
يعني: إن ادعى كل من الجارين الجدار - فصاحب اليد منهما من كان إليه وجه الجدار والطاقات؛ أي غير النافذة، ومعاقد القمط، أي الخشب التي بين البنيان، أو كان له عليه جذوع دون صاحبه، فإن لم يكن لأحدهما شيء من ذلك أو كان لهما جميعاً - فهو لهما؛ لأنه بأيديهما، وكذلك راكب الدابة مع المتعلق بلجامها، الراكب أولى، وهذا إنما هو مع عدم البينة، وأما مع قيامها فيجب الاعتماد عليها لا على هذه الوجوه.
ابن القاسم: وإن كان عقد الجدار إليهما فهو بينهما؛ أي بعد أيمانهما، وكذلك إن كان منقطعاً عنهما، أو كانت لكل منهما كوى، وإن كان لأحدهما عشر خشاب وللآخر سبع - فهو على حاله، وليس لأحدهما أن يزيد.
سحنون: وإن كان لأحدهما خشبة وللآخر عشر - فهو بينهما نصفين، وقال غيره: هو لصاحب العشرة إلا موضع الواحدة. وقالوا: إن كان لأحدهما خمس، وللآخر أربع - فهو بينهما نصفين.
أشهب: وإن كان عقده لأحدهما - وللآخر عليه جذوع - قضي به لذي العقد، ولصاحب الجذوع بموضعها.
سحنون: ولو كان عقده لأحدهما من ثلاثة مواضع، ومن ناحية الآخر من موضع - قسم بينهم على عدد العقود. قال صاحب المعين: وإن كان لأحدهما عليه ربط فهو له، ولا يلتفت مع ذلك إلى وجه الحائط ولا لخشب الآخر.
وتَجْلِسُ الْبَاعَةُ فِي الأَفْنِيَةِ لِلْبَيْعِ الْخَفِيفِ، وقَضَى بِهَا عُمَرُ رضي الله عنه لأَرْبَابِ الدُّورِ، يُرِيدُ بِالانْتِفَاعِ إِلا أَنْ تُحَازَ ....
أصبغ: إنما يباح الانتفاع بالأفنية ما لم يضيقوا الطريق، أو تمنع المارة أو يضر بالمسلمين.
والضمير في (بها) عائد على الأفنية، وفسر ابن حبيب ما روي عن عمر رضي الله عنه بنحو ما ذكره المصنف، وقاله من أبضى من أهل العلم، ويبين لك ما أشار إليه المصنف - من حمل كلام عمر على الأمر الخفيف - ما روي أيضاً عن عمر أنه مر بكير حداد في السوق فأمر بهدمه، وقال يضيقون على الناس. فدل على أنه إنما أباح الانتفاع اليسير.
فَلَوْ حَازَ هُدِمَ مَا يَضُرُّ، وفِيمَا لا يَضُرُّ: قَوْلانِ
لا خلاف في هدم ما يضر بالناس، والمشهور هدم ما لا يضر أيضاً.
ابن راشد: وقال أصبغ: لا يهدم، ولكن يكون جرحة في حقه إن كان اقتطاعه ذلك بمعرفة.
وفي المجموعة: قال ربيعة: من بنى مسجداً في طائفة من داره فلا يزيد فيه من الطريق.
وقال مالك: إن كان لا يضر بالناس فلا بأس. انظر إن كان هو على المشهور أو الشاذ.
والرَّوْشَنُ وشِبْهُهُ، والسَّابَاطُ لِمَنْ لَهُ الْجَانِبَانِ جَائِزٌ بِغَيْرِ إِذْنٍ
الروشن هو الجناح يخرجه الرجل على حائطه، والساباط أن يكون له حائطان مكتنفان بالطريق فيمد خشباً عليهما لينتفع بذلك.
ابن شعبان: يشترط في عدم منعه أن يرفع ذلك عن رءوس الركبان رفعاً بيناً.
فروع:
الأول: قال في المدونة: ومن رفع بنياناً رفعاً بيناً فجاوز به بنيان جاره ليشرف عليه لم يمنع من رفع بنيانه، ومنع من الضرر، ومن رفع بنياناً فسد على جاره كواه وأظلم عليه أبواب غرفه وكواها، ومنعه الشمس أن تقع في حجرته لم يمنع.
ابن كنانة: إلا أن يرفع البنيان ليضر بالجار دون منفعة له فيمنع. وروى ابن دينار عن ابن نافع أنه يمنع من ضرر منع الريح والضوء والشمس.
الثاني: اختلف في الأندر إذا أراد من له دار ملاصقة له أن يبني فيها ما يمنع الأندر من الريح أو نحوه، فقال ابن القاسم وابن نافع: يمنع. ابن نافع: وإن احتاج إلى البنيان. وقال مطرف وابن الماجشون: لا يمنع.
الثالث: اختلف فيمن اتخذ كوى وأبواباً يشرف منها على دار جاره، فقال مالك وابن القاسم: يمنع. ورواه ابن وهب وزاد: ولا يكلف أن يعلي بنيانه حتى لا يراه. وفي المبسوط عن ابن مسلمة: لا يمنع. ورواه ابن المعذل عن ابن الماجشون. قال: ويقال له: استر على نفسك إن شئت. والأول هو المعروف، ولهذا قال فيمن بنى مسجداً وجعل له سطحاً يطلع منها على دار رجل: يجبر بانيه على أن يستر على سطح المسجد، ويمنع الناس من الصلاة فيه حتى يتم الستر. واختلف فيمن بنى غرفة وفتح فيها أبواباً أو كوى يطلع منها على قاعة غيره - وأراد صاحب القاعة منعه، وقال: هذا يضر بي إذا بنيت قاعتي داراً - على ثلاثة أقوال: قال مطرف: يمنعه قبل بناء القاعة أو بعده. وقال ابن الماجشون: [556/ب] لا يمنع مطلقاً. وقال ابن القاسم: يمنعه بعد أن يبني القاعة، ولا يمنعه قبله.
الرابع: من فتح باباً على دار غيره فلما قام عليه أراد أن يسده من خلفه، فقال سحنون: ليس له ذلك، وليسد الباب مخافة أن يشهد قوم أنهم يعرفون هذا الباب منذ سنين كثيرة. وقال ابن الماجشون: ما يلزمه سده، وله أن يجعل أمامه ما يستره.
الخامس: من باع داراً وقد أحدث جاره بها مطلعاً أو مجرى ماء أو غير ذلك من الضرر، فقال مطرف وابن الماجشون: إن كان البائع لم يقم في ذلك حتى باعها فلا قيام للمشتري، ولو كان قد قام يخاصم فلم يتم له الحكم حتى باع - فللمشتري أن يقوم ويحل محله.
وفي أحكام ابن بطال: معناه أن الحكم قضي به وأعذر، وتعين التسجيل والإشهاد، ولو بقي شيء من المدافع والحجج - لم يجز؛ لأنه بيع ما فيه الخصومة، وهو أصل مختلف فيه.
السادس: قال مطرف: وإن كان لرجل شجر إلى جنب جدار آخر فيضر به، فإن كانت أقدم من الجدار - وكانت على حال ما هي عليه اليوم من انبساطها - لم تقطع، وإن حدثت لها أغصان بعد أن بني الجدار وأضر ذلك بالجدار - فليقطع منها ما أضر بالجدار مما حدث، وقال ابن الماجشون: يترك ما حدث وانتشر من الأغصان، وإن أضر ذلك بالجدار؛ لأنه قد علم أن هذا شأن الشجر، فقد حاز الثاني من حريمها قبل بناء الجدار، وقال أصبغ بقول مطرف وابن حبيب وعيسى بن دينار.
صاحب البيان: وهو أظهر. ابن يونس: وقالوا أجمعون: إن كانت الشجرة محدثة بعد الجدار فإنه يقطع منها ما آذى الجدار من قليل وكثير. انتهى.
ولا يقطع منها شيء إن ادعى الجار أنه يتطرق عليه منها، ولا حجة له أيضاً فيمن يطلع ليجنيها، وإن كان إذا طلع أشرف على دار جاره.
مطرف وابن الماجشون وغيرهما: وليؤذن جاره. وأما لو رفعت الصومعة حتى صارت تكشف على من حولها ففي سماع أشهب: لم أر أن يمنعوا من رفعها.
ابن رشد: ولا يدخل في طاعة بمعصية.
السابع: سأل حبيب سحنوناً عن خربة لرجل فيها زبل لا يدرى من يلقيه فيها، فقام جار الخربة على ربها؛ لأن ذلك يضر به، وقال صاحبها: ليس ذلك من جنايتي وأنا لا أسكن ذلك، وثبت أن ذلك يضر بحائط جاره، وقال: أرى على صاحب الخربة نزع الزبل الذي أضر بجاره.
سحنون في موضع آخر من كتاب ابنه في الزبل يجتمع في خربة لقوم أو في فناء يضر بالناس: أن على جيران الموضع كنسه. يريد الأقرب فالأقرب على الاجتهاد.
أبو محمد: لأن الغالب أنهم يلقونه فيها. قال يحيى بن عمر في تراب لقوم في موضع فنقله السيل من موضعه إلى زقاق لقوم فسد عليهم مخرج بابهم، قال: يقال لصاحب التراب: خذ ترابك. وإن أبى قيل للذين سد عليهم: اطرحوه إن شئتم. ولا يجبر صاحب التراب على نقله إن أبى.
والطَّرِيقُ الْمُنْسَدَّةُ الأَسْفَلِ كَالْمِلْكِ لأًصْحَابِ دُورِهَا فَبِالإِذْنِ
يعني: أن ما قدمه في مسألة الروشن والساباط إنما هو في السكة النافذة، وأما غير النافذة، وهو مراده بقوله:(الْمُنْسَدَّةُ الأَسْفَلِ) فلا يجوز لأحد سكانها أن يحدث فيها روشناً أو غيره إلا بإذن الجميع.
ابن عبد السلام: وقال: كالملك لأرباب دورها، ولم يقل: ملكاً، إشارة إلى أنها ليست مملوكة لهم ملكاً تاماً؛ إذ لو كانت مملوحة لهم ملكاً تاماً لكان لهم أن يحجروه على الناس بغلق، وظاهر كلام بعضهم أنه ليس لهم ذلك، وبه حكم بعض قضاة بلدنا وهد على من فعله.
فرع: هل يحدث باباً في السكة إن كانت غير نافذة أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: أن ذلك لا يجوز إلا بإذن جميع أهل الزقاق، وإليه ذهب ابن زرب قياساً على مسألة المدونة في الدارين تكون إحداهما في جوف الأخرى، وبه جرى العمل بقرطبة.
الثاني: أن له ذلك فيما لم يقابل باب جاره، ولا قطع عنه مرتفقاً، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقول ابن وهب في العتبية.
الثالث: أن له تحويل بابه على هذه الصفة إذا سد الباب الأول، وليس له أن يفتح باباً لم يكن قبل بحال، وهو دليل قول أشهب في العتبية.
ابن رشد: ويتحصل في فتح الرجل باباً أو حانوتاً في مقابلة جاره في السكة النافذة ثلاثة أقوال:
الأول: له ذلك جملة، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقاله أشهب في العتبية.
والثاني: ليس له ذلك جملة إلا أن ينكب، وهو قول سحنون.
والثالث: له ذلك إذا كانت السكة واسعة، وهو قول ابن وهب في العتبية، والسكة الواسعة سبعة أذرع فأكثر؛ لما في المجموعة أنه صلى الله عليه وسلم قال:«إذا اختلف الناس في طرقهم فحدها سبعة أذرع» .
* * *