المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الضَّمَانُ: شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ   هذا التعريف لصاحب التلقين، وتصوره ظاهر، - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٦

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌الضَّمَانُ: شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ   هذا التعريف لصاحب التلقين، وتصوره ظاهر،

‌الضَّمَانُ:

شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ

هذا التعريف لصاحب التلقين، وتصوره ظاهر، وأورد عليه أنه غير جامع لخروج ضمان الوجه وضمان الطلب، وأجيب بأن ضمان الوجه تشغل فيه ذمة أخرى على المشهور، وأما عل الشاذ فهو كضمان الطلب، وإطلاق الضمان عليهما بالمجاز، والعلاقة المشابهة.

فإن قيل: لا نسلم أنَّ إطلاق الضمان عليهما بالمجاز بل بالحقيقة، قيل: فيلزم حينئذٍ الاشتراك؛ لأن الضمان حقيقة في ضمان المال، ودعوى المجاز خير من دعوى الاشتراك ولو سلم فتكونان حقيقتين مختلفتين، والحقيقتان لا يجمعان في حد واحد، ولما كان غير ضمان المال هو المقصود من هذه الباب حده المصنف.

وأورد أيضاً على جمعه أن الضمان كما يكون شغلاً للذمة، فقد يكون شغلاً للذمتين فأكثر، وأجيب بأن المراد بـ (ذِمَّةٍ أُخْرَى) الجنس.

وأورد أيضاً على منعه أن من باع رجلاً بدين ثم باع آخر بدين يصدق عليه الحد وليس بضمان، وأجيب بأن الظاهر أن (أل) في (الْحَقِّ) للعهد، والمعهود الحق الذي في الذمة الأولى.

وأورد عليه أيضاً أن لفظ (الْحَقِّ) شامل للحق البدني والمالي، وأجيب بأن الحقوق البدنية خارجة بقول:(شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى) لأن الذمم لا تشغل بالحقوق البدنية.

وأورد على منعه أنه لو اشترى سلعة وأشرك غيره فيها لشغل ذمة أخرى، وكذلك لو ولاه، وأجيب بأن الشاغل هنا مختلف، فإن البائع شغل ذمة المشتري والمشتري شغل ذمة المولي والمشرك، ورد بأن ليس في التعريف ذكر اتحاد الشاغل حتى يخرجهما.

وأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ

وفي بعض النسخ (خمسة).

ص: 292

ابن عبد السلام: إن عددت الصِّيغة، وإلا فهي أربعة، والأقرب أن الصيغة دليل على الماهية التي الأركان أجزاؤها، والدليل غير المدلول. انتهى.

وفي الجواهر أركانها خمسة، وذلك يرجح أن المصنف قصد أن الصيغة ركن؛ لأن الغالب أنه يتبعه، ورجح ذلك أيضاً القياس على البيع ونحوه.

الْمَضْمُونُ عَنْهُ لا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ إذ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ

أي الركن الأول (الْمَضْمُونُ عَنْهُ) وهو الذي عليه الدَّين، والفقهاء يخصصونه باسم الغريم - لا يشترط رضاه، بل يجوز لغيره أن يضمن عنه الدين بغير رضاه.

واستدل المصنف على ذلك بقوله: (إذ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ) يعني وإذا جاز أن يؤدَّى عنه فالتزامه في الذمة أولى، ولإقرار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمان من ضمن الميت على ما رواه البخاري وغيره، والرضا منه متعذر، وفيه بحث.

أَمَّا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مُضَارّاً لِعَدَاوَةٍ وشِبْهِهَا فَلا يُمَكَّنُ مِنْهُ

أتى بأما المقتضية للتفصيل؛ يعني أما ما تقدم من جواز الأداء من غير الرضا إنما هو مع عدم العداوة، وأما لو قصد بذلك ضرر المديان لعداوة بينهما لم يكن من طلبه ورد قضاؤه.

وَفُهِمَ من قَوْلِهِ: (فَلا يُمَكَّنُ) أنه يمكن في الوجه الأول من المطالبة، ويحتمل قول المصنف (فَلا يُمَكَّنُ مِنْهُ) أنه لا يمكَّن العدو من دفع الدين ابتداء، والأول أولى؛ لأن عدم التمكين من المطالبة مستلزم للمنع ابتداءً بخلاف العكس.

قال في المدونة: ومن أدَّى عن رجل ديناً بغير أمره أو دفع عنه مهر زوجته جاز ذلك إن فعله رفقاً بالمطلوب، وأما إن أراد الضرر بطلبه وإعناته وأراد سجنه لعدمه لعداوة بينه وبينه منع من ذلك، وكذلك إن اشتريت ديناً عليه تعنيتاً لم يجز البيع ورد إن علم بهذا،

ص: 293

وظاهرها عند ابن يونس وغيره أن قصْدَ المشتري وحده الإضرار كافٍ في فسخ المعاوضة، وكذلك قال بعض المتأخرين، وقيل: لا بد أن يكون البائع عالماً بقصد المشتري الضرر، وإلا لم يفسخ، ويباع الدين على المشتري فيرتفع الضرر.

ابن يونس: وهو أظهر. اللخمي: ويرد القضاء إذا صدر من عدو إلا أن يعنت الطالب بالمال فيقيم القاضي وكيلاً ليقبض ذلك من الغريم.

وقوله: (وشِبْهِهَا) أي شبه العداوة كمن عادته الضرر بالناس والتسلط عليهم.

وَلَوْ تَنَازَعَا فِي أَنَّهُ دَفَعَهُ مَحْتَسِبَاً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ إِلا بِقَرِينَةٍ

يعني: إذا ادعى رجل على آخر ديناً ثم قام الدافع يطلب المال وقال المدفوع عنه: إنما دفعت عني على وجه المعروف احتساباً، فالقول قول الدافع؛ لأن الأصل عدم خروج ملكه إلا على الوجه الذي قصده، إلا أن تقوم قرينة تدل على كذب الدافع، كما إذا دفع عن الميت المفلس ثم ظهر له مال لم يعلم به فطلب الرجوع.

ابن عبد السلام: إلا أن تقوم قرينة، فينبغي أن يحلف الدافع حينئذٍ ويأخذ ما دفع.

وَلا يَجُوزُ ضَمَانٌ بِجُعْلٍ

أي: لا يجوز للضامن أن يأخذ جعلاً، سواء كان من رب الدين أو المديان أو غيرهما.

المازري: وللمنع علتان أولاهما: أن ذلك من بياعات الغرر؛ لأن من اشترى سلعة وقال لرجل: تحمل عني بثمنها وهو مائة على أن أعطيك عشرة دنانير، أو باع سلعة وقال الآخر: تحمل عني الدرك في ثمنها إن وقع الاستحقاق وأنا أعطيك عشرة لم يدر الحميل هل يفلس من تحمل عنه، أو يغيب فيخسر مائة دينار، ولم يأخذ إلا عشرة أو يسلم من الغرامة فيغرم العشرة؟

ص: 294

ثانيهما: أنه دائر بين أمرين ممنوعين؛ لأنه إن أدى الغريم كان له الجعل باطلاً، وإن أدى الحميل ورجع به على المضمون صار كأنه سلف ما أدَّى وربح ذلك الجعل، فكان سلفاً بزيادة ملك ويرد الجعل.

ابن القاسم في الموازية والواضحة: وإن علم بذلك الطالب سقطت الحمالة، وإلا ردَّ الجعل والحمالة تامة، وقاله مطرف وابن الماجشون وابن وهب وأصبغ.

وهذا [544/أ] إذا كان الفساد في الحمالة، أما إن كان الفساد في المتحمل به فكما لو أعطاه ديناراً في دينارين إلى شهر وتحمل له رجل بالدنانير فثلاثة أقوال:

الأول: لابن القاسم في المدونة والعتبية، ورواه عن مالك وهو قول ابن عبد الحكم أن الحمالة ساقطة، ومثله في الموازية؛ لأن فيها: وكل حمالة وقعت على حرام بين المتبايعين في أول أمرهما أو بعد فهي ساقطة، ولا يلزم الحميل بها شيء علم المتبايعان أن ذلك حرام أو جهلاه، علم الحامل بذلك أو جهله.

محمد: وسواء كان الفساد من عقد البيع أو سببه، وهو قول أشهب أن الحمالة بالحرام أو بالأمر الفاسد باطلة ووجه هذا القول أن الذي تحمل به هذا الحميل وهو الثمن لما سقط عن المتحمل عنه لفساد البيع سقط عن الحميل.

القول الثاني: أن الحمالة لازمة على كل حال، علم الحميل بفساد البيع أو لا، وهو قول ابن القاسم في العتبية، وقول غيره في المدونة وقول سحنون في نوازله، ووجهه أن الكفيل هو الذي أدخل المتحمل له في دفع ماله للثقة به، فعليه الأقل من قيمة السلعة أو الثمن الذي تحمل به.

الثالث: التفصيل بين علم الحميل بالفساد فعليه أو لا فلا شيء عليه، وهو لابن القاسم في العتبية، قال في الذي يعطي ديناراً في دينارين ويتحمل له رجل بالدينارين: إن

ص: 295

كان علم علتهما فعليه الدينار الذي أعطاه، وإن لم يعلم فلا شيء عليه؛ لأنه يقول: لو علمت لم أتحمل ولم أدخل في الحرام، وهذا الخلاف إنما هو إذا كانت الحمالة في أصل البيع الفاسد، وأما إن كانت بعد عقده فهي ساقطة بالاتفاق.

تنبيه:

لا خلاف في ما ذكره المصنف من منع الضمان بالجعل إذا كان الجعل للحميل، قاله اللخمي. واخْتُلف إذا كان رب الدَّيْن أعطى المديان شيئاً على إعطائه حميلاً، فأجازه مالك وابن القاسم وأشهب وغيرهما، وعن أشهب في العتبية لا يصح، وعنه أيضاً أنه كرهه.

اللخمي وغيره: والجواز أبين، وهذا إن حل الدين.

اللخمي: ولو قال الحميل: أنا أتحمل لك على أن تعطي لفلان - لغير الغريم - ديناراً، لم يجز.

وقال أشهب في الموازية في من له على رجل عشرة دنانير إلى أجل فقال له قبل الأجل: هل لك أن أحط عنك دينارين وتعطيني بالثمانية رهناً أو حميلاً -: لا بأس به. وقال ابن القاسم: لا يجوز.

اللخمي: وإنما منعه ابن القاسم؛ لأن الطالب إنما أخذ الحميل الآن خوفاً أن يعسر الغريم عند الأجل فيصبر إلى أن يوسر فإذا أعطاه حميلاً إلى أجل كأن قد تعجل دينه قبل الوقت الذي يصير إليه إذا لم يعطه حميلاً، فيصير بمنزلة من وضع بعض دينه لتعجيله قبل الأجل.

وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَضْمَنَ أَحَدُهُمَا لِيَضْمَنَهُ الآخَرُ.

أي: ولأجل امتناع الضمان بجعل امتنع ضمان شخص ليضمنه الآخر؛ لأن كل واحد ضمن صاحبه بجعل، وهو ضمان صاحبه له.

ص: 296

أَمَّا لَوِ اشْتَرَيَا سِلْعَةً بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ جَازَ لِلْعَمَلِ

يعني: أن ما قدمه من منع ضمان أحدهما ليضمنه الآخر محمول على ما إذا لم يشتريا سلعة بينهما على التسوية، فإن هذه الصورة جائزة، وإن كان يدخلها الضمان بجعل، لكن جوزت لعمل الماضين.

ومفهوم قوله: (اشْتَرَيَا) أنه لو باع رجلان سلعة على أن كل واحد منهما حميل بالآخر لم يجز، وهو قول ابن لبابة، لكن قال ابن رشد: الصحيح خلافه، فقد أجاز في السلم الثاني من المدونة أن يسلم إلى رجلين على أن كل واحد منهما حميل بالآخر، ومنع في البيوع الفاسدة أن يبيع الرجلان سلعتيهما من رجل على أن كل واحد منهما حميل بالآخر وجعلها بعضهم اختلاف قول.

ابن رشد: والصواب خلافه، والفرق بينهما أن مسألة البيوع الفاسدة لم تكن كل سلعة شركة بين المتبايعين، ولذلك منع لأنه قد تستحق سلعة أحدهما ولا تستحق سلعة الآخر.

والفرق على قول ابن لبابة بين البيع والشراء أن المشتريين لو دفع البائع السلعة إلى أحدهما فيما عليه وعلى صاحبه جاز، ولون دفع المشتري إلى أحد المتبايعين اللذين كل واحد منهما حميل بصاحبه جميع الثمن، لم يجز.

ومفهوم قوله أنهما لو اقترضا على أن يكون كل واحد منهما ضامناً للآخر لم يجز، وهو قول ابن الفخَّار، وأجاز ذلك ابن أبي زمنين وابن العطار.

ابن عبد السلام: وهو الأصح عندي.

وقوله: (سِلْعَةً) أي فأكثر، نص عليه ابن يونس في السلم الثاني.

وقوله: (عَلَى السَّوَاءِ) احترازاً مما لو كان لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان، وتحمل كل واحد منهما بما على الآخر أيضاً مما اشتريا، فإنه يمتنع إلا أن يتحمل صاحب الثلث بمثل ما تحمل به الآخر فإنه جائز، نص عليه عبد الحق.

ص: 297

وهذا يرد على المصنف؛ لأن مفهوم كلامه المنع في هذه الصورة، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: (عَلَى السَّوَاءِ) راجع على الحمالة.

ويجُوزُ الضَّمَانُ عَنِ الْمَيِّتِ

لأنه معروف منه، ولا خلاف فيه عندنا.

الْمَضْمُونُ لَهُ

هذا هو الركن الثاني والمضمون له هو رب الدَّيْن.

وفي بعض النسخ: (المضمون) فيعود على الدَّيْن، وكل منهما لا تشترط معرفته كما نبه عليه المصنف بقوله.

ولا تُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ فَلَوْ تَحَمَّلَ دَيْنَ الميِّتِ وطَرَأَ غَرِيمٌ لَزِمَهُ

وهو ظاهر التصور.

الضَّامِنُ: شَرْطُهُ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ ضَمَانُ الزَّوْجَةِ فِي الثُّلُثِ

هذا هو الركن الثالث، واشترط فيه أن يكون أهلاً للتبرع؛ لأن الضمان قد يلزم منه تسليف الغريم ما في ذمته، والسلف عقد معروف.

خليل: على أنَّ الضمان عند أهل المذهب يكفي في الالتزام ممن حصلت له أهلية، ولا يشترطون فيه الحيازة من جانب آخر كما تشترط في غيره من أبواب المعروف، وهكذا [544/ب] في المدونة.

ابن يونس: لأنها هبة للذي له الدَّيْن، فلم يفتقر إلى القبض كحميل الصداق عن الزوج للزوْجة لا يبطل بموت الحميل، وحكى المازري في ذلك قولين في المذهب:

أحدهما: أن عدم الحوز فيها كعدم الحوز في الهبة.

ص: 298

والثاني: أنه يخالفها لحق المتحمل له، وخرج بأهلية التبرع الصبي وفاقد العقل والعبد والمريض فيما زاد على الثلث، ومذهب المدونة جواز كفالته بالثلث، وقال محمد: حمالة المريض جائزة ما لم يدخل على أهل دينه نقص بها ولا يكون المتحمل عنه مليئاً، فإن كان مليئاً جازت بكل حال، وقال عبد الملك: إن كان الغريم مليئاً لزمته الكفالة بالثلث، وإن كان عديماً بطلت ولم تكن في الثلث؛ إذ لم يرد بها الوصية، وكذلك المرأة ذات الزوج فيما زاد على ثلثها إلا أن يجيزه الزوج، وأما في الثلث فيصح أنها أهل للتبرع فيه.

وإلى هذا أشار بقوله: (فَيَصِحُّ ضَمَانُ الزَّوْجَةِ فِي الثُّلُثِ)، يريد وما زاد عليه يسيراً كالدينار ولا خلاف في منعها فيما زاد على الثلث إذا كان الغريم معسراً، وأما إذا كان موسراً فقال اللخمي: منعه ابن القاسم، وأجازه ابن الماجشون، وهو أشبه؛ لأن الغالب السلامة، ونبه المصنف على ذات الزوج؛ لأنه قد يتوهم الجواز فيها مطلقاً لكونها لا تؤدي شيئاً في الحال.

تنبيه:

لا إشكال في أن منع الزوجة من الحمالة فيما زاد على ثلثها إنما هو لحق الزوج، فلذلك إذا ضمنته هو جاز وإن استغرق مالها، فإن ادعت أنه أكرهها على أن تحملت له أو عنه لم يقبل منها إلا ببينة عند ابن القاسم، ووافقه أشهب في الحوالة لها به، وألحق بالبينة إذا كان المتحمل له عالماً بأن زوجها أكرهها، قال: فإن أنكر المتحمل له العلم فعليه اليمين إن ظن به ذلك كالجار القريب والنسب، وقال فيما إذا ادعت أنه أكرهها على أن تحملت له: إن عرف بالإساءة لها وقهرها فالقول قولها، ورأى أن هذه قرينة حال تشهد بصدقها.

محمد بن عبد الحكم: وإن تكفلت ذات زوج برجل آخر على ألا مال عليها فلزوجها رد ذلك؛ لأنه يقول: تحبس وأُمنع منها، وتخرج للخصومة وليس ذلك عليَّ.

ص: 299

وَإِذَا رَدَّ السَّيِّدُ ضَمَانَ الْعَبْدِ أَوِ الْمُدَبَّرِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ لَمْ يُتْبَعْ بِهِ إِذَا عَتقَ

دلَّ كلامه على أنهم ليس لهم أن يضمنوا ابتداء من غير إذن السيد لحقه، ودل أيضاً على أن ضمانهم موقوف، وأن للسيد إجازته ورده.

وقوله: (رَدَّ) محمول على مجرد عدم الإجارة، وأما لو أسقط ذلك عنهم لما لزمهم شيء بعد كسائر عطاياهم، نص عليه في المدونة، ومذهبها جواز ضمان المكاتب بإذن السيد، وقال غيره فيها: لا يجوز، والمشهور: ليس له أن يضمن بغير إذنه خلافاً لابن الماجشون.

وليس للسيد أن يجبر عبده على الضمان على المشهور، وجعل في المدونة في باب الكفالة رد السيد رد إبطال، وفي الاعتكاف ما يدل على أنه رد إيقاف؛ لأنه فيه إن نذر عبدٌ عكوفاً فمنعه سيده لزمه ذلك إن عتق، وكذلك المشي والصدقة إذا نذر ذلك فلسيده منعه، فإن عتق يوماً لزمه ما نذر من مشي أو صدقة إن بقي ماله ذلك بيده، فرأى بعض الأندلسيين أنه اختلاف قول، وقال بعض القرويين: معنى قوله: (إن بقي ماله ذلك بيده) أي المال الذي نذر فيه لا الشيء المتصدق به بعينه، وقال ما في الاعتكاف منع ولم يرد، والذي في النذور رد، ولا خلاف أن رد الغرماء رد إيقاف ولا يستلزم الإذن في التجارة الإذن في الحمالة على مذهب المدونة خلافاً لابن الماجشون، وعلل القاضي إسماعيل قوله بأن في تحمله استئلافاً لمن يعامله ويتحمل عنه.

وَلِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ، وَفِيهَا: لا يُطَالِبُ الكَفِيلَ والأَصْلُ حَاضِرٌ مَلِيءٌ لَكِنْ إِذَا غَابَ أَوْ فلِسَ، ورَآهُ كَالرَّهْنِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مِلْطَاطاً ....

الجوهري: يقال لطَّ الرجل إذا اشتد في الأمر والخصومة، وقال قبله: لطَّطَه؛ أي حجره، وهذان القولان لمالك في المدونة وغيرها كان أولاً يقول: له أن يأخذ من شاء منهما، ثم رجع إلى أنه لا يطالب الضامن والأصل حاضر مليء، وبه أخذ ابن القاسم.

ابن رشد: وهي الرواية المشهورة.

ص: 300

ولعل المصنف نسبها للمدونة دون غيرها ليبين أنها المشهورة.

وقوله: (لَكِنْ إِذَا غَابَ أَوْ فلِسَ) راجع إلى قوله: (حَاضِرٌ مَلِيءٌ) الأول للأول والثاني للثاني، وألحق في المدونة بالمفلس المديان إذا خشي رب الدين إذا قام عليه المحاصة.

وقوله: (ورَآهُ كَالرَّهْنِ) توجيه للمرجوع إليه، وهو لصاحب النكت؛ أي أن الحميل لما كان يدخل للتوثقة شابه الرهن، فكما أنه لا سبيل للرهن إلا عند عدم المطلوب، فكذلك لا سبيل إلى الكفيل إلا عند عدم المطلوب.

والضمير في (رَآهُ) عائد على مالكه، والهاء عائدة على الحميل.

قال جماعة: ومنشأ الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم: «الزعيم غارم» هل يقتضي العموم لأنه لم يفصل، أو هو مجمل؟

وفي قوله: «غارم» إشارة إلى أنه إنما يغرم ما قد صار في حيز التلف، بأن يكون الغريم فقيراً أو ممتنعاً.

وفي قول المصنف: (لَكِنْ إِذَا غَابَ) إطلاق يقيد بما إذا لم يكن للغائب مال حاضر، ففي المدونة: وأما إن كان للغائب مالٌ حاضر يُعْدى فيه فلا يتبع الكفيل، قال غيره: إلا أن يكون في تثبيت ذلك، وفي النظر فيه بعد فيؤخذ من الحميل.

ابن رشد في الأسئلة: وهو تفسير لا خلاف، كذا حمله من أدركنا من الشيوخ، وبه جرى العمل.

وقوله: (مِلْطَاطاً) وقد تقدم قول الجوهري: ألطَّ [545/أ] الرجل إذا انتشب في الأمر والخصومة، وقال قبل ذلك: لططت حقه إذا جحدته، والأول أقرب إلى مراد المصنف.

ابن راشد: وهذا لا ينبغي عدَّه خلافاً، بل هو جارٍ على المشهور، وكذلك ذكره غيره قال: وإذا فرعَّنا على الرواية المشهورة: وطلب الغريم فوجده عديماً أو غائباً موسراً أو فقيراً أو حاضراً مدياناً فخاف الطالب إن قام عليه الحصاص أو يكون حاضراً مُلِدَّاً فله طلب الحميل.

ص: 301

فروع مرتبة على المشهور:

أولها: لو قام الطالب على الحميل فقال الحميل: الغريم مليء، وقال الطالب: بل هو عديم، ففي المقدمات: اختلف هل القول للطالب ويغرم الحميل إلا أن يقيم الحميل بينة بملاء الغريم وهو قول سحنون في نوازله، أو القول للحميل إلا أن يقيم الطالب بينة بعدم الغريم، وهو ظاهر ما في سماع سحنون في كتاب النكاح أن الغريم محمول على اليسر، وذكر ابن زرقون القولين عن ابن القاسم، والأظهر هو الثاني.

الثاني: لو اشترط الطالب أن يبدأ بأيهما أحب فاختلف قول مالك وابن القاسم هل يوفى بالشرط أم لا؟ ففي المقدمات والبيان: المشهور عن ابن القاسم في المدونة وغيرها أن الشرط عامل، وبعدمه أخذ أشهب وابن كنانة وابن الماجشون.

الثالث: لو اشترط البداية بالحميل.

المازري: فإن كان في ذلك الشرط منفعة لمشترطه لكونه أملأ أو أسمح قضاء أو أيسر وجب الوفاء بشرطه، وإن لم تظهر المنفعة جرى على الخلاف في الوفاء بما لا يفيد، وفيه قولان.

وعمم صاحب البيان الخلاف سواء ظهر للشرط فائدة أو لا، إلا أنه زاد ثالثاً بإعمال الشرط في المسيء المطالبة وفي ذي سلطان، نسبه لابن القاسم، ورابعها: بإعمال الشرط مطلقاً، إن كان في أصل البيع وإن كان بعد البيع نفعه في سيء القضاء وفي ذي السلطان، قال: وهو أيضاً لابن القاسم.

الرابع: لو شرط الحميل ألا يرجع عليه إلا بعد تعذر الوفاء من الغريم لم يختلف في إعمال الشرط، وألحق المازري بذلك إذا كانت العادة عدم مطالبة الضامن إلا بعد تعذر الوفاء من الغريم.

ص: 302

وَمَهْمَا أَبْرَأَ الأَصْلَ بَرِئَ الْفَرْعُ بِخِلافِ الْعَكْسِ

أي: ومهما أبرأ الطالب (الأَصْلَ) أي الغريم (بَرِئَ) أي الضامن؛ لأن طلب الحميل فرع بثبوت الدين عن الغريم، فإذا ارتفع الأصل ارتفع الفرع، وهكذا قال الباجي وابن شاس وغيرهما، فإن قيل: هو خلاف ما وقع لمالك في الموازية والعتبية؛ لأن في الموازية من رواية أشهب في من باع سلعة وأخذ حميلاً وكتب عليهما أيهما شاء أخذه بحقه، فمات الغريم فبيعت جميع تركته فاستوفى ثلثي حقه، ثم سأله الورثة أن يحلل الميت مما بقي ففعل، فقال الحميل: لا شيء لك عليَّ لأنك حللت الغريم، قال مالك: يحلف ما وضع إلا للميت وهو على حقه، وفي العتبية في من له حقان حق بالحمالة وحق بغيرها، وكتب في الحمالة أيهما شاء أخذه بحقه، ثم مات الغريم واستوفى الطالب ثلثي حقه، وسأله الورثة أن يحلله ففعل ثم طلب الحميل، فقال الحميل: ليس لك قِبَلي شيء، فقال مالك: أرى أن يكون الذي أوصل إليه من مال الميت بين المستحقين بالحصص، ويحلف بالله ما وضعت إلا للميت، ثم تكون على الحميل حصته من ذلك الدين.

قيل: قد أنكر جماعة من الشيوخ هاتين المسألتين، أما الأولى فقال ابن المواز: فيها شيء، وقال في موضع آخر: فيه نظر، وكذلك أيضاً استشكلها ابن يونس وقال: إنما يتوجه الغرم على الحميل إذا كان الحق ثابتاً على الغريم فإذا سقط عنه أو بعضه سقط عن الحَمِيلِ، كما لو أدَّى الغريم الحق أو بعضه.

ابن راشد: وما قاله ابن يونس هو الصواب، وكذلك استشكل في البيان مسألة العتبية نحو ما ذكر ابن يونس، قال: ورأيت لابن دَحُّون في هذه المسألة أنه قال: إنما لزمه اليمين من أجل الدين الذي كان له بغير حمالة فيحلف أنه ما حلله إلا من دينه الذي كان له بغير حمالة، ولو كان الدين كله بحمالة لم يكن له تبع على الحميل، قال: وهو تأويل تصح به المسألة، فينبغي أن تحمل عليه، وإن كان بعيداً عن لفظها.

ص: 303

ابن عبد السلام: ومسألة الموازية لا تقبل هذا التأويل.

وأجاب المازري عن الإشكال الوارد عن المسألتين بأن الناس يعتقدون أن من له الدين يطالب من هو عليه في الآخرة، قال: ويؤيد اعتقادهم هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» فأشار إلى أحكام الآخرة، وإن مات وعليه دين كان الأمر فيه هكذا، وامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى يقضى عنه دينه، كما ورد في الحديث.

وإذا تقرر هذا وأمكن أن يريد رب الدين - لما سئل أن يحلل الميت المديان - بتحليله ألا يطالبه في الآخرة، وإسقاط إثم المطل عنه إن كان مطله، فهذا مما يختلص بالغريم دون الحميل فيحلف من له الدين أنه لم يرد إلا إتباعه في الآخرة ويبقى الحميل مطلوباً بما تحمل به، ولا يسقط عنه بالشك ما كان عليه باليقين، فلما رأى المصنف وابن شاس ما في هاتين الروايتين من الإشكال تبعاً في ذلك ما ذكره الباجي وغيره من الشيوخ، على أنه يمكن الجمع بينهما بأن يحمل ما ذكره الباجي وابن شاس والمصنف على الغريم الحي، وما في الروايتين على الغريم الميت، ولا يبقى في المسألة خلاف، وهو الذي يؤخذ من تعليل المازري.

ويحتمل أن يحمل ما ذكره الباجي على ما إذا لم يشترط رب الدين أن يأخذ أيهما شاء، بخلاف مسألة العتبية والموازية، فإنه نص فيهما على الاشتراط، وهذا هو الذي يؤخذ من كلام الباجي؛ لأنه قال: إذا وهب الطالب حقه للغريم برئ الحميل ولو وهب الحق للحميل لم يبرأ الغريم، وعليه أن يؤدي للمتحمل له ثم قال:

فرع:

ومن أخذ حميلاً بثمن سلعة على أن يأخذ أيهما شاء بحقه، فمات الغريم فحلله الطالب، وذكر الروايتين. [545/ب]

قوله: (بِخِلافِ الْعَكْسِ) أي فلا يلزم من براءة الحميل براءة الأصل، وهكذا في المدونة.

ص: 304

فرع:

فإن غاب الغريم وغرم الحميل، ثم قدم الغريم فأثبت أنه كان دفع، ففي الموازية: ينظر فإذا دفع الحميل الحق قبل الغريم وبعد الأجل فيه الرجوع على الغريم؛ لأن دفعه كان بحق، ويرجع الغريم بما دفع على صاحب الحق، وإن كان الغريم قد دفع قبل الحميل فلا تباعة للحميل عليه، ويرجع الحميل على صاحب الحق بما دفعه إليه، وإن جهل أمرهما لم يتبع الحميل إلا من دفع إليه إلا أن تكون له بينة أنه الدافع أولاً، أو بقضاء من سلطان بعد أن يحلف الغريم أنه الدافع قبل، فإن نكل حلف الحميل فأغرم الغريم، فإن نكلا جميعاً لم يكن على الغريم شيء.

وَلا يُطَالِبُ الضَّامِنُ بِمُؤَجَّلٍ بَعْدَ مَوْتِ الْمَضْمُونِ إِلا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ

يعني: إذا مات المضمون قبل حلول أجل الدين، فلا يطالب الضامن بالديْن إلا بعد الأجَلِ.

وهذا معنى قوله: (بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ) لأنَّه لا يلزم من حلول الدَّيْن على الغريم حلوله على الحميل لبقاء الذمة، وحكى ابن رشد الاتفاق عليه.

وفي بعض النسخ (ولو مات الأصل تعجله من ماله)، فإن لم يترك وفاء لم يطلب الكفيل بمؤجل بعد موت المطلوب إلا بعد استحقاقه، وهي ظاهرة.

ابن القاسم في المدونة: وإن مات الغريم مليئاً والطالب وارثه برئ الحميل؛ لأنه إن غرم للطالب شيئاً رجع عليه بمثله في تركه الميت، والتركة في يده فصار كمقاصة، فإن مات الغريم معدماً ضمن الكفيل.

ص: 305

ولِلْمَضْمُونِ لَهُ طَلَبُ تَرِكَةِ الضَّامِنِ ويَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمَضْمُونِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ، وقِيلَ: يُؤقَفُ إِلَى الأَجَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَصْلُ مَلِيئاً أَخَذَهُ الْغَرِيمُ، قَالَ يَحْيَى: هَذِهِ رِوَايَةُ سُوءٍ ....

لم تكلم على موت المضمون قبل الأجل تكلم على موت الضامن قبله؛ يعني: وإن مات الضامن قبل الأجل فلِلْمَضْمُونِ لَهُ - أي رب الدَّيْنِ - تعجيل الحقِّ من ورثة الضامن.

قال في المدونة: ولو كان الغريم حاضراً مليئاً وله أن يحاصص غرماءَهُ ويرجع إذا أخذ ربُّ الدَّيْن الحق من تركة الضامن ورثة الضامن - على المضمون أي الغريم بعد استحقاقه الدين.

وقوله: (وقِيلَ) هذا القول رواه ابن وهب وقاله عبد الملك، وإنما قال يحيى: هذه رواية سوء لأنه حجر المال من غير فائدة حصلت لورثة الحميل ولا لربِّ الدين، وقد يهلك فلا يحسن أن يجعل ضمانه من واحد منهما.

خليل: ويظهر أن الوارث لو رضي بإيقافه، وقال: إن تلف كان ضمانه مني لأخاصم عند الأجل أن يكون القول قوله، وإليه أشار ابن راشد وجعل عبد الوهاب رواية ابن القاسم مبنية أن للطالب أن يطالب أيهما شاء، ورواية ابن وهب على أن لا يطالب الضامن إلا في غيبة الغريم أو عدمه، وأنكر ذلك ابن يونس وغيره، ورأى أن الخلاف هنا مبني على الرواية بعدم مطالبة الضامن إلا من بعد تعذر الأصل؛ لأن ابن القاسم ممن قال: لا يطالب الضامن إلا في غيبة الغريم أو عدمه، فكيف يفرع على غيره، وهذا هو الأقرب، وحكى اللخمي والمازري عن ابن نافع قولاً ثالثً بالفرق، فإن كانت تركة الحميل مأمونة واسعة لم يؤخذ الدين منها معجلاً ولا موقوفاً وإلا وقف الدين لتخليصه عند الطَّلب.

تنبيه: هذا حكم ضامن المال؛ لأن كلام المصنف إنما هو فيه، وأما ضامن الوجه فسيأتي.

ص: 306

وَلِلضَّامِنِ الْمُطَالَبَةُ بِتَخْلِيصِهِ عِنْدَ الطَّلَبِ

قال في الجواهر: إن للكفيل إجبار الأصل على تخليصه إذا طولب وليس له ذلك قبل أن يطالب، وعلى هذا فيكون معنى قول المصنف:(عِنْدَ الطَّلَبِ) أي طلب الكفيل، وهذا إنما يأتي على قول مالك المرجوع عنه، وقال ابن عبد السلام: يعني أن ربَّ الدين إذا توجَّه له الطلب فسكت عنه أو نص على تأخيره فللحميل ألا يرضى بذلك التأخير، ويقول لرب الدين: إما أن تطالب حقك وإلا أسقط عني الحمالة، وهذا مقيد بما إذا كان الغريم موسراً، وأما المعسر فلا كلام له.

وحمل كلام المصنف على هذا أحسن؛ لأنه المتبادر إلى الفهم.

فرع: فإن أخر رب الدين الغريم بعد الأجل ففي البيان: تحصيل المسألة أن المطلوب إذا أخره الطالب فلا يخلو إما أن يكون مليئاً أو معدماً، فإن كان معدماً فلا كلام للحميل باتفاق، وإن كان مليئاً فلا يخلو من ثلاثة أوجه:

الأول: أن يعلم فينكر، والثاني: أن يعلم فيسكت، والثالث: أن يعلم حتى يحل الأجل الذي أنظره إليه، فالأول لا يلزمه تأخير الطلب، ويقال له: إما أن تسقط الكفالة وإلا فاحلف أنك ما أخرته إلا على أن يبقى الكفيل على كفالته، فإن حلف لم يلزمه التأخير، والكفالة ثابتة على كل حال، هذا مذهب ابن القاسم في المدونة، وإن كان سكت فيها عن اليمين، وقال غيره في المدونة: الكفالة ساقطة على كل حال، وقيل: إنها لازمة بكل حال.

خليل: انظر هذا فإن الظاهر أنه كالقول الأول، وأما إن علم بذلك فسكت حتى حل الأجل فالكفالة لازمة قاله في المدونة، ويدخله الخلاف المعلوم في السكوت، هل هو كالإقرار أم لا؟ وأما إن لم يعلم بذلك حتى حل الأجل فيحلف صاحب الحق ما أخره

ص: 307

ليبرأ الحميل من حمالته وتلزمه الحمالة، فإن نكل عن اليمين سقطت الحمالة، وهذا كله في التأخير الكثير، وأما اليسير فلا حجة للكفيل فيه. انتهى.

قال في المدونة: وإذا أخر الطالب الحميل بعد محل الحق فذلك تأخير للغريم، إلا أن يحلف ما كان ذلك تأخيراً للغريم، فيكون له طلبه؛ لأنه لو وضع الحمالة كان له طلب الغريم إن قال: وضعت الحمالة دون الحق، وإن نكل لزمه تأخيره.

تنبيه: وقع في بعض النسخ بإثر هذه المسألة ما نصه:

ولا يلزم تسليم المال للحميل ليؤديه؛ إذ لو هلك لكان من الأصل.

ونحوه في الجواهر والمدونة في السلم الثاني، إلا أن في قول المصنف:(إذ لو هلك لكان من الأصل) إطلاقاً يبينه [546/أ] ما في المدونة، وإذا دفع الغريم الحق إلى الكفيل فضاع فإن كان على الاقتصاء ضمنه الكفيل قامت بهلاكه بينة أم لا، عيناً كان أو عرضاً أو حيواناً؛ لأنه متعدِّ، وإن كانت على الرسالة لم يضمنه، وهو من الغريم حتى يصل إلى الطالب.

ويحتمل أن يريد المصنف بقوله: (لكانَ من الأصل) أن لصاحب الدين أن يطلبه من الغريم، ويرجع به الغريم على الكفيل إن أخذه على الاقتضاء.

وَيَرْجِعُ إِذَا أَدَّى بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَضْمُونِ لَهُ، ولا يُفِيدُ إِقْرَارُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ

أي: ويرجع الضامن إذا أدَّى عن الغريمِ بشَرْطِ أن تشهد بينة بمعاينة الدفع للطالب، أو يقر الطالب بالقبض، وهو مراده بقوله:(بِإِقْرَارِ الْمَضْمُونِ لَهُ) وهو الطالب؛ لأنَّ الحقَّ سقط بهذين الوجهين، وأما إقرار المضمون عنه أنه دفع للطالب فذكر المصنف أنه لا يقبل؛ لأن الحق لا يسقط عن الغريم ومن حجته أن يقول للضامن: أنت فرطت بتركك الإشهاد، ولا أعلم في ذلك خلافاً إذا أدَّى الضامن للمضمون له بغير حضرة الغريم، وأما بحضرته فلابن القاسم في سماع عيسى أنه لا يرجع لتقصيره في ترك الإشهاد، وله في سماع أبي زيد أنه يرجع؛ لأن التقصير كان من الغريم؛ لأن الحميل أدَّاها عنه بحضرته.

ص: 308

ابن رشد: والأول أظهر؛ لأنَّ المال للضامن فهو أحق بالإشهاد على دفعه.

فرع:

ويردع بمثل ما أدى إذا كان مثلياً، واختلف إذا تكفل بعرض وأداه فالمشهور وهو قول ابن القاسم وأشهب: يرجع بمثله لأنه سلف؛ وفي سماع أبي زيد أن المطلوب مخير إن شاء دفع مثله، وإن شاء دفع قيمته. وفي الواضحة أنه لا يغرم إلا مثله، قال في البيان: ولا خلاف أنه اشترى العرض أنه يرجع بمثله الذي اشتراه به ما لم يحابِ فلا يرجع بالزيادة.

وَإِذَا صَالَحَ الضَّامِنُ رَجَعَ بِالأَقَلِّ مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْقِيمَةِ

لما ذكر حكم الضامن إذا أدى مثل الدين وأنه يرجع به ذكر إذا أدى غيره.

وقوله: (صَالَحَ) يريد بمقوم، بدليل قوله:(رَجَعَ بِالأَقَلِّ مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْقِيمَةِ).

ويُفْهم من كلامه جواز المصالحة ابتداءً، وفي ذلك ثلاثة اقوال: الجواز مطلقاً؛ لأنه مكارمة، ولأنه دخل على أن الغريم بالخيَارِ إنْ شاء دفع ما عليه، وإن شاء دفع قيمة ما أعطى أو مثله إن كان مثلياً.

والمنع مطلقاً؛ لأنه أخرج من يده شيئاً لا يدري أيأخذ قيمته أو ذلك الدين، فهو بيع بثمن مجهول.

والتفرقة فإن صالح عنه بمثلي امتنع، وبمقوم جاز، واختلف قوله في المدونة:(إذا صالح بمثلي مخالف لجنس الدين) فمنعه في السلم الثاني، وأجازه في الكفالة.

ابن عبد السلام: وهو أقرب؛ لأن الباب معروف، وحكى ابن رشد رابعاً بالجواز فيما تجوز فيه النسيئة في المبايعة، والمنع فيما لا تجوز فيه، كأن يؤدي دنانير عدة عن دراهم أو تمراً عن قمح.

الباجي: وإلى منع المصالحة بالدنانير عن الدراهم وبالعكس رجع ابن القاسم وأشهب وأصحابهما.

ص: 309

محمد: لأنه يدخله الصرف بخيار، قال: وعلى القول بمنع المصالحة يرجع على الطالب بما دفع إليه، وعلى الجواز فقيل: يرجع الكفيل على المطلوب المتحمل عنه بما تحمل عنه به، وقيل: يخير المتحمل عنه، فإن شاء أغرمه ما غرم عنه، وإن شاء غرم الذي كان عليه والقولان قائمان من المدونة.

فإن قيل: فما وجه القول بالفرق بين المقوم والمثلي؟ قيل: لأن المقوم لما كان يرجع فيه إلى القيمة، وهي من جنس الدين، والحميل يعرف قيمة سلعته فقد دخل على القيمة إن كانت أقل من الدين، وإن كانت أكثر فقد دخلا على أخذ الدين وهبة الزيادة، بخلاف المثلي؛ لأنه من غير جنس الدين فلا يعرف فيه الأقل والأكثر؛ لأن الأقل والأكثر لا بد أن يشتركا في الجنس والصفة، فكانت الجهالة في المثلي أقوى، قال جماعة: ولا خلاف في الجواز إذا دفع من الصنف الذي على المديان، ولكن أدنى منه أو أجود؛ إذ لا يشك أحد أن الدافع لا يختار إلا الأخف.

وعورضت بقوله في المدونة فيمن أمر رجلاً يشتري له سلعة بالعين ولم يدفع إليه شيئاً، فاشتراها بغير العين: أن الآخر مخير في ترك ما اشتراه، ولا إشكال أن يدفع للمأمور ما ودى عنه، وكان ينبغي إن رضي بالشراء أن يدفع له الأقل مما أمر به أو قيمة ما اشترى به بجامع أن كل واحد من الوكيل والكفيل فعل غير ما أمر به لقصد المعروف، وتردد بعضهم في صحة هذه المعارضة، وفي الفرق بأن المأمور مأذون له في السف؛ لأن الفرض أن الآمر لم يعطه شيئاً، فإذا أمضى الآمر فعله فإنما أمضاه على الوجه الذي فعله وهو السلف، وأما الكفيل فلم يؤذن له في شيء بوجه، وإنما قصد هو من جهة نفسه التطوع، فلا يكون على الغريم إلا الأقل.

واعلم أن الضامن يتنزل منزلة الغريم؛ فما جاز للغريم أن يدفعه عوضاً عما عليه جاز للضامن، وما ليس فليس، فلو ضمنه في عروض عليه من سلم لم يجز له أن يصالح عنها

ص: 310

قبل الأجل بأدنى صفة أو قدراً؛ لئلا يدخله: (ضع وتعجل)، ولا بأكثر؛ لئلا يدخله:(حط الضمان عني وأزيدك)، وأجازوا أن يصالح بعد الأجل بدنانير طيبة عن دنانير أدنى منها؛ لأنه يعلم أن الغريم لا يعطي إلا الدنية، وكذلك العكس؛ لأنه يعلم أن الغريم لا يدفع إلى الذي عليه.

المازري: لكن لم يطرد هذا في المدونة في الطعام من السلم، فإنه منع الكفيل أن يصالح من له الدين إذا حل الأجل بطعام أجود مما تحمل به أو طعام أدنى منه، وإن فعل ذلك قضى عن الغريم لا ليشتريه لنفسه.

وعلل ذلك بأنه بيع الطعام قبل قبضه لأجل ما يكون لمن عليه الدين من الخيار في أن يدفع مثل ما دفعه الكفيل أو الدين الذي عليه، والمسألة تحتمل من التفريع أكثر من هذا، لكن تركنا ذلك لمحاذاة كلام المصنف.

وَضَابِطُ [546/ب] تَرَاجُعِ الْحُمَلاءِ أَنَّ مَنْ غَرِمَ أَخَذَ مَنْ يَلْقَاهُ بِمَا أَدَّا عَنْهُ مِنْ حَصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ ثُمَّ بِنِصْفِ مَا أَدَّاهُ عَنْ غَيْرِهِ بِسَبَبِ الْحَمَالَةِ لأَنَّهُ شَرِيكُ، وَيَتَرَاجَعُونَ ....

لما كان الحميل قد يتحد وقد يتعدد وكان الحكم في الواحد يؤخذ بما تقدم، أخذ في بيان المتعدد وذكر له ضابطاً مثاله: لو اشترى ثلاثة سلعة بثلاثمائة، وتحمل كل منهم بصاحبه فإذا لقي البائع أحدهم أخذ منه الجميع مائة بطريق الأصالة، وبمائتين عن صاحبيه بطريق الحمالة، ثم إن لقي هذا الدافع أحدهما أخذ منه مائة؛ لأنه أداها عنه وخمسين نصف الثلث الباقي من الحق؛ لأنه كان أداها عن الغريم الثالث، وهما معاً حميلان فيتساويان فيها، فمن لقيه منهما أخذ منه الخمسين لأنه شريكه؛ أي من الحمالة.

ص: 311

وَيظْهَرُ بِمَسْأَلَةِ الْمُدَوَّنَةِ إِذَا اشْتَرَى سِتَّةُ نَفَرٍ سِلْعَةً بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْحَمَالَةِ فَلَقِيَ الْبَائِعُ أَحَدَهُمْ فَأَخَذَ مِنْهُ الْجَمِيعَ فَإِن لَقِيَ الْغَارِمُ أَحَدَهُمْ أَخَذَهُ بِمِائَةٍ عَنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ وبِمِائَتَيْنِ نِصْفِ مِا بَقِيَ مِنَ الْحَمَالَةِ فَإِنْ لَقِيَ أَحَدَهُمَا ثَالِثاً أَخَذَهُ بِخَمْسِينِ وبِخَمْسَةٍ وسَبْعِينَ فَإِنْ لَقِيَ الثَّالِثُ رَابِعاً أَخَذَهُ بِخَمْسَةٍ وعِشْرِينَ وخَمْسَةٍ وعِشْرِينَ ثُمَّ إنْ لَقِي الرَّابِعُ الخَامِسَ، أَخَذَهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ وَسِتَّةٍ ورُبُعٍ إِلَى أَنْ يَلْقَى الْخَامِسُ السَّادِسَ فَيَاخُذَ مِنْهُ سِتَّةً ورُبُعاً لأَنَّهُ أَدَّاهَا عَنْهُ وحْدَهُ ....

(بِالْحَمَالَةِ) أي على أن بعضهم حميل عن بعض بجميع المال، فإذا لقي الطالب أحدهم أخذه بستمائة عليه منها مائة، والخمسمائة الباقية بطريق الحمالة، فإذا لقي الغريم أحد الخمسة لم يكن له طلب بالمائة التي دفعها عن نفسه، وهكذا كل من دفع عن نفسه شيئاً لا رجوع له به، تبقى له خمسمائة، منها مائة على هذا الثاني، فيأخذها منه تبقى أربعمائة، فيقول له: ادفع لي نصفها مائتين لأنك شريكي في الحمالة، فإذا لقي أحد هذين ثالثاً أخذه بخمسين وخمسة وسبعين؛ لأنه دفع ثلاثمائة مائة عن نفسه لا رجوع له بها، ومائتين عن هذا الثالث، وعن الثلاثة الباقين ينوبه منها خمسون فإذا قبضها منه قال: بقيت لي مائة وخمسون عن الثلاثة الباقين وأنت شريكي فيها، فإن لقي الذي دفع خمسين وخمسة وسبعين رابعاً فالخمسون لا رجوع له بها لأنها عنه، وقد أدى عن الرابع وعن صاحبه خمسة وسبعين منابه منها خمسة وعشرون، فإذا قبضها قال: بقي لي خمسون أنت شريكي فيها.

وقوله: (بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ وَسِتَّةٍ ورُبُعٍ)؛ أي فإن لقي هذا الرابع الذي دفع خمسة وعشرين وخمسة وعشرين خامساً، فالخمسة والعشرون التي دفعها عن نفسه لا رجوع له بها، وقد دفع عن الخامس وعن صاحبه خمسة وعشرين تنوبه منها اثنا عشر ونصف، فإذا قبضها قال: بقيت لي اثنا عشر ونصف وأنت شريكي فيها، فإن لقي الخامس السادس

ص: 312

الذي دفع اثنا عشر ونصفاً عن نفسه وستة وربعاً بالحمالة سادساً لم يأخذ الخامس من السادس إلا ستة وربعاً؛ لأنها هي التي أداها عنه وحده.

تنبيهات:

الأول: ما ذكرناه من صورة العمل هو الذي حسب الفقهاء كلهم المسألة عليه، وذهب أبو القاسم الطبري الفارض إلى أن العمل على هذا غلط في الحساب، وأن صورة التراجع مثلاً من الثاني على الثالث يجب أن يكون على غير هذا العمل، بل إذا التقى الثالث مع أحد الأولين يطلبه بالاعتدال معه في الغرم عن الثالث، فيقول: كنا اجتمعنا باجتماع بعضنا ببعض، ولو اجتمعنا لكان المال علينا أثلاثاً مائتان على كل واحد، فعلي مائتان غرمتها أنت وصاحبك عني فخذ واحدة أنت، فهي التي تقع لك وادفع إلى صاحبك المائة التي دفعها عني إذا لقيته فيستوفي في كل واحد مائتين كما لو اجتمعنا في دفعة، وهكذا إذا لقي الثالث الرابع وهكذا بقيتها.

التنبيه الثاني: قول المصنف: (فلو لقي

أحدهم فأخذ منه) هل له أن يأخذ الجميع من أحدهم، وإن كانوا حاضرين أو يشترط تعذر الوفاء من بقيتهم؟ فيه تفصيل: إن قال لهم صاحب الدين: أيكم شئت أخذته بحقي فله أخذ أحدهم بالجميع، كان الباقي حضوراً أملياء أم لا، وإن لم يقل: أيكم شئت أخذته بحقي لم يكن له أن يأخذ بعضهم ببعض إلا في العدم؛ لأن الحميل لا يؤخذ بالحق في ملاء الغريم وحضوره على الرواية المشهورة.

ابن يونس: وليس للغريم فيها إذا اشترط أنه يأخذ بحقه من شاء منهم أن يرجع على كل واحد من أصحابه إلا بما عليه من أصل الدين؛ لأنه لم يؤدِّ مع هذا الشرط بالحمالة، بل صارَ كل واحد غريماً لصاحِب الدين، وسواء كانت حمالة بعضهم عن بعض وهم شركاء في سلعة أو حمالة عن غيره.

ص: 313

التنبيه الثالث:

اعلم أن هذه المسألة على وجهين: أحدهما: أن يكون الحملاء غرماء بأن يشتروا سلعة وهي التي ذكرها المصنف، والثاني: أن يكونوا حملاء ليسوا بغرماء؛ أي يتحملوا بدين هو على غيرهم، ولم يتعرض المصنف لهذا الوجه.

ولا خلاف في مسألة المشترين أن من دفع يطالب صاحبه الذي يلقاه بما يقع عليه من المال، ولا يأخذ منه المائة التي تلزمه في خاصَّته، ويقتسمان ما بقي، وأما إن كان الحقُّ على غيرهم فاختلف إذا أخذ الحق من بعضهم ثم لقي الآخر هي يقاسمه بالسواء في الغرم، وإليه ذهب ابن لبابة والتونسي وغيرهما.

قالوا: لأنهم سواء في الحمالة وليس يخص أحدهم ما لا يخص غيره، أو إنما يقاسمه بعد إسقاط ما يخصه كالأول، وإليه ذهب كثير من الأندلسيين، ونحوه في المدونة وفي سماع أبي زيد في المستخرجة؟ وجعلوا ما ينوب كل واحد من [547/أ] المال وهي مائة بالحمالة كما لو كان عليه دين، ونص المسألة على الوجه الثاني من المدونة.

مالك: وإذا تكفل ثلاثة رجال بمال على رجل حمالة مبهمة فأعدم الغريم، لم يكن للطالب على من لقي من الحملاء إلى ثلاث الحق، إلا أن يشترط في أصل الكفالة أن بعضهم حميل عن بعض، فحينئذٍ إن غاب أحدهم أو عدم أخذ من وجد منهم مليئاً بجميع الحق، وإن لقيهم أملياء لم يأخذ من كل واحد إلا ثلث الحق؛ إذ لا يتبع الكفيل في حضور الغريم وملائه.

ولو شرط: أيكم شئت أخذته بحقي، ولم يقل: بعضكم كفيل ببعض، فليأخذ أحدهم بجميع الحق وإن كانوا حضوراً أملياء، ولا رجوع للغارم على أصحابه؛ إذ لم يؤدِّ بالحمالة عنهم، ولكن عن الغريم، ولو قال: بعضكم كفيل ببعض وقال مع ذلك: أيكم شئت أخذته بحقي، أو لم يقل، فإنه إن أخذ من أحدهم في هذا جميع المال رجع الغارم على أصحابه إذا لقيهم بالثلثين، وإن لقي أحدهم رجع عليه بالنصف. وذكر ابن حبيب عن

ص: 314

جميع أصحاب مالك مثل ما في المدونة؛ أعني أنه لا رجوع للغريم على أصحابه فيما إذا قال: أيكم شيئت أخذته بحقي.

اللخمي: وقال محمد: له أن يرجع على أصحابه إذا كانوا أربعة على كل واحد بربع الحق، والقول الأول أبين ومجمل قوله: أنه إنما يأخذ من شاء منهم على الغريم حتى يتبين أنه إنما يأخذه بذلك عن أصحابه.

ابن حبيب: وقال ابن الماجشون في من باع شيئاً من رجلين وشرط أن يأخذ أيهما شاء بجميع الثمن، أو تحمل له رجلان بدين وشرط عليهما ذلك، فشرطه باطل، وليس له اتباع أحدهما بأكثر من نصيبه إلا في عدم صاحبه أو غيبته كالحمالة المبهمة، وقاله ابن كنانة وأشهب، وقول ابن القاسم بلزوم الشرط أظهر؛ لأن الناس عند شروطهم، وقد اختلف قول مالك في الحميل المبهم فكيف بالشرط؟ وقاله أصبغ وابن حبيب.

فرع:

ويتنزل منزلة حمالة بعضهم عن بعض ما رواه ابن وهب عن مالك في المدونة: إذا كتب الرجل حقه على رجلين وشرط أن حيَّكما عن ميتكما ومليئكما عن معدمكما، فكذلك حمالة أحدهما عن الآخر.

التنبيه الرابع: المازري: أفردت جماعة من الأشياخ لمسألة الستة حملاء تأليفاً، ولم يذكر المصنف إلا ابتداء العمل؛ فرأينا أن نكمله حتى يؤدي كل واحد مائة، فإني رأيت نفوس الطلبة عند إلقائها تطلب تمام عملها، وربما صعب ذلك عليهم وهأنا أذكره على ما قاله المازري، فأقول:

إذا غرم الأول ستمائة، ثم لقي أحدهم فأخذ منه ثلاثمائة كما تقدم، ثم إن لقي الأول ثانياً قال له: غرمت ثلاثمائة عن نفسي مائة أصالة ومائتين بالحمالة عن أربعة أنت أحدهم،

ص: 315

يلزمك في خاصتك خمسون ويبقى مائة وخمسون، وعليك نصف ما بقي، وهو خمسة وسبعون، فجميع ما يأخذ منه مائة وخمسة عشرون، فصار جميع ما أخذ من صاحبه مائة وخمسة وعشرين، ويبقى مما أدى بالحمالة خمسة وسبعون، ثم إن لقي ثالثاً قال له: أديت بالحمالة خمسة وسبعين عن ثلاثة أنت أحدهم فادفع إليَّ ثلثها خمسة وعشرين ونصف ما بقي مما أديت بالحمالة، فإنك به معي حميل، فجميع ما يأخذه منه خمسون وتبقى له خمسة وعشرون، ثم إذا لقي رابعاً قال له: بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وعشرون هي عليك وعلى صاحبك السادس فأعطني نصفها اثني عشر ونصفاً ونصف ما بقي، وذلك ستة وربع، فجميع ما يأخذ منه ثمانية عشر وثلاثة أرباع، وبقي له مما غرم ستة وربع، ثم إذا لقي السادس أخذها منه، فهذا كمال عمل الأول، ثم تعود إلى الذي يليه وهو الثاني الذي لقيه أولاً وغرم ثلاثمائة، فإذا لقي الذي يليه وهو الثالث الذي كان غرم للأول أيضاً مائة وخمسة وعشرين، فيقول له: أنا [547/ب] قد أديت بالحمالة من هذه الثلاثمائة التي غرمت مائتين عن أربعة نصيبك منها خمسون، فيأخذها منه فتبقى مائة وخمسون أنت معي بها حميل، فيقول هذا الثالث: قد أديت أنا أيضاً بالحمالة للأول خمسة وسبعين سأؤتيك في مثلها، وتبقى لك خمسة وسبعون فخذ نصفها سبعة وثلاثون ونصف، فجميع ما يأخذ منه سبعة وثمانون ونصف، فجميع ما أدى هذا الثالث للأول والثاني مائتان واثنا عشر ونصف، وبقي للثاني مائة واثنا عشر ونصف مما أدى بالحمالة؛ لأنه أدى ثلاثمائة منها عن نفسه ومائتان بالحمالة، رجع إليه مما أدى بالحمالة سبعة وثمانون ونصف المائتين، فالباقي له مما أدى بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف، ثم إذا لقي الرابع الذي كان غرم للأول خمسين، قال له: بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف على ثلاثة أنت أحدهم يلزمك ثلثها في خاصتك، وهي سبعة وثلاثون ونصف فيأخذها منه، ويقول لهك بقيت لي خمسة وسبعون أنت معي بها حميل، فأعطني نصفها، فيقول له هذا

ص: 316

الرابع: قد وديت أنا بالحمالة للأول خمسة وعشرين، سأؤتيك في مثلها وبقيت لك خمسون فخذ نصفها، فجميع ما أخذ منه اثنان وستون ونصف، فجميع ما أدى الرابع للأول والثاني مائة واثنا عشر ونصف، فيبقى للثاني مما أدى بالحمالة خمسون، ثم إن لقي الخامس قال له: بقي لي مما أديت بالحمالة أيها الخامس عنك وعن السادس خمسون عليك نصفها خمسة وعشرون فيأخذها منه ويقول له: بقيت لي عليك خمسة وعشرون بالحمالة أنت معي بها حميل، فيقول الخامس: قد أديت أنا أيضاً ستة وربعاً سأؤتيك في مثلها، وبقيت لك ثمانية عشر وثلاثة أرباع عليَّ نصفها، وذلك تسعة وثلاثة أثمان، فجميع ما أدى له الخامس أربعة وثلاثون وثلاثة أثمان، وجملة ما أدى هذا الخامس للأول ثمانية عشر وثلاثة أرباع، وللثاني أربعة وثلاثون وثلاثة أثمان، فجميع ذلك ثلاثة وخمسون وثمن، وبقي هذا الثاني يطلب خمسة عشر وخمسة أثمان، فإذا لقي السادس أخذها منه، ثم إن الثالث الذي غرم للأول والثاني مائتين واثني عشر ونصفاً إذا لقي الرابع قال له: بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف على ثلاثة أنت أحدهم فأعطني ثلثها، وهو سبعة وثلاثون ونصف فيأخذها منه ويقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وسبعون أنت معي بها حميل، فيقول له هذا الرابع: قد أديت أنا أيضاً بالحمالة للأول خمسة وعشرين وللثاني خمسة وعشرين وذلك خمسون سأؤتيك في مثلها، وبقيت لك خمسة وعشرين فخذ نصفها اثني عشر ونصفاً، فيصير جميع ما أخذ منه خمسين، وجميع ما أدى هذا الرابع للأول والثاني والثالث مائة واثنان وستون ونصف، ثم إن لقي الخامس قال له: بقيت لي مما أديت بالحمالة اثنان وستون ونصف عنك وعن السادس عليك منها نصفها أحد وثلاثون وربع، فيأخذها منه، ثم يقول له: بقي لي أحد وثلاثون وربع أنت معي بها حميل، فيقول له هذا الخامس: قد أديت أنا أيضاً بالحمالة للأول ستة وربعاً، وللثاني تسعة وربعاً وثمناً ولذلك خمسة عشر ونصف وثمن سأؤتيك في مثلها، وبقيت لك خمسة عشر ونصف

ص: 317

وثمن أيضاً على نصفها سبعة وثلاثة أرباع ونصف وثمن فيدفعها إليه فيصير جميع ما أخذ منه تسعة وثلاثين ونصف ثمن تبقى سبعة وخمسون وثمن فخذ نصفها ستة وعشرين ونصفاً ونصف ثمن، ويصير جميع ما أدى هذا الخامس للأول والثاني والثالث اثنين وتسعين وثمني نصف ثمن، ثم إن الثالث لقي السادس فيقول له: بقي مما أديت عنك بالحمالة ثلاثة وعشرون وربع وثمن نصف ثمن، فيأخذها منه، فيذهب هذا الثالث وقد غرم مائة، ثم إن الرابع الذي غرم للأول والثاني والثالث مائتين واثنين وستين ونصفاً لقي الخامس فيقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة اثنان وستون ونصف عنك وعن السادس، عليك منها نصف أحد وثلاثون وربع فيأخذها منه ثم يقول له: بقيت لي أحد وثلاثون وربع وأنت معي بها حميل، فيقول له هذا الخامس: قد وديت أنا أيضاً بالحمالة للأول والثاني والثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن سأؤتيك فيها وبقيت ستة وسبعة أثمان ونصف ثمن عليَّ نصفها ثلاثة وسبعة أثمان وربع ثمن، فيأخذها منه ويصير جميع ما يأخذ الرابع من الخامس خمسة وثلاثين وثمناً وربع ثمن، وجميع ما ودى الخامس للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرون وربع وثلاثة أرباع ثمن، وبقي الرابع يطلب سبعة وعشرين وربعاً وثلاثة أرباع ثمن، ثم إنه لقي السادس فيأخذها منه فيذهب وقد أخذ مائة، ثم الخامس لقي السادس وقد كان أدى للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرين وربعاً وثلاثة أرباع ثمن عليه منها مائة بقي يطلب سبعة وعشرين وربعاً وثلاثة أرباع ثمن، فيأخذها من السادس فيذهب وقد غرم مائة، فيذهب السادس وقد غرم مائة؛ للأول ستة وربعاً، وللثاني خمسة عشر وخمسة أثمان، وللثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن، وللرابع سبعة وعشرين وربعاً وثلاثة أرباع ثمن وللخامس مثلها جميع ذلك مائة، والله أعلم.

ص: 318

الْمَضْمُونُ شَرْطُهُ أَنْ يُمْكِنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الضَّامِنِ أَوْ مَا يَتَضَمَّنُهُ كَضَمَانِ الْوَجْهِ

الرُّكن الرَّابع (الْمَضْمُونُ) أي الحق الذي يضمن (شَرْطُهُ أَنْ يُمْكِنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الضَّامِنِ) ليتحرز من الجراح والقتل والحقوق البدنية، فإنها لا يمكن استيفاؤها من الضامن، ومن ضمان المعينات كما سيأتي.

وقوله: (أَوْ مَا يَتَضَمَّنُهُ) يحتمل أن تكون (مَا) موصولة أو نكرة موصوفة، فالذي يتضمن الاستيفاء ضمان الوجه لاستلزامه المال، فإن قلت: بقي عليه ضمان الطلب فإنه يصح ولا يمكن استيفاؤه، قيل: لا نسلم أنه لا يمكن استيفاؤه؛ لأن الحق هنا هو الطلب، وهو يمكن استيفاؤه من الضامن، ووقع لأصبغ في الواضحة في الفاسق المتعسف على الناس بالقتل وأخذ المال فيؤخذ فيعطي الحملاء بما عليه من القتل وأخذ مال أنهم يؤخذون بما يؤخذ به إلا أنهم لا يقتلون.

فضل بن سلمة: انظر هل أراد أنهم يؤخذون بالمال خاصة أو به وبالدية في القتل.

عياض: وهو على هذا التأويل موافق لعثمان البتي في قوله: يلزم الحميل في القتل والجراح إذا لم يأت به دية القتل وأرش الجراح، وفي مفيد الحكام: لأصبغ: لا بأس بالضمان في الجراح التي تئول إلى المال.

المازري: ولو كانت الحدود التي هي حق الله تعالى إنما تثبت بالإقرار لكان التكفل بالطلب للمقر جائزاً على القول عندنا أن للمقر الرجوع عن إقراره وإن لم يظهر له عذر على القول بأن هروبه كالرجوع عن الإقرار.

واختلفت الروايات في حديث الغامدية هل كفل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقرت بالزنى وهي حامل حتى تضع أم لا؟

ابن عبد السلام: وقوله: (إن هروب الجاني دليل على رجوعه عن إقراره) ليس بالبين؛ لاحتمال أن يكون هروبه من ألم الحد مع تماديه على صحة الإقرار.

ص: 319

فَلا يَصِحُّ ضَمَانُ مَبِيعٍ مُعَيَّيٍ مُطْلَقَاً بِإِحْضَارِ مِثْلِهِ إِنْ هَلَكَ

أتى بالفاء؛ لأنه مسبب عما قبله.

وقوله: (مُطْلَقَاً) أي سواء كان مقوماً [548/أ] أو مثلياً وهو مقيد بغير النقدين، فيصح ضمانهما ولو عينت على مذهب المدونة؛ لأنه إنما تجوز المعاوضة عليها عنده على شرط الخلف اللهم إلا بالنسبة إلى الصَّرف فهما كالعروض.

وقوله: (إِنْ هَلَكَ) أي قبل أن يقبضه المشتري، وفي معنى الهلاك الاستحقاق.

ولو اشترى سلعةً من رجل على أنها إن استحقت فعلى البائع خلاصها، وضمن البائع في ذلك غيره، ففي المدونة قال ابن القاسم: إن استحقت انفسخ البيع ولا تلزم الحمالة وقال غيره: تلزمه وهو أدخل المشتري في غرم ماله، فعليه الأقل من قيمة السلعة يوم تستحق، والثمن الذي أدى إلا أن يكون الغريم مليئاً حاضراً فيبرأ، وروي هذا أيضاً عن ابن القاسم ودخل تحت قوله:(معيناً) خدمة معين، فقال ابن القاسم في من استأجرته شهراً: لم يجز أن تأخذ منه حميلاً.

وأنْ يكُونَ دَيْنَاً مُسْتَقِرّاً أَوْ آيِلاً إِلَيْهِ

يعني: معلوماً أو مجهولاً (وأنْ يكُونَ) معطوف على قوله: (أَنْ يُمْكِنَ اسْتِيفَاؤُهُ) أي وشرطه أن يكون ديناً مستقراً أو آيلاً إلى الدين المستقر، ولا أعلم في هذه الشروط في المذهب خلافاً إلا ما سيأتي في الكتاب.

فَيَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُولِ، وَقبلَ وُجُوبِهِ

هذا كالنتيجة عما قبله ولهذا عطفه بالفاء، ولا فرق في المجهول بين أن يكون حاصلاً أو سيحصل، ويصح ضمان المجهول لأن غاية ذلك أن يكون كهبته، وهي جائزة عندنا.

ص: 320

قال في المدونة: ومن قال لرجل: ما كان لك قبل فلان الذي تخاصم فأنا به حميل؛ فاستحق قبله مالاً، كان هذا الكفيل ضامناً، ولا إشكال إن ثبت الدين ببينة وإن أقر له بعد الضمان، فقولان، واستقرأهما عياض وغيره من المدونة.

ابن المواز: وأما ما أقر به قبل الحمالة فيلزمه غرمه، وقيد ابن يونس القول بأنه لا يلزمه بالإقرار بما إذا كان الغريم معسراً، وأما الموسر فلا تهمة فيه؛ لأنه إن بدأ الكفيل بالغرم على أحد قولي مالك رجع الكفيل على الغريم.

ومما يدخل تحت كلام المصنف قوله في المدونة: ومن قال لرجل بايع فلاناً أو داينه فما بايعته به من شيء أو داينته فأنا ضامن له، لزمه ذلك إذا ثبت مبلغه. قال غيره: وإنما يلزمه من ذلك ما يشبه أن يداين به المحمول عنه.

ابن يونس وصاحب البيان: وهو تفسير. المازري: وهو الأظهر.

ابن عبد السلام: وللشيوخ كلام في قول الغير: هل هو تقييد أو خلاف قال في المدونة: ولو لم يداينه حتى أتاه الحميل فقال: لا تفعل فقد بد لي في الحمالة، فذلك له بخلاف قوله: احلف وأنا ضامن، ثم رجع قبل اليمين لا ينفعه رجوعه؛ لأنه حق، وأجاب ابن يونس: لأن من حجة المدعي أن يقول: أنا ادعيت أن لي عليك كذا، وقد أحل هذا نفسه محل المدعى عليه، فكما لو قال المدعى عليه: احلف لي وأنا أغرم، لا يكون له رجوع، فكذلك هذا، والذي قال: عامله وأنا ضامن، كقول المعامل نفسه: عاملني وأنا أعطيك حميلاً، فكما لهذا أن يرجع فلهذا أن يرجع.

وذكر المازري عن بعض أشياخه أنه إنما يرجع إذا أطلق، وأما إن قيد فقال: عامله بمائة دينار فلا رجوع له، وأنكر غيره هذه التفرقة، ورأى أنه له الرجوع مطلقاً قبل المعاملة.

قال: وبعض أشياخي يجري هذا على الخلاف في الهبة هل تلزم بالقول أم لا؟ انتهى.

ص: 321

وقد يخرج في مسألة الضمان خلاف من الخلاف في لزوم العدة، وقد حكى في البيان في كتاب العارية أربعة أقوال:

أحدها: أنها تلزم ويقضى بها، وإن لم تكن على سبب، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قضى بها.

والثاني: يقضى بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل في السبب، ولا يقضى بها إن لم تكن على سبب، وهو قول أصبغ في كتاب العدة، وقول مالك في كتاب العارية من العتبية.

الثالث: لا يقضي بها وإن كانت على سبب حتى يدخل في ذلك السبب، وهو قول سحنون في كتاب العدة من العتبية.

الرابع: أنها لا تلزم وإن كانت على سبب دخل فيه، وهو الذي يأتي على ما رواه أشهب وابن نافع عن مالك في الموازية والعتبية، وإن مات وعليه دين لا يدرى كم هو، فتحمَّل بعض ورثته بجميعه نقداً أو إلى أجل على أن يخلَّى بينه وبين ماله، فإن كان على أنه إن فضل شيء فبينه وبين بقية الورثة جاز؛ لأن ذلك معروف وطلب خير للميت ولورثته، وإن كان الفضل له والنقص عليه لم يجز؛ لأنه غرر إلا أن يكون الوارث واحداً.

ولو طرأ غريم لم يعلم به فعلى الآخر الغرم، ولا يلزمه قوله: لم أعلم به وإنما تحمَّلت بما علمت.

ابن دحون: وإنما جازت للمسامحة وأصلها المنع لما فيها من الجهالة.

مالك: وإن مات وعليه ثلاثة آلاف ولم يترك إلا ألفاً وله ولد واحد لا يرثه غيره، فسأل غرماء أبيه أن يدعوا الألف بيده وينظروه سنتين ويضمن لهم بقية دينهم، فرضوا بذلك جاز.

ابن القاسم: وبلغني عن ابن هرمز مثله.

ص: 322

وَلا يَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ وَلا بِالْجُعْلِ قَبْلَ الْعَمَلِ

لأن هذا ليس بدين لازم، ولهذا لو عطفه بالفاء لكان أولى؛ لأن المكاتب لو عجز عنه رجع رقيقاً والحميل يحل محل المتحمل عنه، فإذا كان الدين ليس ثابتاً على الأصل فأحرى فرعه، وهو الحميل، وهذا هو المعروف، وقال محمد بن عبد الحكم: لا بأس بالحمالة بالكتابة كما لو تحمل رجل عن عبد غير مأذون له بالتجارة بمال أو عن رجل في ولاية بشيء اشتراه أحدهما أن ذلك يلزمه. وإن ذهب ماله باطلاً فهو الذي رضي بهذا.

ابن يونس: [548/ب] ولا أعلم أن لي في هذا القول رواية، وذكر المازري أن بعض الأشياخ خرَّج قولاً بجواز الحمالة بالكتابة من قول أشهب في من قال لرجل: كاتب عبدك وعلي مائة دينار؛ لأن الحمالة بالكتابة عند هذا المخرج إنما منعت؛ لأن المقصود من الحميل حصول العتق للمكاتب، فإذا عجز لم يحصل العتق ووجب بطلان الحمالة.

وهذا المعنى حاصل في مسألة أشهب، فإذا لم يكن معتبراً عنده فيها وجب ألا يعتبر في الكتابة، وردَّهُ المازري بأن من كاتب عبده على أن أعطاه حميلاً بالكتابة فقد أعطاه حميلاً بدين قد لا يثبت، فلم يصح ذلك، وفي مسألة أشهب إنما دفع إليه مالاً على أن يستأنف الكتابة فيرفع حقه في بيع العبد وانتزاع ماله والحجر عليه، فصار هذا كالمعاوضة، قال: وهذا مما ينظر فيه لإشكاله.

فرع:

والمنع إنما هو مع عدم اشتراط تعجيل العتق، وأما لو تحمل رجل بالكتابة على شرط التعجيل فهو جائز، ويكون للحميل الرجوع على المكاتب، قاله في المدونة.

قوله: (وَلا بِالْجُعْلِ قَبْلَ الْعَمَلِ) قرره ابن راشد وابن عبد السلام على أنها منعت قبل وجازت بعد الشروع، وفيه نظر من وجهين:

ص: 323

أما أولاً: فإنه وإن لم يكن ديناً لازماً في الحال، ولكن يستلزم فيدخل تحت قول المصنف:(أَوْ آيِلاً إِلَيْهِ).

وأما ثانياً: فلآن الذي نقله المازري صحة الضمان بالجعل، ولفظه: ومنها - أي من الحقوق المالية - ما ليس بعقد لازم كالجعالة على مذهب من يرى أن الجعل لا يلزم بالعقد كقوله: إن جئتني بعبدي الآبق فلك عشرة دنانير، فهذا تصح الحمالة به أيضاً قبل المجيء بالآبق، فإن جاء به لزم الحميل ما تحمل به، وإن لم يأتِ به سقطت الحمالة.

وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ مُنْكَراً

ضمان الوجه عبارة عن الإتيان بالغريم الذي عليه الدين وقت الحاجة، ولم يختلف في صحة ذلك عندنا.

وقوله: (وَإِنْ كَانَ مُنْكَراً). ابن عبد السلام: ليس هذا موضعاً للمبالغة كما فعل المصنف؛ لأن المنكر يحتاج إلى إقامة البينة عليه فلا بد من حضوره في موضع القاضي لتوقع البينة الشهادة على عينه، وأما المقر فلا يحتاج إلى ضمان الوجه في حقه في أكثر المسائل، وإنما يحتاج في الغالب إلى ضمان المال، ولهذا ذهب بعض الشافعية إلى صحة ضمان الوجه في حق المنكر دون المقر، فلو قال:(ولو كان مقراً) لكان أولى.

وَيَلْزَمُهُ إِحْضَارُهُ

هذا لا خلاف فيه؛ أي يلزم حميل الوجه إحضار المتحمل عنه وهو الذي ضمن.

وَيَبْرَأُ بِتَسْلِيمِهِ فِي مَكَانِ اشْتِرَاطِهِ أَوْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْهُ أَوْ سَجْنٍ

لا يلزم إحضاره عند الحاكم، إلا أن يشترط ذلك، حكاه صاحب الكافي.

ص: 324

وقوله: (فِي مَكَانِ اشْتِرَاطِهِ) هذا إذا كان مكان الاشتراط باقياً على حاله تجري فيه الأحكام، وأما إن خرب فصار لا تجري فيه الأحكام، فهل يبرأ بإحضار الغريم فيه أم لا؟ قولان ذكرهما محمد بن عبد الحكم وكذلك، ذكر القولين إذا أحضره بغير بلد الاشتراط بحيث تأخذه فيه الأحكام، حكاهما ابن عبد الحكم.

المازري: وهذا عندي يلاحظ مسألة الشرط الذي لا يفيد، وقد يكون هذا الشرط مفيداً كما إذا كان البلد المشترط إحضاره فيه هو موضع سكنى البينة، أو كان الحق غير عين وللطالب غرض في أخذه بمحل الاشتراط. قال في المدونة: وإن دفعه إليه بمكان فيه حاكم فيبرأ، وإن دفعه إليه في بلد لا سلطان فيه أو حال فتنة أو مفازة أو بمكان يقدر الغريم على الامتناع فيه، لا يبرأ الحميل حتى يدفعه إليه بموضع يصل إليه أو به سلطان.

وقوله: (أَوْ بِبَرَاءَتِهِ) أي ببراءة رب الدين للحميل من الحمالة.

(أَوْ سَجْنٍ) هو كقوله في المدونة: وإذا حضر المحمول عنه بعينه فدفعه الحميل إلى الطالب وهو في السجن بريء؛ لأن الطالب قادر على أخذه من السجن ويحبس له في دينه بعد تمام ما سجن فيه، اللخمي والمازري: وسواء سجن بحق أو باطل لإمكان أن يحاكمه عند القاضي الذي حبسه، فإن منع هذا الطالب منه ومن الوصول إليه، فيجري ذلك مجرى موته؛ وموته يسقط الكفالة.

فروع:

الأول: ما ذكره المصنف من البراءة بالتسليم إنما هو إذا لم تكن الكفالة مؤجلة، أو كانت مؤجلة وحل الأجل لا إن لم يحل ككون من له الدين لم يستحق الطلب، فلا يفيده إحضاره للغريم وهو لا يستحق طلبه، قاله المازري وغيره.

الثاني: إذا أسلمه الغريم وهو عديم، وهو مذهب المدونة أنه يبرأ، وهو الذي يؤخذ من قوله:(وَيَبْرَأُ بِتَسْلِيمِهِ فِي مَكَانِ اشْتِرَاطِهِ) إذا لم يشترط الملاء، وروى ابن الجهم عن مالك أنه لا يبرأ، وقال به ابن اللباد.

ص: 325

الثالث: مذهب المدونة وهو المشهور أن الغريم لو سلم نفسه للطالب وأشهد أنه دفع نفسه إليه وقال له: أسقط الكفالة عن من تكفل بوجهي أن الكفالة لا تسقط. قال في المدونة: ولو كان في موضع تنفذ فيه الأحكام إلا أن يسلمه الحميل بنفسه أو وكيله.

ابن المواز: أو يقول الحميل للغريم اذهب فسلم نفسك، ولا يكون الغريم كوكيل له، وقال ابن عبد الحكم: يبرأ الكفيل بتسليم الغريم نفسه.

المازري: واختاره بعض أشياخي، وكذلك أيضاً على المشهور لا تسقط الحمالة إذا أسلمه له أجنبي، بل لا بد أن يسلمه هو أو وكيله.

الرابع: لو شرط الحميل بالوجه أنك إن لقيت غريمك سقطت الكفالة عني، اعتبر هذا الشرط إن لقيه بمكان تناله في الأحكام لا إن لم تنله، قاله في العتبية.

وَإِلا غَرِمَ بَعْدَ أَجَلٍ خفِيفٍ، وقِيلَ: بِغَيْرِ أَجَلٍ، وقِيلَ: لا يَغْرَمُ

يعني: [549/أ] وإن لم تحصل براءة الحميل بأحد الوجوه المذكورة غرم على المشهور، وعليه فالشهور أنه يتلوم له، وهو معنى قوله:(بَعْدَ أَجَلٍ خفِيفٍ) وهو مذهب المدونة والعتبية والموازية.

وقال ابن وهب: لا يتلوم له، وقيل: لا يغرم، وهو مقابل لما أصله في صدر المسألة من الغرامة.

وهذا القول لابن عبد الحكم، ووجهه أنه إنما التزم إحضار الغريم وذلك لا يدل على التزام المال على المشهور من إثبات التلوُّم. ففي المدونة: وإن كان الغريم حاضراً أو غائباً قريب الغيبة مثل اليوم وشبهه تلوم السلطان للحميل، فإن أتى به بعد التلوم فلا شيء عليه وإلا غرم، وإن بعدت غيبة المكفول غرم مكانه، فحد الغيبة القريبة اليوم وشبهه.

ص: 326

المازري: وقيل: هي يومان وقيل: ثلاثة، واختار بعض الأشياخ اليوم؛ لأنه مقدار ما يتلوم في الحضور، وهل ذلك ثلاثة أيام لكون الحميل يسافر ليأتي بالمكفول مسافة يوم، ويتأخر يوماً في طلبه، ويأتي به في اليوم الثالث؟ وإذا قيل: يومان، اقتضى ذلك خمسة أيام، يومان في السفر ومثلهما في القدوم ويوم الإقامة في طلبه، والقول بالثلاثة أبعد؛ لأن ذلك يقتضي عندي سبعة أيام، والأصح عندي في هذا مراعاة الضرر فينفي عن الطالب ضرر التأخير الذي يضر به، وينفي عن الحميل ضرر الاستعجال الذي يضر به.

فرع: وهل يتلوم لضامن المال إذا غاب الأصل أو أعدم؟ قولان لابن القاسم.

فَلَوْ حُكِمَ بِالْغُرْمِ فَفِي سُقُوطِهِ بِإِحْضَارِهِ قَوْلانِ

يعني: إذا حمل القاضي على حميل الوجه بالغرم لعدم الغريم، ثم أحضره فهل يسقط عنه الغرم بإحضاره؛ لأنه إنما غرم لغيبته وقد وجدوا الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وهو قول سحنون، أو يقال هو حكم مضى وهو مذهب المدونة والمشهور؟ وعلى قول سحنون إذا دفع الضامن المال قبل الإحضار مضى، وذكر عياض أنه المشهور، وقول سحنون على خلاف هذا الوجه؛ لأنه قال بعد ذلك ما في المدونة: إن كان قد حكم على الحميل بالغرم مضى الحكم، واختلف الشيوخ في المراد بالحكم هل هو شهادة الحاكم على الحميل بالغرم، وهو قول عبد الملك، وقال بعضهم: بل القضاء عليه بالمال ودفعه لربه، وأما إن لم يغرم فيسقط إذا أتى بالغريم، ومثله في سماع عيسى، ونحوه عن سحنون. انتهى بمعناه.

ونقل اللخمي وابن يونس القولين، كما نقلهما المصنف، وإذا فرعنا على المشهور أنه لا يسقط الغرم عن الضامن بحضور الغريم، فقال ابن يونس وغيره: يبقى للطالب التخيير إن شاء اتبع الغريم أو الحميل.

ص: 327

فرع:

لو غاب الغريم فأراد كفيل الوجه أن يثبت فقره ليسقط، فإنه لو حضر وهو فقير لم يلزم الحميل غرم، فقال اللخمي: له ذلك ولا غرم عليه إذا ثبت ذلك؛ لأن يمين الغرم على العدم استظهار. وقال المازري: يجري فيها قولان؛ لأن الفقر إذا ثبت بالبينة لم يحلف الغريم على ذلك؛ أي: فهل يحلف الغريم لتعذر هذه اليمين، أو لا لأنها استظهار؟ هذا معنى كلامه.

فرع:

وأما لو أغرم الحميل ثم أتت بينة أن الغريم مات في غيبته قبل القضاء لرجع الحميل على رب الدين بما أدى إليه، قاله في المدونة، وغيرها.

فَلَوْ مَاتَ الْمَضْمُونُ لَمْ يَلْزَمِ الضَّامِنَ شَيْءٌ، وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِذَا مَاتَ بَعْدَ الأَجَلِ لَزِمَ وإَنْ كُنْتُ قُلْتُ غَيْرَ هَذَا فَاطْرَحُوهُ ....

أي: فلو مات الغريم وهو مراده بالمضمون ولم يكن حكم على حميل الوجه بالضمان لم يلزم الضمان شيء، وهو مذهب المدونة، وعلله فيها بأن النفس المضمونة قد ذهبت.

محمد: وهذا هو المعروف من قول مالك، وعليه جماعة من أصحابه، وعن ابن القاسم أيضاً في الموازية ما ذكره المصنف من القول الثاني، ونصه عند ابن يونس: ابن القاسم: وإن مات في غيبته وهي قريبة أو بعيدة لزم الغرم الحميل، إلا أن تكون الحمالة مؤجلة ويكون موت الغريم قبل الأجل بأيام كثيرة لو كلف الحميل المجيء به لخرج فيها ورجع قبل محل الأجل، فحينئذٍ تسقط عنه الحمالة ولا تلزمه.

ابن القاسم: وإن كنت قلت لكم في هذه المسألة غير هذا فاطرحوه وخذوا هذا. فظاهر، وصرح بذلك ابن القاسم في هذا القول في العتبية أنه لو مات بالبلد لم يلزم الكفيل شيء ولو مات بغيره لفصل كما ذكرنا، وإنما لزم الكفيل الغرم في هذا القول؛ لأن تفريطه في

ص: 328

الغريم حتى خرج عن البلد كعجزه عن إحضاره وهو حي؛ لأنه لو منعه من الخروج لحل الأجل عليه وهو بالبلد فيتمكن رب الدين من طلبه.

وعلى هذا فقول المصنف: (وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِذَا مَاتَ بَعْدَ الأَجَلِ) يريد: وبغير البلد، وقول ابن القاسم في هذه الرواية:(ويكون موت الغريم قبل الأجل بأيام كثيرة) مفهومه لو كان بأيام قليلة لكان الضمان أيضاً عليه وهو كذلك، ولكن اختلف في حد ذلك، فقال ابن القاسم في الموازية: إن بقي من أجل الدين ما لا يتحمل أن يذهب الكفيل فيأتي به لزمت الكفيل الغرامة، وقال ابن القاسم أيضاً في الواضحة: إن بقي من الأجل ما لو أقيل الغريم فيه لوصل عند الأجل فلا شيء على الحميل، وحمله على الوفاء على أن يأتي بنفسه من غير رسول، قاله اللخمي والمازري وغيرهما.

فرع: لو مات حميل الوجه فالمشهور أن الكفالة لا تسقط وكأنه التزم ديناً في ذمته خلافاً لعبد الملك، وكأنه على قوله إنما التزم ما يتعلق بعينه.

المازري: وعلى المشهور فإن كان الدين حالاًّ طُلِبت الورثة بإحضار الغريم، وإلا أخذ الحق من التركة، وإن كان ذلك مؤجلاً فإن الورثة أيضاً يطالبون بإحضار الغريم، فإن أحضروه سقطت الكفالة.

محمد: وتسقط إذا أحضره أحد الورثة وإن كان الدين مؤجلاً. ابن عبد السلام: هكذا حكى المازري [549/ب] عن محمد، والذي رأيته في الموازية بعد أن حكى قول عبد الملك.

محمد: يقال لورثته: جيئوا بالذي عليه الدين، وإلا ضمنتم.

التونسي: لم يذكر متى يجيئون به ولعله أراد عند حلول الأجل. انتهى.

وقل اللخمي عن محمد مثل ما نقله المازري بناء على نقله.

ص: 329

وعارض الأشياخ المتأخرون هذا بأن إحضار الغريم قبل الأجل لا يفيد الطالب؛ إذ لا يقدر على طلبه حينئذٍ قال: ولعل محمداً رأى هذه الحوالة تحل بموت الحميل كما تحل بموت الغريم، وما ذلك إلا لما يلحق ورثته من الضرر في قسمة التركة، وقد يتعلق بها حق الطالب لإمكان أن يحل الأجل ويغيب الغريم.

فَلَوْ قَالَ: أَنَا حَمِيلٌ بِطَلَبِهِ وِشِبْهَهُ طَلَبهُ بِسَفَرِ مِثْلِهِ

هذا هو حميل الطلب، وقوله (بِطَلَبِهِ وِشِبْهَهُ) يحتمل أن يريد بالشبه نحو هذه الصيغة، كما لو قال: علي أن أطلبه، وقال ابن عبد السلام: تقع حمالة الطلب على وجهين:

الأول: أن يبتدئ الحمالة على ضمان الوجه، ويشترط الضامن إن لم يجده فلا شيء عليه من المال.

والثاني: أن يبتدئ الحمالة على ضمان الطلب، ولما أراد المصنف الجمع بينهما قال:(فَلَوْ قَالَ: أَنَا حَمِيلٌ بِطَلَبِهِ وِشِبْهَهُ).

ابن المواز: ويلحق بقوله: (أضمن وجهه وأنا بريء من المال في عدم إغرامه المال) ما لو قال: (لا أضمن إلا وجهه)؛ أي لأنه استثنى وجهه بعد أن عمم نفي الضمان لكل شيء، واستشكل صاحب المقدمات والبيان قول محمد هذا، وقال: لا فرق بين قوله: (أضمن وجهه) وبين (لا أضمن إلا وجهه)، قال: وإنما يصح ما قاله محمد إذا كان لكلامه بساط يدل على إرادة الطلب فقط، كما لو قيل له: تحمل لنا بوجه فلان فإن جئت به فأنت بريء من المال، فيقول: لا أضمن إلا وجهه.

عياض: وتصح حمالة الطلب في كل شيء حتى في القصاص.

ص: 330

وقوله: (طَلَبهُ بِسَفَرِ مِثْلِهِ) الضمير في (مِثْلِهِ) عائد على الحميل، وكذلك قال في الجواهر، وقال اللخمي: إن لم يعلم موضعه وحيث توجه كان عليه أن يطلبه في البلد، وفيما قرب.

واختلف إذا عرف موضعه، فقال أصبغ: يطلبه على مسيرة اليوم واليومين، وحيث لا مضرة فيه. وقال ابن الماجشون: يخرج لطلبه قرب أو بعد، ما لم يتفاحش، فأما ما يكون من أسفار الناس فليخرج، أو يرسل أو يؤدي عنه.

ابن حبيب: والشهر ونحوه من أسفار الناس، وقال ابن القاسم في العتبية: يعتبر في هذا ما يقوى الكفيل عليه فيكلفه وما لا يقوى عليه فلا يكلفه، وقد حكى المازري هذه الثلاثة الأقوال وحكاها أيضاً صاحب البيان. قال بعد هذا: وحكى فضل عن ابن عبد الحكم أن السلطان يتلوم له فإن جاء به وإلا حبسه حتى يأتي.

والظاهر أن المصنف أراد بقوله: (سَفَرِ مِثْلِهِ) قول ابن الماجشون، فإن قلت: بل أراد قول ابن القاسم، قيل: لفظة: (يقوى) تعطي من الوسع ما يعطي (سَفَرِ مِثْلِهِ).

فإن قلت: لعل المصنف أراد إذا لم يعلم موضعه قيل: هناك لم يشترط سفر المثل، وإنما قالوا يطلبه في البلد وما قرب منه.

فرع: ولا يلزم حميل الطلب غرم، وإن لم يأت بالغريم إلا أن يمكنه بعد الأجل إحضاره، ففرط حتى هرب أو أنذره حتى هرب، قاله غير ابن القاسم في المدونة.

أبو الحسن: وهو تتميم وتفسير، وهكذا قال في العتبية؛ لأن فيها: وإن أثبت الطالب أنه خرج وأقام بقريته ولم يتمادى عاقبه السلطان بالحبس بقدر ما يرى، أو يأمره بإحضار صاحبه إن قدر عليه، وأما أن يضَّمنه المال فلا، إلا أن يلقاه فيتركه فيضمن إن أثبت ذلك عليه، وكذلك إن كان غيبه في بيته ولم يظهره، ولهذا قال ابن الهندي: عليه أن يحلف ما قصر في طلبه ولا دلس فيه ولا يعلم له مستقر.

ص: 331

أبو محمد صالح: وهذا على القول بلحوق أيمان التهم، وظاهر ما لابن القاسم في العتبية تصديقه من غير يمين؛ لأن فيها: إذا خرج لطلبه ثم قدم وقال: لم أجده، وقال الطالب: من يعلم أنك بلغت الموضع، القول قول المحيل إن مضت مدة يبلغ فيها ويرجع.

اللخمي: وهو مثل قوله في المدونة في الأجير على تبليغ الكتاب يدعي أنه أوصله وخالفه غيره في الأجير، فيلزم على قوله أن يكلف الحميل إثبات وصوله ورده.

المازري: هذا التخريج بأن الأجير يطلب إثبات دين في ذمته، والدين لا يثبت في الذمة إلا ببينة، وأما الحميل فإنه إنما يبرئ نفسه من الطلب.

وَلَوْ شَرَطَ الأَجَلَ فِي الْحَال والْغَرِيمُ مُعْسِرٌ يُوسِرُ في مِثْلِهِ مَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وأَجَازَهُ أَشْهَبُ ....

يعني: لو شرط الضامن التأجيل بالدين الحالِّ على الغريم والغريم حينئذٍ معسر يوسر قبل تمام الأجل، فهل يمنع لأن الزمان المتأخر عن يساره يعد صاحب الحق فيه مسلفاً - لأنه أخر ما عجل فيمتنع لأنه مسلف وقد انتفع بالحميل الذي أخذه من غريمه وهو قول ابن القاسم، وهذا على أن اليسار المترقب كالمحقق - أو يجوز؟ لأن الأصل استصحاب عسره، ويسره قد لا يكون، فلم يؤخره وكان المعسر تبرع بالضمان، وهو قول أشهب؟ أما إن لم يوسر إلا عند الأجل أو بعده فيجوز باتفاق، وهذا مفهوم من كلام المصنف.

وقوله: (في مِثْلِهِ) لفظة (مثل) زائدة؛ لأن المراد في الأجل قبل فراغه، ومعنى قولنا:(يُوسِرُ) قبله؛ أي الغالب عليه أن يوسر قبله كبعض أصحاب الغلات.

وفهم من قوله: (والْغَرِيمُ مُعْسِرٌ) أنه لو كان موسراً لجاز، وكذلك نص اللخمي عليه.

ص: 332

فَلَوْ كَانَ مُوسِراً بِالْبَعْضِ جَازَ ضَمَانُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْجَمِيعِ

كما لو كان عليه مائتان وبيده مائة جاز أن يؤخر ما هو به موسر لضامن ولا مانع، وكذلك المعسر به لأنه تبرع لضامن، ولوضمنهما منع لأنه سلف جر منفعة؛ إذ تأخيره بالمائة الموسر بها سلف، وانتفع بالضمان في المائة التي هو معسر بها، وقاله اللخمي وصاحب البيان.

وَلَوْ ضَمِنَ الْمُؤَجَّلَ حالا جَازَ

هكذا في المدونة: وجعل الرهن كذلك، قال: لأنه [550/أ] زيادة توثق، وأطلق كلام المصنف، وقيده ابن يونس لما إذا كان الحق مما له تعجليه، وأما إن كان عرضاً أو حيواناً من بيع فلا يجوز؛ لأنه (حط الضمان وأزيدك).

ابن عبد السلام: وليس هو ببين؛ لأن رب الدين ما أخذ زيادة في نفس الحق ولا منفعة ينتفع بها، وإنما قصد التوثق، وذلك يدل على أنه لا غرض له في التأخير ولا غرض للآخر في بقاء الدين في ذمته، وتظهر فائدته مع التأخير لا مع التعجيل. انتهى.

وقال اللخمي: إن أعطاه حميلاً ليتعجله قبل الأجل فإن كان الدين عيناً أو عرضاً من قرض جاز، وإن كان من بيع وكان قَصَد الغريم بتعجيله منفعة الطالب جاز، وإن أراد إسقاط الضمان عن نفسه لم يجز.

وَلَوْ عَلَّقَ الضَّمَانَ بِعَدَمِ وفَاء الأَصْلِ تَلَوَّمَ الْحَاكِمُ وأَلْزَمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَلِيئاً حَاضِراً ....

أي: (لَوْ عَلَّقَ الضَّمَانَ بِعَدَمِ وفَاء الأَصْلِ) فقال: (أنا ضامن لك بما على فلان إن لم يوفِّك حقَّك) فإن الضمان صحيح على الوجه الذي شرط، ويتلوم له القاضي بقدر ما يرى، ثم يلزمه المال، إلا أن يكون الغريم حاضراً مليئاً، فإن القاضي يجبره على الدفع للطالب.

ص: 333

وَصِيغَتُهُ: تَحَمَّلْتُ، وتَكَلَّلْتُ، وضَمِنْتُ، وأَنَا زَعِيمٌ، وعِنْدِي، وشِبْهُ ذَلِكَ

قوله: (وشِبْهُ ذَلِكَ)؛ أي قبيل، وأدين، وصبير، وعزيز، وينبغي أن يعتمد هنا على الألفاظ التي يستعملها العرف في الضمان لا على غيرها.

فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ الْوَجْهَ - فَقَوْلانِ

قال في المدونة: من قال: أنا حميل، أو زعيم، أو ضامن، أو قبيل، أو هو لك عندي، أو علي، أو إلي، أو قِبلي، فذلك كله حمالة لازمة إن أراد الوجه لزمه، وإن أراد المال لزمه، قالوا: ويصدق، وإن لم يدعِّ أنه أراد شيئاً فاختلف الشيوخ: هل يحمل على المال أو على الوجه؟ واختار ابن يونس وصاحب المقدمات أنه بالمال واستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الزعيم غارم» ، ولأنه المتبادر من لفظة الحمالة.

المازري: واختار بعض الشيوخ أنه بالوجه لكونه أقل الأمرين، والأصل براءة الذمة، ورد الاستدلال بالحديث بأنه إنما قصد بالحديث بيان حكم وجوب المطالبة للكفيل بما ضمنه، ولم يقصد به بيان حكم إطلاق هذه اللفظة. قال: ولأن الغرامة إنما تكون في الأموال لا في الأبدان؛ إذ البدن لا يصح أن يغرم، فكأنه يقول: الزعيم غارم لما ضمن، والضامن الذي يتصور فيه الغرامة إنما يكون في المال.

فرع:

وأما إن حقَّقَ كل واحد منهما ما وقعت به الحمالة، فقال الحميل: إنما تحملت بالوجه، وقال الطالب: بل بالمال، فالقول قول الحميل؛ لأن الأصل براءة الذمة.

* * *

ص: 334