المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ابن يونس جمع بين القولين فحمل الأول على أن الرهن - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٦

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ابن يونس جمع بين القولين فحمل الأول على أن الرهن

ابن يونس جمع بين القولين فحمل الأول على أن الرهن في عقد البيع أو القرض، وما في المدونة على أنه تطوع به.

ابن عبد السلام: ولم يعدوا نفقة المرتهن هنا سلفاً جر منفعة، ولعل ذلك لشدة ما يلحقه من الضرر في تركه بهلاك الرهن إذا ترك النفقة.

وَإِذَا لَمْ يِجْبَرْ فَأَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ فَفِي الشَّجَرِ وَشِبْهِهِ يَبْدَأُ بِنَفَقَتِهِ وَيَتْبَعُهُ بِدَيْنِهِ أَوْ بِمَا بَقِيَ ....

يعني: إذا لم يجبر الراهن على النفقة فأنفق المرتهن. ولو أسقط قوله: (فَفِي الشَّجَرِ) لكان أحسن؛ لأن ذلك مفهوم مما سبق؛ لأن قوله: (فَفِي الشَّجَرِ) يفهم أن الزرع ليس كذلك، وقد قدمنا عن المدونة التسوية بينهما [519/أ].

ومعنى ما قاله أن ما أنفقه يكون في الثمرة، فإن ساوت الثمرة النفقة أخذها المرتهن، وإن لم تساو لم يتبع الراهن بفاضل النفقة.

وقوله: (وَيَتْبَعُهُ بِدَيْنِهِ أَوْ بِمَا بَقِيَ) أي: ويتبع المرتهن الراهن بدينه إن لم تساو الثمرة إلا قدر النفقة أو أقل، ويتبعه بالباقي من الدين إن زاد ثمن الثمرة على مقدار النفقة بما لم يوف الدين، أما إن زاد بمقدار الدين؛ فإنه يأخذ ذلك ولا كلام له.

‌الضَّمَانُ

إِنْ كَانَ مِمَّا لا يُغَابُ عَلَيْهَ؛ كَالْحَيَوَانِ، والْعَقَارِ؛ فَمِنَ الرَّاهِنِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُ كَدَعْوَاهُ مَوْتَ الدَّابَّةِ بِبَلَدٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحُدٌ ....

هذه إحدى المسائل التي فرق أصحابنا فيها بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه، وقد تقدمت.

وقوله: (كَالْحَيَوَانِ) أي: على اختلاف أنواعه، مأكولاً أو غيره، طائراً أو غيره، آدمياً أو غيره، وهذا هو المنصوص. وأخذ مما رواه أبو الفرج عن ابن القاسم فيمن ارتهن

ص: 142

نصف عبد وقبضه كله: أنه لا يضمن إلا نفقة ضمان ما لا يغاب عليه. اللخمي: وأرى أن يضمن كل ما يستخف ذبحه وأكله. وحكى ابن بزيزة فيه ثلاثة أقوال، ثالثها: إن كان مما يسرع إليه الأكل كالغنم ضمن، وإلا فلا.

وقوله: (والْعَقَارِ) أي: الأرض وما يتصل بها من بناء وشجر.

وقوله: (مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ

إلخ). هو جارٍ مجرى الاستثناء؛ أي: لا ضمان على المرتهن فيما لا يغاب عليه، إلا أن يتبين كذبه. ثم بين ما يتبين به الكذب بقوله:(كَدَعْوَاهُ مَوْتَ الدَّابَّةِ بِبَلَدٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحُدٌ) وكذلك أيضاً إذا كان في رفقة. المازري: وإذا كان بموضع عمارة أو جماعة سئلوا ببلد فإن صدقوه تأكد عليه الظن بصدقهم عدولاً أو غيرهم، وإن كذبوه وكانوا عدولاً غلب على الظن كذبه فلم يصدق، وإن كانوا غير عدول لم ينتقل الحكم عن تصديقهم إلى تكذيبه بقوم ليسوا بعدول لتطرق التهمة إليهم بأنهم كتموا ما علموه من موت الدابة لما طلبت منهم الشهادة، ويكتفي في خبر الحضور وتصديقهم بأنهم رأوا دابة ميتة، وإن لم يعلموا أنها الدابةُ الرهنُ، هكذا وقع في المجموعة، وهذا صحيح إذا كانت هذه الشهادة على صفة يغلب على الظن أن الدابة ليست هي عين الدابة التي بيد المرتهن، أو يكون الأمر مشكلاً فيستصحب الحكم في أن ما لا يغاب عليه لا يضمن. انتهى.

وما ذكره من عدم ضمانه إذا كذبه جماعة وكانوا غير عدول، نص عليه أشهب فيما إذا ادعى إباق العبد بحضرة جماعة وكذبوه.

الباجي: يريد لأنه لم يثبت كذبه. وما نقله المازري عن المجموعة نحوه في الباجي، وزاد أنه يحلف أنها هي، وكلام المازري صحيح في أنه يقبل في تصديقه غير العدول. وقول ابن عبد السلام:"ظاهر كلامهم، بل هو نص أنه لا يقبل إلا العدول" ليس بظاهر.

ص: 143

تنبيه:

ألحق اللخمي بما لا يغاب عليه ما دخل المرتهن والراهن على بقائه بموضعه؛ كالثمار في رؤوس النخل، والزرع القائم، وما في الجرين والأندر، وكالسفن على ساحل البحر وآلتها إذا دخل على بقائها بالساحل، وكالأعدل إذا خُلِّيَ في قاعة الفندق، وكالطعام والزيت المخزن في دار الراهن مطبوعاً عليه ومفتاحه بيد المرتهن، وإن كان مختزناً في دار غيره أو في بيت الفندق لم يضمنه، فإن علم أنه كان يتكرر له ويفتحه، وأشبه أن يكون أخذ ذلك في تكرره منه ضمنه، أما إن كان في حوز المرتهن لم يصدق في ضياعه.

وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ؛ كَالْحُلِيِّ والثِّيَابِ عِنْدَ مُرْتَهِنٍ فَكَالأَوَّلِ، وبِيَدِهِ يَضْمَنُ

(فَكَالأَوَّلِ) أي: فالضمان من الراهن، وبيد المرتهن يضمن، ودليلنا على هذه التفرقة في ضمان ما يغاب عليه دون غيره: العمل الذي لا اختلاف فيه، نقله مالك في الموطأ، ولأن الرهن لم يؤخذ لمنفعة ربه فقط فيكون ضمانه من ربه كالوديعة، ولم يكن لمنفعة الآخذ فقط كالقرض فيكون من الآخذ، بل أخذ شبهاً منهما فتوسط وجعل ضمان ما لا يغاب عليه من الراهن لعدم تهمة المرتهن، وضمان ما يغاب عليه من المرتهن لتهمته على ذلك.

فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ؛ فَفِي نَفْيِ الضَّمَانِ رِوَايَتَانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَشْهَبَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ لِلتُّهْمَةِ، أَوْ لِدُخُولِهِ عَلَيْهِ ....

أي: فإن أقام المرتهن البينة على هلاك ما بيده مما يغاب عليه، فروى ابن القاسم: أنه يسقط عنه الضمان، وبه قال ابن القاسم وأصبغ وعبد الملك؛ بناء على أن الضمان إنما كان للتهمة وقد زالت بقيام البينة. وروى أشهب: أنه لا يسقط عنه الضمان، وبما قال أشهب قال جماعة، لأن الضمان على هذا القول ضمان أصالة، لأن هذا القسم مقابل لما لا يغاب عليه، وحكم أحد المتقابلين ثابت بالأصالة فيكون مقابله كذلك.

ص: 144

وقال المصنف تبعاً لابن شاس: (لِدُخُولِهِ عَلَيْهِ) والعلة الأولى أحسن؛ لأن المرتهن هنا لا يكون عنده علم بحكم المسألة، أو يذهب فيها إلى قول ابن القاسم، فلا يقال: إنه دخل على الضمان.

فروع:

الأول: إذا قلنا بعدم الضمان فيما لا يغاب عليه، فهل تتوجه اليمين على المرتهن أنه لم يفرط متهماً كان أو غيره، أو لا تتوجه، أو تتوجه على المتهم دون غيره؟ ثلاثة أقوال، وروى صاحب النكت: أنها تتوجه هنا، وفي العارية، والمبيع بالخيار، والمستأجر. وإن قلنا: إن الأمر عند ابن القاسم أو تتوجه في غير هذا الموضع؛ لأن المرتهن ونحوه قبض لحق نفسه. وأجاب عما قاله المتقدمون: أنه لا يمين على عامل القراض يدعي التلف، إلا أن يكون متهماً مع أنه قبض لمنفعة نفسه بأن منفعة القراض [519/ب] ليست متيقنة؛ إذ قد لا يربح فيه. قيل: ويحلف غير المتهم: ما فرطت ولا ضيعت. ويزيد المتهم: ولقد ضاع.

الثاني: إذا وجب ضمان ما يغاب عليه، فقال جماعة من متقدمي الأشياخ، وهو في العتبية، وعليه حمل بعضهم المدونة، وبه أفتى إسحاق بن إبراهيم: يحلف لقد ضاع بلا دلسة دلستها فيه، ولا يعلم له موضعاً. ووجه يمينه مع ضمانه: تهمته على الرغبة في عينه. وقال العتبي: لا يمين عليه. قال: وكيف يحلف ويضمن، ونحوه لمالك في هذا الأصل. قال العتبي: إلا أن يقول الراهن: أخبرني مخبر صدق على كذبه، وأنه رأى الرهن عنده قائماً؛ فيحلف على ذلك حينئذ. وإلى هذا ذهب ابن لبابة الأكبر، واعترضه بعضهم وقال: يمين توجب يميناً. وأجيب بأن اليمين قد توجب اليمين وذلك في كتاب الله عز وجل في اللعان.

الثالث: إذا أتى بالثوب وقد احترق بعضه وادعى أنه احترق لم يصدق، غلا أن يُعْلَم سبب ذلك من احتراق منزله أو حانوته. زاد ابن المواز: ويشترط أن يعلم أن النار من غير سببه. واختلف هل قول محمد تفسير للمذهب أو خلاف.

ص: 145

الباجي: وإذا ثبت الاحتراق؛ فإن ثبت أن ذلك الثوب فيما احترق صدق، أتى ببعضه محروقاً أم لا، وإن لم يثبت ذلك؛ فإن أتى ببعضه محروقاً صدق أنه كان في حانوته الذي احترق، وإن لم يأت بشيء وادعى احتراق جميعه؛ فظاهر المدونة أنه غير مصدق.

وقال الباجي: وعندي أنه إن كان مما جرت العادة برفعه في الحوانيت حتى يكون متعدياً بنقله عنه، كأهل الحوانيت والتجار الذين تلك عادتهم لا يكادون ينقلون شيئاً من ذلك من حوانيتهم؛ فأرى أن يصدق فيما عرف من احتراق حانوته، وبذلك أفتيت في طرطوشة عند احتراق أسواقها وكثرت الخصومات في ذلك، وظني أن بعض الطلبة أظهر لي رواية عن ابن أيمن بمثل ذلك، وذكر المازري أنه نزل عندهم سنة ثمانين وأربعمائة لما فتح الروم رومة والمهدية ونهبوا الأموال وكثرت الخصومات مع المرتهنين والصناع وفي البلد مشايخ من أهل العلم متوافرون؛ فأفتى جميعهم بتكليف المرتهن والصانع البينة أن ما عنده قد أخذه الروم وأفتيت بتصديقهم، قال: وكان القاضي يعتمد حينئذٍ فتواي فتوقفت لكثرة من خالفني حتى شهد عنده عدلان أن شيخ الجماعة السيوري أفتى بما أفتيت به، ثم قدم علينا كتاب المنتقى للباجي فذكر فيه في الاحتراق مثل ما أفتيت به، وذكر كلام الباجي المتقدم.

الرابع: ولو سقط الدين إما بهبة الدين أو إعطاء الحق؛ فالضمان مستصحب إلا أن يمكن المرتهن الراهنَ من الرهن ويتركه عنده، فحينئذ هو كالوديعة.

وقد بعدنا عن كلام المؤلف فلنرجع إليه.

وَعَلَيْهِمَا لَوْ شَرَطَ أَلَاّ يَضْمَنَ وَلَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ انْعَكَسَ الْقَوْلانِ

أي: وعلى قول ابن القاسم وأشهب لو شرط المرتهن ألا يضمن ما يغاب عليه انعكس القولان، يعني: في الصورة الظاهرة، وإلا فكل من الإمامين باق على أصله،

ص: 146

ومعنى العكس ثبوت الضمان عند ابن القاسم؛ لأن التهمة المقتضية للضمان حاصلة، وعند أشهب لا يضمن لأنه لم يدخل عليه.

فإن قلت: ولعل المصنف وابن شاس إنما عللا قول أشهب بالدخول على الضمان لهذا الفرع؛ إذ لا يتأتى فيه ما عللوا به من الأصالة؟ قيل: وكل منهما نقض أصله، أما ابن القاسم فلأن الضمان عنده إنما هو للتهمة، فمن حق المرتهن أن يقول: لم يبطل حقي حكما شرطياً وأنت قد أسقطت حقك الذي هو الضمان. وأما أشهب فالضمان عنده ضمان أصالة، فكان ينبغي له ألا يوفي بشرطه، لأنه مبطل بحكم شرعي. وقد اختلف المذهب في البائع بثمن إلى أجل يَشترطُ في عقد البيع أنه مُصَدَّقٌ في عدمِ قبضِ الثَّمن هل يُوَفَّى له أم لا؟ أو يوفى للمتورعين عن الأيمان دون غيرهم؟ على ثلاثة أقوال، وعلى أنه يوفى له، فهل يجوز مثله في الغرر؟ قال بعضهم: لا؛ لأنه سلف جر منفعة، والصحيح الجواز؛ لأنه شرط ينشأ عن التوثق، فكان كالرهن والحميل.

المازري: وقول ابن القاسم وأشهب يحسن إذا كان الرهن في عقد بيع أو سلف؛ لأن الرهن هناك يكون له حصة من الثمن في البيع وها هنا في السلف، وأما لو كان هذا الاشتراط في رهن تطوع به الراهن بعد عقد البيع أو السلف من غير شرط؛ فإنه ها هنا لا يحسن الخلاف، لأن التطوع هنا بالرهن كالهبة، فإذا أضاف إلى هذا التطوع إسقاط الضمان فهو إحسان على إحسان، فلا وجه للمنع فيه. ويؤيد هذا: أن ابن القاسم وأشهب اتفقا على أنه يوفي له بالشرط في العارية، وما ذلك إلا لأن العارية لا عوض فيها، وإنما هي هبة ومعروف. انتهى. ونحوه للخمي.

فرع:

وأما عكس هذا، وهو اشتراط الضمان فيما لا يغاب عليه؛ ففي المدونة والموَّازيَّة: لا يلزمه وضمانه من ربه. وقال أشهب: إن اشترط ذلك لخوف طريق ونحوه فهلكت الدابة بسبب ذلك التخوف فإنه ضامن.

ص: 147

اللخمي: ويجري فيها قول آخر أنه ضامن؛ لأنه الحيوان مختلف في ضمانه، فيوفي له بالشرط؛ لأن المؤمنين عند شروطهم، ومراعاة لقول أبي حنيفة: إن الضمان من المرتهن مطلقاً. وعلى المشهور: فلا كراء عليه على حكم العارية، وعن أشهب: أنه كراء فاسد وعليه أجرة المثل في ركوبه، وإن عثر عليه قبل استعمالها ردَّ، نص عليه اللخمي في العارية، وحمل ابن رشد قول أشهب على التفسير الأول.

فَإنْ كَانَ الرَّهْنُ نِصْفَهُ وَقَبَضَ الْجَمِيعَ لِمْ يَضْمَنْ إِلا نِصْفَهُ، كَمُعْطِيكَ دِينَاراً لِتَسْتَوْفِيَ مِنْهُ نِصْفَهُ دَيْناً، وكَذَلِكَ لو تَرَكَ [520/أ] الْمُسْتَحِقُّ الْحِصَّةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِيَدِهِ ....

فإن كان الرهن نصف ما يغاب عليه كثوب مثلاً رهن نصفه، فإنه إن ضاع لا يضمن إلا نصفه؛ لأن الرهن إنما هو النصف والنصف الآخر إنما هو فيه أمين، ونظره بمسألتين:

الأولى: إذا أعطاه ديناراً ليستوفي نصفه؛ فإنه لا ضمان عليه في النصف الزائد، لأنه إنما قبضه على الأمانة، ولأنه لما قبضه صار شريكاً لمعطيه فهلاكه عليهما، قال في التهذيب: ولا يمين عليه إلا أن يتهم فيحلف.

الثانية: إذا استحق شخص بعض الرهن الذي يغاب عليه ثم تركه بيد المرتهن وضع؛ فإنه لا يضمن الحصة المستحقة، لأنه تحت يده على الأمانة، لا يقال: لم لا يستصحب الضمان في الحصة المستحقة كما استصحب فيما إذا أعطى المرتهن دينه كما تقدم، لأنا نقول: المستحق لما يتقدم له على المرتهن ضمان فيستصحب.

فَإِذَا فَاتَ بِجِنَايَةً فَأَخَذَ الْقِيمَةَ، فَإِنْ جَاءَ بِرَهْنٍ مَكَانَهُ أَخَذَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ تَعَجَّلَهَا، وَإِلا كَانَتْ رَهْنَاً ....

يعني: إن جنى أجنبي على الرهن وأفاته وأخذت قيمته، ففي المدونة ما قاله المصنف، ولفظها: إذا غرم المتعدي القيمة فأحب ما فيه إلى أن يأتي الراهن برهن ثقة مكان ذلك،

ص: 148

ويأخذ القيمة وإلا جعلت القيمة رهناً. ابن يونس: ويطبع عليها. وانظر قول مالك: أحب إلي: فإن ظاهره عدم الجزم بهذا الحكم، إلا أن يكون المراد أحب بما سمعت. أبو الحسن: وقوله: "برهن ثقة" معناه: تكون قيمته كهذه القيمة. وقال ابن المواز: إن كانت القيمة من جنس الدين وصفته تعجلها؛ إذ لا فائدة في وقفها ولا منفعة في ذلك للراهن، فإن لم يكن من جنسه بقيت رهناً، ومراده بجنس حقه أن يوافق في كونه دنانير أو دراهم، هكذا نص عليه محمد، ولعل المصنف سكت عنه، لأن التقويم إنما يكون بعين، والأول أظهر؛ لأن حق المرتهن في الرهن الأول قد بطل بتلفه وبقي حقه في مطلق التوثق، فإذا أتى الراهن برهن آخر لم يبق للمرتهن حجة.

وأشار ابن عبد السلام إلى أنه يمكن أن يحمل قول محمد على الوفاق بأن يحمل الأول على ما إذا لم تكن القيمة من جنس الدين.

وَإِذَا جَنَى الرَّهْنَ وَاعْتَرَفَ الرَّاهِنُ وَحْدَهُ؛ فَإِنْ كَانَ مُعْدِماً لِمْ يُصَدَّقْ، وإِنْ كَانَ مَليَّاً فَإِنْ فَدَاهُ بَقِيَ رَهْناً وِإِلا أَسْلَمَهُ بَعْدَ الأَجَلِ وَدَفَعَ الدَّيْنَ ....

يعني: فإن جنى العبد الرهن جناية على أحد أو استهلك مالاً، فإن لم تثبت الجناية ببينة ولكن اعترف الراهن بها فقط - أي: أقر بها - فإن كان معدماً لم يلتفت لقوله؛ لأنه إقرار على المرتهن، وإن كان ملياً خير الراهن بين أن يفديه أو يسلمه للجناية، فإن فداه بأن دفع أرش الجناية بقي العبد على حاله، وإن أسلمه لم يدفع للمجني عليه، ويبقى تحت يد المرتهن، لأن وثيقته متقدمة على المجني عليه، وهكذا في المدونة، وقيده ابن يونس بما إذا لم يقر أنه جنى قبل الرهن، فأما إن أقر أنه جنى قبل رهنه، فإن لم يفده ولم يرض بحمل الجناية وحلف أنه ما رضي أن يتحملها؛ فإنه يجبر على إسلامه وتعجيل الدين، كمن أعتق وأقر أنه لغيره إن كان الدين مما له تعجيله، ولو كان الدين عروضاً من بيع ولم يرض من هي له أن يتعجلها ما جاز إقراره على المرتهن، كما لو كان معسراً والدين مما له تعجيله،

ص: 149

ويكون المجني عليه مخيراً، فإن شاء غرمه قيمته يوم رهنه لأنه متعدٍّ عليه، وإن شاء صبر عليه حتى يحل الأجل فيباع ويتبعه بثمنه.

وَإِنْ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٍ أَو اعْتَرَافٍ وِاخْتَارَ إِسْلامَهُ؛ خُيِّرَ الْمُرْتَهِنُ أَيْضاً، فَإِنْ أَسْلَمَهُ كَانَ لِذِي الْجِنَايَةِ بِمَالِهِ وَأُتْبِعَ الرَّاهِنُ ....

فإن كانت الجناية تثبت ببينة، وفي معناها: أن يعترف الراهن والمرتهن بالجناية فقد يعلق به ثلاثة حقوق؛ حق للسيد، وحق للمرتهن، وحق للمجني عليه. فيخير السيد أولاً - لأنه المالك -بين أن يفديه أويسلمه، فإن فداه بقي على حاله، ولوضوح هذا تركه المصنف.

وإن أسلمه خير المرتهن أيضاً لتقدم حقه على حق المجني عليه، فإن أسلمه المرتهن أخذه المجني عليه ملكاً له. قال في المدونة: ويكون ماله للمجني عليه قل أو كثر. ابن يونس: وليس للمرتهن أن يؤدي من مال العبد الجناية، ويبقى رهناً إلا أن يشاء سيده. زاد صاحب النكت: وسواء كان مال العبد مشترطاً إدخاله في الرهن أم لا؛ لأن المال إذا قبضه أهل الجناية فقد يستحق، فيتعلق على السيد غرم مثله، لأن رضاه بدفعه إليهم كدفعه ذلك من ماله، فأما إن أراد الراهن ذلك وأبى المرتهن، فإن كان لم يشترط المرتهن إدخال المال في الرهن فلا كلام له، وإن اشترط إدخاله في الرهن فإن ادعى المرتهن أن يفديه كان ذلك له، وإن أسلم العبد كان ذلك للراهن.

ولما تكلم المصنف على ما إذا أسلم إلى المرتهن الرهن شرع في الكلام على ما إذا فداه، فقال:

وَإِنْ فَدَاهُ كَانَ الْفِدَاءُ فِي رَقَبَتِهِ لا فِي مَالِهِ، يُبَدَّى عَلَى الدَّيْنِ ولا يُبَاعُ إِلا بَعْدَ الأَجَلِ. وقَالَ سُحْنُونٌ: وَقَبْلَهُ. ورُوِيَ: أَنَّ الْفِدَاءَ فِي رَقَبَتِهِ وَمَالِهِ

يعني: وإن فداه المرتهن، فالمشهور وهو مذهب المدونة، واختاره ابن القاسم وابن عبد الحكم: أن الفداء إنما يكون في رقبته دون ماله مبدى على الدين. وروي عن مالك،

ص: 150

وهو اختيار ابن المواز، وأكثر الأصحاب: أن الفداء يكون في رقبته وماله، لأنه لو أسلمه كان العبد للمجني عليه بماله، فإذا افتكَّه المرتهن انبغى أن يكون له ما كان للمجني عليه، ورأى في المشهور أن المرتهن إنما افتكَّه ليرده إلى ما كان عليه، ولولا ذلك لما كان له تطرق إلى العبد بوجه، فحينئذٍ [520/ ب] إنما يرجع العبد إلى ما كان عليه، وهو إنما كان مرهوناً دون ماله، ولهذا لو كان مال العبد مشترطاً في الرهن لم يختلف إذا افتكَّه أنه يكون الفداء في رقبته وماله.

وعلى القولين؛ ففي المدونة: لا يباع إلا بعد الأجل. وقال سحنون: وقبله، أي قبل أجل الدين، وهو مبني على الرواية التي اختارها ابن المواز: أن المرتهن وجب له ما كان عليه. واستحسن اللخمي قول سحنون، قال: ولا مقال للراهن لأنه رضي بإسلامه. وعلى ما وجه به المشهور يندفع هذا، ثم فيما اختاره ابن المواز إشكال آخر، ويتبين لك ذلك بما نقله اللخمي وابن يونس وغيرهما عنه: أنه إذا أسلمه السيد خير المرتهن في ثلاثة أشياء؛ وهي: إسلامه، أو فداؤه بمقدار الجناية أو أكثر، فإن أسلمه أو فداه بمقدار الجناية فكما تقدم، وإن فداه بأكثر ولو بدرهم، فقال محمد: العبد للمرتهن. مالك: ويتبع المرتهن الراهن بدينه إلا بالدراهم، فإنه يسقط من جملة الدين. وقوله أنه يتبعه بدينه إلا بذلك الدرهم، لا يصح إلا على تقدير أن المرتهن اشتراه من الراهن بما أدى فيه، وإذا كان عنده مبيعاً فكيف يتبعه ماله، والقاعدة المأخوذة من الحديث الصحيح: أن العبد لا يتبعه ماله إلا أن يشترطه المشتري. وفيه إشكال من وجه آخر، وهو أن هذا الدرهم إذا لم يحل أجله مقدم ومقارن لعقده بيع، فينبغي أن يمنع لما في ذلك من البيع والسلف، إلا أن يقول: إن هذا لم يكن مقصوداً وإنما الأحكام جرت إليه.

ولما أشرنا إليه في توجيه المشهور قال بعض الموثقين: إن نفقة هذا العبد إلى الأجل على سيده الذي كان ينفق عليه، لأنه رجع إلى ما كان عليه.

ص: 151

فَإِنْ حَلَّ الأَجَلُ بِيعَ بِمَالِهِ وَبُدِئَ بِالْفِدَاءِ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ زَادَ نِصْفَ الثَّمَنِ مَثَلاً؛ أَخَذَ الْغُرَمَاءُ نِصْفَ مَا بَقِيَ وَدَخَلَ مَعَهُمْ بِمَا بَقِيَ مَنْ دَيْنِهِ. قَالَ التُّونُسِيُّ: وَهَذَا هُو الْقِيَاسُ ....

هذا تفريغ على الرواية التي اختارها محمد، مثال ذلك: لو بيع بمائة وكان بدون ماله يساوي خمسين؛ فماله زاد نصف الثمن. وقال: (مَثَلاً) لأنه قد يزيد الثلث ونحوه، فالمائة الحاصله منها؛ خمسون للرقبة، وخمسون للمال، وعلى هذه الرواية: أن الفداء متعلق برقبته وماله فيأخذه، فإن كان الفداء خمسين أخذها وتبقى خمسون نصفها لرقبته ونصفها لماله والرهن أولاً إنما يكون في رقبته، فيأخذ في دينه ما بقى ويأخذ الغرماء الخمسة والعشرين، فإن بقى له شيء من دينه دخل معهم وأخذ بحساب ماله، وأما على مذهب المدونة: فالفداء إنما هو متعلق برقبته، فيأخذ الخمسين التي تقابل الرقبة، ويأخذ الغرماء الخمسين الباقية، ويدخل معهم بدينه، لأنه لم يبق له رهن يختص به؛ مثاله: ما قيمته خمسون وماله خمسون، فإن فداه بأربعين فبدأ المرتهن بأخذ الأربعين ثمن الفداء ودخل مع الغرماء في الخمسين؛ فيأخذ العشرة الثانية في الخمسين في دينه وهو أربعون مثلاً، فإذا أخذ العشرة بقي له ثلاثون وتقسم الخمسون الباقية للعبد وماله فيكون خمسة وعشرين، فيأخذها المرتهن أيضاً وبقي له خمسة يدخل بها مع الغرماء فيما بقي، لأنه لم يبق له رهن يختص به

وَأَمَّا لَوْ فَدَاهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لَكَانَ سَلَفَاً، فَلا يَكُونُ رَهْناً بِهِ

يعني: وأما إن فدى المرتهن العبد من المجني عليه بإذن الراهن؛ فالفداء سلف في ذمة السيد وإن ذاد على قيمة العبد، ولا يباع قبل الأجل اتفاقاً. محمد: ولا يكون رهناً بالفداء، وعليه اقتصر المصنف؛ لأن الفداء لما كان سلفاً اقتضى ذلك ألا يكون العبد رهناً به لعدم اشتراطه، ولهذا قال المصنف: فلا يكون رهناً به، لأن الفاء تشعر بالسبيبة. وقال مالك وابن القاسم: بل هو رهن به. واختلف فيه قول أشهب.

ص: 152

اللخمي: وأرى أن يحلف ليكون رهناً به. ونقل ابن يونس عن أشهب أنه لا يكون رهناً، ثم عارض بين قوله وقول ابن القاسم في هذه المسألة بقولهما في مسألة اللؤلؤ من كتاب الوكالة: إذا أمر رجلاً أن يشتري لؤلؤاً، وقال له: أنقد عني. فإن ابن القاسم عده سلفاً، ولا يرى له إمساك اللؤلؤ بثمنه، وأشهب يرى له إمساكه رهناً، قال: فخالف كل منهما أصله.

وَإِذَا قَضَى بَعْضَ الدَّيْنِ أَوْ سَقَطَ بِطَلاقٍ أَوْ إِبْرَاءٍ بَقِيَ جَمِيعُ الرَّهْنِ فِي الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتُحِقَّ بَعْضُ الرَّهْنِ بَقِيَ الْبَاقِي فِي الْجَمِيعِ ....

كما لو رهنه عشرة أرداب قمحاً مثلاً في مائة درهم ثم قضاه خمسين، فلا يأخذ الراهن شيئاً من الرهن إلا بعد وفاء جميع الحق؛ لأن الأسواق تحول على الباقي، لأن كل جزء من الرهن في مقابلة كل جزء من الدين، وكذلك لو رهنها في صداقها فطلقها قبل البناء فسقط عنه النصف أو أبرأته من النصف؛ لم يكن للزوج أن يأخذ شيئاً من الرهن، ولا فرق بين أن يكون الرهن متحداً كدار أو ثوب، أو متعدداً كثوبين أو نحو ذلك.

قوله: (وَكَذَلِك لَوِ استُحِقَّ .... إلخ).تصوره ظاهر.

فرع:

وأما تعدد الراهن والمرتهن؛ ففي المدونة: وإذا أقرضاه جميعاً واشترطا أن يرهنهما رهناً في صداقها فطلقها قبل البناء، فلا بأس به. قيل له: وإن قضى أحدهما دينه فهل له أخذ حصته من الرهن؟ قال: قال مالك في رجلين رهنا داراً لهما في دين فقضى أحدهما حصته من الدين؛ فله أخذ حصته من الدار. واستشكل قياس قول ابن القاسم، لأنه في الثانية إذا قضى أحد الراهنين حصته، وقلنا: إن له أن يأخذ حصته من المرتهن؛ لا يقع خلل في حيازة نصيب الراهن الآخر من الراهن الذي لم يقض الحق، بخلاف الأول، أعني: إذا اتحد الراهن وتعدد المرتهن؛ فإنه إذا قبض الراهن حظ المرتهن الذي أوفاه عادت

ص: 153

يد الراهن مع المرتهن الذي لم يقضه، وذلك مبطل لحيازته، ولهذا الاستشكال اختصر المختصرون المسألتين على [521/أ] السؤال والجواب إشارة إلى الإشكال.

ولهذا قال ابن يونس: يؤخذ من قوله: جواز حوز المرتهن نصف الدار مثلاً والباقي للراهن، وهو خلاف المعلوم من قوله. ورده عياض: بأنه لم يقل أن بقاءه بيد الراهن لا يبطل الرهن، وإنما تكلم على خروجه من الرهن ليبيعه وينتفع بثمنه.

فرع مرتب:

وهو أنه إذا تعدد المرتهن واتحد الراهن؛ فإذا قضى أحدهما هل يدخل الآخر عليه فيما قضاه؟ عياض: تحقيق المسألة أن الدينين إن كانا من شركة من ثمن مبيع بينهما أو من سلف واحد واشتركا فيه وهما جنس واحد، فمتى قضى أحدهما دخل عليه الآخر إذا كتباه في كتاب واحد، وكان الرهن لهما في شيء واحد، وإن لم يكتباه في كتاب واحد؛ قال في المدونة: كقمح أو دنانير مشتركة بينهما، وأما إن كتباه في كتابين فكأنهما قد رضيا بالتفاضل، وأما إن كانا نوعين أو حقين مختلفين كبيع وسلف أو دنانير وطعام؛ فلكل واحد منها أن يقضي دون صاحبه؛ كانا بكتاب واحد أو كتابين، إذ لا شركة بينهما في ذلك كما نص عليه في المدونة. فلو كانا من جنس واحد ونوع واحد من الحقوق ولا شركة في ذلك بينهما كدينارين من سلفين مختلفتين منفردين، فإن كانا في كتابين لم يدخل أحدهما على الآخر، وكذلك إن كانا في كتاب واحد، قاله أبو العباس الإبياني وغيره، وهو ظاهر قوله في الكتاب، وإنما الذي لا يكون لأحدهما الكلام فيما اقتضى صاحبه فيما كتباه في كتاب واحد من مال أصله شركة بينهما.

ص: 154

فَإِنْ طَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ بِيْعَ مَا لا يَنْقَسِمُ بِيعَ كَغَيْرِهِ وَكَانَتْ حَصَّةُ الرَّاهِنِ رَهْنَاً، وفِي رَهْنِيَّتِهَا لا تَعْجِيلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأشْهَبَ .....

يعني: إذا استحق بعض الرهن وطلب المستحق بيع نصيبه، فإن كان مما ينقسم قسم وتركت حصة الراهن رهناً، ولوضوح هذا لم يعترض له المصنف، وإن كان مما لا ينقسم بيع جميعه كغيره من سائر المشتركات التي لا تنقسم؛ إذا طلب أحد الشريكين البيع فإنه يجبر له الآخر، ثم إن بيع بمخالف الدين في الجنس أو الصفة بقيت حصة الراهن رهناً، وإن بيعت بجنسه وصفته، فقال ابن القاسم: تبقى أيضاً رهناً. وقال أشهب: بل تعجل للمرتهن؛ إذ لا فائدة في وقفها، وقد تضيع ولا ينتفع بها الراهن ولا المرتهن. وهذا معنى قوله:(وَفِي رَهْنِيَّتِهَا لا تَعْجِيلِهَا قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ).

واعلم أن التعجيل على قول أشهب مقيد بما إذا لم يأت برهن آخر، هكذا صرح به أشهب في الموَّازيَّة، وظاهر كلام المصنف: أن أشهب يقول بالتعجيل إذا بيع بمثل الدين، سواء كان الدين عيناً أو عرضاً، والذي في ابن يونس عنه: أن المرتهن يأخذ مصابه الرهن من الثمن من دينه إن بيع بمثل الدين من دنانير أو دراهم. ونقل الباجي عنه أنه قال في العتبية: إذا بيع بعرض مثل حقه أو مخالفاً له وضع له رهناً، وليس له تعجيله بغير رضا المرتههن. قال الباجي: ووجه أن المماثلة لا تكاد تحصل في العروض، وقد يجد عند الأجل ما هو أقرب إلى المماثلة. ولا يقال: لعل لأشهب قولين، وقد نقل اللخمي عنه الإطلاق كالمصنف؛ لأن تقييد كلامه بعضه ببعض أولي من حمله على الخلاف.

الباجي: وقال أشهب أيضا في العتبية: إن بيع شيئ من الطعام أو الإدام أو الشراب بمثل ما له صفة وجوده فاستحسن له تعجيله، وإن أبى صاحب الحق.

ص: 155

الباجي: وكذلك ينبغي أن يكون كل مكيل وموزون ونحوهما. وكذلك قال سحنون في المجموعة: إن بيع بمثل حقه فليعجل له. سحنون في موضع آخر: إلا أن يكون حقه طعاماً من بيع فيألى أن يتعجله فذلك له.

وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الرَّهْنِيَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ

يعني: إذا قال صاحب الدين: كتابك هذا عندي رهن مثلاً. وقال المالك: بل أعرته أو أودعته لك. فالقول للراهن، وهكذا في الموَّازيَّة؛ لأن رب الدين مدع لأنه أثبت للكتاب وصفاً زائداً فعليه البينة. وكذلك أيضاً إذا كان بيده عبدان فادعى أنهما رهن، فقال ربهما: إنما رهنتك أحدهما. فالقول قوله، قاله في المدونة.

وقوله: (الرَّاهِنِ) يريد: على دعوة خصمه، وإلا فالفرض أن الرهن لم يثبت، وقيد اللخمي المسألة بما إذا لم تكن العادة تصدق المرتهن، وأما إن صدقته كالبياع يبيع الخبز وشبهه فيدفع إليه الخاتم ونحوه ويدعي الرهينة؛ فإن القول قوله، ولا يقبل دعوى صاحبه أنه وديعة.

خليل: وهو كلام ظاهر. قال في المدونة: فلو كان نمطاً وجبة فهلك النمط، فقال المرتهن: النمطُ أو دعتنية والجبة رهن. وقال الراهن: النمطُ هو الرهن والجبة هي الوديعة. فكل واحد مدع على صاحبه، فلا يصدق الراهن في تضمين المرتهن ما هلك، ولا يصدق المرتَهِن أن الجبة رهن، ويأخذها ربها، يعني: ويحلفان.

وَالرَّهْنُ كَالشَّاهِدِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ إِلَى مَبْلَغِ قِيمَتِهِ مَا لَمْ يَفُتْ فِي ضَمَانِ الرَّاهِنِ

يعني: إذا اتفقا على الرهنية واختلفا في مقدار الدين، فإن الرهن يكون كالشاهد إلى مبلغ قيمته فيكون القول قول من ادعى أن الدين قدر قيمة الرهن. ابن عبد البر: واتفق على ذلك. وقال الحنفي وغيره: القول قول الراهن مطلقاً. واستدل القاضي إسماعيل

ص: 156

للمذهب بقوله تعالى: (ولَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ولَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ)[البقرة:283] بجعل الراهن بدلاً من الشاهد، لأن المرتهن أخذه وثيقة بحقه فكان كالشاهد يخبر عن مبلغ الدين، وما جاوز قيمته فلا وثيقة فيه، فكان القول فيه قول الراهن.

وقوله: (مَا لَمْ يَفُتْ فِي ضَمَانِ الراَّهِنِ) يعني: أنه يشترط في كون الرهن شاهداً أن يكون قائماً، وفي معنى القائم بأن يهلك في ضمان المرتهن، فإن قيمته تتنزل منزلته. وأما لو هلك في ضمان الراهن فلا يكون شاهداً، والذي في ضمان الراهن ما لا يغاب عليه أو ما يثبت هلاكه ببينة [521/ب] مما يغاب عليه كما تقدم، وهكذا نص في الموَّازيَّة والعتبية على أن الرهن لا يكون شاهداً إذا كان في ضمان الراهن.

خليل: وينبغي إذا شهدت البينة على صفته أن يقوم، وتكون تلك القيمة أيضاً كالشاهد، وكذلك أيضاً إذا شهدت على قيمته، وإن كان في ضمان الراهن. وإلى ذلك أشار عبد الوهاب، فإنه قال: العادة جارية أن الناس يرهنون ما يساوي قدر ديونهم أو ما يقاربها. اللخمي وغيره: فعلى قوله يكون الرهن شاهداً على الذمة، وإن هلك الرهن أو استحق.

فَيَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ وَيَاخُذُهُ وَإِنْ لِمْ يَفْتَكَّهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ

يعني: فيحلف المرتهن عليه وحده إن وافقت قيمة الرهن دعواه، وهذا هو المشهور.

وقيل: لابد من يمين الراهن إذا طلبها المرتهن ليسقط عن نفسه كلفة بيع الرهن في الدين، ولأن المرتهن يخشى من ظهور عيب بعد بيعه. عياض: وهو الصحيح وليسقط الطلب من ذمته على القول بتعلقه بالذمة.

قوله: (وَيَاخُذُهُ) أي: إذا حلف المرتهن أخذ الرهن إن لم يتفكه الراهن بما حلف عليه المرتهن، فإن نكل المرتهن حلف الراهن وغرم ما أقر به، ولا يلزم الراهن إذا حلف المرتهن أن يدفع ما حلف عليه؛ لأن الرهن إنما هو شاهد على نفسه، وهذا هو المشهور. وفي سماع

ص: 157

ابن القاسم عن مالك أنه شاهد على الذمة، ويجبر الراهن على دفع ما ادعاه المرتهن ما بينه وبين قيمة الرهن. ولهذا قال المصنف أولاً: والرهن كالشاهد، ولم يقل: والرهن شاهد؛ لأنه ليس بشاهد على الذمة وإنما هو شاهد على نفسه.

فَإِنْ زَادَ حَلَفَ الرَّاهِنُ مَا لِمْ يَنْقُصْ عَنْهَا، فَإِنْ نَقَصَ حَلَفَا وَأَخَذَهُ إِنْ لَمْ يَفْتَكَّهُ بِقِيمَتِهِ. وقِيلَ: بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ....

مثال ذلك: إذا قال الراهن بعشرة، وقال المرتهن: بعشرين: فثلاث صور:

الأولى: أن يوافق المرتهن بأن تكون قيمته عشرين.

والثانية: أن يوافق الراهن بأن تكون قيمته عشرة.

والثالثة: ألا يوافق واحد منهما بأن تكون قيمته خمسة عشر.

فأشار إلى الأولى بقوله: فيحلف المرتهن ويأخذه إن لم يفتكه. وأشار إلى الثانية بقوله: فإن زاد. أي: المرتهن على قيمته. أي: في دعوى المرتهن بأن يساوي عشرة حلف الراهن وحده، فإن نكل حلف المرتهن وأخذ المرتهن ما ادعاه.

وقوله: (ماَ لَمْ يَنْقُصْ عَنْهَا) أي: ما لم تنقص دعوى الراهن عن قيمة الرهن. قوله: (فَإِنْ نَقَصَ) أي: الراهن عن القيمة، يريد: مع كون الراهن قد زاد. (حَلَفاَ) أي: الراهن والمرتهن كل على دعواه.

عياض: ولا خلاف في حلفهما في هذه الصورة. مالك في الموطأ، وابن المواز: ويبدأ المرتهن باليمين؛ لأن الرهن كشاهد له على قيمته، فإن حلف فليحلف الآخر، فإن نكل لزمخ كل ما ادعاه المرتهن، وكذلك أيضاً لو نكل المرتهن وحلف الراهن لم يلزم الراهن إلا ما حلف عليه، وإن نكلا أو حلفا فعلى الراهن قيمته إن أحب. وقيل: لا يكون له أخذه إلا بما حلف عليه المرتهن.

ص: 158

وإلى هذين القولين أشار بقوله: (وَأَخَذَهُ إِنْ لَمْ يَفْتَكّهُ بِقِيمَتِهِ) وقيل: بما حلف عليه. القول الأول لمالك في الموطأ، وهو قول ابن نافع وابن المواز. ثم يقال للراهن: إما أن تعطيه الذي حلف عليه وتأخذ رهنك، وإما أن تحلف على الذي قلت أنك رهنته ويبطل عنك ما زاد المرتهن على قيمة الرهن. فإن حلف بطل ذلك عنه، وإن لم يحلف لزمه غرم ما حلف عليه المرتهن. والقول الثاني لابن القاسم في العتبية. قال في الموطأ: ويحلف المرتهن على جميع ما ادعاه، وهو العشرون. وقال ابن المواز: المرتهن مخير أن يحلف على دعواه أو على قيمة الرهن.

وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه: أنه لا يحلف إلا على خمسة عشر، كما لو ادعي عشرين فشهد له شاهد بخمسة عشر، فإنه يحلف على شهادة الشاهد.

وفرق الباجي وغيره بين الرهن والشاهد بأن الرهن متعلق بجميع الدين، والشاهد لا تعلق له بما لم يشهد، ألا ترى أن الراهن لو أقر بالعشرين لكان الرهن رهناً بجميعها، ولو أقر بتصديق الشاهد لم يكن لشهادته تعلق بغير الخمسة عشر.

واعلم أن القول بتحليفه على العشرين أخص؛ لأنه إذا نكل الراهن لا يحتاج المرتهن إلى يمين أخري، بخلاف من يقول: إنه يحلف على قيمة الرهن؛ لأنه يحتاج إذا نكل الراهن إلى يمين أخرى يثبت بها ما زاد على القيمة.

تنبيه:

ما تقدم من أن الضمير في قوله: (فَإِنْ زَادَ) عائد على (الْمُرْتَهِنُ) هو الظاهر، بل المتعين هنا، وهو الذي قال ابن راشد. وقال ابن عبد السلام: يعني فإن زاد الذي أقر به الراهن على قيمة الرهن؛ كما لو كانت قيمته ثمانية وأقر الراهن أن الدين عشرة، فيحلف الراهن وحده، كما يحلف لو لم يكن رهن ليرد دعوى المرتهن، وفيه نظر، فإن حمل الكلام

ص: 159

على هذا لا يفيد، فإنه إذا كان القول قول الراهن إذا ادعى قيمة الرهن فمن باب الأولى إذا ادعى أزيد من ذلك. ثم المسألة في كلام مالك وغيره إنما هي على الوجه الذي ذكرناه.

وَفِي شَهَادَةِ مَا بِيَدِ أَمِينٍ قَوْلانِ

القول بقبول شهادة ما بيد أمين لابن المواز، والآخر لأصبغ.

أبو محمد: وقول ابن المواز أصوب، لأنه إنما أخذه توثقة بحقه، ولا فرق بين أن يكون تحت يد المرتهن أو يد الأمين.

فَإِنْ تَلِفَ الْمَضْمُونُ واخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ؛ تَوَاصَفَاهُ ثُمَّ قُوِّمَ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ ....

يعني: إذا تلف المضمون وألزم المرتهن قيمته، فإن اختلفا في قيمته؛ فإنهما يتواصفاه ثم تقوم تلك الصفة، وإن اختلفا فيها فالقول قول المرتهن مع يمينه، وهكذا في المدونة. وقيد المصنف المسألة بالمضمون؛ لأن غير المضمون لا قيمة فيه على المرتهن حتى يغرمها، وليس هو أيضاً شاهداً [522/أ] على مقدار الدين كما تقدم.

وقوله: (فَإِنِ اخْتَلَفاَ) أي: في الصفة، فالقول قول المرتهن لأنه غارم، وهذا هو مذهب المدونة.

ابن المواز: ويقبل قول المرتهن في الصفة، وإن كانت قيمة ذلك يسيرة إلا في قول أشهب، فإنه قال: إلا أن يتبين كذبه لقلة ما ذكره جدًّا، واختلف أيضاً لو لم يدع المرتهن هلاك الرهن، لكن أتى برهن يساوي عشر الدين مثلاً، هل يكون الدين شاهداً للراهن إذا أنكر أن يكون هذا رهنه كما كان الرهن شاهداً للدين؟

والمشهور: أن لا يكون الدين هنا شاهداً.

ابن عبد السلام: والأقرب أنه لا فرق بين الصورتين.

ص: 160

فرع:

أما إن جهل الراهن والمرتهن قيمته وصفته؛ فالرهن بما فيه، وليس لأحدهما قبل الآخر شيء، وعلى ذلك حمل أصبغ الحديث:"الرهن بما فيه" قيل: ولا خلاف عندنا في ذلك.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ يَوْمُ الْحُكْمِ إِنْ كَانَ بَاقِياً، وَيَوْمُ قَبْضِهِ إِنْ كَانَ تَالِفاً، وَعَنْهُ أَنَّ الرَّهْنَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الضَّيَاعِ، وَعَنْهُ: يَوْمَ الرَّهْنِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ تِلْكَ الْقِيمَةُ فِي مَبْلَغِ الدَّيْنِ ....

حاصل ما ذكره: أنه إن كان الرهن باقياً اعتبرت قيمته يوم الحكم، وإن تلف؛ فثلاثة أقوال لابن القاسم، أعني: هل تعتبر يوم الضياع، أو يوم القبض، أو يوم الرهن؟ على أنه قد اختلف في الروايتين الأخيرتين هل هما وفاق أو خلاف؟

وقوله: (قَالَ الْبَاجِيُّ: فَيَنْبَغِي) إنما قال الباجي ذلك بلفظ يجب. قال: وعلى اعتبار قيمة الضياع يجب أن تعتبر تلك القيمة إلى مبلغ الدين، والأقرب اعتبار القيمة يوم الرهن؛ لأن الناس إنما يرهنون ما يساوي ديونهم غالباً. ابن عبد السلام: وما حكاه المصنف عن الباجي هو نص في الموطأ ومعناه في المدونة.

وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي مَقْبُوضٍ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: عَنْ دَيْنِ الرَّهْنِ، وقَالَ الْمُرْتَهِنُ: عَنْ غَيْرِهِ. وُزِّعَ بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا عَلَى الْجِهَتَيْنِ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ

نحوه في المدونه، ونظيرها إذا كان له عليه دين بحميل ودين بغيره، واختلفا في المقبوض هل عما هو بحميل أم لا؟ ابن رشد: والكلام فيهما واحد، ومذهب المدونة أنهما يتحالفان ويقسم المقبوض بينهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر فالقول قول الحالف، وحكى في المدونة في مسألة الحمالة عن غير ابن القاسم: أن القول قول المقبض مع يمينه، قال: لأنه مؤتمن مدعى عليه.

ص: 161

وإلى هذا أشار بقوله: (وَقِيلَ: القَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ) ابن رشد: وما حكاه من أن القول قول المرتهن لا يوجد على إطلاقه. وحكاه في الجواهر عن أشهب مقيداً، فقال بعد أن ذكر أنهما يتحالفان ويقسم الثمن بينهما: وقال أشهب: وهذا إذا تقاررا بالإبهام، وأما لو تداعيا البيان؛ فالقول قول المرتهن، وكلام ابن يونس قريب منه.

ابن عبد السلام: وهذا القول أقرب؛ لأن الدافع يطلب إخراج الرهن بمحض دعواه فعليه البيان. وقال ابن كنانة في مسألة الحمالة: القول قول من عليه الدين. وكذلك حكى ابن رشد قولاً في مسألة الرهن أن القول قول الراهن.

اللخمي: وهو القياس؛ لأنه متطوع، ولأن القول قوله فيما يقر به. وقيد اللخمي ما في المدونة بما إذا حل الدينان أو لم يحلا وكان أجلهما سواء أو متقاربان، فإن حل أحدهما؛ فالقول قول من ادعى الحال، وكذلك إذا تباين الأجلان فالقول قول من ادعى أقربهما أجلاً مع يمينه.

بعض القروبين: وإنما تصح القسمة إذا كانت المائتان حالتين، وأما إن كانتا مؤجلتين؛ فالقول قول الدافع، لأنه يقول: إنما قصدت تعجيل المائة لآخذ الرهن، فيكون القول قوله.

وَإِذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ رَدَّهُ لَمْ يُقْبَلْ

ظاهر.

وَإِذَا اخْتَلَفَ الأَمِينُ والْمُرْتَهِنُ، فَقَالَ: بِعْتُهَا بِمِائَةٍ وَأَسْلَمْتُهَا لَكَ، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ؛ غَرِمَ الأَمِينُ لَهُ مَا أَنْكَرَهُ

قال في المدونة: وإن قال المأمور بعت الرهن بمائة وقبضتها للمرتهن، وقال المرتهن: ما أخذت منه شيئاً؛ صدق المرتهن. وكذلك يصدق المرتهن إذا قال: إنما أعطاني خمسين، وقال المأمور: بل مائة. ولأجل تصديق المرتهن قال المصنف: غرم الأمين ما أنكره، أي: ما

ص: 162

أنكر المرتهن، يعني: للمرتهن بعد يمينه. وهو مقيد بما إذا كان المأمور مأموراً من الراهن.

ابن يونس: ولو كان المرتهن هو الذي أمر ببيعه؛ لصدق المأمور مع يمينه في دفعه إلى المرتهن، لأن الوكيل على البيع مصدق في دفع الثمن إلى الآمر.

* * *

ص: 163