الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّفْلِيس:
وَإِذَا الْتَمَسَ الْغُرَمَاءُ أَوْ بَعْضُهُمُ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ يَنْقُصُ مَالُهُ عَنْ دَيُنِهِ الْحَالِّ حُجِرَ عَلَيْهِ .....
التفليس مصدر فلس. عياض: وأصله من الفلوس؛ أي: صار صاحب فلوس بعد أن كان ذا ذهب وفضة. وفي الجوهري: يقال: أفلس الرجل؛ أي: صار مفلساً كأنما صارت دراهمه فلوساً، كما يقال: أخبث إذا صارت أصحابه خبثاً، وأقطف إذا صارت دابته قطوفاً، ويجوز أن يراد أنه صار إلى حال ليس معه فلس، كأُقْهِرَ الرجل إذا صار إلى حال يقهر عليه.
وقوله: (الْتَمَسَ
…
) إلخ. يعني للقاضي الحجر على المِدْيَان بثلاثة شروط، أو شرط مركب من ثلاثة أجزاء:
الأول: أن يطلب الغرماء أو واحد منهم ذلك، وهو معني قوله:(الْتَمَسَ الْغُرَماَءُ أَوْ بَعْضُهُمُ) وفهم من كلامه أن لبعض الغرماء إذا قام تفليسه وإن كره غيره، وهو صحيح. محمد: إلا أن يقدمه الغرماء في المال الموجود أو يدفعوا له دينه من أموالهم.
الثاني: أن يكون مال المِدْيَان ناقصاً عن دينه الحال.
الثالث: أن يكون الدين حالاً، وأما إن كان مؤجلاً فلا حجر بمؤجل، نعم يحل بالحجر كما سيأتي، والمؤجل الحال كالحال، وذكروا هنا صوراً:
الأولى: أن يكون له وفاء دينه الحال والمؤجل؛ فهذا لا يفلس.
الثانية: أن يكون ما بيده ناقصاً [522/ب] عن الحال؛ فلا إشكال أنه يفلس.
الثالثة: أن يكون بيده مقدار الحال فقط، فللقرويين في تفليسه قولان.
الرابعة: أن يكون في يده مقدار دينه الحال ويفضل عن ذلك فضله إلا أنها لا تفي بالمؤجل الذي عليه، فذكر اللخمي أن المعروف أنه يفلس. وفي الموازية: أنه لا يفلس.
قال: وليس بحسن. وقيد اللخمي ما في المدونة بأن تبقى في يده فضله يعامله الناس عليها ويتاجرة الناس بسببها، ويرجى من تنميته لها ما يقضي به الديون المؤجلة، وإن كان المعروف في هذه المسألة أن يفلس؛ إذا لم يكن بيده إلا مقدار الحال أولى، وهو خلاف مفهوم كلام المصنف؛ إذ مفهوم كلامه: أنه لو بقى بيده مقدار الحال فقط لم يفلس.
اللخمي: وإذا كان ما في يده كفاف دينه وله مؤجل مثل المؤجل الذي عليه في العدد والأجل على موسر، أو كان محل دينه قبل محل الذي عليه، أو كان محل دينه أبعد أجلاً وهو أكثر عدداً- وإن بيع الآن- أو عند حلول ما عليه وفاء بالدين، لم يفلس، وكذلك إذا كان أجل دينه قبل وهو أقل ويرجى بعد قبضه وتجره به أن يوفي ما عليه.
تنبيه:
أخذ من قول المصنف: (الْتَمَسَ الْغُرَمَاءُ) أنه لا يكون للقاضي ذلك إلا بطلبهم، وأنه لو أراد الغريم تفليس نفسه لم يكن له ذلك، وقد اختلف الشافعية هل له ذلك أم لا؟ والصل في هذا الباب ما رواه أبو داود: أنه عليه السلام حجز على معاذ بن جبل- رضي الله عنه وقسم ماله بين غرمائه. وفعل ذلك عمر بن الخطاب- رضي الله عنه برجل كان يشتري الرواحل ويسبق الحاج. وقال:" من كان له عنده شيء فليأتنا بالغداة نقسم ماله وإياكم والدين، فإن أوله هم وآخره حرب".
وَلا حَجْرَ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلَكِنْ يَحِلُّ بِالْحَجْرِ
يعني: شرط الدين الذي يحجر به أن يكون حالاً، وإن كان دينه مؤجلاً كله أو حل بعضه ولكن ما بيده أكثر مما حل عليه؛ لم يحجر عليه.
اللخمي: وسواء كان يوجد عنده عند حلول الأجل شيء أم لا، إلا أن تتغير حالته ويظهر منه إتلاف ويخشى ألا يوجد عند حلول الأجل شيء؛ فيحجر عليه ويحل دينه، إلا أن يضمن أو يوجد ثقة يتجر له.
قوله (وَلَكِنْ يَحِلُّ بالْحَجْرِ) يعني: إذا حجر عليه بسبب الدين الحال فإن المؤجل يحل كما يحل بالموت؛ لخراب الذمة في المسألتين.
فرع:
لو قال بعض الغرماء: لا أريد حلول عروضي، وقال المفلس: بل حكم الشرع بحلول ما على ولا أوخره؛ فالقول للمفلس ويجبر المستحق على أخذها، قاله في الموازية والعتبية. واعترضه اللخمي بأن الحلول إنما لِحَقِ رب السلعة، فينبغي ان يكون القول له في التأخير، وإلى حلول الدين بالموت أشار بقوله:
وَالْمَوْتُ كَالْفَلَسِ
وهذا هو المشهور. وذهب السيوري إلى أن المؤجل لا يحل بالموت، فأحرى على قوله الفلس، ووجه المشهور: أنه لو لم يحل بالموت لزم إما تمكين الورثة من قسمة التركة، وإما عدم تمكينهم، والأول باطل بقوله تعالى:(مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)[النساء:11]. والثاني كذلك؛ لما يلحق الجميع بسبب وقف التركة من غير فائدة. ولو قال الورثة: نحن نأتي بالحميل مليء ونؤديه عند الأجل ومكنونا من قسمة التركة كلها؛ لم يكن لهم ذلك، قاله ابن نافع في المبسوط.
فرع:
ويدخل في قوله: (ويحل بالفلس) دين الأكرية، وهو الذي أخذ من المدونة من قوله: إذا ألفلس المكتري فصاحب الدابة أولى بالمتاع من الغرماء. فإنه يقتضى تعجيل حقه، ولا يصح أن يباع للغرماء منافع دابة بالنقد يأخذونه ويبقى هو مطالباً بالكراء. ومن قوله فيها أيضاً، إذا اكترى أرضاً فزرعها ثم فلس؛ أنه يحاص الغرماء منافع دابته بالنقد بالكراء.
المازري: وذكر لي بعض أشياخي أن عبد الوهاب نص عليه في شرح الرسالة، وكذلك ذكر لي عن المبسوط، ولم أقف على النقل في هذين الكتابين، ولكن عندي أن المسألة
كالمنصوص فيها على قولين؛ لأنه اختلف فيمن أكرى داره خمس سنين وقبض كراءها ومر عليه حول ففلس، هل يكري الجميع أو العام الأول فقط؟
وفي المقدمات: وإن اكترى الرجل داراً بالنقد أو كان العرف فيه النقد ففلس المكتري قبل أن يقبض الدار أو بعد أن قبض المكتري بعض السكني؛ فأوجب ابن القاسم في المدونة للمكتري المحاصة بكراء ما بقى من السكني إذا شاء أن يسلمه، وله مقل ذلك في العتبية. وعلى قياس هذا إن فلس قبل أن يقبض الدار فللمكتري أن يسلمها ويحاص بجميع كرائه، وهذا إنما يصح على قول أشهب الذي يرى قبض أوائل الكراء قبضاً لجميع الكراء. وأما ابن القاسم: فالقياس في أصله أن يحاص الغرماء بما مضى ويأخذ داره ولا يكون له أن يسلمها، ويحاص الغرماء بجميع الكراء. ولو لم يشترط في الكراء النقد ولا كان العرف فيه النقد؛ لوجب على المذهب المتقدم إذا حاص أن يوقف ما وجب له في المحاصة، فكلما سكن شيئاً أخذ بقدره من ذلك.
وَالْبَعِيدُ الْغَيْبَةِ لا يُعْرَفُ تَقَدُّمُ مِلائِهِ يُفَلَّسُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: وَلَوْ كَانَ عُرِفٌ
يعني: أن الغريم إذا كان بعيد الغيبة ولم يعرف له تقدم ملاء فإنه يفلس، وإن عرف له ذلك؛ فالمشهور لا يفلس خلافاً لأشهب، وقد نقل ابن يونس وغيره قول أشهب كما نقله المصنف. وقول ابن عبد السلام: إن في نقل المصنف له نقصاً؛ لأنه لا يؤخذ منه أنه يحكم بفلسه ولو عرف ملاؤه، وليس بظاهر. وقال أصبغ بالمشهور استحساناً، والقياس عنده قول أشهب.
أصبغ: ويكتب بتفليسه حيث هو ليستتم عليه ذلك بالموضع الذي هو فيه.
ابن يونس: وفي قول أصبغ نظر؛ لأن أشهب إنما فلسه وإن كان ملياً في غيبته؛ لإمكان [523/أ] تلف المال، فإذا وصل إليه فكيف يحل المؤجل عليه وهو مليء. انتهى.
وأجيب بأن أصبغ رآه حكماً مضى فلا يرتفع.
فرع مرتب على المشهور:
فإن فلس ثم قدم ملياً فلا شك في أخذ من قد حل دينه، وأما من لم يحل دينه؛ فاختلف هل يأخذ أيضاً حقه لأنه حكم مضى وهو ظاهر قول أصبغ، أو لا يأخذه إلا بعد أجله لأن الغيب قد كشف خلاف ما مضى به فصار كما لو تبين خطأه وهو اختيار بعض المحققين؟ وقال ابن عبد السلام: الأول أقرب؛ لأن الحاكم حين قضى بإفلاسه كان محوزاً لما قد ظهر الآن، وأيضاًفهو حكم واحد، وقد وقع الاتفاق على أن من قبض شيئاً من دينه المؤجل لا يرد ذلك، فكذلك ما بقى، وأما لو حضر الغريم وغاب المال فإن ذلك يوجب تفليس الغريم إذا كانت غيبة المال بعيدة. انتهى.
وفهم من قول المصنف: (وَالْبَعيدُ) أنه لو كان قريبا لم يفلس بل يكشف عن حاله، وهكذا في العتبية والواضحة لابن القاسم، وحد القرب فيهما بالأيام اليسيرة.
قال في البيان: ولا خلاف في ذلك. قال: وخلاف ابن القاسم وأشهب إنما هو عندي فيما كان على مسيرة عشرة أيام ونحوها، وأما إن كان على مسيرة الشهر ونحوه فلا خلاف في وجوب تفليسه وإن علم ملاءه؛ أي: غناه من فقره.
فرع: وهل يستأنى ببيع عروض الغائب خشية أن يكون عليه دين آخر؟ أما البعيد الغيبة: فلا خلاف في الاستيناء في حقه. وأما القريب: فلمالك في رواية ابن وهب في بعض روايات المدونة، ولا يستأنى به لأن له ذمة. وقال ابن القاسم: يستأنى به كالميت.
وَلَوْ مَكَّنَهُمُ الْغَرِيمُ مِنْ مَالِهِ فَبَاعُوهُ وَاقْتَسَمُوهُ ثُمَّ تَدَايَن؛ فَلَيْسَ للأَوَّلِينَ دُخُولٌ فِيهِ، إِلا أَنْ يَكُونَ فِيْهِ فَضْلُ رِبْحٍ كَتَفْلِيسِ السُّلْطَانِ
يعني: إذا اتفق الغريم وأرباب الديون على أخذ ما في يد الغريم والتحاصص فيه وفعلوا ذلك من غير رفع إلى الحاكم، ثم تداين هذا الغريم من قوم آخرين؛ فليس للأولين الدخول في دين ما أخذه من الآخرين، إلا أن يفضل عن دين الآخرين فضل.
وقوله: (كَتَفْلِيسِ السُلْطَانِ) تشبية لإفادة الحكم؛ لأنه لم يتقدم له هذا الحكم في تفليس السلطان؛ أي: وليس لهم أن يدخلوا كحكم الحاكم.
وَلِلْحَجْرِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ؛ مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمَوْجُودِ
(أل) في (لِلْحَجْرِ) للعهد؛ أي: لحجر المفلس أربعة أحكام؛ الأول: (مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمَوْجْودِ) احترازاً مما إذا لم يوجد؛ فإنه لا يمنع كالتزامه عطية شيء إن ملكه، اللهم إلا أن يملكه ودينهم باق فلهم حينئذ المنع. ومراد المصنف بالمنع من التصرف: هو التصرف الخاص وهو التبرع؛ لقوله بعد هذا: (مُعَامَلَتِهِ) ولكن إن أراد هذا دخل عليه النكاح، فإنه ممنوع من التزويج في المال الذي فلس فيه، قاله في المدونة، قال: وله أن يتزوج فيما أفاده بعده. وظاهرها وظاهر العتبية: أن له أن يتزوج قبل التفليس.
ابن رشد: هذا إذا تزوج من يشبه حاله وأصدقها مثل صداقها، ولو كان أكثر لكان غرماؤه أولي، وترجع هي عليه به، واختلف هل يُقَامُ المفلس من السوق لئلا يُغَشُ الناس بالبيع هنا؟ قال مالك في الموازية فيمن تَعَمَدَ إتلاف أموال الناس: يقام من السوق، كما قال في السفيه إذا حجر عليه. وقال مطرف وابن الماجشون في الواضحة: والمفلس لا يقام للناس.
اللخمي: وهذا أحسن فيمن لم يتعمد تلف ذلك.
فرعان:
الأول: اختلف في الكتابة؛ فقيل من ناحية العتق فترد، وقيل: من ناحية البيع فتمضي.
اللخمي: وأرى أن ينظر في قيمته مكاتباً؛ فإن كانت كقيمته رقيقاً مضت مطلقاً إلا أن يتعذر بيع المكاتب، وكذلك إن كانت قيمته مكاتباً أبخس إلا أنها تفي بالدين، وإن كانت لا تفي؛ ردت إن كانت بعد الحجر أو قبل وكان البخس لتخفيف في الكتابة؛ لما يرجى من الولاء، إلا إن كانت قبله في حسن النظر لكثرة النجوم، كمن باع سلعة بثمن إلى أجل
وكان بيع ذلك الدين لا يفي بالثمن لو بيعت على النقد فإنه لا يرد. انتهى. وهذا إنما يأتي إذا أجرينا الكتابة مجرى البيع.
الثاني، قال في المدونة: ورهن من أحاط الدين بماله وبيعه وقضاؤه جائز ما لم يفلس، وقد كان مالك يقول: إذا تبين فلسه فليس له ذلك ويدخل الغرماء معه فيه، وليس بشيء، وعلى الأول جماعة الناس.
وحكى في المقدمات قولاً ثالثاً بجواز قضائه لبعض غرمائه دون رهنه، أما لو قضى جميع ما بيده لأحد غرمائه، فأشار السيوري إلى أن ذلك لا يختلف في رده وأفتى بذلك، وإنما اختلف إذا قضى البعض، وقال بعض القرويين: إنه يتفق على رده إذا عجله لبعضهم قبل أجله.
وَفِي مُعَامَلَتِهِ، ثَالِثُهَا: بِالنَّقْدِ لا بِالنَّسِيئَةِ، وَرَابِعُهَا: بِمَا يَبْقَى لا بِمَا يَذْهَبُ
أي: وفي صحة معاملة المفلس وعدم صحتها، والذي اقتصر عليه اللخمي والمازري وابن شاس: أن بيعه وشراءه لا يمضي. وفي الجلاب: أن بيع المفلس وابتياعه جائز ما لم يحاب. ولم أقف على غير هذين القولين، على أن بعض من تكلم على الجلاب أوله بأن مراده مَنْ ظهر عليه الفلس قبل أن يحجر الحاكم عليه، قال: وأما إن حجر عليه فلا يجوز له تصرف البتة. ولا خلاف في جواز بيعه إذا لم يحجر عليه بشرط ألا يحابي، قاله في المقدمات.
وقوله: (بِمَا يَبْقَى لا بِمَا يَذْهَبُ) أي: لا يسرع إليه التلف كالعقار.
ابن عبد السلام: ولستُ على وثوقٍ من نسبة هذه الأقوال للمذهب، بل ورأيت من الحفاظ من ينكرها، والأول منها هو المعروف في المذهب، ولو صح بيعه وشراؤه لما كان للحجر عليه كبير فائدة، وإنما حكيت هذه الأقوال في مستغرق الذمة بالحرام والمغصوب، على القول بأن حكمه حكم من أحاط الدين بماله لا حكم المفلس وهو الأظهر، ومنهم من
رأى حكمه حكم المفلس فمنع من معاملته مطلقاً، هكذا [523/ب] حرره بعض المحررين من الشيوخ.
وَيَمْضِي عِتْقُ أُمِّ وَلَدِهِ، وَرَدَّهُ الْمُغِيرَةُ
أمضاه ابن القاسم في الكتاب ورده المغيرة، وقال: ليس هو كطلاقه لزوجته، بل هي كرقيقه؛ لاتفاقه بها. ومنشأ الخلاف: هل هي كالزوجة لأنه ليس له فيها إلا الاستمتاع، أو كالأمة لأن فيها شائبة الرق، ولأن أرش جنايتها للسيد؟
وفهم من قوله: (وَيَمْضِي عِتْقُ أُمِّ وَلَدِهِ) أنه لا ينبغي للمفلس أن يقدم على ذلك ابتداءً، وهذا مقيد بأم الولد التي أولدها قبل الحجر، وأما لو أولدها بعده؛ فيرد عتقها لأنها تباع إذا وضعت دون ولدها.
وَفِي إِتْبَاعِهَا مَالَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ يَسِيراً قَوْلانِ
إذا فرعنا على المشهور من إمضاء العتق، فإن لم يستثن السيد مالها، فقال مالك في العتبية: يتبعها لأن السيد باعتبارها غير مفلس. وقال ابن القاسم: لا يتبعها إلا أن يكون يسيراً، لأن الغرماء إنما لم يكن لهم ردها لأنهم لا منفعة لهم فيها بخلاف مالها.
وَتَصَرُّفُهُ شَارِطاً أَنْ يَقْضِيَ مِنْ غَيْرِ مَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ صَحِيحٌ
إذا اشترى شيئاً على أن يقضي ثمنه من غير ما حجر عليه فيه بل مما يطرأ جاز؛ إذ ليس فيه إتلاف على الغرماء.
خليل: وانظر هذا فإن فيه البيع لأجل مجهول وقابله بما قالوه فيمن تزوجها إلى ميسرته أنه لا يجوز، وقد تقدم أن شيخنا رحمه الله أخذ من هذا أنه يجوز أن يشتري سلعة بشرط أن يدفع ثمنها إذا فتح الله عليه وانظر ذلك.
وَكَذَلِكَ طَلاقُهُ وِخُلْعُهُ وِاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وعَفْوُهُ
يعني: وكذلك تصح تصرفاته غير المالية كطلاقه، فأحرى خلعه لأخذه فيه مالاً، وذلك أنفع للغرماء، وله أن يستوفي القصاص الذي وجب له؛ إما بسبب جناية عليه أو على وليه، وله أن يعفو عن الجاني، ولا إشكال في هذا على قول ابن القاسم الذي يرى أن موجب العمد قود كله، وأما على قول أشهب الذي يرى أن الواجب الخيار للولي بين القصاص والدية فقد غمزه بعضهم، والأظهر أنه لا إشكال فيه على قاعدة المذهب؛ لقولهم أنه لا يجبر على انتزاع مال أم ولده ومدبره.
ووقع في بعض النسخ (وغيره) عوض قوله: (وعَفْوُهُ) فيعني به كاستلحاق النسب أو اللعان، والله أعلم.
وَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْمَجْلِسِ أِوْ عَنْ قُرْبً
يعني: أن إقرار الغريم إما بدين في ذمته أو بمعين، وبدأ بالدين وذكر أنه يقبل إقراره في مجلس التفليس وبالقرب منه، ولا يقبل مع البعد للتهمة، وقيد بالمجلس وقربه؛ لأن الغالب في حق من يعامل الناس أنه لا يستحضر جميع ما عليه إلا بتفكر.
ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أنه يقبل في المجلس وبالقرب منه، سواء كان الدين الذي فلس به ثبت ببينة أو بإقرار، وهو اختيار بعض الشيوخ. والظاهر عندي: أن الغالب عدم استحضاره لجميع الدين في وقت واحد، لكن الذي نص عليه محمد وحملوا عليه المدونة أن هذا خاص بما إذا ثبت الدين بإقراره، وإن كان ببينة فإنه لا يقبل وإن كان في المجلس.
ولمالك في الموازية قول ثالث: أن من أقر له المفلس إن كان يعلم منه إليه تقاض ومداينة وخلطة؛ حلف المقر له ودخل في الحصاص مع من له بينة.
وزاد بعضهم رابعاً: أنه يقبل ما لم يحز عنه المال؛ لأنه حينئذ كالرهن للغرماء. وفهم من كلام المصنف أنه إذا أقر قبل التفليس أنه يقبل؛ لأنه قبل في مجلس التفليس فأحرى قبله.
قال في المقدمات: ولا خلاف في ذلك إن كان المقر له لا يتهم عليه، وفي المتهم عليه خلاف. وكذلك حكى اللخمي وقال: عدم الجواز أحسن.
ابن راشد: ونزلت عندنا بقفصة وكتب فيها قاضي الجماعة بما اختاره اللخمي من البطلان.
خليل: وفي الاتفاق الذي حكاه في المقدمات نظر، فقد حكى المازري وغيره أنه وقع لابن نافع في المبسوط أنه لا يجوز أقرار من تبين فلسه وإنما لم يضرب على يديه.
ابن راشد: وحد التفليس الذي يمنع قبول إقراره أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه أو يقوموا فيستتر عنهم فلا يجدوه، وذكر غيره أنه اختلاف بماذا يكون مفلساً؟ فقيل: بالمشاورة فيه.
وقيل: إذا رفعوه للقاضي. وقيل: بجعله في السجن.
ثُمَّ لا يُقْبَلُ إِلا بِبَيِّنَةٍ وَيَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ
أتى بـ (ثُمَّ) المقتضية للتراخي؛ يعني: فإن لم يقر في المجلس ولا بقربه بل بعد ذلك لم يقبل أقراره، إلا أن تشهد البينة لصحته، وإذا لم يقبل بقي ما أقر به في ذمته، فإذا أفاد مالاً بعد ذلك دخل فيه هذا المقر له؛ لأن التهمة إنما كانت في المال الأول.
قال في المقدمات: وأما لو داين قوماً آخرين ثم فلس؛ فلا دخول للمقر له أولاً معهم، لأن حقه على قوله فيما كان أخذه الأولون، فإن فضل عن الآخرين فضلة دخل معهم الأولون.
واختلف إذا كان إقراره أولاً صحيحاً ولم يرض المقر له بتفليسه ولا دخل في المحاصة؛ فقال محمد: له أن يدخل مع الآخرين. وقال مطرف في الواضحة: لا يدخل معهم.
اللخمي: وإن كان غائباً حين فلسه ثم قدم؛ كان له أن يدخل مع الأولين فيحاصصهم، ويختلف إن أحب أن يدخل مع الآخرين؛ فعلى قول محمد له ذلك.
وقال ابن القاسم في كتاب السرقة: لا يدخل معهم وهو موافق لقول مطرف، وهو أحسن؛ لأن هذه الأموال للآخرين لا شركة للأولين فيها.
واختلف إذا بقي أحد الأولين في يده نصيبه من المحاصة؛ فعلى قول ابن القاسم: يضرب مع الآخرين بقدر ما أبقى كمداينة حادثة [524/أ]. وفي الواضحة: يضرب بأصل دينه.
فَإِنْ قَالَ قِرَاضٌ أَوْ وَدِيعَةٌ وَعَلَى أَصْلِهِ بَيِّنَةٌ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْبَلُ. وَقَالَ أَشْهَبُ بِالتَّعْيينِ. وَقَالَ أَصْبَغُ: وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ إِذَا عَيَّنَهُ وَكَانَ لِمَنْ لا يُتَّهَمُ
يعني: وإن أقر بشيء معين في يده في المجلس أو أقر به وقال: هو قراض لفلان أو وديعة، فقال ابن القاسم: يقبل ذلك منه إذا شهدت بينة على أصل القراض والوديعة. واشترط أشهب إذا شهدت على تعيين ذلك أنه له، هكذا نقل غير واحد قول أشهب. واكتفى أصبغ بتعيين المقر وإن لم تكن بينة إذا كان إقراره لمن لا يتهم عليه، وحكى في البيان فيما إذا قال: هو قراض فلان أو وديعة فلان ثلاثة أقوال:
الأول لمالك في سماع عيسى: أنه جائز مع يمين المقر له.
والثاني لابن القاسم في العتبية وآخر الوصايا الثاني من المدونة: أن إقراره لا يجوز.
والثالث: الفرق إن كان على أصله بينة صُدِّقَ أن هذا هو ذلك المال، وإن لم تكن على أصله بينة لم يصدق، ورواه أبو زيد عن ابن القاسم، قال، وقيل: إن رواية أبي زيد مفسرة للقولين.
ابن عبد السلام: وما حكاه عن كتاب الوصايا الثاني ليس نصاً في تعيين المقر به، بل ظاهره عدم التعيين، وهو نص التهذيب.
وإن أقر الولد أن أباه أوصى لرجل بثلث ماله وعلى الولد دين يستغرق مورثه وأنكر غرماؤه الوصية؛ فإن كان إقراره قبل القيام عليه بالدين جاز، ولا يجوز أقراره بعد القيام عليه، وكذلك إقراره بدين على أبيه أو وديعة عند أبيه فإقراره بعد قيام غرماء المقر عليه لا يقبل إلا ببينة، وإقراره قبل أن يقام عليه جائز، لكن في آخر كتاب القراض وكتاب الوديعة ذكر التعيين في إقرار المريض بالقراض والوديعة. أ. هـ.
وحكى المازري وغيره الثلاثة الأقوال التي حكاها ابن رشد في الوديعة في الصانع أيضاً إذا عين شيئاً لأحد.
وفي اللخمي: إذا ثبت البيع والإيداع، ثم قال بعد الفلس: هذا الثوب الذي اشتريت أو الوديعة التي قبضت، فقيل: لا يقبل إقراره، وقيل: يقبل، وقيل: لا يقبل في البيع ويقبل في الوديعة، والإبضاع والقراض والقبول في الجميع أحسن؛ لأن الأصل وجود هذه الأشياء عنده حتى يُعْلَمَ أنه تصرف فيها.
ابن يونس: ولم يختلف في المريض يقول: هذا قراض فلان أو وديعته أنه يقبل إقراره إن كان لم يتهم عليه وإن لم تكن على أصل ذلك بينة؛ لأن الحجر على المريض أضعف من الحجر على المفلس؛ لأن المريض يشتري ما يحتاجه بخلاف المفلس.
وَالْمَالُ الْمُتَجَدِّدُ يَحْتَاجُ إِلَى حَجْرٍ ثَانٍ
يعني: أن ما استفاده بعد الحجر عليه أو نشأ عن معاملة قوم آخرين، فإن له التصرف فيه حتى يحجر عليه حجراً آخر.
وَأُجْرَةُ الْحَمَّالِ وَالْكَيَّالِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْحَجْرِ تُقَدَّمُ
نحوه في الجواهر؛ يعني: أن أجرة من يحمل سلع المفلس إلى السوق مثلاً أو أجرة من يكيل الطعام أو يزنه تقدم على الديون؛ لأنه لولا ذلك ما أمكن الغرماء الوصول إلى الأثمان.
وقوله: (الْحَمَّالِ) بالحاء المهملة، وفي بعض النسخ بالجيم، والأولى أولى، فإنها أعم.
وَيَحْلِفُ الْمُفْلِسُ مَعَ شَاهِدِهِ، فَإِنْ نَكَلَ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا
أي: إذا قام للمفلس شاهد واحد بدين؛ فإن حلف استحقه وقسم بين غرمائه، وإن نكل فللغرماء أن يحلوا محله في اليمين.
ابن حبيب: بعد التفليس، وأما قبله فلا، وهذا يؤخذ من كلام المصنف؛ لأن التفليس حقيقة إنما يطلق بعد الحجر. وكان القياس ألا يمكنوا من التحليف؛ لأن حقه إنما ثبت في ماله إذا ثبت أنه ماله، لكنهم اتهموا الغريم أن يكون قصد بنكوله إخراج المال عن الغرماء، ولا سيما وقد اختلف إذا أخذ الحق بشاهد ويمين، هل هو منسوب إلى الشاهد فقط واليمين كالاستظهار، أو اليمين كشاهد ثان؟ ويظهر أثر الخلاف إذا رجع الشاهد، هل يغرم الحق كله، أو نصفه؟ وإذا تعارضت البينات فأقام أحدهما شاهدين والآخر شاهداً ويميناً وشاهده أعدل من الشاهدين، هل تكون شهادته مقدمة أم لا؟
مطرف وابن الماجشون: ويحلف كل واحد من الغرماء على جميع الحق المشهود به لا على نصيبه؛ لأن كلاً منهما قام مقام المفلس، فإن حلفوا جميعاً استحقوا وتحاصوا، فإن نكلوا لم يستحقوا شيئاً، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم استحق من حلف.
ابن القاسم في رواية عيسى وابن الماجشون: قدر نصيبه فقط، كما لو حلف الجميع. وقال ابن عبد الحكم: جميع حقه. لكن إنما نقل عنه هذا في مسألة الوارث يقوم للميت شاهد أن عليه دين، والباب واحد.
بعض القرويين: وينبغي إذا نكل بعض الغرماء ولا فضل في الدين أن يحلف الغريم ويسقط عنه حق من نكل، وليس لأصحابه أن يأخذوا ما نكل عنه وهذا كالورثة، ولو رجع بعض الغرماء بعد نكوله فأراد أن يحلف، فقال مطرف: لا يقبل كما لو نكل عن حق
نفسه، وقال ابن الماجشون: يقبل؛ لأنه قد يستريب أولاً ثم يظهر له ما يرفع الاسترابة بخلاف حق نفسه، لأنه يعلم أولاً صحته وبطلانه.
وَلا يُمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، إِلا أَنْ يَحِلَّ فِي غَيْبَتِهِ فَيُوَكِّلَ مِنْ يُوَفِّيهِ
الباء الداخلة على (الدَّيْنِ) للسببية. وقوله: (وَلا يُمْنَعُ) زاد في الجواهر: (ولا يطلبه بكفيل أو بإشهاد). وفي السلم [524/ب] الثالث من المدونة: ولك منع غريمك من بعيد السفر الذي يحل دينك قبل قدومه، ولا يمنع من القريب الذي يقدم فيه قبل محل أجل دينه.
ابن القاسم في رواية عيسى: وعليه أن يحلف أنه لم يرد الفرار من الحق الذي عليه، وأنه ينوي الرجوع عند الأجل ليقضي ما عليه.
ابن يونس: وقال بعض أصحابنا: إنما تكون اليمين على المتهم.
وقوله: (فَيُوَكِّلَ مِنْ يُوَفِّيهِ) هو تقييد للمدونة في السفر البعيد، وهو ظاهر في المعنى، وإذا وكل فهل له عزل الوكيل؟
ابن عبد السلام: فيه تردد، واختار بعض المحققين أن له عزله إلى بدل لا مطلقاً، وأصل المذهب أنه إذا تعلق لأحد الغريمين حق بالوكالة أن لا يكون لمن وكله عزله.
خليل: وينبغي أن يقيد هذا بما إذا كان الموضع الذي يسافر إليه مأموناً، وكذلك ينبغي إذا كان سفره سبباً لئلا يوجد له ما يوفي الدين عند الأجل، كما إذا عومل شخص لأجل صنعته ثم أراد السفر وصنعته تتعذر عليه في السفر؛ لأنا لو أجزنا له السفر والحالة هذه أدى إلى أنه عند الأجل لا يوجد عنده ما يوفي الدين، والله أعلم.
الثَّانِي: بَيْعُ مَالِهِ، فَيُبَاعُ الْحَيَوَانُ عَاجِلاً، ويُقْسَمُ ولا يُكَلَّفُ الْغُرَمَاءُ أَلا غَرِيمَ سِوَاهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفاً بِالدَّيْنِ اسْتُؤْنِيَ بِهِ فِي الْمَوْتِ. وقِيلَ: وفِي الْفَلَسِ، وقَالَ أَصْبَغُ: يُنَادَى عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فِي مَوْتِهِ وفَلَسِهِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه، وتُبَاعُ بِحَضْرَةِ الْمُفْلِسِ بِالْخِيَارِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ طَلَباً لِلزِّيَادَةِ، ويُسْتَانَى فِي بَيْعِ رَبْعِهِ الشَّهْرَ والشَّهْرَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ ....
أي: الحكم الثاني من أحكام الحجر، واعلم أنه إذا قام الغرماء على المفلس فعلى القاضي أن يكلفهم إثبات ديونهم، ثم يعذر فيما ثبت عنده على المفلس لكل واحد من دين صاحبه، فإذا وقع التفليس أو العجز عن الدفع؛ أمر كل واحد أن يحلف أنه لم يقبض من دينه شيئاً ولا أسقطه، وأنه باق عليه إلى الآن على ما عرف في مثل هذا اليمين، وعلى القاضي أن يسمي الشهود الذين ثبت بهم حقوق الغرماء، وإن لم يسمهم نفذ الحكم إن كانوا عدولاً وإلا فلا، حكاه في الطرر، فإن كان في الغرماء محجوراً عليه فهل يحلف المحجور عليه أو وصيه، أو لا يمين على واحد منهما ويؤخر إلى رشده؟ في المذهب ثلاثة أقوال للأندلسيين، وحكاها في المتيطية في المرأة المولى عليها تقوم بصداقها، قال: والمشهور إنها هي التي تحلف. وأفتى ابن عتاب بأن يمين القضاء توقف عليها حتى تخرج عن الولاية، فإن نكلت حينئذ عنها ردت، ولو كان في عقد أحدهم أن يصدق في الاقتضاء دون يمين، فهل تسقط عنه اليمين إن كان مأموناً لأجل الشرط أو لا تسقط؛ لأن الحق للغرماء قولاً لابن العطار وابن الفخار؟ قيل: يكلفهم إثبات ملكه لما يباع.
ابن عبد السلام: وإنما يتم هذا إذا قيل إن القاضي لا يمكن الغرماء من أخذ ما وجد في حانوته أو داره من العروض التي تصلح للرجال والنساء، وظاهر المذهب انه يقضي من ذلك، بل قال أهل طليطلة: إنه يهجم عليه ويؤخذ له ما يعرف أنه للرجال، وإذا استوفى الحاكم هذا باع ماله.
والترتيب في بيعه: أن يبدأ بما يخشى فساده؛ كالفواكه التي لا تبقى، ثم بالحيوان لسرعة تغيره ولأنه يحتاج إلى الإنفاق عليه فكان من حسن النظر بيعه، وليس المراد بقوله:(عَاجِلاً) أنه يباع في مجلس واحد، بل عدم الإطالة. ثم بالعروض، ثم بالعقار. وذكر في البيان خلافاً في العروض، هل يستأني بها الشهر والشهرين كالعقار، أو الأيام اليسيرة كالحيوان؟
وقوله: (ويُقْسَمُ) أي: ثمن المبيع مع ما له من ناض، وطريق القسمة أن تعلم نسبة مال المفلس إلى مجموع الدين، فمثل تلك النسبة يأخذ كل واحد منهم.
قوله: (ولا يُكَلَّفُ الْغُرَمَاءُ أَلا غَرِيمَ سِوَاهُمْ) نبه بهذا على مخالفة هذا للورثة، فإنهم حكوا الاتفاق على أن الورثة يلزمون بذلك، والفرق أن عدد الورثة معلوم للجيران والأصدقاء وأهل البلد وغيرهم، بخلاف الدين فإنه يعسر الاطلاع عليه، وكثيراً ما يقصد الناس التخفي به.
واحترز بقوله: (فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفاً بِالدَّيْنِ) من غير المعروف به فإنه لا يستأني، أي: ينتظر بقسم ماله في الفلس والموت بالاتفاق، وهكذا صرح به بعض من تكلم على هذا المحل، والمعروف بالدين يستأني بقسم ماله في الموت اتفاقاً؛ لاحتمال طروء غريم آخر. واختلف في الفلس؛ ففي المدونة من رواية ابن وهب: لا يستأني به، وروي غيره الاستيناء كالموت.
اللخمي: وهو أحسن، والفرق للأول أن ذمة المفلس باقية، فلو طرأ غريم لتعلق حقه بذمته، بخلاف الميت لزوال ذمته، ولأن المفلس لو كان له غريم آخر لعلم به.
(وقَالَ أَصْبَغُ
…
) إلخ. أي: إذا فلس الغريم أو مات ينادى على باب المسجد في مجتمع الناس أن فلان بن فلان قد مات أو فلس فمن كان له عليه دين أو له عنده قراض أو وديعة أو بضاعة فليرفع ذلك إلى القاضي.
أصبغ: وكذلك فعل عمر رضي الله عنه في الأسيفيع. وقوله يحتمل أن يكون عاماً، سواء قلنا بالاستيناء أو لا، وهو الظاهر، ويحتمل أن يريد أن هذه المناداة تقوم مقام الاستيناء.
واعلم أن قصة الأسيفيع إنما كانت في الفلس، لكن يؤخذ منه الحكم في الموت بطريق الأولى، لكن لم يذكر في الأثر:(يُنَادَى عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ) وإنما فيه أن عمر رضي الله عنه قال: أما بعد؛ أيها الناس، فإن الأسيفيع أسيفيع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج، إلا وإنه قد أدان معرضاً فأصبح [525/أ] قد رين به، فمن كان له عليه دين فلياتنا بالغداة نقسم ماله بينهم.
وقوله: (ويُبَاعُ بِحَضْرَةِ الْمُفْلِسِ بِالْخِيَارِ ثَلاثَةَ) هكذا رواه مطرف عن مالك، وقاله ابن القاسم وسحنون لتوقع الزيادة، وليس هو خاصاً بالفلس، بل في كل ما يبيعه الحاكم مما يوجبه حكمه؛ كبيع مال اليتيم والغائب، ولهذا جعل مدة الخيار ثلاثاً، وإلا فيجوز في العقار الشهر ونحوه، وفي الرقيق الجمعة ونحوها.
ابن عبد السلام: ولعل إحضار المفلس ليس بشرط في إنفاذ البيع، وإنما هو من باب الكمال وأبلغ في قطع حجة المفلس، وإلا فالحجر عليه مانع من بيعه، ولو أراد الامتناع من البيع لم يكن له ذلك.
خليل: ونص في الذخيرة على أنه مستحب، ولا يبعد أن يكون ذلك على الوجوب للعلة التي ذكرنا.
وقوله: (ويُسْتَانَى فِي بَيْعِ رَبْعِهِ الشَّهْرَ والشَّهْرَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ) أي: وينتظر، ولم أقف على الشاذ، وتكلم المصنف على ما يباع عاجلاً وهو الحيوان، وما يطال فيه وهو الربع وترك ما بينهما، وهو إشارة إلى أنه ينبغي أن يوسط بينهما بحسب النظر، وإنما قال ما قال في الربع ونحوه؛ لأنه يتنافس في أثمانه أكثر من غيرها.
وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الدُّيُونُ قُوِّمَ مُخَالِفُ النَّقْدِ حِينَ الْفَلَسِ واشْتَرَى بِمَا صَارَ لَهُ مِنْ سِلْعَتِهِ
مثاله: أن يكون للواحد عرض وللآخر طعام وللآخر نقد، فيقال: كم يساوي عرض هذا وطعام هذا؟ فإذا قيل: كل واحد منهما يساوي مائة، وكان النقد مائة؛ كان المال بينهم أثلاثاً، واشترى لصاحب العرض بما نابه من جنس عرضه، هذا معنى قوله:(بِمَا صَارَ لَهُ) من الصيرورة. وفي بعض النسخ (بما طار) من الطيران، والمعنى متقارب.
والمعتبر في هذه القيمة يوم التحاصص على المشهور، وهو مراده بقوله:(حِينَ الْفَلَسِ) لكن تسامح في العبارة. وقال سحنون: يقوم المؤجل منهما يوم الفلس على أن يقبض إلى أجله، وألزم أن يقوم العين المؤجل كذلك ولا قائل به.
الباجي وصاحب المقدمات: فإن تأخر الشراء حتى غلا السعر أو رخص فلا، وإنما يكون التحاسب بينه وبين الغريم. وقال المازري: لو تغير السعر حتى صار يشتري به أكثر مما كان يشتري له يوم قسم المال؛ فالزائد بين الغرماء ويدخل معهم فيه ويصير كمال طرأ للمفلس. وذهب ابن الماجشون إلى هذا الفضل الذي حدث بمقتضى اختلاف السعر، يستبد به هذا الغريم الموقوف له المال ويشتري له بما بقي له في ذمة المفلس، بناء على ما أصله أن نصيبه ما وقف من ذلك ممن له الدين.
الباجي: فإذا اشترى له مما عليه من السلم اعتبر في ذلك الصفات التي وصفها، فإن وصفه بأنه جيد، فقال ابن عبد الحكم: يشتري له أدنى تلك الصفة. وقيل: أوسطها.
وَلا يُدْفَعُ فِي طَعَامٍ مُسْلَمٍ فِيهِ وَلا عَرْضٍ ثَمَنٌ، إِلا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ عَرْضاً فِي عَرْضٍ ....
يعني: أن ما ذكره من الشراء بما صار له من سلعته إنما هو عند التشاح، وأما إن رضي الغرماء بأن يأخذوا ما نابهم من الثمن؛ فذلك جائز، إلا أن يمنع منه مانع، كما لو أسلم في
طعام أو عرض. مثاله: لو أسلم عشرين درهماً في إردبين قمحاً، أو في ثوبين ونابه في الحصاص عشر مثلاً؛ فلا يجوز أن يأخذها، لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفي، ويدخله أيضاً البيع والسلف إلا أن يكون رأس المال عرضاً آخر، كما لو أسلم عبداً في ثوبين فصح له قيمة الثوب وبقي ثوب؛ فيجوز له أخذ تلك القيمة، لأن حاصل أمره أنه دفع عبداً في عبد وثوب. وإلى هذا أشار بقوله:(إِلا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ عَرْضاً فِي عَرْضٍ) وكذلك يمتنع في الصورة التي ذكرها المصنف إذا كان رأس المال ذهباً وأراد أن يأخذ عنه فضة أو بالعكس؛ لأنه صرف مؤخر.
وبالجملة فَأجْرِ هذا الفصل على حكم الاقتضاءات، فإن القاضي كأنه نائب عن المفلس، فلا يجوز أن يدفع للغرماء إلا ما يجوز للمفلس دفعه إليهم، ولم يجعلوا دخول القاضي رافعاً للتهمة. وقيل: إنه رافع لها؛ فتجوز كل مسألة منعت للتهمة.
وإِذَا هَلَكَ نَصِيبُ الْغَائِبِ بَعْدَ عَزْلِهِ فَمِنَه
يعني: إن كان بعض الغرماء غائباً فعزل القاضي له نصيبه ثم هلك؛ فمصيبته منه، لأن القاضي كوكيله، وحكى التونسي وابن يونس الاتفاق على ذلك.
وقوله: (فَمِنَه) أي فمن الغائب.
فَإِنْ ظَهَرَ غَرِيمٌ رَجَعَ عَلَى كُلِّ واحِدٍ بِمَا يَخُصُّهُ
يعني: إذا قسم الغرماء مال المفلس أو الميت ثم ظهر غريم آخر لم يعلم به؛ فإنه يرجع على كل واحد بما ينوبه في الحصاص لو كان حاضراً، ولا يأخذ ملياً عن معدم، ولا متاع حي عن ميت.
واحترز بقوله: (ظَهَرَ) مما لو كان حاضراً وسكت، فإنه لا رجوع له على من قبض من الغرماء اتفاقاً، ومثال ما ذكره المصنف مسألة المدونة: إذا كان لكل واحد من ثلاثة
رجال مائة غاب أحدهم ولم يعلم به وبيد المفلس مائة واقتسمها الحاضران، فإن القادم يتبع كل واحد بسبعة عشر إلا ثلثاً.
ابن القاسم: ولو وقف نصيب غائب فضاع؛ لضمن الغائبُ للطارئ حصته، لأنه لما وقف له صار بذلك كأنه أخذه في يده فوجب أن يرجع عليه الطارئ بحصته منه.
ابن يونس: وإذا غرم للطارئ حصته من الموقوف رجع بمثل ذلك في ذمة المفلس والميت؛ لأنه قد استحق ذلك مما وقف.
واعترض التونسي ما قاله محمد هنا بالوارث يطرأ على الوارث، فإنه لا يضمن له ما هلك بيده إذا هلك، والمشتري يهلك ما بيده ثم يستحق؛ فإنه لا يضمن للمستحق شيئاً، ويرجع المستَحِق بثمن المستَحَق على من قبضه، أو بقيمته على من غصبه، فيلزم في الغريم الموقوف له ألا يضمن للطارئ شيئاً، وفرق [525/ب] ابن يونس بين الوارث والغريم بأن الغريم دينه من معاوضة، فما هلك بيده فهو منه، لأنه ضمن بما دفع فيه، والوارث لم يضمن في ذلك ثمناً وداه، فوجب أن يكون هلاك ما قبض إذا هلك بأمر الله من الميت.
وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتُحِقَّ مَبِيعٌ
يعني: وكذلك لو بيع بعض مال المفلس فخرج مستحقاً، فإن المشتري يرجع على كل واحد بما ينوبه. ونص ابن عبد السلام على أن ما استحق مما باعه المفلس قبل تفليسه كذلك.
وَلَوْ كَانَ مَشْهُوراً بِالدِّيْنِ، أَوْ عَلِمَ الْوَرَثَةُ وَأَقْبَضُوا بَعْضَ الْغُرَمَاءِ؛ رَجَعَ مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ رَجَعُوا هُمْ عَلَى الْغُرَمَاءِ ....
يعني: أن ما قدمه من رجوع القادم على الغريم القابض إنما هو إذا لم يكن الورثة عالمين بالدَّين الباقي، أو كان غير مشهور بالدين؛ فإن القادم يرجع على الورثة، أما مع علمهم فظاهر لتعديهم، وأما مع شهرته بالدين فلاستعجالهم، فلذلك يرجع عليهم أو
على الوصي، ثم يرجع الورثة أو الوصي بذلك على الغرماء الذين اقتضوا أولاً، وهكذا في المدونة في باب المديان، وقال في باب بعد هذا: إذا قضى الورثة لمن حضر وهم يعلمون بدين القادم، فإنه إن وَجد الغرماء معدمين رجع على الورثة بما ينوبه من ذلك ثم رجع الورثة بما أدوا من ذلك على الغرماء الأولين.
ومقتضى قوله: (فإن وجد الغرماء معدمين رجع على الورثة) أنه يبدأ بالغرماء بخلاف الأول، وحمل اللخمي وغيره ذلك على الخلاف.
ابن عبد السلام: وهو الظاهر. اللخمي: والقول بالبداية بالغريم أحسن، إلا أن يكون تناول من الوصي أو الولي الأقرب بالأمر البين؛ لأن معه ناضاً أو كان الغرماء غير مليين أو غائبين؛ فيبدأ بالوارث أو الوصي بالاتفاق. انتهى.
وقال ابن يونس: بل الثاني والأول سواء، وإنما أراد أنهم يخيرون بين أن يرجعوا على الورثة أو الوصي، وبين أن يرجعوا على الغرماء، وخرج بعضهم على رواية أشهب أن الورثة إذا عَزلوا للدين أضعافه وباعوا ليرثوا؛ أن البيع باطل ويفسخ ويكون لجميع الغرماء إذا لم يحضروا أخذ السلعة من أيدي المشترين، إلا أن يشاء المشترون أن يدفعوا قيمة ما بأيديهم أو ثمنه أو بعضه إن كان قائماً.
ابن عبد السلام: وفي التخريج نظر؛ لأن مذهب أشهب في من اشتراه سلعة شراء فاسداً وقبضها ودفع ثمنها أن له أن يمسكها على سبيل الرهن حتى يأخذ الثمن الذي دفعه. انتهى.
المازري: ولا يختلف أن الورثة منهيون عن البيع قبل الدين، فإن فعلوا فللغرماء فسخ ذلك إن لم يقدروا على أداء الدين إلا بالفسخ، وأما إن قضاه الورثة من أموالهم وأسقط الغرماء حقوقهم؛ فالأشهر من المذهب أن البيع لا ينفسخ، لأن النهي عن البيع لحق المخلوقين وقد سقط، ومقابل الأشهر رواه أشهب فذكر ما تقدم.
تنبيه: وقد تبين لك موافقة كلام المصنف للمدونة، وعلى هذا فقوله:(وَلَوْ كَانَ) أي: الميت؛ لأن قوله: (كَانَ مَشْهُوراً بِالدِّيْنِ) قسيم لقوله: (أَوْ عَلِمَ الْوَرَثَةُ) وعلم الورثة إنما هو مع الموت فكذلك قسيمه، ولأن قوله:(رَجَعَ مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ) أي: على الوارث، والوارث إنما يكون في الموت، وليوافق مذهب المدونة، وقول ابن عبد السلام: أن المصنف هنا جمع بين الفلس والموت وهو خلاف المدونة ليس بظاهر.
وإِذَا رَجَعَ عَلَى الْوَرَثَةِ فَليَاخُذُ مِنَ الْمَلِيِّ عَنِ الْمُعْدَمِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَا قَبَضَ الْوَارِثُ بِخِلافِ الْغُرَمَاءِ ....
يعني: إذا توجه الغرم على الورثة؛ فإما أن يجدهم أملياء، أو عدماء، أو بعضهم أملياء، فالأملياء يرجع على كل واحد بما ينوبه، والعدماء لا رجوع له على واحد منهم، وإن وجد بعضهم معدماً؛ فإنه يأخذ من الملي الأقل من دينه أو ما قبض، لأنه إن كان دين القائم أقل وقبضه سقط ما نابه، وإن كان ما قبض أقل لم تلزمه الزيادة، لأنه لو لم يقبض شيئاً لم يلزمه غرم البتَّة.
وقوله: (بِخِلافِ الْغُرَمَاءِ) أي: فإنه إنما يأخذ كل واحد بما ينوبه، والفرق تساوي الغريم الطارئ مع الغرماء بخلاف الورثة؛ إذ لا يستحق واحد منهم ميراثاً إلا بعد قضاء الدين.
ابن عبد السلام: وينبغي إذا علم الغرماء بالغريم الطارئ أنه يكون كالوارث، ويأخذ الملي عن المعدم، وكذلك ينبغي في الورثة إذا علموا أن يرجع على كل بمبلغ التركة كلها إلا بما قبضه، والله أعلم.
فرع: واختلف في طريان وارث على وارث وموصى له على موصى لهم، فقال ابن القاسم، ورواه عن مالك: هو كطريان غريم على غرماء، فلا يأخذ ملياً عن معدم. وقال أشهب وابن عبد الحكم: كطريان غريم على ورثة، فيقاسم الملي منهم في جميع ما صار له، كأن الميت لم يترك غيرهما، ثم يرجعان على سائر الورثة، وكذلك الموصى لهم حتى يعتدلوا.
وإِذَا تَلِفَ مَالُ الْمُفْلِسِ، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَرْضاً فَمِنْهُ، وإِنُ كَانَ عَيْنَاً فَمِنْهُمْ. ورَابِعُهَا: إِنْ كَانَ مُفْلِساً فَمِنْهُ، وإِنْ كَانَ مَيِّتاً فَمِنْهُمْ
وقوله: (الْمُفْلِسِ) يريد أو الميت، ودل على حذف هذا المعطوف تفصيله في القول الرابع بين الفلس والموت، فإن تفصيله في هذا القول يدل على أن الثلاثة المتقدمة علمت، ويحتمل أن يكون أطلق المفلس على الحي والميت، وذكر المصنف أربعة أقوال:
الأول: أن ضمانه من المفلس حتى يصل إلى الغرماء عيناً كان أو عرضاً، رواه أشهب عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم، واختاره اللخمي وابن عبد السلام؛ لأن ذلك المال ماله فيبقى ضمانه منه حتى يتحقق الناقل، ولا ناقل سوى ما تعلق به من حق الغرماء وتعلق حقهم بتلك العين أو العرض تعلق عام، وحق المديان متعلق بأعيانها، ومثل هذا من التعارض يوجب رجحان الإضافة للمديان، ولأن من [526/أ] حق الغرماء التوفية في الكيل والوزن، وكل ما كان قبل ذلك فهو في ضمانه حتى يوفى لهم.
الثاني: أن ضمان ذلك من الغرماء من حضر أو غاب، ومن علم منهم ومن لم يعلم، كان دينه عرضاً أو غيره، ورواه ابن الماجشون عن مالك، وقال به هو وابن المواز.
الثالث: إن كان مال المفلس عرضاً فضمانه منه، وإن كان عيناً فضمانه من الغرماء، قاله ابن القاسم ورواه عن مالك، وقيده بعض القرويين وصاحب المقدمات بما إذا كان العرض مخالفاً لدينهم؛ بأن تكون ديونهم عيناً أو عرضاً مخالفاً، وأما إن كانت مماثلة فمصيبتها منهم؛ لأنهم يتحاصون فيها ولا يحتاجون إلى بيعها، وأبقاه المازري وغيره على إطلاقه، ورأوا أن الديون وإن كانت عروضاً فإنما يستحق الغرماء العروض بقيمتها من العين، وعورض ابن القاسم في قوله: إن ضمان العين من الغرماء. بأن المفلس لو اشترى منها سلعة بعد الإيقاف كان كماله، ولما عورض بهذا سكت. وأجاب المازري بأنه متعد
في التصرف، ومن تعدى على دنانير أو دراهم فتجر فيها فربحها له، قال: ولعله سكت استثقالاً للمعارضة التي هي كالمناقضة.
والقول الرابع من كلام المصنف لأصبغ. وزاد المازري والمتيطي خامساً: أن مصيبة الدنانير ممن له الدنانير، ومصيبة الدراهم ممن له الدراهم، وعزي للمغيرة.
ابن عبد السلام: وقول ابن القاسم على نقله في المقدمات قريب منه؛ لقوله بعد ذكر قول ابن القاسم: فتحصيل مذهبه أن ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم؛ لأنه إنما يباع على ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء.
ومنشأ الخلاف: هل الحاكم كوكيل عنه؛ لأن الأصل استصحاب ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء، ولأنه لو حصل ربح لكان له وهو وكيل عنهم والمال محاز عنه وقد منع من التصرف فيه، ولا يخفى وجه من قال بالفرق، وهذه الأقوال إذا كان الوقف على يد حاكم، ولو تولى ذك الغرماء أو الورثة لكان ذلك من المديان، والله تعالى أعلم.
وُيتْرَكُ عَلَى الْمُفْلِسِ كِسْوَتُهُ الْمُعْتَادَةُ لِمِثْلِهِ، وقِيلَ: مَا يُوَارِيهِ
احترز بالمعتادة من التي للزينة فإنها تباع، والشاذ لابن كنانة، وروى ابن نافع عن مالك: أنه لا يترك له شيء، وظاهره ولا ما يواريه، ولكن رده ابن رشد بقول ابن كنانة، وقول ابن كنانة هو القياس، ورأى في المشهور أن العرف جرى باستثناء الثياب المعتادة.
ابن القاسم: وإن كان له ثياب فيها فضل عن لباس مثله بيعت.
اللخمي: يريد ويشترى دونها، ويترك له أيضاً على المشهور - إذا اختلفت الكسوة لولده - الكسوة لولده الصغار، وشك مالك في كسوة زوجته، هكذا أضاف صاحبُ البيان وأكثرُهم الشكَّ لمالك، وأضافه اللخمي لابن القاسم؛ أي: شك هل سمعها من مالك
أم لا، لا أنه شك في الحكم؛ لأن الزوجة ألزم من الولد، فإذا ترك للولد فأحرى للزوجة. وقال سحنون: لا يترك لها كسوة.
اللخمي: وعلى هذا لا يترك للولد، وهو أبين، وحسبهم ما كان عليهم، قال: ولا أرى أن يستأنف أيضاً لها كسوة. قال في البيان: واتفق على أنه لو كساها قبل التفليس كسوة لا فضل فيها عن كسوة مثلها وهو قائم الوجه؛ أنه لا ينزع منها، ويباع ثوب جمعته إن كانت له قيمة وإلا فلا، ويباع عليه ما كان للقنية والتجارة؛ داره، وخادمه، ودابته، وسرجه، وسلاحه.
ابن القاسم: وخاتمه. ومنع أشهب بيع الخاتم، والأول أظهر، ويباع مصحفه، واختلف في بيع كتب الفقه عليه، والخلاف في ذلك جار على الخلاف في جواز بيعها من حيث الجملة، فكرهه مالك مرة ومنعه أخرى.
قال في الموازية: لا تباع في الدين ولا تورث، ووارثه وغيره ممن هو أهل لقراءتها سواء، ووجَّهه الباجي بأن طريقه النظر وليس مقطوعاً بصحتها، والمشهور الذي عليه الجمهور: جواز البيع.
ابن عبد الحكم: وقد بيعت كتب ابن وهب بثلاثمائة دينار وأصحابنا متوافرون حاضرون وغيرهم فما أنكروا ذلك، وكان أبي الوصي.
المازري: وأما تكفين ولده فجار أيضاً على ما ذكرناه في ولده الحي، وأما الزوجة فكذلك أيضاً يجري الأمر في تكفينها إذا قلنا: إنه لازم للزوج على أحد القولين على ما قدمناه من الكلام في كسوتها وهي حية. واختلف العلماء هل تكفن بثوب أو ثلاثة؟ قال: ويتخرج عندي على الخلاف في ثوبي الجمعة؛ لأن التكفين في الثلاث مستحب كثوبي الجمعة، قال: وكان شيخنا يتردد في بيع آلة الصانع كمرزبة الكمَّاد ومطرقة الحداد، قال: ويؤخذ حكمه مما تقدم، فإن كان يسيراً ولا يصلح أن يقيم أوده إلا منه؛ لم يبع ويصير مثل نفقة الأيام.
ويُتْرَكُ عَيْشُهُ وعَيْشُ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ نَحْوَ الشَّهْرِ
هكذا لمالك في الموازية والواضحة، ولم يقيد ذلك في الموازية، بل في الزكاة الثاني: يترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام، وحملها في البيان على العشرة ونحوها. قال: وليس بخلاف للقول الذي وقع في الشهر، وإنما هو على قدر الأحوال، وما جرى عليه العرف من التقوى في ذلك المكان، قال: والمراد بالأهل في المدونة أزواج المفلس ومن تلزمه نفقته من رقيقه وولده، وأمهات أولاده ومدبرته، وكذلك قال المازري: التحقيق أن يترك له نفقة اليومين والثلاثة خوفاً من كسله أو مرضه في غده وما بعده. وما ذكره المصنف هو المشهور، ولمالك في رواية ابن نافع لا يترك له شيء.
ولا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْسِبَ
أي: لقوله تعالى: (وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ)[البقرة: 280] ورأى اللخمي أن الصانع يجبر على التكسب؛ لأنه على ذلك عومل بخلاف التاجر، قال: وعلى التاجر تكلم مالك، قال: وكذلك يجبر على العمل إذا باع منافعه؛ مثل أن ينسج لرجل ثياباً أو يخيط ثياباً مدة معلومة، قال: ويفترق الجواب إذا كان محتاجاً إلى ما ينفق، فإن الصانع يتداين ليعمل ويقضي، فإنه يبدأ بنفقته ونفقة عياله، ثم يقضي دينه من الفاضل، وإن باع منافعه مدة معلومة بدئ بالذي استأجره وإن أدى ذلك إلى أن يتكفف؛ لأن منافعه صارت ملكاً لمن اشتراها فأشبه من باع سلعة ولم يسلمها حتى افتقر؛ فإنه [526/ب] يسلمها وإن تكفف، إلا أن يخاف عليه الموت فيخير الذي استأجره بين أن يسلفه ما يعيش به دون عياله حتى يتم عمله، أو يتركه فيعمل عند غيره بمثل ذلك؛ لأنه إن منع هلك، ولا ينتفع المستأجَر بشيء.
ولا يُؤَاجِرَ مُسْتَوْلَدَتَهُ بِخِلافِ مُدَبَّرَتِهِ، ولا يَنْتزِعَ مَالَهَمُا، ولا أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَه لِوَلَدِهِ ....
يحتمل أن يقرأ: (ولا يُؤَاجِرَ) على البناء للمفعول؛ أي: لا يؤاجر القاضي أم ولده، لأنه لم يبق له فيها إلا الاستمتاع، بخلاف المدبر فإنه يؤاجره عليه لبقاء الخدمة له، ويحتمل أن يقرأ بجزم الراء على النهي عائدٌ على الحاكم أو على المفلس، ويحتمل أن يقرأ بالنصب عطفاً على (يتكسب) وهو أقرب إلى لفظه؛ ألا ترى أن قوله بعد:(ولا يَنْتزِعَ مَالَهَمُا) وما بعده لا يصح فيه إلا النصب، لكن يرد على هذا أنه لا يلزم من قوله:(أن يؤاجر أم ولده) ألا يجوز له إجارتها، بل قد يفهم منه جواز الإجارة.
ألا ترى إلى قوله: (ولا يَنْتزِعَ مَالَهَمُا) فإنه أشار بذلك إلى أنه يجوز له أن ينتزع، وإنما المنع أن يجبر على الانتزاع وإجارتها لا تجوز على المذهب، وفي معنى المدبرة المعتقة إلى أجل ونحوها ممن للسيد فيها الخدمة، وقد نص ابن شاس وغيره على أن المدبرة يؤجِّرها المفلس، وبه تعلم أن ما وقع في بعض النسخ (ولا مدبرة) ليس بجيد، وما ذكره أنه لا يلزمه انتزاع مال المدبر وأم الولد هو في المدونة، ورآها من معنى التكسب، وهو غير لازم؛ ولأنهم لما يعاملوه إلا على ملكه، فليس لهم الجبر على انتزاع ملك الغير.
وفي سماع ابن القاسم عن مالك من حبس حبساً وشرط إن شاء المحبس عليه أن يبيع باع؛ فلغرمائه أن يبيعوه عليه. صاحب المقدمات وابن زرقون: فيتخرج من هذا قول بلزوم الانتزاع ولزوم الاعتصار.
ولا يَشْفَعَ ولا يَستَسلِفَ ولَوْ بُذِلَ لَهُ
ولا يلزمه أن يشفع ولا أن يستسلف ولو بذل السلف له وكذلك لا يلزمه قبول هبة أو صدقة أو وصية، وإنما لم يلزمه أن يشفع وإن كان في الأخذ بالشفعة ربح؛ لأنه تسلف
وتجر وهو غير لازم؛ لأنه لا تلزمه عهدة بالشفعة، ولم يلزمه السلف؛ لأنه استدانة أخرى، نعم لو رضي أحد أن يسلف الطالب ما له على المطلوب ثم يرجع به على المطلوب لم يكن للمطلوب مقال؛ لأن المعروف إنما هو للطالب بالمطلوب إلا أن يفعل ذلك قصداً للضرر، واختلاف العلماء فيما لو باع المديان سلعة بخيار، ثم اشتراها كذلك، ثم حجر عليه فأراد الإمضاء في المسألتين أو الفسخ فيهما ومنعه الغرماء من ذلك، وأجرى ذلك المازري على الخلاف في الخيار هل هو منحل أو منعقد؟
وَلا يَعْفُوَ عَنْ دَمِ الدِّيَةِ
يحتمل أن يكون منقطعاً عما قبله فيكون مجزوماً؛ أي: لا يلزمه أن يعفو عن دم وجبت في الدية؛ لتعلق حق الغرماء بها. ويحتمل أن يكون منصوباً بالعطف؛ أي: لا يلزمه أن يعفو عن دم وجب له ليأخذ الدية، بل له أن يقتص، وقد ذكر الفرعين صاحب الجواهر، وقد تقدم ما يغني عن الاحتمال الثاني بقوله:(وكذلك طلاقه وخلعه واستيفاء القصاص) وعلى الاحتمال الأول يكون دم الدية مضافاً ومضافاً إليه، وعلى الثاني يكون الدم منوناً والدية مجرورة بلام الجر. وقال المصنف على الاحتمال الأول:(دَمِ الدِّيَةِ) ولم يقل: (دم الخطأ) ليشمل المأمومة والجائفة عمداً ونحوهما مما لا يقاد منه، والله أعلم.
وَلوْ وَرِثَ أَبَاهُ بِيعَ وعَتَقَ فَضْلُهُ، ولَوْ وُهِبَ لَهُ عَتَقَ.
يعني: وإن ورث المديان من يعتق عليه أباً أو غيره، فقال ابن القاسم: يباع إن استغرقه الدين، وإن لم يستغرقه بيع منه بقدره وعتق الباقي، وهو معنى قوله:(وعَتَقَ فَضْلُهُ) فإن لم يمكن بيع بعضه بيع جميعه ويتملك الفاضل، ولا يبعد استحباب التصديق به، وخالف محمد، فقال: لا يباع به. قال: وهو مثل الصبي والمولى عليه، فإنه يعتق عليهما من ورثاه؛ لأنه يجب حفظ مال المفلس على غرمائه كما يجب حفظ مال الصبي والسفيه
عليهما، ونص أشهب أيضاً على العتق في مسألة الإرث، وقد يقال: وهو جارٍ على المشهور؛ أعني: أن عتق القرابة يحصل بمجرد الملك ولا يتوقف على حكم. وأما على قول ابن القاسم فإنه يظهر إذا بنينا على أنه إنما يعتق بالحكم كما بينه بعضهم، إلا أن يقال: من شرط العتق بالقرابة ألا يوجد هناك مانع وهو هنا قائم وهو حق الغرماء.
ولو وهب للمديان قريبه لعتق عليه. ابن القاسم: لأنه لم يوهب له ليأخذه غرماؤه وإنما قصد به العتق.
صاحب المقدمات وغيره: وانظر هذا لو وهبه وهو لا يعلم ممن يعتق عليه، وجزم ابن يونس والمازري وغيرهما بأنه يباع في الدين؛ لأنه لم يقصد به العتق.
وفِي انْفِكَاكِ الْحَجْرِ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ قَوْلانِ
يعني: إذا قسم مال المفلس وحلف على أنه لم يكتم شيئاً ووافقه الغرماء على ذلك، فهل ينفك الحجر من غير احتياج إلى حكم حاكم وهو قول اللخمي. ابن عبد السلام: وهو أكثر نصوصهم. أو لا ينفك إلا بحكم حاكم، وهو قول القاضيين ابن القصار وعبد الوهاب؟
ابن راشد: والأول جارٍ على مذهب ابن القاسم في المحجور عليه لسفه أن الحجر يزول عنه برشده في نفسه من غير ترشيد حاكم؛ لأن العلة في الحجر السفه؛ وهو خوف إتلاف المال، والعلة إذا زالت زال المعلول به، وقول القاضي عبد الوهاب جارٍ على القول المعمول به أن المحجور عليه لسفه لا يخرج من الحجر إلا بترشيد الحاكم.
الثَّالِثُ: حَبْسُهُ
أي: الحكم الثالث من أحكام الحجر حبس الغريم عند دعواه العجز ما لم يظهر عدمه ويثبت فقره. قال في المقدمات: ولا خلاف في هذا بين فقهاء الأمصار وقول ابن
عبد السلام في جعل الحبس من أحكام المفلس نظر؛ لأن المفلس يجب إنظاره من غير حبس [527/أ] ليس بظاهر.
ويُحْبَسُ الْمُعَانِدُ والْمَجْهُولُ الْحَالِ
يحتمل أن يريد بالمعاند معلوم الملاء، ويحتمل أن يريد من هو ظاهر الملاء، وللغريم ثلاثة أحوال: مليء، ومجهول الحال، ومعدم. والمليء ينقسم إلى قسمين المشار إليهما؛ أعني: معلوم الملاء، وظاهر الملاء، ولنتكلم على كل واحد.
فأما معلوم الملاء: فمثلوه بأن يأخذ أموال الناس ويقعد للتجارة ثم يدعي ذهابها، ولم يظهر ما يصدقه من احتراق منزله أو سرقة أو نحوها، فيحبس حتى يؤدي أموال الناس أو يموت في السجن.
سحنون: ويضرب بالدِّرَّةِ المرة بعد المرة، ولو أدى إلى إتلاف نفسه حتى يؤدي أموال الناس. ابن رشد: وليس بخلاف. قال مالك: يضرب الإمام الخصم على اللَّدَدِ، وأيُ لدَدٍ أعظم من هذا.
عياض: ولا يؤخذ منه حميل، إلا أن يلتزم الحميل دفع المال، والصواب لا يؤخر ساعة إن عرف بالناض، وإن لم يعرف به، فقالوا: يؤخر مقدار ما يبيع عروضه فيحبسه على ظاهر الروايات وعند أكثر الشيوخ. وقال غيره: لا يؤخر ويباع عليه لحينه، واختلاف هل يحلف على إخفاء الناض إذا لم يكن معروفاً به، فقال ابن دحون: يحلف، وقال أبو علي: لا يحلف. قال ابن زرب: إن كان من التجار حلف وإلا فلا، وهو على الخلاف في يمين التهمة.
واختلف هل يؤخذ من هذا حميل بالمال أو يسجن حتى يبيع؟ أما إن كان صاحب العرض مُلِدَّاً وسأل التأخير إلى بيع عروضه، وسأل أن يعطى حميلاً حتى يبيعها؛ ففيه خلاف
أيضاً، ذهب كثير منهم إلى أنه يلزمه حميل بالمال في رواية أبي زيد عن ابن القاسم، ونحوه فيمن عرف له مال غائب ليس عليه حميل، إلا أن يخشى عليه أن يموت أو يغيب عنهم.
ابن عتاب: وهي رواية ضعيفة، وذهب معظم الشيوخ إلى أنه يعطى حميلاً بالمال إلى أن يباع أو يسجن، ونحوه لسحنون في كتاب ابنه.
قال أبو بكر بن عبد الرحمن: وليس للإمام أن يبيع عليه عروضه كما يبيعها على المفلس؛ لأن المفلس قد ضرب على يديه ومنع من ماله.
ابن عبد السلام: وإذا علم يساره وجهل القاضي كونه من أهل الناض كلفه إثبات البينة بذلك، فإن أثبت أُجِّلَ في بيع عروضه. قالوا: ويؤجل في بيع ربعه إن لم يكن له غيره نحو الشهرين، ويعطي حميلاً بالمال عند أكثر الشيوخ. وقال ابن مالك: بل بالوجه. وقال سحنون: لا يلزمه حميل. وأما مَنْ ظاهره الملاء ولم يعلم ملاؤه ولكن يتهم على إخفاء المال، فقال سحنون وغيره: يسجن حتى يتبين أمره. سحنون: ولا يؤخذ منه حميل، وفهموه على أنه يريد حميل الوجه، وإن طلب أخذ الحميل منه ليخرج في طلب منافعه ويرجع إلى السجن؛ فإن عجز أخذ منه. واختلف في قول ابن القاسم وسحنون، فقيل: خلاف، وقيل: وفاق. فيحمل قول سحنون على أنه ملد ظاهر الملاء، وقول ابن القاسم على غيره. وأما مجهول الحال فيحبس ليُستبرَأ أمره، قاله مالك في الموازية، وقد اختلف فيما يحمل عليه حال هذا المجهول على ثلاثة أقوال.
اللخمي: وهو المعروف من المذهب أن يحمل الغريم على اليسر من غير اعتبار لحاله، ولا للسبب الموجب للدين. وقال مالك في المبسوط: إنه يحمل على العدم حتى يقوم دليل بملائه؛ أنه قال: لا يحبس إلا التاجر. وقيل: إن كان الحق عن عوض فهو على الملاء، وإن كان عن غيره كنفقة الأب والابن فهو على العدم، قاله ابن القاسم وأشهب وابن كنانة وسحنون، واختلف على هذا القول هل ذلك إذا كان العوض مما يتملك أم لا؟
فحمل ابن القاسم وأشهب ذلك محملاً واحداً. وقال ابن كنانة وسحنون: إن كان العوض مما يتملك ويتمول فهو محمول على الملاء، وإن كان مالاً يُتمول كالصداق الذي هو عوض ما لا يتمول، وكأرش الجراح فهو محمول على العدم، وسيأتي الكلام على المعدم.
فَإِنْ سَأَلَ فِي الْيَوْمِ ونَحْوِهِ بِحَمِيلٍ آخَرَ
أي: سأل مجهول الحال، وهو الظاهر، ويحتمل عوده عليه وعلى أحد قسمي المعاند؛ أعني: ظاهر الملاء، وفيه بُعْدٌ، لعود الضمير على بعض المعاند، إلا أن يقال: إنه لم يرد بالمعاند إلا ظاهر الملاء، لكن يبقى فيه بُعْدٌ لوجه آخر، وهو أنه قد يكون ترك النص على معلوم الملاء، ولا يصح أن يعود الضمير في سأل على معلوم الملاء؛ لأنه لا يؤخذ منه حميل كما تقدم.
وفي كلام المصنف ما ينبِّئ عنه، ويتبين له ذلك بذكر حكم المجهول وظاهر الملاء.
أما مجهول الحال؟ فظاهر المدونة يحبس قدر ما يتلوم من اختبار حاله، أو يأخذ عليه حميلاً.
عياض: ولم يبين هل بالوجه أو بالمال؟ والصواب أن يكون بالوجه، هكذا نص عليه أبو عمران وأبو إسحاق وغيرهما من القرويين والأندلسيين، ولا يقتضي النظر غيره؛ لأن هذا لم يثبت أنه مليء ولا غَيَّبَ مالاً، ولكن يسجن استظهاراً لكشف حاله، فإذا أعطى حميلاً إلى مدة الانكشاف؛ توصل بذلك إلى الكشف كما يتوصل بالسجن، فإن ظهر وجه الشدة عليه أمكنا منه الحميل. وحكى اللخمي عن سحنون: أنه لا يقبل ممن يسجن ليثبت فقره حميل ليسعى في مصالحه خلاف لابن القاسم. قال: وقول ابن القاسم أحسن، إلا أن يكون معروفاً باللدد. قال: وإذا أخذ الحميل منه، فإن لم يحضر غرم المال؛ لأجل اليمين اللازمة له إذا أحضره، وإن أحضره عند الأجل ولم يظهر له مال حلفناه وسرحناه، فإن لم يأتِ بحميل إلا إلى دون ما ينكشف حاله فيه؛ فإنه يقبل
منه، فإذا أخر إلى الأجل الذي ضمنه إليه ولم يكشف من أمره شيء سجن، إلا أن يأتي بحميل آخر إلى انقضاء الأجل.
عياض: وهذا الحميل يقضي به على صاحب الدين أن يأخذه إذا بذله الغريم، وإذا قبل منه الحميل ليثبت عدمه فغاب الغريم وأثبت الحميل عدم [527/ب] الغريم، فقال ابن رشد: يغرم الحميل لتعذر اليمين اللازمة للغريم. وقال اللخمي: لا يغرم؛ لأن اليمين بعد ثبوت الفقر أنه لم يكتم شيئاً استظهاراً، إلا أن يكون ممن يظن أنه يكتم. وأما ظاهر الملاء يقيم بينته بالفقر ولم تزكَّ بينته؛ ففي كتاب ابن سحنون: لا يؤخذ منه حميل ويسجن حتى تزكى بينته. قيل: وإنما لم يقبل منه الحميل؛ لأنه إذا ذهب لم يحلف الحميل، إذ لا بد من يمينه أنه لا يجد قضاء.
ابن يونس: يحتمل إنما سجنه؛ لأن ظاهره الملاء، والبينة التي لم تزكَّ كالعدم، وهذا كمن تفلس، وقال: لا شيء لي. وأما إن سأل أن يؤخر ووعد بالقضاء؛ فليؤخر الإمام حسبما يرجى له الملاء، ولا يعجل عليه، قاله ابن الماجشون. وقال في كتاب ابن سحنون: وإن سأل أن يؤخر يوماً أو نحوه أُخِّر ويعطى حميلاً بالمال، فإن لم يجد حميلاً به سجن، وقال ابن الماجشون في سماك عليه سمك فسأل الصبر حتى يتصيد، قال: يصبر عليه، ولم يشترط الحميل، ولعله يريد أنه لا مال له ولا يجد قضاء إلا من تصيده.
خليل: وفي كلام المصنف نظر؛ لأنه لم يقيد الحميل في المجهول باليوم كالمصنف، وإذا أراد ظاهر الملاء؛ فإنما نصوا على تأخيره اليوم إذا وعد بالقضاء، وكلام المصنف لا ينبني على ذلك، وذكر ابن راشد أن قضاة زمانه يؤخرون الغريم إذا وعد بالقضاء ثلاثاً.
فَإِنْ شُهِدَ بِإِعْسَارِهِ حَلَفَ وأُنْظِرَ
يعني: وإن قامت البينة على أن الغريم الذي عليه الدين معسر حلف على ذلك؛ لأن البينة إنما شهدت على العلم، ويمكن أن يكون له مال أخفاه، ولا خفاء أن هذا في حق
مجهول الحال والمتهم، وأما معلوم الملاء فلا تقبل منه بينة إلا بذهاب ما بيده، نص عليه اللخمي والمازري وغيرهما بأن تقول البينة: كنا نرى تصرفه في بيعه وشرائه ونزول الأسواق ونفقته على عياله ونقص ماله. اللخمي: وكذلك لا تقبل البينة ممن عليه دين منجم أدى بعضه ثم ادعى العجز إلا ببيان ذهاب ما بيده، وكذلك أيضاً الرجل يطلب برزق ولده بعد طلاق الأم فلا تسمع منه البينة إلا بذهاب ما بيده؛ لأنه بالأمس قبل الطلاق كان ينفق فهو اليوم أقدر لزوال نفقة الزوجة عنه.
وقوله: (حَلَفَ) هذه من المسائل التي يحلف فيها المدعي مع بينته، وكدعوى المرأة على زوجها الغائب بالنفقة والقضاء على الغائب. وقوله ضابطه كل بينة شهدت بظاهر يستظهر بيمين الطالب على باطن الأمر، قال في المقدمات: وصفة يمينه أن يحلف أنه ليس له مال ظاهر ولا باطن، وإن وجد مالاً ليؤدِّينَّ له حقه، وهذه الصفة ذكرها في المدونة عن الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وذكرها أيضاً صاحب الوثائق المجموعة والمتيطي وغيرهما، وبها أفتى ابن العطار وابن لبابة، وذكرها ابن سهل عن جماعة كثيرة، وإن ادعى عليه بعد أن حلف أنه استفاد مالاً لم يكن للغرماء تحليفه. قال في المقدمات: وهذه فائدة زيادة قوله في اليمين: وإن وجد ليؤدين. حكى ابن الهندي عن محمد بن إسحاق بن السليم قاضي قرطبة: أن عبد الملك بن أيمن كان يزيد في اليمين الواردة عن الخليفتين وأنه يعجل الأداء؛ لأنه قد يؤدي إليه بعد زمان طويل فيبر في يمينه، وفي ذلك ضرر على أصحاب الدين، ويزيد: ولئن رزقه الله مالاً وهو في سفر ليعجلن الأوبة والأداء. ابن الهندي: وهذا كله استظهار واليمين المذكورة كافية؛ لأنها على نية المحلوف له.
قوله: (وأُنْظِرَ) فيه إشارة إلى الاحتجاج بقوله تعالى: (فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ)[البقرة: 280] ورد على أبي حنيفة في قوله: إن صاحب الدين يلازم الغريم، ووجه الدليل أن الله تعالى أوجب إنظاره إلى اليسر.
تنبيهان:
الأول: قد ذكرنا أن ابن رشد والمتيطي وغيرهما نقلوا أن المذهب موافقة الخليفتين في صفة اليمين.
ابن عبد السلام: ونقل عن مالك أنه لم ير زيادة قوله: وإن وجد قضاء ليقضين. ولم أر من نقل ذلك عن مالك، فإن ثبت فيحمل على أنه قول شاذ، والله أعلم.
التنبيه الثاني: قد ذكرنا أولاً أنا نذكر حكم الغريم المعدم فلنذكره هنا فنقول: إن وافقه صاحب على العدم وجب إنظاره، وإن خالفه فإما أن يدعي المطلوب أنه يعلم بعدمه أم لا؟ فإن ادعاه حلف صاحب الدين أنه لم يعرفه عديماً، فإن نكل لم يسجن؛ لأن نكول الطالب عن اليمين يقتضي أنه يعلم بعلمه. قال ابن شعبان وغيره: وبه كان يفتي ابن الفخار، فإن حلف رب الدين أو لم يدع عليه الغريم العلم حبس إلا أن يثبت عدمه، وإذا حلف المطلوب، فقال أبو عمران: يحلف على البت. وقال غيره: على العلم؛ إذ قد يكون ملك مالاً من إرث أو هبة ولم يعلم به.
ابن راشد: وقول أبي عمران ظاهر المجموعة. وأشار اللخمي إلى أن من ظاهره الفقر بنزارة حاله وصناعته كالبقال والخياط ونحوهما من أهل الصنائع التي من شأن أهلها العدم يقبل قوله في العدم، ولا يحبس إلا أن تكون الدعوى في يسير عومل عليه في صنعته، ولا يصدق حتى يثبت ذلك.
فروع:
الأول: لو سأل الطالب أن يفتش على المديان داره. فقال ابن سهل: شاهد الفتوى والحكم بطليطلة أنه يفتش عليه مسكنه فما أُلفي من متاع الرجال بيع عليه وأنصف الطالب منه، ولا يختلف فقهاؤهم فيه، وأنكر ذلك على أكثرهم فلم يرجعوا عليه. وسألت ابن عتاب وابن مالك عن ذلك فأنكراه، وقالا: أرأيت أيضاً إن كان الذي في
بيته ودائع؟ فقلت له: ذلك محمول على أنه ملكه حتى يظهر خلافه، فقال: فيلزم الاستيناء به أهو للمطلوب أم لا. وأعلمت ابن القطان بعمل أهل طليطلة، فقال لي: ما يبعد.
ابن رشد: وأراه [528/أ] حسناً فيمن ظاهره اللدد والمطل.
الثاني: يجب الحبس على كل من عليه حق لا مدفع له فيه، ولم يعلم عدمه إلا من قوله، ولم يكن ظاهره العدم كما تقدم، فإن كان الحق على غيره وهو السبب فيه كالقاتل خطأً، ففي سجنه قولان لسحنون وأبي عمران، نقله ابن راشد.
الثالث: إذا شهد له قوم بالعدم وآخرون بالملاء، ففي أحكام ابن زياد: بينة الملاء أعمل وإن كانوا أقل عدالة، ويحبس حتى تقوم له بينة أنه عديم قبل ذلك. قال في المقدمات: وهو جيد. وقيل: إن بينة العدم أعمل وإن كانت أقل عدالة، وقيل: يعمل على شهادة أعدلهما، فإن تساويا سقطتا وبقي مسجوناً. وقيل: يعمل على أعدلهما فإن تساويا أطلق من السجن. قال في البيان: وهذا إنما هو إذا شهدت هذه بأنه عديم في ظاهر حاله وهذه أنه مليء في ظاهر حاله ولم يبيِّنوا أن له مالاً أخفاه، وأما إن شهدت بينة الملاء على إخفاء ماله؛ لما صح أن يختلف أنها تعمل.
ابن عبد السلام: وتأمل قوله أنه عديم في ظاهر حاله، فلعل معناه أنهم يعلمون أنه عديم في ظاهر الحال لا مال له ظاهراً ولا باطناً.
فَإِنْ طَالَ حَبْسُ الْمَجْهُولِ أُخْرِجَ، ويَخْتَلِفُ بِقَدْرِ الدِّيْنِ
يعني: إذا لم يجد من يشهد له وطال حبسه أخرج؛ لأنه يغلب على الظن فقره. قال في العتبية: وليس على القاضي أن يكلف الغريم البينة بأنه لا مال له، وإنما يسأل القاضي عنه أهل الخبرة والمعرفة، فإن لم يجد له مالاً حلفه وخلى سبيله. قال في البيان: وهذا في مجهول الحال، وأما إن حبسه للتهمة أنه أخفى مالاً؛ فلا يكتفي إلا بالبينة. (ويَخْتَلِفُ) أي:
الطول بقدر الدين، وذلك بحسب اجتهاد الإمام، وهذا هو تحقيق أهل المذهب، قاله بعض كبار الشيوخ.
ابن الماجشون: ويحبس في الدريهمات اليسيرة الشهر ونحوه، وفي الوسط من ذلك الشهرين، وفي الكثير الأربعة.
المازري وغيره: وكذلك يختلف الطول بحسب تجلد الأشخاص في الحبس. واحترز المصنف بالمجهول من المليء، فإنه يسجن أبداً إلا أن يعطي.
ويُحْبَسُ لِوَالِدِهِ، وفِي حَبْسِ والِدِهِ لَهُ قَوْلانِ كَالْيَمِينِ
لا إشكال في حبس الولد للأبوين، وأما حبسهما له؛ فمذهب المدونة: أنهما لا يحبسان له، قال فيها: وإن لم أحبس الأبوين له فلا أظلم الولد لهما، مطرف: ويأمرهما الإمام فيما ثبت عليهما أن يقضياه. والقول بأنهما يحبسان له لمحمد. ولو قال المصنف: وفي حبس والديه لكان أحسن، ولعله اعتمد على إن حرمة الأم كالأب أو آكد.
وقوله: (كَالْيَمِينِ) تشبيه لإفادة الحكم، ومذهب المدونة أنهما لا يحلفان له، وإن أحلفهما فهو عقوق، ولابن الماجشون في الثمانية: أن تحليفهما مكروه وليس بعقوق فيقضى له بذلك. وفي الموازية عن ابن القاسم: أنه يقضي له بذلك إلا أنه عقوق وهو بعيد؛ لأن العقوق من الكبائر، فلا ينبغي أن يمكن من فعله أحد، وقيد في البيان هذا الخلاف بما عدا قلب اليمين. قال: وأما إن وجبت يمين للأب على الابن فقلبها على الأب أو تعلق بها حق الغير؛ كما لو ادعى تلف صداق ابنته، أو ادعى عليه زوجها أنه نحلها نحلة وانعقد عليها النكاح؛ فاتفق على أنه يحلف قاله ابن رشد.
ابن المواز وغيره: ويحبس أيضاً إذا امتنع من الإنفاق على ولده الصغير؛ لأن ذلك ليس من قبل الصغير، وإنما القاضي هو الذي حبسه. قال في المدونة: ويحبس للولد الأجداد والأقارب.
فائدة:
اختلف الطرطوشي وعياض هل للجد من البر ما للأب؟ فقال الطرطوشي لا، واحتج بهذه المسألة، قال: ولم أر نصاً في ذلك للعلماء. وقال عياض: إنه كالأب، واستدل بقولهم: إنه لا يقتص منه له، وأنه لا يغزو إلا بإذن جده. واستدلال الطرطوشي أحسن؛ لأن مقصوده أن لكل من الجد والأب حقاً في البر، إلا أن الجد أقل لهذه المسألة، ولا يحسن استدلال عياض إلا أن لو كان قصد الطرطوشي نفي بر الجد مطلقاً؛ لأن غاية هذه المسائل أن تفيد أن للجد براً في الجملة، أما كونه مساوياً للأب فلا.
ويُحْبَسُ النِّسَاءُ ويُؤْتَمَنُ عَلَيْهِنَّ مَامُونَةٌ أَيِّمٌ أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ مَامُونٍ.
يعني: أن النساء كالرجال في حبسهن والتضييق عليهن، وقبول الحميل منهن على ما ذكر، إلا أنهن يحبسن عند امرأة مأمونة أيماً كانت أو ذات زوج مأمون.
فرع:
قال في المدونة: ويحبس السيد في دين مكاتبه إن لد، قيل: يريد ويحبس المكاتب في دين سيده ولا يحبس مكاتب عجز؛ إذ ليست في ذمته. اللخمي عن سحنون: ومن سجن في دين امرأته أو غيرها فأرادت زوجته أن تدخل إليه لتبيت عنده لم تمكن من ذلك؛ لأن المراد من حبسه التضييق.
وقال محمد بن عبد الحكم: إذا أراد الطالب أن يفرق بين الغريم وزوجته وطلب الزوجان أن يجتمعا؛ فذلك لهما إذا كان السجن خالياً.
اللخمي: وهو أحسن فيمن أشكل أمره هل هو في معنى اللدود؟ وأما من علم منه اللدد فالأول أحسن، وكذلك من ثبت فقره وعلم بأكل أموال الناس؛ فإنه يسجن ويضيق عليه أدباً له، ويمنع منه ولده ومن يعز عليه. انتهى.
وقال ابن يونس إثر قول سحنون المذكور، وقال محمد: إلا أن تشاء المرأة الدخول إليه وهي التي قد حبسته؛ لأنها لو شاءت لم تحبسه.
ابن عبد السلام: قال ابن المواز: لا يمنع المحبوس في الحقوق ممن يسلم عليه أو يحدثه، وإن اشتد مرضه واحتيج إلى امرأته تباشر منه ما لا يباشره غيرها وتطلع على عورته؛ فلا بأس أن تجعل معه حيث يجوز ذلك.
ابن رشد: وقول [528/ب] سحنون أظهر، ولا يفرق بين الأب والابن والإخوة في السجن. محمد بن عبد الحكم: ولا يخرج المحبوس للجمعة والعيد.
اللخمي: وهذا يجري على قول بعض أهل العلم أن الجمعة فرض كفاية.
المازري: وعندي أن هذا لا يتخرج؛ لأن الجمعة لها بدل وتسقط للأعذار، وقد سقطت على أحد القولين لشدة المطر، وقد أبيح الانتقال عن الماء إلى التيمم إذا غلا الماء، فكذلك لا يبعد أن يكون الخوف على تلف مال الغرماء بخروجه للجمعة عذراً في سقوط فرض الجمعة، قال: والأولى عندي ألا يمنع من ذلك إذا كان على صفة لا يلحق الغرماء ضرر.
ابن يونس وغيره: ولو مرض في الحبس لم يخرج إلا أن يذهب عقله فيخرج حتى يعود إليه عقله ثم يعاد؛ لأنه إذا ذهب عقله لا فائدة في سجنه حينئذ لعدم علمه. وقال في الموازية: واستحسن إذا اشتد مرض أبويه أو ولده أو إخوته أو من يقرب إليه من قرابته وخيف عليه الموت أن يخرج بكفيل بوجهه فيسلم عليهم ثم يعود، ولا يفعل ذلك في غيرهم من القرابات.
الباجي: وهو استحسان، والقياس المنع وهو الصواب عندي. ابن عبد الحكم: ولا يخرج لحجة الإسلام، ولو أحرم بحجة أو عمرة فيقام عليه بالدين حبس ويبقى على إحرامه، ولو ثبت عليه الدين يوم نزوله بمكة أو منى أو عرفة استحب أن يؤخذ منه كفيل حتى يفرغ من الحج ثم يحبس بعد النفر الأول، ولا يخرج ليغير على العدو، إلا أن يخاف عليه
الأسر أو القتل بموضعه فليخرج إلى غيره، وإن قذف أخرج لإقامة الحد، ويحبس الوصي فيما على الأيتام من دين إذا كان لهم في يده مال وكذلك الأب.
الرَّابِعُ: الرُّجُوعُ إِلَى عَيْنِ الْمَالِ بِشُرُوطٍ.
الرابع من أحكام الحجر على المفلس رجوع الطالب إلى عين ما خرج من يده من طعام أو حيوان أو عروض، أما في الموت فهو أسوة الغرماء، ورأى الشافعي أنه أحق فيهما، ولما في الموطأ عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه عليه الصلاة والسلام قال:«أيما رجل ابتاع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً فوجده بعينه؛ فهو أحق به، فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء» . وهو وإن كان مرسلاً هنا فقد وصله أبو داود من طريق إسماعيل وحديث إسماعيل عن الشاميين صحيح، فإن عورض هذا بما رواه أبو داود أيضاً عن ابن أبي ذؤيب عن أبي المعتمر عن عمر بن الحارث قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به.
أبو داود: أبو المعتمر لا نعرفه، فإن قيل: قد ذكره ابن حبان في الثقات، قيل: هو مختلف فيه، فيرجح الأول لعدم الاختلاف فيه.
قوله: (عَيْنِ الْمَالِ) يشمل الدنانير والدراهم، وهو قول ابن القاسم قياساً للثمن على المثمون خلافاً لأشهب؛ لأن الأحاديث إنما فيها إذا وجد سلعته أو متاعه، والنقدان لا يطلق عليهما ذلك عرفاً، ويمكن أن يقال: بناء على أن الدنانير والدراهم هل تتعين أم لا.
فرع:
واختلف إذا أحاله بدين على غريم باع له سلعة ففلس المشتري المحال عليه بالثمن، هل يكون المحال أحق بالسلعة المبيعة؛ لأنه كالوكيل عن صاحبها، وهو اختيار ابن المواز أم لا، وهو قول أصبغ.
مَنْهَا: أَلا يُقَدِّمَهُ الْغُرَمَاءُ ولا يَدْفَعُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وقِيلَ: أَمَّا مَنْ أَمْوَالِهِمْ فَلا
لما ذكر أن للرجوع شروطاً شرع في بيانها وذكر ثلاثة شروط:
الأول: ألا يفدي الغرماء بأن يدفعوا له ثمنها من مال المفلس أو من أموالهم، فإن فعلوا ذلك فلا مقال للبائع ولا للمفلس، وهذا مذهب الموازية.
ابن الماجشون: زاد في الموازية أو يضمنون الثمن وهم ثقة أو يعطونه حميلاً، والقول بأن ذلك ليس لهم من أموالهم لابن كنانة. ولأشهب ثالث: ليس لهم بالثمن حتى يزيدوا على الثمن زيادة يعطونها من دينهم وتكون السلعة لهم نماؤها وعليهم ثواؤها، ومذهب المدونة أن نماء السلعة للمفلس ومصيبتها منه. وقال ابن الماجشون: الربح والنماء له والخسارة على الغرماء. وقال ابن وهب: إن لم يرض المفلس بفدائها فنماؤها له؛ لأنها على ملكه وهلاكها منهم. وقال ابن الماجشون: لأنه تبرأ منها للبائع في دينه، وإن رضي فيكون نماؤها له ومصيبتها منه.
فرع:
إذا تبرع إنسان بقضاء ما على غيره أجبر الطالب على أخذه إذا كان قصد الدافع التخفيف عمن عليه الدين، ولم يقصد هبة صاحب الدين. وقال الشافعي: لا يجبر؛ لأن ذلك هبة، ولا يجبر أحد عليها، كذا اشار المازري في نقل المذهبين، فانظره.
وَلَوْ قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ فَلَهُ رَدُّهَا وأَخذُهَا إلى الضَّرْبِ بِالْبَاقِي
كما لو باعه داراً بألف وقبض منها خمسمائة، فإما أن يتركها أو يحاصص بالخمسمائة الباقية، وإما أن يرد الخمسمائة ويأخذ داره، فإن تعدد المبيع؛ كما لو باع عبدين بعشرين ديناراً فاقتضى من ثمنهما عشرة وباع المشتري أحدهما وبقي الآخر عنده وفلس، فأراد البائع أخذ العبد الباقي منهما، فليس له أخذه إلا أن يرد من العشرة التي اقتضاها خمسة؛
لأن العشرة الأولى كانت مقبوضة عليهما، وهذا إذا كانت قيمتها متساوية، وإلا فمن العشرة المقتضاة أولاً عليهما ورد [529/أ] حصة الباقي، وهذا هو المشهور، وتأول الباجي الموطأ عليه، وتأول أبو جعفر بن رزق الموطأ على ظاهره، وأن البائع لا يأخذ ما وجد من السلع إلا أن يرد جميع ما قبض، ونص الموطأ: وإن كان المشتري قد باع بعضه وفرقه، فصاحب المتاع أحق به من الغرماء، لا يمنعه ما فرق المبتاع منه أن يأخذ ما وجد بعينه، فإن اقتضى من ثمن المبتاع شيئاً فأحب أن يرده ويقبض ما وجد من متاعه ويكون فيما لم يجد أسوة الغرماء؛ فذلك له.
ونسب الغزالي لمالك أن قبض شيء من الثمن فوت يمنع البائع من الرجوع في سلعته، وأنكره المازري، وحمله على أنه فهم ذلك من دليل الخطاب في الحديث الذي رواه مالك في موطئه حيث قال فيه:«ولم يقبض البائع من ثمنه شيئاً» . فعزاه إليه، ونسب ابن عبد السلام مثل ما نسبه الغزالي للموطأ لأبي زيد.
ولَوْ أَخَذَهَا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبَاً حَادِثاً فَلَهُ رَدُّهَا ويُحَاصُّ، أَوْ حَبْسُهَا ولا شَيْءَ لَهُ
يعني: ولو أخذ البائع سلعته فاطلع فيها على عيب حادث عند المفلس، فالبائع مخير إن شاء ردها وحصص بمجموع ثمنها، وإن شاء تمسك بها.
وعلم أن العيب إما أن يكون سماوياً أو بسبب المشتري أو بسبب أجنبي، فالحكم في السماوي كما ذكره المصنف على المشهور، ولمالك في مختصر ابن شعبان في الأمة تتعيب: يخير البائع إن شاء أخذها بقيمتها وإلا ردها وحاصص.
المازري: قال بعض أشياخي: معنى قوله: (أخذها بقيمتها) أنه يحط من الثمن ما نقص العيب، قال: ويحتمل أن يريد أنه يأخذها بقيمتها على ما هي ويحاسب بذلك من الثمن، وخرج بعض الشيوخ قولاً بالفوات إذا اشترى عبداً فهرم عنده ثم فلس، أو صغيراً فكبر
من أحد القولين أن ذلك يمنع الرد بالعيب، وإن كان ذلك من فعل المشتري، كما لو أخلق الثوب، فلمالك في الواضحة ما ذكره المصنف. وقال ابن الماجشون: إلا أن يكون الثوب بلي بلاء فاحشاً فذلك فوت.
وحمل اللخمي قوله على الخلاف. وقال اللخمي والمازري: والقياس فيما كان بسبب المشتري أن يكون كجناية أجنبي بحسب النقص، وذكر أن الحكم في جناية الأجنبي أن للبائع أخذ سلعته بمقدار ما بقي منها بعد الجناية من قيمة الذاهب بنسبة ذلك من الثمن، فإن كانت الجناية النصف؛ خير في أخذها بنصف الثمن، وإلا أخذ المشتري لها أرشاً، فإن عادت إلى هيئتها من غير نقص فكما ذكر المصنف، وأجراه اللخمي مجرى الغالب، وإلا حسب النقص.
فَلَو حَاصَّ لِعَدَمِهَا ثُمَّ رُدَّتْ بِعَيْبٍ؛ فَلَهُ رَدُّ مُحَاصَّتِهِ وأَخْذُهَا، وقِيلَ: حُكْمٌ مَضَى
يعني: فلو حاص الغرماء لأجل عدم سلعته؛ لأنه لم يحاصص إلا ظاناً أنه لا يجد سلعته فقرر لذلك، وهذا قول ابن القاسم في العتبية وهو المذهب، والقول الثاني ليس منصوصاً وإنما هو اختيار اللخمي، وأخذه هو والمازري من قول ابن حبيب: فيمن اشترى سلعة، ثم باعها، ثم اطلع على عيب فرجع بقيمته، ثم ردت السلعة عليه؛ أنه لا يردها على الأول، لأن رجوعه حكم وقع فلا يرد، وقد يجري على الخلاف في الرد بالعيب هل هو نقض للبيع من أصله فتنتقض المحاصة، أو ابتداء بيع فلا تنتقض. والله أعلم.
ومِنْهَا: انْتِقَالُ الْمُعَوِّضِ
يعني: شروط الرجوع في عين السلعة ألا يحدث ما ينقلها عن الغرض المقصود منها. أو في بعضها؛ أي: ومنها عدم انتقال المعوض.
فَلَوْ طُحِنَتِ الْحِنْطَةُ، أَوْ خُلِطَتْ بِمُسَوِّسٍ، أَوْ عُمِلُ الزُّبْدُ سَمْناً، أَوْ فُصِّلَ الثَّوْبُ، أَوْ ذُبِحَ الْكَبْشُ؛ فَاتَ ....
أي: فات الرجوع، وهذه مسائل وقعت في المذهب منصوصة كما ذكرها المصنف، وحكم فيها بالفوت؛ لأن الحنطة إذا طحنت والزبد إذا عمل سمناً يزول عنهما اسم الحنطة والزبد وسميا دقيقاً وسمناً ويزول عنهما الغرض المقصود، وكذلك أيضاً يزول المعنى المقصود إذا خلط الطيب بمسوس أو ذبح الكبش وليس دبغ الجلد فوت على المشهور، خلافاً لابن وهب في أحد قوليه، وعلى هذا المعنى الذي أشرنا من اعتبار الغرض المقصود نبه الإمام فيما رواه مطرف عنه لمَّا سئل عمن اشترى ثياباً فقطعها، فقال: لا أدري، لكن إن اشترى جلوداً فقطعها نعالاً أو خفافاً فذلك فوت. فلم يقف في قطع الجلد نعالاً لما كان الغرض في الجلد خلاف الغرض في النعال، وأشكل الأمر بالنسبة إلى تفصيل الثياب.
وحكى المازري عن بعض الشيوخ: أن خلط النقي بالمغلوث، والجديد بالمسوس لا يمنع البائع من الرجوع ويقومان ويكون البائع أحق بما ليس له من القيمة، وأشار المازري إلى أنه إنبنينا على أن التفليس كنقض بيع من أصله أجزنا أخذ الشاة بعد ذبحها، والقمح بعد طحنه، والزبد بعد كونه سمناً، وإن قلنا: إنه هو ابتداء بيع، منعنا ذلك كله. وأجري على هذا الأصل ما إذا باع رطباً ثم يبس، فقال مالك: لا يجوز أخذه. وقال أشهب بجوازه. وأما إذا باع عبداً فأبق عند المشتري ثم فلس، فذهب أصبغ إلى أن بائعه ليس له طلبه، وترك المحاصة بناء على أن الأخذ من المفلس كابتداء بيع، وذهب ابن القاسم وأشهب إلى جواز طلبه، واختلف إذا لم يجده؛ فقال ابن القاسم: ليس له الرجوع إلى المحاصة لأنه تركها، وقال أشهب: له الرجوع إليها. والمسوِّس بكسر الواو المشددة.
فَلَو لَمْ يَنْتَقِلْ لَكنِ انْضَمَّتْ إِلَيْهِ صَنْعَةٌ أَوْ عَيْنٌ أُخْرَى؛ كَنَسْجِ الْغَزْلِ، وبِنَاءِ الْعَرَصَةِ شِارَك بِقَدْرِ قِيمَتِهَا مِنْ قِيمَةِ [529/ب] الْبُنْيَانِ ....
يعني: فإن لم ينتقل الغرض ولكن انضمت إلى المبيع صناعة أو عين أخرى، ونسج الغزل مثال لما انضمت إليه صنعة، وبناء العرصة مثلا لما انضمت إليه عين أخرى.
واكتفى المصنف بكيفية المشاركة في بناء العرصة عن كيفيته في النسج.
وما ذكره من كيفية المشاركة نحوه في الموطأ، فقال: إذا كانت قيمة المجموع ألفاً وخمسمائة وقيمة البنيان ألف درهم، لصاحب البقعة الثلث ولصاحب البنيان الثلثان.
مالك: وكذلك الغزل. ونحوه لابن حبيب، وقاله أصحاب مالك كلهم.
ابن القاسم في المدونة: ولا يقوم البناء خاصة، وإنما يقوم المجموع يوم الحكم، وعورضت هذه المسألة ممن استحق أرضه بعد أن بناها المستحق منه، فإن مالكاً نص على أن للمستحق أن يعطي قيمة البناء وتكون الأرض والبناء له. فلِمَ لا يجعل البائع هنا كذلك. وأجاب المازري بضعف أمر المشتري في الاستحقاق؛ لأنه أخطأ في اعتقاده وبنى في أرض لا يملكها في باطن الأمر، بخلاف المشتري في التفليس فإنه بنى في أرض مملوكة ظاهراً وباطناً واستشكل ابن راشد عدم الفوات في الغزل، قال: لأنه لا يسمى بعد النسج غزلاً وإنما يسمى ثوباً أو رداء، كما أن الثوب إذا فُصِّل سمي قميصاً أو سراويل.
وأجاب ابن عبد السلام بأن المصنف لم يجعل المقتضي للحكم فيما تقدم هو انتقال الاسم، وإنما جعله انتقال الغرض، وقد انتقل هناك ولم ينتقل هنا.
بعض الشيوخ: ويشبه أن يكون النسج فوتاً. ابن عبد السلام: ذكر ذلك بعضهم قولاً لابن القاسم، وعلى المشهور فالشركة في مسألة النسج بين البائع والمشتري بقيمة النسج وقيمة الغزل، واختلف المذهب فيمن اشترى أرضاً فبنى فيها ثم اطلع على عيب، هل يكون بناؤه فوتاً يمنع من الرد بالعيب ويوجب أخذ قيمة العيب، أو ليس بفوت؟ فأشار بعض
الشيوخ إلى ترجيح الخلاف في مسألة الفلس من مسألة العيب، وأشار غيره إلى الفرق بأن مسألة العيب وجد فيها تدليس من البائع وتفريط أوجب رجحان حق المشتري عليه، وذلك مفقود في مسألة الفلس.
فَأَمَّا لَوْ خُلِطَ بِمِثْلِهِ فَلَهُ مَكِيلَتُهُ
أي: في الجودة والرداءة، كما لو خلط قمحاً أو زبيباً أو عسلاً بمماثله، وشمل قوله:(خُلِطَ بِمِثْلِهِ) العين، وهو المذهب خلافاً لأشهب كما تقدم. ابن القاسم: وإن خلطه بشيء اشتراه من آخر كان أحق به ويتحاصا فيه.
وياخُذُ الْوَلَدَ بِخِلافِ الثَّمَرَةِ والْغَلَّةِ
يعني: وإذا أراد البائع أخذ سلعته فإنه يأخذ ولد الأمة أو غيرها من الحيوان؛ لأنه كالجزء منها، بخلاف الثمرة والغلة فليس له أخذهما لأنهما من الخراج التابع للضمان.
وعطف المصنف الغلة على الثمرة من عطف العام على الخاص، ويحتمل أن يريد بالغلة ما ليس قائم العين، ومراد المصنف بالثمرة والغلة ما انفصل قبل ذلك ولم تكون الثمرة مأبورة يوم التبايع، أما إن كانت مأبورة فيستثنيه بقوله: (إلا صوفاً
…
) إلخ. وأما إذا لم ينفصل؛ فالمشهور أن البائع يأخذها مع الأصول ولو يبست ما لم تجذ، بخلاف الشفعة فإنه يأخذها الشفيع ما لم تيبس؛ لأنها ما دامت معلقة بالأصول كأغصان الشجر، والشاذ وقع لابن القاسم وغيره؛ لأنه لا يأخذها إذا أبرت، واتفق في الصوف أنه يأخذه قبل الانفصال، والفرق على الشاذ بينه وبين الثمرة: أن الصوف يكون للمشتري بمجرد العقد، والثمرة المأبورة لا تكون له بمطلق العقد.
وفي البيان: إن اشترى الأصول ولا تمر فيها، أو فيها تمر لم يؤبر ثم فلس فأربعة أقوال:
أحدها: أن البائع أحق بالثمرة ما لم تؤبر، وذلك يتخرج على قول أصبغ بالرد بفساد البيع؛ لأنه إذا قال فيه: إن الثمرة تبقى للبائع وإن لم تطب إذا كانت قد أبرت فأحرى أن تبقى للغرماء.
والثاني: أن البائع أحق بها ما لم تطلب، وهو قول ابن القاسم في العتبية.
والثالث: أنه أحق بها ما لم تيبس.
والرابع: أنه أحق بها ما لم تُجَذ، وهو نص ما في المدونة.
إِلا صُوفاً عَلَى ظَهْرِهَا، أَوْ لَبَناً فِي ضُرُوعِهَا، أَوْ ثَمَرَةً كَانَ اشْتَرَطَهَا الْمُبْتَاعُ مَابُورَاً
لما ذكر أن البائع لا يرجع في الغلة استثنى من ذلك الثمرة المأبورة إذا اشترطها المشتري والصوف التام، وهذا هو المشهور، خلافاً لأشهب في قوله: إنه لا يرجع فيهما لأنهما من الغلات، ووجه المشهور أنه إذا كان الصوف تاماً والثمرة مأبورة يصيران مقصودين فلهما حصة من الثمن فيكون بمنزلة من باع سعتين، وعليه فلو باع المشتري الصوف وأراد البائع أن يأخذ الغنم نظر كم قدر الصوف من الرقاب لا إلى ما باعه به، ويأخذ الغنم ويحاص الغرماء بما يخص الصوف، وقاله ابن القاسم في العتبية والموازية والواضحة، وما ذكرناه من اعتبار الإبار هو المشهور. وقيل: بالإزهار. وقال يحيى: إن جذه تمراً رد مليكته وإن جذه رطباً رد قيمته وله أجر سقيه وعلاجه. قال ابن حبيب: ليس له ذلك؛ لأنه إنما أنفق على ماله وضمانه منه. وتعقب ابن يونس كلام يحيى وقال: إنما يصح بالرد بالعيب، وأما التفليس فإذا فاتت الثمرة مضت بما ينوبها من الثمن وحاصص البائع بذلك الغرماء كما نص عليه ابن القاسم في الصوف.
وجعل المصنف اللبن إذا كان في الضرع كالصوف التام تبعاً لابن شاس وفيه نظر؛ لأنه نص في كتاب العيوب من المدونة على عدم [530/أ] رده في العيب، وإن كان في الضروع يوم التبايع لخفته، وهو ظاهر ما في التفليس منها؛ لأن فيها: وأما ما كان منها من
غلة أو صوف جزه، أو لبن حلبه؛ فذلك للمبتاع، وكذلك النخل يجني ثمرها فهو كالغلة، إلا أن يكون على الغنم صوف قد تم يوم الشراء، أو في النخل تمر قد أبر، واشترط ذلك التمر فليس كالغلة، فحكم أولاً بأن الصوف والغلة للمبتاع ثم لم يستثن إلا الصوف التام والثمرة المأبورة، ولا يقال: إنما نص على عدم الوجوب في الرد بالعيب لا في التفليس؛ لأنه لا فرق بين البابين، ولأن تعليله بالخفة يدخل البابين، ولخفة اللبن أجاز مالك في غير المدونة لبناً معجلاً بشاة لبون إلى أجل.
عبد الحق: ولا يلزم عليه جواز جزة صوف معجلة بشاة عليها جزة صوف إلى أجل؛ لأن الصوف كسلعة فيكون كصوف بصوف إلى أجل وزيادة.
وقول المصنف: (أَوْ ثَمَرَةً كَانَ اشْتَرَطَهَا) لأن المأبورة لا تدخل إلا بالشرط كما تقرر في البيوع.
واحترز بالمأبورة من غيرها، فإنها لا حصة لها، وللبائع أخذها إذا كانت باقية مع أصولها، وأما إن جُذَّت أو جز الصوف، فقال المازري: المشهور أن الصوف إذا جزَّ وكان قائماً بعينه يرد مع الغنم، وأما الثمرة فلا ترد مع الأصول إذا جذَّت ولو كانت قائمة، ولكن يحاصص بما ينوبها من الثمن، قال: والفرق بينهما وأقصى ما يتصور أن الثمرة لو أخذها بعد الجذَّ لكان كمن اشترى رطباً وأخذ عنه تمراً يابساً، لا سيما إذا قلنا: إن ردها في الفلس كابتداء بيع.
فَإِنْ يَبُسَت الثَّمَرَةُ فِي يَدِ الْمُشْتريِ؛ فَفِي رُجُوعِهِ قَوْلانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَقْضٌ أَوْ بَيْعٌ ثَانٍ ....
يحتمل بأن يبيع الثمرة وحدها بعد ما أزهى وحل بيعه، فإن فلس المشتري قبل يبسه كان للبائع أخذه، وإن فلس بعد ما يبس فقولان؛ الأول في العتبية وبه أخذ أشهب: أنه
أحق به؛ لأنه مجيز سلعته. والثاني لمالك، وبه أخذ أصبغ: أنه يحاصص ولا يكون أحق بها؛ لئلا يؤدي إلى بيع الرطب بالتمر.
وقوله: (بِنَاءً
…
) إلخ. فإن قلنا: إنه نقض للبيع من أصله كان أحق، وإن قلنا هو ابتداء بيع لم يجز؛ لما ذكرنا من بيع الرطب بالتمر.
ومشى ابن راشد وابن عبد السلام كلام المصنف على هذا الوجه، وهو الذي يؤخذ من الجواهر، ويتخرج على هذا الخلاف إذا باعه زبداً فصار سمناً، أو قمحاً فطحنه، وذكر ذلك المازري. وقد تقدم ذلك من كلام المصنف أنه يفوت بذلك.
ويحتمل أن (أل) في (الثَّمَرَةُ) للعهد؛ أي: فإن يبست الثمرة التي اشترطها المبتاع مأبورة، وقد ذكر الباجي القولين، فقال: إن فلس المبتاع قبل أن تجذ فهو أحق بالأصل والثمرة ما لم تجذ قاله مالك، وقال أيضاً: ما لم تيبس. ابن القاسم: والأول هو القياس، والثاني استحسان وهو أحب إليَّ. وكذلك ذكر في البيان هذين القولين وزاد ثالثاً أنه أحق بها مطلقاً: أي: وإن وجدت قبل.
ويحتمل أن تكون (أل) في (الثَّمَرَةُ) للجنس فتشمل الصورتين؛ أي: المشتراة مفردة أو مع أصولها.
وفي بعض النسخ عوض (فَإِنْ يَبُسَت الثَّمَرَةُ)(فإن لم تيبس). ابن عبد السلام: وفيها قلق، إلا أن يقال: إنه أراد مسألة ما لو اشترى النخل ولا تمر فيها أو فيها تمر لم تؤبر ففلس المشتري وقد طاب الثمر، فقال ابن القاسم: هو للغرماء. وقال مالك: ذلك للبائع ما دام في رءوس النخل، لكن تنزيل هذه الصورة على كلام المصنف بعيد، ولا سيما الأصل الذي بنى عليه القولين. انتهى.
ولأن مقتضاه أن الثمرة إذا يبست لا يكون أحق بها بالاتفاق، ولأن القول بأنه لا يكون أحق بها قبل اليبس لم أره.
وياخُذُ بَعْضَ الْمَبِيعِ ويُحَاصُّ بِمَا يَخُصُّ الْفَائِت مِنَ الثَّمَنِ
يعني: إذا باع سلعتين أو أكثر ثم فلس المشتري بعد ذهاب بعض السلع، فإن البائع يحاص بما يخص الفائت، وله أن يرجع فيما وجد.
محمد وأصبغ: إلا أن يدفع له الغرماء ثمن الباقي من السلعتين من مال المفلس أو أموالهم، واختلف هل يكون أولى بثمنها حتى يستوفي من ثمنها ما فدوها به أو يدخل معهم فيها بثمن الفائت لأنهم كأنهم أسلفوا للمفلس ثمنها سلفاً.
التونسي: وهذا القول الأخير كقول ابن القاسم.
ابن يونس: وهو ظاهر قول مالك. التونسي: والأول اختيار محمد، وذلك لأنهم حلوا محل أصحابهم في الاختصاص بها، فلا يكون له أن يحاصصهم إلا بما فضل عما فدوها به. وفي بقية مال المفلس، ابن عبد السلام: وما ذكره المصنف بيَّن إن قلنا: إن رد السلعة في الفلس كابتداء بيع، وأما على القول بأنه نقض للبيع؛ فينبغي أن يفصل في السلعة الفائتة بين أن تكون وجه الصفقة أو لا، ويسلك في ذلك مسلك استحقاق بعض المبيع.
وَرَوى ابْنُ الْقَاسِمِ: ولَوْ ولَدَتِ الأَمَةُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ بِيعَ الْوَلَدُ لَمْ تَكُنْ لَهُ حِصَّةٌ. وقِيلَ: كَسِلْعَتَيْنِ، ولَوْ بِيعَتِ الأُمُّ فَكَسِلْعَتَيْنِ. قَالَ سَحْنُونٌ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا ....
حاصله: إن مات الولد أو الأمة فليس للبائع إلا أخذ الباقي بجميع حقه أو تركه والمحاصة، وأما إن باع أحدهما، فإن باع الولد؛ فالمشهور: أن ذلك كموته. وإن باع الأم فكسلعتين، فله أن يأخذ الولد وحاصص بما ينوب الأم، وأنكر سحنون هذا بقوله:(مَا أَدْرِي).
اللخمي: يريد أن القياس أن يكون في البيع سواء.
وقوله: (وقِيلَ: كَسِلْعَتَيْنِ) راجع إلى بيع الولد لا إلى موت أحدهما؛ إذ لا خلاف في الموت، قاله في البيان. ومعنى (كَسِلْعَتَيْنِ) أي: كبيع سلعتين، ثم وجد إحداهما فيكون له أخذ الأم والاتباع بما يخص الولد من الثمن يوم البيع، وهذا منقول عن مالك وابن القاسم. قال المازري: وهو أصل المذهب. انتهى.
يريد: لأن الولد إذا لم يكن غلة يجب رد عينه، وإن كانت قائماً فيجب أن يحاسب بثمنه، ولهذا أخذ بعض محققي الأشياخ من الأول أن الولد غلة، وزاد في البيان قولاً ثالثاً: أنه لا يأخذ الأم ويحاص الغرماء بما وصل إليه من [530/ب] ثمن الولد، وليس بجار على أصل.
وقوله فيها: (ولَوْ بِيعَتِ الأُمُّ فَكَسِلْعَتَيْنِ) هو المشهور، فيكون للبائع أن يأخذ الولد بما ينوبه من الثمن ويحاص بما ينوب الأم، ووقع لابن القاسم ومالك في سماع عيسى في بعض روايات العتبية: أنه يأخذ الولد ويحاص بقيمة الأم، أو يترك الولد ويحاص بجميع الثمن. قال ابن رشد: ولم يجروا في هذه المسألة على قياس.
ولَوْ رُهِنَ الْعَبْدُ فَلَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ ويَاخُذَهُ، ويُحَاصَّ بِفِدَائِهِ ولا يُحَاصَّ بِفِدَاءِ الْجَانِي؛ إِذْ لَيْسَتْ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ ....
يعني: لو رهن المشتري العبد ثم فلس فللبائع أن يفديه ويأخذه ويضرب بالفداء مع الغرماء، بخلاف ما لو جنى العبد ثم فلس المشتري فإن البائع أيضاً له أن يفديه، لكن لا يحاص بفدائه، والفرق بينهما ما أشار إليه المصنف أن الفداء لم يكن متعلقاً بذمة المفلس؛ لأنه كان له أن يسلم العبد في الجناية، بخلاف الدين في مسألة الرهن فإنه كان في ذمته.
ابن عبد السلام: مراد المصنف بقوله: (ولا يُحَاصَّ بِفِدَاءِ الْجَانِي) أنه لا يرجع بالجناية وإن كان نفي المحاصة أخص من نفي رجوع البائع، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، لكن مراده ما ذكرناه.
ومِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بِمُعَاَوضَةٍ مَحْضَةٍ
هذا هو الشرط الثالث، واحترز به مما ذكر بقوله:
فَلا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ والْخُلْعِ والصُّلْحِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْعِوَضِ بِخِلافِ الإِجَارَةِ
يعني: ولاشتراطنا المعاوضة المحضة لم يثبت الرجوع في النكاح وما عطف عليه. ووقع في بعض النسخ (ولا يثبت) بالواو، والأولى أحسن؛ لأن الفاء تشعر بالسببية.
قوله: (فِي النِّكَاحِ) يريد: لأن النكاح لا يفسخ لتعذر استيفاء العوض؛ وهو الصداق إذا أعسر الزوج، كما لا يفسخ البيع إذا تعذر استيفاء الثمن.
فإن قلت: أطلق المصنف في النكاح - وفي نظر - لأن النكاح يفسخ إذا أعسر الزوج بالصداق قبل البناء؛ قيل: هذا لا يرد، لأن المشتري هنا للبضع - وهو الزوج - لم يُقْبِضْهُ، والكلام إنما هو في الرجوع بعد قبض المشتري.
قوله: (والْخُلْعِ) أي: إذا خالعته على عشرة مثلاً ثم فلست، فإنه لا رجوع له في العصمة وإنما يحاصص.
خليل: الظاهر أن المقتضي لعدم الرجوع ليس هو ما ذكره المصنف من أنه ليس بمعاوضة محضة، بل لتعذر الرجوع؛ وذلك لأن العصمة في الخلع لا يمكن ردها، وكذلك البضع في النكاح، وكذلك إذا صالح عن دم العمد بشيء ثم فلس الجاني لم يمكن العود في القصاص.
وعلى هذا، فلو قال: ومنها إمكان استيفاء العوض، فلا رجوع في النكاح والخلع والصلح؛ لكان أحسن. وينبغي أن يلحق الصلح على الإنكار ثم يفلس المنكر، فإن المدعي يحاصص بما صالح به ولا يرجع في الدعوى، كما قالوا: إذا صالح المنكر على عرض ثم استحق العرض؛ فإنه يرجع بقيمته. وقيل: يرجع إلى الخصومة. وأما الصلح على الإقرار كما لو صالح على دار أو عرض أقر به لغريمه ثم أفلس؛ فإن يرجع المصالح
في الدار والعرض كالبيع، والظاهر أن الصلح على الإقرار خارج من كلام المصنف؛ لأن الصلح على الإقرار معاوضة محضة، وفاعل (يَثْبُتُ) عائد على الرجوع. وفي بعض النسخ (فلا يثبت الفسخ) ومعناهما متحد.
وقوله: (بِخِلافِ الإِجَارَةِ) فإنه يرجع في منفعته التي أجرها لعدم استيفاء العوض.
فرع: واختلف هل تحاص الزوجة الغرماء بصداقها؟ فالمشهور أنها تحاص به في الموت والفلس. وقيل: لا تحاص فيهما. وفي الجلاب: تحاص به في الفلس دون الموت، وكذلك اختلف في نفقتها، فقال ابن القاسم في النكاح الثاني: تضرب بها مطلقاً. قال سحنون: أما إذا كان الدين مستحدثاً فتاحص، ولا تحاص إذا كان الدين قبل الإنفاق.
وفي الموازية: تضرب في الفلس فقط. وقيل: لا تضرب فيهما. قال ابن القاسم: ولا يضرب بنفقة الولد أو الأبوين في فلس ولا موت. وقال أشهب: يضرب للولد مع الغرماء. وقال أصبغ في نفقة الأبوين: إلا أن تكون أخذت بحكم وتسلف وهو مليء فيضرب بها في الفلس والموت.
اللخمي: ويختلف على هذا هل يحاص بالجنايات؛ ففي المدونة: يحاص بها، وعلى القول الآخر لا يحاص بها.
ويَرْجِعُ الْمُكْرِي إِلَى عَيْنِ دَابَّتِهِ ودَارِهِ وأَرْضِهِ، وهُوَ أَحَقُّ بِزَرْعِهَا فِي الْمَوْتِ والْفَلَسِ - وقِيلِ: دُونَ الْمَوْتِ - مَعَ الأَجِيرِ السَّاقِي. وقِيلَ: ثُمَّ الأَجِيرُ السَّاقِي
قوله: (ويَرْجِعُ الْمُكْرِي إِلَى عَيْنِ دَابَّتِهِ ودَارِهِ وأَرْضِهِ
…
) إلخ. ظاهر التصور، وهو كالبيان لقوله:(بخلاف الإجارة) وهو: أي: مكري الأرض أحق بما زرع في أرضه في موت المكتري وفلسه. وقيل: إنما يكون أحق في الفلس فقط، وهذا الثاني هو مذهب المدونة، نص عليه في آخر كتاب كراء الدور. قال المازري: وهو مذهب مالك وأصحابه، فكان ينبغي للمصنف تقديمه، والأول لابن القاسم في الموازية.
أصبغ: ووجهه أن الزرع إنما نشأ عن الأرض فكانت كالحيازة له وحوزها كحوز صاحبها، فكان بمنزلة من باع سلعة وفلس مشتريها أو مات وهي في يد بائعها، ورأى في المشهور أن الزرع لما نشأ عن الأرض فغايته أن يكون كأنه باع الطعام فيكون أحق به في المفلس فقط.
وقوله: (مَعَ الأَجِيرِ السَّاقِي
…
) إلخ. يحتمل أن يتعلق بـ (أَحَقُّ) فيكون القولان في الأجير مفرعين على كل من القولين السابقين، ويحتمل أن يتعلق بـ (بأحق) المتقدم في كلامه ثانياً؛ أي: وقيل هو أحق في الفلس دون الموت مع الأجير الساقي، فيكون القولان مفرعين على القول الثاني.
ويعضد هذا لاحتمال الثاني ما نقله ابن يونس: أن ابن القاسم وأشهب رويا أن مكري الدابة أحق من سائر الغرماء في الفلس دون الموت، ثم اختلفا في مكري الأرض والأجير؛ ففي الموازية من رواية أشهب والواضحة من رواية مطرف: أنهما يتحاصان. وروى ابن القاسم: أن صاحب الأرض مقدم على الأجير، ثم الأجير مقدم على الغرماء، ويعضد الأول قول أصبغ: اختلف أصحابنا. وأحب ما فيه إليَّ أن أجير الزرع ومكري الأرض يتحاصان، وأنهما يبدآن على الغرماء في الموت والفلس، وقاله ابن الماجشون.
خليل: وهذا الاحتمال أقرب؛ لأنه تفريع على القول الذي قدمه. نعم يعترض عليه لتقديمه غير مذهب المدونة.
ومنشأ الخلاف بين القولين في تقديم مكري الأرض على الأجير، [531/أ] هل الزرع متكون عن الأرض فيكون صاحبها أحق به، أو إنما نشأ عن الأرض وفعل الأجير فيكونان متساويين، والله أعلم.
وزاد في البيان قولاً بأن الأجير مقدم على صاحب الأرض، وقولاً آخر بأنه لا تقدمة لصاحب الأرض ولا للأجير على الغرماء، بل هما أسوة الغرماء، وعزاه اللخمي للمخزومي.
ولو عمل في الزرع أجراء واحداً بعد واحد، فالأخير أحق من الأول. وقيل: يقدم أكثرهما عملاً. وقيل: يتحاصان.
ويُقَدَّمَانِ عَلَى مُرْتَهِنِ الزَّرْعِ
أي: ويقدم مكري الأرض والأجير الساقي على مرتهن الزرع ولو حازه ملك، ثم يقدم المرتهن على سائر الغرماء، وإنما قدما عليه لأن الزرع إنما يكون عن مال هذا وعمل هذا، فكان أخص في الحوز، وصاحب الحوز الأخص مقدم على صاحب الحوز الأعم، كما لو سقطت سمكة في حجر إنسان فإنه أولى بها من صاحب المركب، وعلى المشهور أنهما يكونان أحق من الغرماء في الفلس دون الموت، ويكون المرتهن أحق منهما في الموت؛ لأنهما على هذا القول كسائر الغرماء.
بِخِلافِ الأَجِيرِ عَلَى رِعَايَةِ الإِبِلِ أَوْ عَلْفِهَا وشِبْهِهِ
أي: فلا يكون أحق في الفلس والموت، هكذا نص عليه في المدونة وغيرها. ابن عبد السلام: ولا أعلم فيه خلافاً.
قوله: (وشِبْهِهِ) أي: كالحارس وأجير يخدمك في بيتك أو يبيع لك في حانوتك، ولم يكن هؤلاء أحق؛ لأنه منافعهم ليس لها أعيان قائمة بخلاف الزرع. قال في المدونة: ولو استأجره يدرس له ببقر الأجير ففلس صاحب الأندر؛ فصاحب البقر أحق بالأندر. قال ابن المواز: لأن الأندر لا ينقلب به صاحبه ولا يحتوي عليه، بخلاف صانع استصنعته في حانوتك، فإن كان الليل انصرف، فهذا لا يكون أحق به في موت ولا فلس.
والصَّبَّاغُ والْبَنَّاءُ والنَّسَّاجُ شَرِيكٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ، فَلَوْ أَقْبَضَهُ فِيمَا زَادَ، ويُحَاصُّ بِمَا بَقِيَ، وقِيلَ: بِقِيمَتِهِ، وجَمِيعُ الصُّنَّاعِ أَحَقُّ بِمَا أُسْلِمَ إِلَيْهِمْ لِلصَّنْعَةِ ....
تبع المصنف هنا ابن شاس معنىً وترتيباً، وحمل ابن عبد السلام قوله:(والصَّبَّاغُ والْبَنَّاءُ والنَّسَّاجُ) على الأجير؛ يعني: أن المستأجَر على صبغ ثوب، أو بناء بقعة، أو نسج غزل إذا فلس آجره قبل قبض الأجير الأجرة ولم يكن أسلم السلعة لربها؛ فإنه يكون مشاركاً لربه بقدر قيمة الصنعة، ثم استشكله بأن ظاهر كلامه أن الأجير لا تكون له أجرة الصنعة، ولا يحاصص بها الغرماء وهو بعيد من الأصول؛ لأن الصانع لم تخرج الصنعة من يده ولم يرضَ بفسخ الإجارة فكيف يبطل حقه فيها، وجعل ابن عبد السلام قوله:(فَلَوْ أَقْبَضَهُ) قسيماً لهذا؛ أي: وإن أسلم الصانع المصنوع إلى ربه فقولان، وتصورهما من كلام المصنف ظاهر، وقال بعض من تكلم على هذا الموضع.
وقوله: (والصَّبَّاغُ
…
) إلخ. محمول على ما إذا لم يسلم إليه الشيء للصنعة، كما لو اشترى ثوباً فصبغه أو نسجه، أو عرصة فبناها ثم فلس. فقال ابن القاسم في الموازية، ما ذكره المصنف: يكون شريكاً بقيمة الصنعة. وكذلك لو استحق من يده بعد وضع صنعته فيه فأخذه المستحق فإنه يدفع إليه قيمة الصنعة. قال: وإن أسلم إليه للصنعة؛ فإما أن يقبضوه لربه ثم يفلس قبل دفع الأجرة، أو يبقى بأيديهم حتى يفلس، فإن أقبضوه، فقال ابن القاسم في الموازية: يكون شريكاً في الثوب بما زاد الصبغ فيه ويحاص بما بقي. وقال في العتبية: يكون شريكاً بقيمة الصبغ، وهذه الصورة الثانية التي ذكرها بقوله:(فَلَوْ أَقْبَضَهُ فِيمَا زَادَ) أي: يكون شريكاً بما زاد ويحاص بما بقي.
وقوله: (وقِيلَ: بِقِيمَتِهِ) أي شريكاً بقيمة الصبغ ونحوه، واستشكل ما في الموازية بأن شريكه الصانع لربها بما زاد والمحاصة بما بقي لا تصح على أصل المذهب؛ لأن من
اختار أخذ سلعته ناقصة لا يكون له غيرها، وأما إن لم يقبضوه لربه فهم أحق به حتى يستوفوا جميع الأجرة.
خليل: المازري: في الفلس والموت.
ابن رشد: واتفق على ذلك، قال هذا القائل: وهذا الذي أشار إليه بقوله: (وجَمِيعُ الصُّنَّاعِ أَحَقُّ بِمَا أُسْلِمَ إِلَيْهِمْ لِلصَّنْعَةِ) وعلى هذا فلا يكون قوله: (فَلَوْ أَقْبَضَهُ) قسيماً لقوله: (والصَّبَّاغُ والْبَنَّاءُ والنَّسَّاجُ) بل قسيماً لما بعده، ورد ابن عبد السلام هذا الوجه بأن المصنف قدمه بقوله: (فلو لم ينتقل ولكن انضمت إليه صناعة أو عين أخرى كنسج الثوب أو بناء العرصة شارك
…
) إلخ. فلو حمل قوله: (الصَّبَّاغُ) على المشتري للزم التكرار، وأجاب عنه هذا القائل بأنا لم نخص قوله:(والصَّبَّاغُ) بالمشتري؛ بل على من وضع صنعته من غير أن يسلم إليه المصنوع للصنعة، وهو أعم من المشتري والمستحق من يده وغيرها.
وتمشية ابن عبد السلام أقرب من جهة اللفظ؛ لأن صيغة فعال للحرفة غالباً، لكن لا تصح من جهة النقل؛ لأنه يلزم أن يكون الصانع إذا لم يسلم المصنوع إنما يكون له ما زادت الصنعة، وهو خلاف الاتفاق الذي في البيان.
واعلم أن القولين في مسألة الإقباض مطلقان، سواء أضاف الصانع إلى صنعته شيئاً كالصبغ، أم لا كالخياطة، نقل ذلك اللخمي. وفي البيان: المشهور أن الصانع إذا أسلم الصنعة ولم يكن للصانع فيها غير عمل يده أنه أسوة الغرماء. وروى أبو زيد عن ابن القاسم: أنه أحق بعمله، فإن شاء أخذه بأجرة وكان شريكاً للغرماء في المتاع المعمول بقيمة عمله فيه، وإن شاء ترك وكان أسوة الغرماء. وأما إن كان للصانع غير عمل يده كالصباغ يصبغ الثوب، والفراء يفري الفرو برقاع من عنده؛ فيتفق على أنه أحق بما خرج
من يده لأنه قائم بعينه، وأما عمل يده المستهلكة فلا يكون أحق به على المشهور، ونحوه للمازري، قال: وعلى المشهور إذا كانت عينة قائمة كالرقع وصقل للسيف - وهو ظاهر الروايات - أنه شريك بقيمة ماله؛ لأنه هو المبيع وكأنه سلعة أضيفت إلى سلعة على وجه يتعذر فيها الانفصال، فيكونان شريكين في ذلك، وقال ابن حبيب: بل يكون شريكاً بما زاد الصانع، وعلى أنه شريك بقيمة ماله فالمعتبر في ذلك التقويم يوم الحكم.
فإن قيل: هذا يقتضي أن نسج الثوب لا يكون الصانع به شريكاً؛ لأنه لم يخرج من يده شيئاً، والمصنف قد جعل النساج كالصباغ؛ قيل: النساج وشبهه مستثنى عند ابن القاسم من مسألة الصانع الذي لم يخرج شيئاً ويلحق [531/ب] بما إذا أضاف للصنعة شيئاً، وكأنه لاحظ في النسج قوة التأثير، ولأصبغ قول رابع، إلا أنه لا يعلم صور المسألة، فقال: إن كان فيه رقاع وخياطة فتوق؛ فالأقل تابع للأكثر إذا كانت الرقاع أيسر ذلك وأكثره الخياطة فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس، وإذا كانت الرقاع أكثر ذلك، وهي من عنده كان أحق بها على ما تقدم، فإن تناصف ذلك قوم كل على حدثه، ثم يكون أسوة الغرماء في المرسوم، ويكون بما ينوب الرقاع شريكاً، وهذا كله على المشهور أن الصبغ ليس بفوت، ونقل المازري عن ابن وهب في أحد قوليه: أن الرجوع يفوت بالصبغ والدباغ. وضابطه: أن يحدث المشتري حدثاً يتميز بالنظر ولا يتميز بالفعل.
تنبيه: قد تقرر على التمشية الثانية أن قوله: (وجَمِيعُ الصُّنَّاعِ أَحَقُّ) قسيم لقوله: (فَلَوْ أَقْبَضَهُ) وأما ابن عبد السلام، فقال: يعني أنهم أحق في الموت والفلس، نص على ذلك في المدونة. قال: ولا يظهر لإتيان المصنف بهذه المسألة هنا كبير فائدة فإن ما قدمه مغنٍ عنها، ولا سيما وهو لم يتمها كما في المدونة. قال ابن القاسم: من دفع إلى صانع سواراً يعمله له، ثم دفع إليه بعد ذلك سواراً آخر ليعملها، أو دفعهما معاً فعمل أحدهما ودفعه إلى ربه ولم يأخذ إجارته حتى أفلس
ربهما؛ فلا يكون الصانع أحق بالباقي عنده حتى يأخذ إجارته في الذي دفع، وهو في الذي دفع أسوة الغرماء، وهو أولى بالباقي حتى يأخذ أجرته فيه.
ابن رشد: وهذا صحيح إن كان استعماله في صفقتين، وأما إن كان في صفقة؛ فمن حق الصانع أن يمسك السوار الذي بيده بجميع إجارة السوارين كالرهن، قال: وهذا مما لا إشكال فيه ولا اختلاف. قال: وقوله: (أو دفعهما معاً) غير صحيح، وقع على غير تحصيل، واحتج على ذلك بأشياء وقعت في مسألةأخرى متصلة بهذه المسألة تركنا ذكرها اختصاراً.
أما إن فلس ربها قبل العمل؛ فإن الصانع يخير بين أن يعمل ويحاصص، وبين أن يفسخ الإجارة عن نفسه.
ومُكْرِي الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِمَا حَمَلَتْ، وإِن لَمْ يَكُنْ مَعَهَا
يعني: إذا اكترى دابة ليحمل عليها شيئاً ثم فلس المكتري، فرب الدابة أحق بما حملت دابته حتى يقبض كراءه في الموت والفلس، زاد في المدونة: وسواء أسلم دوابه إلى المكتري أو كان معها، كان رب المتاع معه أو لا، وهو كالرهن، ولأن على دوابه وصل إلى البلد. ابن يونس: كأنها قابضة للمتاع كقابض الرهن. قال في البيان: ولا خلاف أن الجمَّال أحق إذا كان المتاع في يده؛ لأنه كالرهن بيده، وإن اسلم الجمَّال إبله إلى المكتري ففلس قبل الوصول أو عنده قبل أن يحوز متاعه ويرد الإبل، فالمشهور وهو الذي في المدونة: أن الجمَّال أولى بالمتاع في الفلس والموت.
ويتخرج في ذلك قولان؛ أحدهما: أنه لا يكون أحق به في الفلس والموت. والثاني: أنه أحق به في الفلس فقط. قال ابن القاسم في العتبية: والسفن كالدواب، وأخذ ذلك جماعة من تعليله في المدونة مسألة الدواب، فإن العلة فيهما واحدة. قال في المدونة:
وأرباب الدور والحوانيت أسوة الغرماء في الفلس والموت، وليسوا أحق بما فيها. فجعل الدواب بخلاف الدور؛ لأن ظهور الدواب حائزة لما عليها، ولأن في حملها من بلد إلى بلد تنمية المال بخلاف الدور، وجعل عبد الملك الدار والحانوت كالدواب فيكون ربها أحق بما فيها.
تنبيه:
أخذ أحمد بن خالد من قوله: (ولأن على دوابه وصل) أن المكري أحق بالمتاع وإن قبضه ربه. وقال ابن رشد: هو بعيد في المعنى، وإنما يكون أحق به إذا كان على ظهر دابته أو سفينته وهو بين في العتبية، وكذلك نقل ابن يونس عن الواضحة: أنه إنما يكون أحق ما دام المتاع بيده، فإن أسلمه لم يكن أحق به كالصانع إذا أسلم المتاع.
خليل: ولعل أحمد بن خالد فهم من قوله في المدونة: (كالرهن، ولأن على دوابه وصل) على أنهما علتان على البدل، وفهم غيره أنهما علة واحدة، والله أعلم.
والْمُكْتَرِي أَحَقُّ بِالدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ وبِغَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ إِنْ قَبَضَهَا
يعني: أن من اكترى دابة، فإن كانت معينة ثم فلس مكريه أو مات فالمكتري أحق بها، سوءا قبضها أو لا. قال في المدونة: كعبد اشتراه ولم يقبضه حتى فلس بائعه؛ فالمشتري أحق به، وإن كانت غير معينة فإن لم يقبضها المكتري فهو أسوة الغرماء في الفلس والموت، وإن قبضها فهو أحق بها؛ سواء كان المكتري يدير تحته الدواب أم لا. وهذا مذهب المدونة، ولعله هو المشهور واختيار ابن حبيب. وقال أصبغ: إنما يكون أحق بها بالقبض إذا كان لا يدير الدواب تحته، وإن كان يديرها فليس هو أحق، وقيل: إن المكتري لا يكون أحق في الكراء المضمون مطلقاً، وعارض التونسي قول مالك في هذه المسألة:(أن المكتري أحق وإن كان الجمال يدير الدواب تحته) بقوله: إن الراعي ونحوه ليس هو أحق بالغنم، ورآه اختلاف قول، وفرق ابن يونس بأن الراعي ونحوه لم يتعلق له بعين
الدواب حق، فوجب لذلك أن يكون حقه في ذمة المكتري بخلاف الدواب، فإن بقبضهم الدواب تعلق حقهم بها؛ لأن ركوبهم عليها كالمعينة، فكان كتعلق حق الصانع بعين المتاع، وإذا جعلناه أحق في الكراء المضمون، فقال ابن القاسم في المدونة: لبقية الغرماء أن يضمنوا له حملانه ويكروا له من أملياء ويأخذوا الإبل، وقال غير ابن القاسم فب بعض الروايات المدونة: لا يجوز أن يضمنوا حملانه.
وفِي كَوْنِ الْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِالسِّلْعَةِ تُفْسَخُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ، ثَالِثُهَا: فِي النَّقْدِ دُونَ الدَّيْنِ ....
أي: إذا اشترى سلعة شراء فاسداً وقد كان نقد ثمنها أو كان أخذها عن دين له في ذمة البائع، ثم أفلس البائع والسلعة لم تفت وهي بيد المشتري فإن البيع يفسخ، واختلف هل يكون المشتري أحق بها فيما نقد من الثمن وفيما له من الدين على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أحق بها، وهو قول سحنون.
الثاني: لا يكون أحق بها، وهو قول ابن المواز.
الثالث: إن كان ابتاعها بدين فهو أسوة [532] الغرماء بخلاف النقد، وهو قول ابن الماجشون. قال في المقدمات: ولا اختلاف بينهم أنه إن وجد الثمن الذي دفعه بعينه أنه أحق به في الموت والفلس جميعاً، وحكى اللخمي الاتفاق على أنه لا يكون أحق بها في الدين، وعلى هذا ففي المسألة طريقان.
والرَّادُّ لِلسِّلْعَةِ بِعَيْبٍ لا يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا فِي الثَّمَنِ
يعني: أن من اشترى سلعة ثم اطلع فيها على عيب فأراد ردها فوجد البائع قد فلس فإن له ردها ولا يكون أحق بها، ولم يجر في هذه من الخلاف ما في التي قبلها؛ لأن المشتري هنا مختار للرد بخلاف الأول؛ لأنه مجبر عليه. قال في المقدمات: وهذا على أن الرد بالعيب نقض، وأما على أنه ابتدائ بيع فيكون أحق بها.
فرع: واختلف إذا أقرضه ثم أفلس المقترض؛ ففي المذهب طريقانك
الأولى للمازري: المشهور أن المقرض لا يكون أحق؛ لأن الحديث إنما ورد في البيع، وسواء قبض السلف أو لم يقبضه، قال: وقد يسبق إلى النفس اعترض قوله: (أو لم يقبضه) لأن من في يده سلعة فهو أحق بها في الفلس والموت، وأجاب بأن القرض لما كان يتأجل بمقتضى العادة كان للمتسلف أن يطالب المسلف بالتسليم، فلا يكون له حبس ما أسلف، وإذا لم يكن له حبسه لم يكن أحق به، ولو قيل: له الرجوع في ذلك وإن لم ينتفع المستسلف، كما قيل في عارية الأرض للبناء والغرس لم يبعد. وحكى عن أبي محمد الأصيلي إلحاق القرض بالبيع.
والطريقة الثانية لابن رشد: أن مذهب مالك وأصحابه التسوية بين القرض والبيع، وأن التفرقة بينهما لابن المواز خلافاً لهم.
* * *