الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن التوحيد الذي يجب أن ندعو إليه هو: ((أن يُعبد الله وحده، لا يُشرك به شيء، وعلى أن يعبد بما شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
فالإله: الذي تألهه القلوب عبادة، واستعانة، ومحبة، وتعظيمًا، وخوفًا، ورجاءً، وإجلالًا، وإكرامًا، والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره، فلا يُعبد إلا الله، ولا يُدْعَى إلا الله، ولا يُخاف إلا الله، ولا يُطاع إلا الله)) (1).
وبالتالي فإن ثمرة التوحيد: ((إسلام العباد لرب العباد، وإخراجهم من سلطان العباد في حاكميتهم، وشرائعهم، وقيمهم، وتقاليدهم، إلى سلطان الله، وحاكميته، وشريعته وحده، في كل شأن من شئون الحياة)) (2).
هذا هو التوحيد الذي ندعو إليه، وهذا هو التوحيد الذي يجب أن يُبدأ به، وهذا هو الذي يجب أن يُرَبَّى الناسُ عليه.
وعلى هذا؛ فليتق الله أولئك الذين يتهمون دعاة التوحيد بغير علم، ولا تَرَيُّثٍ، وليعلموا أن الأمر لا يُؤْخَذُ من تَصَرُّفِ فَرْدٍ، أو خطأ آخر.
أثر التوحيد:
ولا يخفى على عاقل ما لهذا التوحيد الخالص الذي ندعو إليه من أثر في تربية الناس، وتنشئتهم.
(1) الفتاوى (1/ 265)، لشيخ الإسلام، طيب الله ثراه، وجعل الجنة مأواه.
(2)
معالم في الطريق (46).
فإن هذا التوحيد إذا وَلَجَ في القلب، واستقر في النفس، قَنَتَ له العبد بما فيه لله، فسلَّم العقل، وخضعت الجوارح، وذلت النفس، وصلحت سائر الأعضاء:((ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (1).
قال ابن القيم رحمه الله:
((فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقتها الإلهية التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية، طائعة سالكة سبيل ربها ذللًا، غير ناكبة عنها، ولا باغية سواها بدلًا، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلًا، فلا ريب أن هذه الكلمة، من هذا القلب، على هذا اللسان، لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت
…
وشهادة أن لا إله إلا الله تثمر جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة والباطنة، فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة
…
ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حَقَّ رعايتها)) (2).
(1) مسلم (3/ 1219).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 172)، مع شيء يسير من التصرف.
وقال سيد رحمه الله:
((إن الاعتقاد بالألوهية الواحدة قاعدة لمنهج حياة متكامل، وليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمائر، وحدود العقيدة أبعد كثيرًا من مجرد الاعتقاد الساكن.
إن حدود الاعتقاد تتسع وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة)) (1).
(1) كنت قد نقلت كلام سيد هذا في كتابي هذا مستشهدًا به، ثم رأيت أحد الأخوة قد خَطَّأَ سيد قطب في هذا، بل وضلله
…
فعرضت هذا الكلام على شيخنا العلامة الألباني -حفظه الله- بحضور بعض من انتقد هذا النص؛ ليكون حكمًا مرتضى .. فأيد الشيج رحمه الله كلام سيد، وأعجب به، وقال: هذا هو المعنى الصحيح للعقيدة
…
واستدل على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة، منها أن الإيمان بضع وسبعون شعبة
…
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وقال حفظه الله: إذا لم يدخل في عقيدة المرء أن إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، فليس له أجر إن عمل هذا العمل
…
ثم استغل بعضهم لقائي هذا مع الشيخ ناصر ليوهم أن الشيخ وأنا معه لا نرى وقوع سيد في أخطاء، والتنبيه إليها، وأننا نُخَطِّئُ من يَرُدُّ على سيد، وليست المسألة كذلك، واعلم أنه ليس في هذا أي انتقاص للمنتقدين ممن هم أعلم وأقوم سبيلًا، كما أن العصمة ليست لسيد ولا للمنتقدين، ولا لأحد بعد الرسل .. نسأل الله عز وجل العون على الإنصاف.
والمتأمل المنصف لكلام الداعية سيد -رحمه الله تعالى- هذا والذي بعده يجد أنه موافق لمذهب السلف، ولكلام الإمامين ابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى.
والظاهر أن سيدا رحمه الله قد تأثر في آخر حياته بهذا المنهج، منهج أولوية العقيدة، ودعوة الناس إليها، وتربيتهم عليها، وسلك سبيله، وترك ما عداه، وأخبرني أخوه الأستاذ الفاضل محمد -حفظه الله- بذلك، وكتبه الأخيرة تؤكد ذلك.
وقال:
((والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام على مدار التاريخ البشري هي قاعدة (شهادة أن لا إله إلا الله)، أي: إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية [ووصفه بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، إثباتًا وتنزيهًا](1) والقوامة، والسلطان، والحاكمية، إفراده بها اعتقادًا في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة)) (2).
ولا يلزم من هذا ألبتة تكفير الناس، وإنما يعني بُعد الناس عن حقيقة التوحيد.
قال سيد:
((إننا لم نُكَفِّرِ الناسَ، وهذا نَقْلٌ مشوّه، إنما نحن نقول: إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة، وعدم تصور مدلولها الصحيح، والبعد عن الحياة الإسلامية، إلى حال تشبه حال المجتمعات الجاهلية، وأنه مِنْ أَجْلِ هذا لا تكون نقطة البدء في الحركة هي قضية إقامة النظام الإسلامي، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة، والتربية الأخلاقية الإسلامية، فالمسألة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر ما تتعلق بالحكم على الناس)) (3).
والمستبصر بواقع المسلمين يجد أن معظمهم ما يزالون يجهلون حقيقة التوحيد .. يعانون من نقص حاد في التربية الإيمانية، والخلقية، والجهادية، وإن
(1) ما بين القوسين زيادة من عندنا لا بد منها.
(2)
معالم في الطريق (448).
(3)
لماذا أعدموني (ص 38)، وهذا من الأدلة الصريحة من سيد رحمه الله على عدم تكفيره للناس جملة.
مِثْلَ هؤلاء يَفِرُّونَ لأول صيحة، ويباعون في أول عرض.
وأن مقوّم ردِّهم إلى دينهم هو: التربية بالتوحيد على المعنى الذي ذكرنا.
قال سيد رحمه الله:
((التوحيد هو المقام الأول للتصور الإسلامي، وهو الْمُقَوِّمُ الأول في دين الله)) (1).
وفي ختام هذا الفصل نحب أن نَلْفِتَ النظر إلى أن التوحيد الخالص هو ما كان مصدره من الكتاب والسنة، من غير خلط بفلسفة يونانية، وأكاذيب إسرائيلية، وخرافات صوفية، وآراء عصرية، وعلم كلام مستورد
…
أفسد على الناس فِطَرَهُمْ، وشوش على العباد عقائدهم، وأفسد عليهم فَهْمَهُمْ للنبع الصافي، نبع الكتاب والسنة، وَحَّق قول الله فينا:
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
(1) خصائص التصور فصل التوحيد (ص 306).
ولقد أكثرت من النقول عن سيد رحمه الله وذلك لأغراض، منها: أن يعي أتباعه ومحبوه وغيرهم منهجه الصحيح، وأنه كان في آخر حياته من أبعد الناس عن العنف، والأساليب المستحدثة، وأنه كان يؤكد على أولوية التوحيد، وأهميته في العملية التربوية والبناء، وضرورة رَدِّ الناس إلى فهم معنى كلمة التوحيد، والتزامها بصدق في حياتهم العملية، وأن التوحيد والأخلاق هما المحور الذي يجب أن يتربى عليه الناس، حكامًا ومحكومين.